علمانيو سورية وإسلاميوها: شراكة غير مؤسسة أو مخاصمة غير تحررية


ياسين الحاج صالح
الحوار المتمدن - العدد: 4631 - 2014 / 11 / 12 - 14:05
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي     

خلال جيل طويل، يمتد بين موجة الصراع السوري الأولى (1979-1982) وبين مطلع الثورة السورية في ربيع 2011، توزعت مواقف الطيف العلماني السوري من الإسلاميين على وجهتين تظهر اليوم حدودهما معا، وتلح الحاجة الفكرية والعملية إلى نهج فكري وعملي مغاير.
تبلورت وجهة أولى تدريجيا أثناء موجة الصراع الأولى ثم بعد انتهائها، واستقرت على أن الإسلاميين، وكان المقصود بهم أساسا "الإخوان المسلمون"، شركاء في الصراع من أجل التغيير وطي صفحة الأوضاع الاستبدادية القائمة. في خلفية هذا الموقف مواقع مشتركة فعلية كمنبوذين سياسيين، وكضحايا للقمع وشركاء في التعذيب والسجون في عقدي الثمانينات والتسعينات. وبعد عام 2000 و"ربيع دمشق" بدا أن الإسلاميين يلاقون هذه الوجهة عبر عقد اجتماعات مشتركة مع ناشطين ومثقفين يساريين، وإصدار وثائق تطمينية تجاه شركاء التغيير المفترضين. من ذلك "ميثاق الشرف الوطني" في أيار 2001، أيام "ربيع دمشق"، وتكرر مضمونه في غير وثيقة، منها "المشروع السياسي لسورية المستقبل" في أواخر 2004، وإن يكن الميثاق ذاب هنا في نص أطول (نحو 150 صفحة)، ونال "تأصيلا شرعيا" أوهن التوجهات الليبرالية المعلنة في الوثيقة.
بلغت هذه الجهة الذروة حين وقع الإخوان على وثيقة "إعلان دمشق" في خريف 2005. لأول مرة هناك شراكة في تحالف سياسي بين علمانيين (يساريين وقوميين) مع إسلاميين.
لكن بعد أقل من ثلاثة شهور، وفي مطلع 2006، كان الإخوان يتحالفون مع عبد الحليم خدام الذي كان "انشق" قبل قليل عن النظام، ويشكلون معا "جبهة الإنقاذ الوطني"، دون إعلام حلفائهم الآخرين أو استشارتهم. وفي نهاية 2008، وبالتوازي مع العدوان الإسرائيلي على غزة، أعلن الإخوان تجميد معارضتهم للنظام لاعتبارات وطنية ممانعة، ولن يعودوا عن التجميد الذي لم يتمخض عن شيء إلا بعد تفجر الثورة.
خلال الثورة حدث تغيران كبيران. أولهما، تغير دلالة مفهوم الإسلاميين ليشير إلى طيف أكثر تشددا واستبعادية، يشغل سلفيون جهاديون مركز ثقله. والثاني هو الشكوى المستمرة من أن الإخوان الذي شاركوا في أطر المعارضة السياسة، من "المجلس الوطني" إلى "الائتلاف"، يعملون على الهيمنة من وراء واجهات لا إخوانية، وبمواكبة ذلك تصاعدت أزمة ثقة بين الطرفين يبدو أنها تشارف اليوم القطيعة.
واضح أن الوجهة التي تبلورت أيام "ربيع دمشق" ووصلت الذورة في "إعلان دمشق" تتبلبل اليوم وتتقطع. طوال ثلاثة عقود، كان القول في الإسلاميين قولا في النظام، ورفضُ النظام ينعكس قبولا للإسلاميين. هذا وصل حده اليوم.
ولا يعود السبب في تصوري إلى تطلعات للهيمنة يُلام عليها من يتذمر منها بقدر يزيد على من يعمل على فرضها، بل إلى ضيق القاعدة الفكرية والقيمية للشراكة. ظل عالما الإسلاميين والعلمانيين متباعدين إلى أقصى حد، وليس معلوما أن صداقات وتفاعلات إنسانية وعلاقات ثقة قامت بين منحدرين من الطرفين. ليس معلوما أيضا أنه جرى بين الطرفين أي نقاش يتخطى قضايا السياسة المباشرة. ولا يزال الإسلامي النمطي يجد في أي إسلامي غير سوري شريكا أقرب له من أي لا إسلامي سوري، رغم ما يفترض من أن الإسلامي واللاإسلامي السوريين يعملان معا من أجل تغير سياسي عادل في سورية.
وبينما يدافع علمانيون، ومنهم كاتب هذه السطور، عن شرعية الإسلاميين وحقهم في الوجود السياسي، لا يبدو أن لدى الإسلاميين أقوال ومواقف قطعية الدلالة في الدفاع عن شرعية العلمانيين وحقهم في الوجود العام.
الوجهة الثانية ترفض الإسلاميين وتعاديهم، ولها تنويعتان فرعيتان. تنويعة يسارية معارضة في ثمانينات القرن العشرين، لكن كانت تؤسس مقفها على أساس عقدي ضيق، استبعادي حيال من لا يسلم بقيادة حزب الطبقة العاملة، وفي بلد لا يفتقر إلى "حزب قائد" سلفا؛ وتنويعة أخرى مؤسسة على اعتبارات تحيل إلى الحداثة والعلمانية، ظهرت في السنوات المنقضية من هذا القرن قبل الثورة.
التنويعة الثانية، وهي منتشرة بين مفكرين ومثقفين أكثر مما بين أي ناشطين سياسيين، وجدت نفسها طوال الوقت أقرب إلى النظام، بما في ذلك ضد معارضين علمانيين مثلنا. لدينا هنا اعتراض على الإسلاميين لا يقول شيئا عن الشروط العامة في البلد. والناقدون الذين لا يتجاسرون على قول كلام واضح عن عنف النظام وطائفيته، حرموا أنفسهم لهذا السبب بالذات من قول كلام واضح بشأن عنف الإسلاميين وطائفيتهم، رغم اشتهائهم لهذا القول. لا يجري الاقتراب من دوائر التاريخ السياسي والاجتماعي ليس لأنها مجهولة، ولكن لأنه لا بد أن يثار السؤال عن فاعلين آخرين، وعن المسؤوليات. الكلام العمومي على الحداثة والعلمانية والتنوير، مقابل الأصولية والظلامية والتعصب، بديل عن كلام سياسي ممتنع.
غير أن الرؤية بعين واحدة على هذا النحو تجرد النقد من أي قيمة تحررية. فإذا كانت اعتبارات العدالة أو الحرية أو الوطنية هي ما تساق في الاعتراض على الإسلاميين، وجب أن يقال كلام واضح عن حال اعتبارات العدالة والحرية والوطنية عند فاعل أقوى من الإسلاميين وأبعد أثرا في حياة السوريين، النظام الأسدي.
لدينا في المحصلة قبول سياسي للإسلاميين دون أساس فكري، ولدينا رفض عقدي دون مضمون قيمي تحرري. يصطدم الموقفان بتناقضاتهما الذاتية أولا. تناقض بين السياسي وبين الفكري والحياتي فيما خص الوجهة الأولى. وهو ما آل في التجربة العملية إلى أزمة ثقة عميقة بين الطرفين، ويظهر بوضوح أن أساس الثقة، الموقف المعارض للنظام، أضيق من أن تبنى عليه شاركة حقيقية. بالمقابل، الوجهة الثانية غير قادرة على إدراج اعتراضها على الإسلاميين في إطار سياسي وقيمي متسق، يناهض انتهاكات الإسلاميين المحتملة والواقعة لمبادئ الحرية والمساواة لأنها انتهاكات، وليس لأن القائمين به إسلاميون، ولذك يناهض بالقدر نفسه انتهاكات النظام أو أي طرف آخر.
ومن المحتمل أن تواجهنا هذه المعضلة لسنوات قادمة. فمن جهة لا نعرف مثالا على استبعاد الإسلاميين من الحياة العامة لم يقترن باستبعاد عام لأية قوى سياسية واجتماعية مستقلة. سورية ومصر وتونس والجزائر وليبيا أمثلة كافية. ومن جهة أخرى تبدو الشراكة مع الإسلاميين بعد الثورة عبئا على المعارضين العلمانيين لا سندا لهم، وخصما من حسابهم لا إضافة له. ومن جهة ثالثة، لم نعرف في سورية تيارا فكريا سياسيا يجمع بين معارضة حازمة للنظام سياسيا، ومعارضة الإسلاميين اجتماعيا وقيميا، وعلى أرضية تحررية متسقة.
الاستقطاب السياسي والاجتماعي الذي يحد من تمايز المواقف محقق فعلا، لكن كسر الاستقطاب والخروج منه خيار ممكن. فعل حرية أيضا.