حَلَبٌ إلى كلِّ الممالكِ سُلَّمُ


سعود قبيلات
الحوار المتمدن - العدد: 4637 - 2014 / 11 / 18 - 19:19
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     



إنَّها حلبُ سيف الدولة وأبي فراس الحمدانيّ وأبي الطيِّب المتنبِّي. قال فيها أبو فراس: «ففي حلب عُدَّتي.. وعزِّي والمفخرُ». وقال المتنبِّي: «كُلَّما رحَّبت بنا الروض قلنا.. حلبٌ قصدُنا وأنتِ السبيلُ».

زرتها مرَّتين، فقط، لكنَّها تركتْ في نفسي انطباعاً قويّاً لم أشعر بمثله إلا في مدينتين أخريين مِنْ بين كلّ المدن الأخرى التي زرتها، هما: لينينغراد في روسيا والإسكندريَّة في مصر.

كانت زيارتي الأولى لها في العام 2005 أو 2006، مع زوجتي وابني، حيث قصدناها بسيَّارتنا؛ فأُخذتُ بجمالها وعراقتها ورُقيّ طُرز معمارها وتعدُّد أعراق سُكانها؛ فبينما نحن نسير في السوق وسط جموع الناس الذاهبين والآتين، انتبهتُ إلى تعدّد ألسنة المتكلِّمين، بعفويَّةٍ، مِنْ حولنا؛ فثمَّة اللسان العربيّ، وثمَّة الأرمنيّ، وثمَّة الكرديّ، وثمَّة التركيّ. والناس، هناك، بوجهٍ عامّ، متحضِّرون ومنفتحون. تنتشر في مدينتهم المقاهي والمطاعم الأنيقة المفتوحة على الأرصفة، كما تنتشر الحدائق الغنَّاء ذات الأشجار الباسقة التي يكثر فيها المتنزِّهون مِنْ مختلف الأعمار ومن الجنسين. وعندما ترى قلعتها، لأوَّل مرَّة، تنبهر بجمالها، وبضخامتها، وبموقعها المطلّ على المدينة مِنْ مختلف الجهات.

أذكُر، عندما زرتها للمرَّة الأولى، أنَّ وكالات الأنباء كانت قد تناقلتْ نبأً مثيراً عن اكتشاف أطلال بيت أبي الطيِّب المتنبِّي، شاعر العربيَّة العظيم، بالقرب من قلعة حلب التي كانت مقرّاً لصديقه سيف الدولة.. حاكم دولة الحمدانيين. وقد ألححنا، زوجتي وأنا، في السؤال عن موقع هذا الأثر الثقافيّ المهمّ إلى أنْ وجدنا مَنْ يدلّنا عليه. فوقفنا أمامه صامتين، طويلاً، ونحن نتأمّل دروس التاريخ ومعانيه ومفارقاته وعِبَره.

أبو الطيِّب المتنبِّي، وسيف الدولة، الذي حمى، ببسالة عزَّ نظيرها، ثغراً عزيزاً مِنْ ثغور الأمّة، وصدَّ هجمات البيزنطيين عنه، مراراً وتكراراً؛ وأبو فراس الحمدانيّ، ابن عمِّه، الذي أسره البيزنطيّون وهو يقاتلهم، ونظم، في الأسر، قصيدته الشهيرة: «أقول وقد ناحت بقربي حمامةٌ.. أيا جارتا هل تشعرين بحالي؟» - هؤلاء جميعاً، أصبحوا مجرَّد أشخاص علويين نُصيريين غُلاة(!)، في عهد «الإسلام» السياسيّ الذي يتحرَّك حسب البوصلة الأميركيَّة.

وأعترفُ، هنا، بأنَّني كنتُ إلى وقتٍ قريبٍ جدّاً على درجةٍ كبيرةٍ من الجهل بهذا النوع من المعلومات القيَّمة. بل أراهن بأنَّ كثيرين غيري لم يكونوا يقلّون عنِّي جهلاً في هذا المضمار، إلى أنْ تكرَّم أنصار «جبهة النصرة» و«التوحيد» وما إلى ذلك بفتح عيوننا على هذه الحقيقة الغائبة. وربَّما، بعد قليل، ينتبه هؤلاء إلى أنَّ صلاح الدين، وعمر المختار، وعبد القادر الجزائريّ، وعزّ الدين القسَّام، كانوا مجرَّد أشخاص صوفيين «مِنْ أهل البدع والأهواء»، بحسب وصفهم، هم، للفرق الصوفيَّة.

وأتذكَّر، الآن، أكوام البرتقال برائحته الفوّاحة العطرة، والبساتين الممتدّة على مساحاتٍ واسعة من الأرض على جانبي طريق حلب؛ فيحضرني قول البحتريّ: «أُمرُر على حلبٍ ذات البساتين.. والمنظر السهل والعيش الأفانين».

زيارتي الثانية لها كانت في العام 2009، مع صديقي وزميلي العزيز الأديب الأردنيّ المعروف مفلح العدوان، وهو رفيق سفر من الطراز الأوَّل (لمَنْ يهمّه الأمر)؛ حيث دُعينا إلى مهرجان ثقافيّ في تركيا، ووجدتني، آنذاك، أدافع بشراسة عن أردوغان في وجه هجوم المثقّفين الأتراك عليه، وهم يردّون عليَّ قائلين إنَّكم أنتم العرب لا تعرفونه جيّداً، ولا تعرفون، خصوصاً، علاقته بالأميركيين.
المهمّ، عند عودتنا، اقترح مفلح أنْ نمرّ بحلب.. لأنَّه لم يزرها مِنْ قبل. وبالفعل، مررنا بها وقضينا فيها يوماً جميلاً ما بين قلعتها، وبين سوقها القديم وجامعها الأمويّ.. المقابِلين للقلعة، وبين مطاعمها ومقاهيها وحديقتها الرئيسة.

ولأنَّها بهذه المواصفات البديعة؛ لأنَّها مدينة الثقافة، والفنّ، والجمال، والتحضّر، والانفتاح، والتنوّع، والعراقة؛ ولأنَّها، كما قال عنها ابن حيوس: «رُم أيَّ مملكةٍ أردتَ فإنَّما.. حلبٌ إلى كلّ الممالكِ سُلَّمُ»، فقد استهدفوها، وأعملوا آلتهم الجهنَّميَّة في أسواقها وناسها ومصانعها ومزارعها ومبانيها. عندئذٍ، كما قال ابن رشيق القيروانيّ: «وأَعْوَلَتْ حلبٌ إعوال ثاكلةٍ.. حتَّى لقد سُمْعَتْ مِنْ أرضِ بغدادِ».

ومن المؤكَّد أنَّ الغزاة، متعدِّدي الجنسيَّات، لم يسمعوا قول أبي العلاء المعرِّي: «حلبٌ للوليّ جنَّةُ عدْنٍ.. وهي للغادرين نارُ سعيرِ»؛ ذلك لأنَّهم كانوا قد قطعوا رأس تمثاله المنصوب في معرَّة النعمان في وقتٍ مبكِّرٍ مِنْ غزوتهم الهمجيَّة.