التمهيد : هل يمكن أن يكون الإسلام مصدرا للتصوف عند المسلمين ؟


أحمد صبحى منصور
الحوار المتمدن - العدد: 4640 - 2014 / 11 / 22 - 17:39
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني     

التمهيد لكتاب (التصوف والحياة الدينية فى مصر المملوكية )
( 648 ـ 921 هـ / 1250 ـ 1517 م )
التمهيد : التصوف عقيدة وتاريخاً
هل يمكن أن يكون الإسلام مصدرا للتصوف عند المسلمين ؟
1ـ شاع بين الناس أن التصوف فرع من الإسلام ، أو هو الإسلام ، أو هو ذروة الإسلام ، ويقول تعالى (..الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً.. المائدة 3) ومعناه أن دين الله قد اكتمل بنزول القرآن وتمامه ، فلا مجال لأي بشر في أن يضيف لدين أكمله الله وحياً من السماء وإكتمل بإنتهاء القرآن الكريم نزولا وموت النبى عليه السلام ، فالتصوف إن كان يضيف للإسلام شيئا فذلك غير مقبول ، لأن تلك الإضافة إن كانت ضمن ما قرره القرآن فلا تعد إضافة لأنها موجودة من قبل ، وإن كانت تلك الإضافة مختلفة عما قرره القرآن فهي مرفوضة وليست من الإسلام في شيء. إن التصوف إذا اتفق مع الإسلام في شيء فلا حاجة بنا للتصوف لأن لدينا الأصل وهو الإسلام دين الله ، والله سيحاسبنا على ذلك الأصل الذي أنزله ( وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ الأنعام 135). وإن كان التصوف يختلف مع الإسلام فلا حاجة بنا لذلك التصوف الذي يبعدنا عن ديننا الذي ارتضاه لنا ربنا . إنها قضية واضحة لا تحتمل التوسط ، فإما إسلام فقط وإما تصوف ، إما حق وإما باطل ، ولا وسطية . (فَذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ ؟.. يونس 32 ) إما قرآن فقط وإما أتباع للضلال (اتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء ..الأعراف3).
2ـ وبداية الاختلاف بين الإسلام والتصوف تكمن في أساس التشريع ففي الإسلام أساس التشريع لله وحده والقرآن الكريم يحكم على النبي والمسلمين ، أما التصوف فالشيخ الصوفي هو المشرع لأتباعه حسبما يوجهه هواه أو ذوقه أو حاله . وهم حين يضفون على ذلك التشريع البشرى سمة الشرعية يدعون أن الصوفي أوتى الكشف أو العلم اللدني من الله أو الوحي الإلهي، مع أنه لا وحى في الدين بعد اكتمال نزول القرآن.
وإضفاء الوحي والكشف والكرامة إلى الصوفي معناه الدعوة إلى تقديسه والتماس بركته في الدنيا وشفاعته في الآخرة ، وتلك سمة الاختلاف الرئيسية بين التصوف والإسلام ، حيث يكون لله وحده علم الغيب والشفاعة والتصريف في الدنيا والآخرة ، إلا أننا لا نجد صوفياً إلا وادعى لنفسه أو لشيخه لوازم التصوف من الولاية والكرامات والعلم اللدني ودعا الآخرين للاعتقاد فيه ، مع أن الاعتقاد لا يكون إلا في الله وحده إلها ووليا مقدسا. نطلب منه المدد والعون ، نطلب ذلك منه وحده ،لا شريك له جل وعلا.
وذروة الاختلاف بين الإسلام والتصوف تكمن في العقيدة الأساسية في كل منهما ،فعقيدة الإسلام لا إله إلا الله (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ.. محمد 19 ) والله الإله الواحد، لا يشبه أحدا من خلقه ، ولا يشبهه احد من خلقه (..لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ..الشورى 11 ) وصفات الله لا يوصف بها غيره ، فالله واحد في ذاته ، واحد في صفاته ، إذا هو أحد متفرد عن باقي خلقه ( قل هو الله أحد، الله الصمد، لم يلد، ولم يولد، ولم يكن له كفوا أحد). أما عقيدة التصوف الحقيقية فهي (لا موجود إلا الله ) أو ما يعرف بوحدة الوجود والتي تعنى أن العالم جزء من الله، وانه لا فارق بين الخالق والمخلوق ، وأن الخلق امتداد وفيض من الخالق ، وأن علاقة الخالق والمخلوق كمثل البحر وأمواجه ، والصوفي الحق هو الذي يدرك ذلك ويهتك الحجاب ويعلن اتحاده بالله أو حلول الله فيه . وبالقطع فهذه العقيدة تناقض عقيدة القرآن . 3ـ ولفظ التصوف لم يرد في القرآن الكريم ، اللهم إلا إشارة للرهبنة ليست في صالح المتصوفة الذين يحاولون ربط التصوف بالرهبنة والزهد، يقول تعالى : (.. وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ .. الحديد 27 )، ولم يجرؤ وضاع الأحاديث المزيفة على كتابة حديث فيه لفظ التصوف ، لعلمهم أن ذلك لم يكن معروفا في الجزيرة العربية وقت ظهور الإسلام ،واكتفوا بوضع أحاديث فيها لفظ الفقر والفقراء، حيث كان الفقر يدل عُرفا على التصوف في عصرهم ، مع دلالة الفقر على الاحتياج للمال في كل عصر. وورد لفظ التصوف لأول مرة في تراث المسلمين في كتاب الجاحظ ( البيان والتبيين)(27). وقد كان ابن خلدون أقرب للصواب حين قال عن التصوف أنه ( من العلوم الحادثة في الملة )(30)، وخطأ ابن خلدون في أنه اعتبر التصوف علما ، وليس التصوف بعلم ، حيث لا عقل فيه ولا منهج ، وإنما هو ذوق وهوى، ودين جديد يخالف الإسلام ، وقد ظهر بعده بقرنين . 4- والتصوف نوعان : (احدهما ديني والآخر فلسفي ) كما يقول التفتازاني، وإذا كان التصوف الديني يناقض دين الإسلام الذي لا مجال فيه لتقديس غير الله ، فإن التصوف الفلسفي مرفوض أيضاً، لأن الفلسفة الدينية للتصوف تعزز بالجدل أفكار التصوف الديني ، والتصوف الديني أدخل مصطلحات دينية مستحدثة في الحياة الدينية للمسلمين لم يعرفها المسلمون الأوائل حين كان الإسلام نقيا في الجزيرة العربية .
ومن المصطلحات الدينية الجديدة التي استحدثها دين التصوف : الكرامة ، المريد، المقام ،الوقت الحال ، القبض ، الصحو والسكر ، الذوق الشرب ، المحو والإثبات ، الستر والتجلي، المحاضرة والمكاشفة ، الحقيقة والطريقة ، الوارد، الشاهد، السر، المجاهدة ، الخلوة ، الزهد، الولاية ، .. الخ ، ولكل منها مدلول في دين التصوف ، وسطرت في ذلك الكتب ، وبالطبع هم مختلفون في معناها وعددها.
وبعض هذه الألفاظ كان مستعملاً في الإسلام بغير ما يقصده الصوفية ، إلا أنهم أولوها واستحدثوا لها مدلولات جديدة تخرج عن الإسلام مثل (الولي والولاية ). وموضوعات التصوف الديني والفلسفي تتمثل في الشطحات ، وأحوال الفناء والحلول والاتحاد والتحقق بالحق ، والإشراق ، وهى تخرج عن نطاق الإسلام عقيدة وعلما وفكرا. 5 - وقد وضح من عرض مصادر التصوف أنه تأثر بمصادر مجوسية وهندية ومسيحية ويونانية ، فكيف يكون ذلك الوليد ذو الآباء الكثيرين ابنا للإسلام الذي لا مصدر له إلا القرآن الكريم ؟ وهل كان الإسلام في حاجة إلى أن يكمله المجوس وعباد البقر والوثنيون ؟ 6- ويرى أبو العلا عفيفي أن القرآن الكريم - عن طريق تأويل آياته - والأحاديث، مع علم الكلام ، من مصادر التصوف الإسلامي(31) أي اصطناع مصدر للتصوف يكون إسلاميا، بتأويل القرآن وتأليف الأحاديث ونظريات الفلسفة أو علم الكلام، وكل ذلك جهد بشرى يحاول ربط التصوف بالإسلام . وتأويل القرآن وزر يقع علي من ارتكبه وهناك من الأحاديث الموضوعة لخدمة التصوف ما يملأ حمل بعير، ولا يصح أن تكون حجة لمن يستشهد بها ، وأما جهد علماء الكلام البشرى فليست حجة على الإسلام في شيء ، وعلم الكلام في حقيقته يدين للفلسفة اليونانية أكثر مما يدين للإسلام . والغريب أن أبا العلا عفيفي يعود و يعترف أن الإسلام لا يمكن أن يكون دينا صوفيا ( وما كان ليصير دينا صوفيا لو أنه ظل محصورا في الجزيرة العربية ، لأنه دين يخاطب العقل أكثر مما يخاطب الوجدان ، ويدعو للنظر في خلق السماوات والأرض ليستدل الناظر بما يشاهده على قدرة الله ووحدانيته ، لا ليؤديه تأمله في العلم وفى نفسه إلى إنكار ذاته وفنائه في الله والاتحاد به عن طريق الفناء، كما يقول الصوفية )، ويرى أن الإسلام ( بعقيدته البسيطة في الوحدانية التي يقتنع بها العقل بفطريته لم يكن ليظهر عنه تصوف وما في التصوف من نظريات معقدة .. فلم يلق الإسلام داخل الجزيرة العربية تأويلاً فلسفياً ولا صوفياً. ولكن بدخول أهل الحضارات والديانات تناولوه بالتفسير والتأويل )(32). ومبعث التناقض لدى أبى العلا عفيفي هو في الخلط بين الإسلام كدين إلهي وبين المسلمين كأشخاص ، وواضح أن الإسلام شيء والشعوب التي اعتنقته شيء آخر، وأرى أنه من الأنسب أن يقال ( تصوف المسلمين ) لا (التصوف الإسلامي ) لأن التصوف والإسلام نقيضان لا يمكن الجمع يبنهما .