العجوز النص الكامل نسخة مزيدة ومنقحة


أفنان القاسم
الحوار المتمدن - العدد: 4631 - 2014 / 11 / 12 - 11:52
المحور: الادب والفن     

الأعمال الكاملة
الأعمال الروائية (4)


د. أفنان القاسم


العجوز
LA VIEILLE



رواية


نسخة مزيدة ومنقحة

الطبعة الأولى وزارة الإعلام بغداد 1974
الطبعة الثانية المطبوعات الجميلة الجزائر 1991












































إلى ناسنا الناهضين من ذلهم لا الخانعين في غبنهم وكل الناس الملعونين والمجانين والمنبوذين الذين يموتون بكرم كلما حلت بهم لعنة ليحطموا أركان العالم




































مقدمة الطبعة الفرنسية

بقلم المستعرب الكبير دانيال ريج

"كل شيء يختلط، ويذهب حُلُمُها ذهاب الزمان على مر الأيام. الشهور تمر والأعوام والقرون، وهي هَهُنا، ترى الزمان يمضي في أحلامها...".

من الممكن أن تكون العجوز حكاية شهرزادية، مسرحية تراجيدية، قصيدة ملحمية... لكنها من حيث الجوهر رواية. نُشرت أول مرة بالعربية في بغداد عام 1974، وأُعيد نشرها في الجزائر عام 1991، وها هي اليوم عام 2003 تُعاد كتابتها بالفرنسية كلها بقلم مؤلفها، أفنان القاسم، الكاتب الغزير الإنتاج من أصل فلسطيني.

إنها لرواية رمزية، لأن من الواضح أن العجوز، محور الرواية، لهي في قلب شعب بأكمله، معبودة، مغنّاة، يُحلم بها في غالب الأحيان... ولكنها أيضًا مكروهة، ملعونة، فحضورها يعني الشيخوخة، الانحطاط، السقوط. إنها تاريخ هذا الشعب نفسه، وبوصفها تخثرًا للزمن، تغلغلت في العقول قاطبة، وتيبست فيها.

إنها كذلك هذه العجوز، التمثال المشيّد للمكان الراهن: " وجهها حفرته الريح والدموع، خريطة ممزقة قطّعتها التجاعيد طولاً وعرضًا، شعرها عشب يابس جف تحت الشمس، وجسدها ما كان إلا غصنًا مكسورًا، معقوفًا...". هذه الجغرافيا من الآن فصاعدًا جغرافيا البلد. عندما تستدير لا ترى شيئًا من ورائها، "لا شيء"، وعندما تريد التقدم خطوة تعجز ساقاها عن حملها، والشيء نفسه بخصوص عينيها اللتين لا تقدران على تمييز ما هو على مرمى يدها أو يكاد.

القرية، قريتها، مغلقة داخل جدران بناها القرويون أنفسهم، على الرغم منهم، وهي محاصرة، ألم يقل شيخ الجبل، الأعرج: "نظرت إليكم من أعلى، وشاهدتكم في الليل نيام، وفي النهار عبيد"؟ الحقل المهمل، الأعشاب الرديئة، المحراث المكسور، أليست إشارة إلى أن "الأرض اليوم مثلي، الأرض أنا، عجوز"؟ الظلام، الليل الساحق، البرد، ألم يجتاحوا البلد؟

إلا أن في الوجه المقابل هناك عالم الحاكم حيث يسود الغنى، القوة، وحيث يقع الاغتصاب، القتل: "هذه الورقة الخضراء من بستان الحاكم الذي جعلتموه أممكم وحصونكم... في البداية، تركوها تزرع الأرض، فزرعتها، وهم أكلوا... في أرض الحاكم خراف ترعى... في ليلة ليلاء لا قمر فيها ولا نجوم، اقتحم عليها جنود الحاكم الدار، واختطفوها، ثم رموها في أحضانه، ليفترسها... إذن، فهم أخذوكِ في أحضانهم، ولم تعودي غير جسد مباح للجميع!".

ومع ذلك، كان يوجد عالم آخر: "الماضي أين هو؟ الماضي هو شبابك، أيامك الخضراء، الماضي هو أنتِ قبل أن تصبحيك. أنت الآن غريبة عنك، ومع هذا، فلم تكوني يومًا أنت. نعم، أردتُ أن أكون المستقبل، ولكن...".

تحلم العجوز بعالم يقدر كل شيء فيه على استعادة مكانه: "ستعود إلى الحقل ليونةُ جسدي لما كنتُ في السادسة عشرة!" إلا أن هذا العالم لم يعرفه أحد غيرها، حتى ولو اعتقد الجميع بتذكرهم إياه. إنه ينتمي إلى زمن آخر اكتمل، لم يعد موجودًا سوى في الذكريات وفي الكتب الصفراء، لم تعد المعجزة منه تجيء.

العجوز إذن عبارة عن مِشْكال، الألوان فيه ألوان حقيقية في ظاهرها، براقة، حية، مرحة، والأشكال أشكال حقيقية في تجليها، واضحة، صادقة، كاملة. ومع ذلك، لا صلة لنا إلا بالظلال. الفضاء رمادي، ضبابي، لا يحتل أي مكان محدد، أو مسمى، والزمان لا يتوقف في أية لحظة محددة. كل شيء غير محتمل كما في الحُلم، وتغدو العجوز المكان نفسه حيث تتقاطع الهنا والهناك، أمس والغد، لأنها رواية ذات معالجة باروكية (الأسلوب الباروكي في التعبير الفني أدبًا وبناءً تميز بالزخارف والحركية والحرية في الشكل، وهو يخالف الأسلوب الاتباعي).

تُبَيِّنُ الرواية الحيوية والتباهي، ويطيب لها الكشف عن المجد الدنيوي للغَناء والإفراط وكذلك الحيوية ذات الكبرياء واللا اكتراث لشعب وعظمته. إلا أنها تقول في الوقت ذاته اضطرابَ من يكتشف، كل يوم، أنه يحيا على الرماد. فيها يُعنى المؤلف بفن الظاهر والباطن، يُظهر المظاهر في نفس الوقت الذي يكون فيه وسيطًا، ويقود البطلة المقنّعة خطوةً خطوةً في تواترها إلى لقاء نفسها، عبر مأساة الشعب الذي تجسده.

يقترح علينا أفنان القاسم هنا عملاً نادرًا وناجحًا في محتواه الكونيّ العمقِ وبالقدر ذاته في هندسته المكثفة عَبر سيرٍ للأحداثِ واحدٍ يفرشه في زمن واحد ومكان واحد. ومن هذه الناحية، يلتقي هذا العمل على دروب الإبداع بالأعمال الكلاسيكية.
مقدمة الطبعة الجزائرية

بقلم د. أفنان القاسم

هجو وقذع... فأية كلمة تستطيع وصف البذاءة التي يعيشون فيها؟
محاولة في لغة لا يفهمون غيرها


"لا يكون الذم من الرعية لراعيها إلا لإحدى ثلاث: كريمٌ قُصّر به عن قَدْره فاحتمل لذلك ضِغْنًا، أو لئيمٌ بُلِغ به إلى ما لا يستحق فأورثه ذلك بَطَرًا، أو رجلٌ مُنِع حظه من الإنصاف فشكا تَفْريطًا".

من كتاب العِقد الفريد لابن عبد ربه الأندلسي


"كتبتُ إليك وحالي حالُ من كَثُفَت غُمومُهُ، وأَشْكَلت عليه أمورُهُ، واشتَبه عليه حالُ دَهْرِهِ ومَخْرجُ أَمْرِهِ، وقَلَّ عنده من يثقُ بوفائِهِ، أو يَحْمَدُ مَغَبَّةَ إخائِهِ، لاستحالةِ زمانِنا، وفسادِ أيامِنا، ودولةِ أنذالِنا".

من كتاب إلى إخوانه في ذم الزمان للجاحظ



"العجوز" قضت عامين من عمرها المديد وكأنهما قرنان لثور اغتيل غدرًا! قضتهما وهي أفلام لدى دار الثقافة الجديدة في القاهرة نزولاً عند طلب محمود أمين العالم الذي قال لي في مقهى بجوار اليونسكو: "أعد صفها وصورها لي والورق مش مشكل ولا حاجة كده بعمل مع دار الفارابي وأنا أعدك بإصدارها خلال شهر!" ومضت شهور بل سنون وهي أفلام، يا رب القلم والكتاب، إن كان للقلم والكتاب رب! أي أن سحبها لا يحتاج إلى أكثر من بضع ساعات، ولأوفر على صاحبة الدار مائة فرنك ورق اتفقت مع دائرة الثقافة في منظمة التحقير الفلسطينية على إدراجها في برنامج نشر الدائرة مع الدار –أقول "برنامج" اعتباطًا لأنها كتبهم وكتب من يدور في فلكهم- لكن خسة البعض في الدائرة ووطنجية البعض الآخر حالتا دون نشر الرواية.

* * *

فهي أسماك تأكل أسماكًا!
أسماك كبيرة تأكل أسماكًا صغيرة أو أسماك قوية تأكل أسماكًا ضعيفة! قروش تأكل حيتانَ وحيتان تأكل كلاب البحر! مثقفون يأكلون مثقفين! مثقفون كبار يأكلون مثقفين صغارًا أو مثقفون أقوياء يأكلون مثقفين ضعافًا! روائيون يأكلون شعراء وشعراء يأكلون قصاصين وقصاصون يأكلون قصاصين آخرين! آه، كيف تتحول المؤسسة العربية إلى بحر مفتوح للسمك المفترس! كيف تتحول المؤسسة الثورية إلى مجرد مؤسسة عربية والمثقف الثوري إلى مجرد موظف والحزب الثوري إلى مجرد عشيرة أو طائفة أو مطية لهذه أو تلك يركب عليها الشعار الحلو والوعد الجميل والكلام البراق، وفي الحقيقة هي أسماك تلتهم أسماكًا، المثقفون هنا حكام والحكام هنا مثقفون والمثقفون الحكام هنا قروش على شكل أقزام أو أوثان، ومن هؤلاء وأولئك، في بحر السلطة التسلط المتلاطم، هناك من يميز بين كاتب فلسطيني أو عربي أو صيني وآخر على أساس أن هذا صاحبنا وذاك طاحننا، أن هذا قرش منا وذاك ودعة أو دويبة زحافة، أي لموقفهم الشخصي منه، فالمواقف السياسية أو الأدبية لديهم تتحول تحول الوجوه المترهلة لإله الموج "تريتون"، وأن هذا بالتالي فطحل من فطاحل الأدب وذاك إسكافي أكثر موهبة منهم كلهم حتمًا، ثم يأتون وينصبون أنفسهم قضاة أورشليم علينا وهم الضالعون مع روما في خططها النعال لقيصر، هؤلاء الذين يقيمون مهرجانات ثقافية للراحة والاستجمام باسم الانتفاضة المدعوون إليها أدباء ألوان حراشفها بهتت أو أنها في أصلها باهتة، مهرجانات أسماك فيما بينها تصفق لبعضها، تضحك لبعضها، وتدهن لبعضها.

* * *

يرمي الموج في طريقك شويعرًا من فصيلة السردين حاقدًا ومكروهًا صارت له قيمة في المؤسسة الدائرة لأنه حاقد ومكروه، رفض نشر مسرحيتي "أُم الجميع" لما كان رقيبًا عسكريًا لأنها تنتقد وتدفع إلى نرفزة الديمقراطيين، فأين هم في دائرة الثقافة؟ وأين حرية النشر والكتابة؟ حرية الرقيب العسكري الفلسطيني نعم حين يعطي لنفسه دورًا فاشلاً في أحد الأفلام التي تنتجها دائرة السخافة –قول أستعيره من محمود درويش فشكرًا للقول- والتي ميزانياتها تقدر بعشرات آلاف الدولارات أو لما يكتب تمثيليات مدرسية وهزليات لاقت فشلاً ذريعًا لكنها أدرت عليه وعلى زبانيته من بعض الانتهازيين المِصريين دولارات وفيرة، لا يتقن في الصباح أول ما يدخل غير: برلنتي عبد الحميد فعلت وهند رستم خلعت! فهي حصيلته الثقافية ليوم عمل لم يبدأ، كان يزمر في أزقة مخيم حمص الدموع ومخيم اليرموك في الوقت الذي يصنع فيه شعبنا شعب المخيمات ملاحم الصمود، وصار يلبس غرافات، ويدعى إلى باريس، ويعطي أوامره بنشر هذا الكتاب أو عدمه –أريد القول إعدامه- وهل يجود الحيا، يا أبا العلاء المعري، أناسًا منطويًا عنهم الحياء؟ بينما "العجوز" رواية يعتبرها النقاد من كلاسيكيات الأدب العالمي، تظل بريئة وإن أخطأ صاحبها أو أجرم، هذا إن كان هناك خطأ أو إجرام، لم تعد ملكًا لي، وإنما ملكٌ للشعب الفلسطيني. طالبت بإحقاق حقها وبالمساواة في المعاملة بين كل الكتاب الفلسطينيين على قدم وساق وليس على قدم منشار وساق بَقّة، فاتُهمت بالابتزاز وبالإساءة إلى من هم أحسن مني، فمن يسيء إلى من؟ ومن يبتز من؟ دائرة للسخافة مثل هذه لا تمثلنا، كيف تمثلنا وهي لا تمثل إلا أصحابها؟ كتب أصحابها التي تنشر، وأفلام أصحابها التي تصور، ومسرحيات أصحابها التي تمثل، ومياومات أصحابها التي تؤكل وتلهط. وماذا عن أخطائهم المصيرية التي تجرنا في كلِّ مرةٍ باخرةً غرقى مائةَ عامٍ إلى الوراء، وكذلك سوابق أسنان سمكهم العدلية التي تقضم سمكًا تطحن سمكًا في الأردن ولبنان وتونس وكل مكان يذهبون إليه من فنادق الدرجة الأولى حتى محطات الإذاعة والتلفزيون والأعمدة المشتراة ومهازل مباكي السلام الاستسلام؟

* * *

تترك الشويعر يعض أدبنا بقصيدة، وتتفق مع رئيسه، ولديك ورقة موقعة بقراره، فتجد أن ما اتخذه من قرار بشأن "العجوز" كلام فارغ وفقاقيع ماء مثل معظم القرارات الأخرى التي تتخذ هنا وهناك في بحر فلسطين وعلى كل المستويات! ولماذا لا يجيب على عشرات الرسائل التي يكلف سائقه بفتحها وعدم الرد عليها، ويتخبأ لما تطلبه على التلفون؟ علمًا بأن الرجل لا يحمله كرسيه لهول ما ينوء به من شعور بعظمة القرش الذي يرتديه، يستوزر عليك بفتح بابه المصفح وغلقه وذلك بالضغط على زر بقدمه، ويزنك بمدى خطرك المتوقع على منصبه، منصب في منطق القروش سلطته وتسلطه وضربات فكه، فإن كان قليلاً أعانك على كثير، وإن كان أكثر من قليل بقليل محقك على قليل، استوزر عليّ هو ودكتور أعرج وأعمى وأطرش متعجرف بحث عنه غسان كنفاني في مزابل ألمانيا حتى كل البحث دون أن يجده، وهذا بدوره يستزلم عليك ويتآمر مع واحد يلطمه أبو عمار كلما أراد منه شيئًا لا أدري من أين هو؟ أمن خُدعةِ الحربِ هو أم من خُدعةِ البصر؟ لهضم حقوقك، فأين هي حقوقك الشرعية، يا شعب فلسطين، والقروش هي الهاضمة للحقوق القاضمة لها بالأسنان والأنياب والقواطع، فهم يسرقونك عينك مخك، ويتغطون منك بتفسير القرارات حسب أهوائهم وحسب مصالحهم وبالإذلال بينما هم في أفعالهم أذلاء لهم منك الاحتقار وكره السمك الملون في بحر غزة، ينطبق عليهم قول الذي سأل: مَنْ أَلأم الناس؟ قال: مَنْ إذا سأل خضع، وإذا سُئل منع، وإذا ملك كنع، ظاهره جشع، وباطنه وسخ! ومَنْ أجهل الناس؟ قال: مَنْ رأى الخُرْقَ مغنمًا، والتجاوزَ مَغْرَمًا! إذا كانوا يحطمون المؤسسات الوطنية في الوطن، فهل تريدهم أن يريحوك، فتعمل، وتنتج، وتتقدم، اليد باليد والكتف بالكتف لأجل تلك المرساة فلسطين؟ فأنت ليلاً نهارًا تفكر في درء خطر العيش، العيش المجرد ومجرد العيش، عنك وعن أولادك ممن هم من لحمك ودمك، فتهنأ إسرائيل، ألا فلتهنأي، يا إسرائيل! أحبي ذويك، وارأفي بهم، واحدبي على أبنائك، لا تقهريهم، ولا تشلي طاقاتهم المبدعة، ونافسينا في حب التي قاتلنا لأجلها واليوم نقتتل فيما بيننا لأجل إثبات الرجولة التي أنكرتنا، حقول البرتقال تشهد على حب أهلنا وإن غدت حقولك، وحقول الشوك تشهد على كرهنا لبعضنا وحقدنا الأسود من وجوه مناضلي سيارات المرسيدس المصفحة في المنزه الخامس والمنزه السادس والمنزه السابع ومنزه ثامن ابن أبي هَرْف شريك الإسرائيليين في شركات ماس أفريقيا وأخشابها وجلودها وحشيشها وبناتها المنعدم الشرف لديه وكل الألقاب الكريهة لا تكفي فيه بعد أن تغوطت عليه فلسطين، وأخيها المنزه العشرين، من أبعد ساحل للقروش في تونس إلى قِفا نبك من ذكرى بغيض ومنزل ابن أبي مسامكة في قصره باليونسكو، ستحكي شهرزاد عن عجيب قصصه قصص قرش صغير من قروش مكاتب منظمة التعريص أو قواودتها، قواودة سقطوا ولم يزالوا يتشبثون بكرخاناتهم المنهارة في السطور القادمة، ولتعيشي، يا فلسطين، أنت التي توحدين بين أبنائك على حواف الموج وتقدّرين لهم أصغر فعل لأجلك وأكبر فعل لأجلك صغير مثل لؤلؤة يشكل البحر بها خصرك، وتعالي لتري كيف يكافئنا الذين هم من لحمنا ودمنا بالنحر أو الانتحار حتى وإن حمل الواحد منا على كتفيه كل بحار القضية، البحر الأبيض المتوسط وبحار الدم أكثر من آلهة الأولمب ثلاثين عامًا وكتب عنها ولها ثلاثين كتابًا أفقدته ثروته وصحته وحياته!

* * *

لكن هذه قصة أخرى.
ستكون واحدة من أقاصيص فاضحة مفضحة ماتعة ممتعة لكتابي القادم "أربعون يومًا بانتظار الرئيس"، كتاب سأهديه إلى ياسر عرفات لا إكرامًا أو تكريمًا ولكن ليكون له ولغيره عبرةً واعتبارًا، هذا إذا ما اعتبر، وإذا ما عرف أن التقدير نصف الكسب، فأين هو في عالم الأوباش؟ أوباش يأكلوننا اليوم وغدًا سيأكلونه بعد أن يفلتوا من يد الصائد التي له، وذلك ليقيم ثورة داخل الثورة في بطن البحر–دعوني أمارس الاستمناء- قبل فوات الأوان، وإذا لم يفعل فعلنا نحن المرجومون العُصاة، فالثقافة حرية لا أمية ولا اضطهاد، والسياسة كرامة لا عفن ولا كافيار، لتكون للمثقف والوطن هويةُ جميلٍ لن يدفعنا إلى قول ما قاله غيرنا في سِفْرِ يونس الجاعل من بطن الحوت بيتًا وحصنًا: أن طُزْ في مثل هذه ثقافة هؤلاء مثقفوها أو جلادوها، وَطُزْ في مثل ذاك وطن أولئك سياسيوه أو شاوشيسكيوه! قول حق يقوله المثقفون المنفيون العرب الذين هم زينة الحياة الدنيا المتقمهون في أوطانهم أو خارج أوطانهم بعد أن غدا الوطن جزيرة وغدت للتصيد والتسلط هوية الشنيع، ولنحفظ على شعبنا كل ما هو عذبٌ في البحر، لنحفظ عليه كل قطرة دم غالية بذلها في سبيل الحرية لا في سبيل تنصيب حكام بني قرش القامعين القيمين على مقدرات منظمة التحرير الأم والابنة لنا في آن لا الزوجة والضرة لهم قبل فوات الأوان المحولين لحقوق الشعب الفلسطيني الشرعية إلى حقوق حكمهم الشرعي له –وهذا هو مفهومهم للممثل الشرعي والوحيد- في حفلة اقتطاع الحصص من حوت الحل الأمريكي، لأحفظ على مفهوم الممثل الشرعي والوحيد مفهوم حريتي التي هي حرية المشي على أرصفتك يا رفيديا ويا الشويترة ويا الياسمينة ويا عيبال الجبل الذي تنفتح عليه الطرقات...لأحفظ عليّ حريتي، حرية المثقف بدون وصف، فلن أقول عنه: لا الحقيقي ولا النزيه ولا المسئول، يكفي أن نقول عن المثقف مثقفًا فننعته بكل النعوت الكريمة، لأحفظ عليّ حريتي، فقط حريتي، حرية طائر في دغل، ولأحفظ الشاعر الملعون في الأدب الفلسطيني أوسع الأدغال.

* * *

يكون لك صديق فرضته الصدفة عليهم، من نوع السمك البوري البّيّاح، سمكة نزقة مثلك، من المفترض أن يكون فاهمًا لك أكثر من غيره، يغررون به في زمن العواصف، زمن ما أحوج خراف البحر إلى التعاضد فيه، زمن خنازير البحر التي تُظهر عن أنيابها، زمن "ستريبتيزات" التماسيح الأقبح من كل تماسيح النيل، زمن الغادسيات، زمن الأخطبوطيات، زمن جراد الماء، زمن الهزائم والغبائر، زمن المناكح... يُغْشِي عليه البصر قروش من أين تقضم الكتف، فأنا لا تقضم كتفي، وليس لهم مني مصلحة أسماك تأسن من كنوزهم، هو من يعرف أنهم إذا ما قالوا في تحريرها فهم لا يرون سوى تحرير ذات فكهم ومخلبهم، والتحرير عندهم –يسعدني التكرار- أن يروا أشكالهم الوسخة حاكمين لها لا لثورية حوت ولا لوطنية دلفين، فالتحرير في قاموسهم اللغوي له مرادف أوحد أن يحكموها هم لا أحد غيرهم ممن هم أحسن منهم بكثير، إذ لم تأت حوريات فلسطين بأسوأ منهم، بمعنى أنهم لا يرون في تحريرها إلا سلطة السوط والسيف عليها: قمع الفرس الأعظم وتسلط التروس واستعلاء السلطان إبراهيم وكل الواطين كباقي الذين جربناهم من عرب أولي أمرنا الأذلاء المذلين من قروش المحيط إلى غاقات الخليج الجبارين المتجبرين، فلا بانتفاضة هم يحلمون على شكل ربة رائعة الجمال ولا بسفينة حرة لها علم ودولة وإنما بفلسطين على شكلِ كرسيٍّ، وبأنفسهم رُتَيْلاء حاكمة، أو على شكل منطقةٍ في المرأة محرمة يتاجرون بها وقد غدت السياسة لديهم تجارة قانونها الخسارة والخسارة بعد أن يجعلوا منها بيت تغوّط وتبوّل لكل من يسعى من أسيادهم لقضاء حاجته في اللحظة التي لا يبقى فيها غير الوسخ في الإنسان حاجةً ومرامًا، فالكل عليهم بالتتجير سيد من أولئك الأسياد العبيد الداعسة على رؤوسهم بالنعال أمريكا، وهذا هو مفهوم ألا نتدخل في شئونهم وألا يتدخلوا في شئوننا وهم على أكبادنا قابعون، أو على شكل ماخورٍ للعموم! آه، كيف يكون العقاب عاقبة! عقاب النفس للنفس وعقاب الآخرين لها مغبة سوء النصر عند إغراق أعدائنا لمراكب أصدقائنا!

* * *

لم تغيرهم حرب الخليج، فها هم أسماك أخرجت من أبدانها ذئابًا كل ذئب يتربص بأخيه من كثرة الخوف على كرسيه، بعد أن نفدت الدولارات، أصحيح نفدت؟ حتى القيادة راحت تخشى على مصيرها بعد أن لكزتها أمريكا بقدمها لا تعرف إذا ما كانت تقود دفة أو تقاد قطيعًا من سمك الصين! أتظن أنهم وقفوا إلى جانب العراق لوطنية حوت أم لأن شعبنا الخائض في الوحل أراد ذلك؟ وقفوا لأن أمريكا ضربتهم بقدمها في قفاهم وإسرائيل أرغمتهم على التكتكة، تكتكة من يجيئوا إليها صاغرين! فماذا يفعلون اليوم غير كش الذباب والتبجح بأنهم لم يكونوا مع العراق في احتلاله الكويت وأنهم كانوا معه في اجتياح أمريكا له: دبلوماسية صَلّ هي الدبلوماسية الفلسطينية العبقرية! ماذا يفعلون اليوم غير طرق أبواب السعودية لأموال السعودية؟ أصحيح ليس لديهم أموال وهي بالملايين موظفة عبر البحار أو معطاة لأمطار هدمت جسورًا في قابس وللباكستان؟ ولأن السعودية طريقهم القصير في الذل والضباب إلى أحضان أمريكا، فقد عفا الله عما مضى، والجرب من العرب أخوة في الدين، وكأن حرب الخليج التي قصمت وقسمت وقطعت وفصلت لحم السمك الأبيض عن الأسود ما وقعت، إلى جانب إطلاق بالونات الاستسلام الوطنية البالون تلو البالون ككل المتشاطرين على ظهرك أيها النازليّ من جنس القُدّ كي يوسخوك، وفي اللحظة التي تجد فيها نفسك في ورطةِ مَرْجانٍ لا مخرج منها سيلقون بك إلقاءهم بجرذ اغتصبه صرصار في حي القصبة، ألا تفهم هذا، يا السمك الضَّحَّاك؟ ليس لأنك قيادة ومقرب، فالقائد من قياداتهم اليوم من الممكن أن يصبح في الغد بوابًا، بوابو أبي جهاد غدوا في غيابه الفذ قُوّادًا ثم عادوا إلى أصولهم المخمّجة بوابين مترهلين كلُّ واحدٍ منهم عَنْقريطٌ ينافس عَنْقريطَ مدعوسين بالصرامي، كذا المقرب الذي يُبعد بهمسة في أُذن الاختيار، ولا عجب، فإني رأيت وشاة الكلام لا يتركون أديمًا صحيحًا! سيبيعون اللي قدامهم واللي وراهم من الضفة والقطاع كي ترضى عنهم عصا أمريكا وتعمل على أن يقبلهم شامير القرش الأشمر (يعني الأرهب) الذي لن يقبلهم مع أن القطاع والضفة نهدان ضامران لآخر حورية بقيت لنا، وإلا لِمَ جاءت تصريحاتك يا السمك البَكّاء؟ تصريحات طُرْسوح غبي لا يفهم شيئًا في السياسة وأبسط قوانين السياسة تعرفه كل البحارة: أقعد مع خصمك أولاً ثم حاوره بالتي هي أوسخ! ألا تسمع لقروشهم المنتشاة بالانتصار علينا وبإرادة قهرنا لا تكل عن ترداد كل أورشليم لنا وكل يهودا والسامرة وإن أحببتم أم كرهتم كل البحار التي لكم هي لنا وكل المعمورة! فسلامهم ليس بيننا وبينهم على الأرض ولكنه تنافس اقتصادي على البحار بينهم وبين أمريكا لاحتلال العالم العربي، تنافس بين قروش قوية وأخرى أقوى أو تكامل وتنافس. لا، لم تغيرهم حرب الخليج ولا أية حرب غيرتهم، ولن يَمَّحِي وسخ جلودهم إلا بامحاء فلسطين سلحفاتنا، والناس منهم اليوم أكثر من أي وقت مضى مشمئزون، يقيئونهم دونما حاجة لهم إلى دوار البحر قيئهم للبقية الباقية من حكامنا، فلا انتخابات جاءت بهم كما يدعي بعض المرتشين في الأراضي المحتلة أو الذين يأملون بالارتشاء، ولا هم أهل لمؤسسة شرعية علينا واجب عدم تجاوزها، بل هم عصابات غُبَر ملفقة ومافيات تُخَس منسقة لا يعرفهم شعبنا المصارع للموج حق المعرفة، لوثوا بعضه بدولاراتهم وحرفوا سمكه الطائر عن الطريق بعد أن أذهبوا تعبه سدى أو في تعبه وجدوا راحتهم!

* * *

أعتب على من لم يرفع إصبعًا واحدة في وجوههم الذميمة ليقول: "ولو! هذا أفنان القاسم البحار التعب، لا يحتاج إلى شهادة من أحد! وهذه "العجوز" السمكة الشابة، ما ذنبها؟" عندما عجزوا عن نقدها أو صيدها راحوا يتهجمون على شخصي ليمنعوا نشرها، هو من يُعَلّمُ الناسَ أن النقد الموضوعي لكتاب في مدحه أو قدحه أمر واجب أما لكاتب يشرفهم كلهم في شخصه وسلوكه وأخلاقه فانحدار إلى أدنى درك للحقارة والانحطاط والسفاهة –أيا دائرة السفاهة- تلك التي يحق فيها ما يضيفه رهين المَحْبِسَيْن: خَسِئْتِ يا أُمنا الدنيا فأُفٍّ لهم، بنو الخسيسة أوباشٌ أخساءُ –أيا دائرة الخساسة- فماذا أقول في هذا "العالِم" بعد كل الذي أجراه، أنا من كنت أعتبره فيلسوفًا معلمًا لا وثنًا قِنْوًا، وأهديت له أطروحتي في دكتوراه الدولة، عمل عمر قضيت في كتابته عشر سنين مبحرًا، اعترافًا مني بأستاذيته عليّ، بل راح يطبل مع المطبلين من قروش النقد ويزمر: "أخوه يتلفن وأخته تتلفن وأمه تُتَلْطِم!" وأجدني اليوم على أحر من الجمر وأنا الماء لأهدي أطروحتي في طبعتها الثانية إلى كلبٍ وفيٍّ يكونُ سَلوقيّ العِرْقِ بعد أن فاضت البحار بكلابها، فقد أحسنت قولاً، يا أبا العلاء العظيم، عندما شجبتَ: أستقبحُ الظاهرَ من صاحبي، وما يواري صدره أقبحُ، سُبِبْتَ بالكلبِ فأنكرتَهُ، والكلبُ خيرٌ منك إذ ينبحُ... كان الرفيق الفيلسوف القرش المناضل لما التقيته في باريس قد أبدى غضبًا واستنكارًا لمعاملة سيئة من طرف جمال الغيطاني، تلك السمكة المفتتنة! أما الآن فأرى جمالاً لم يسئ لي البتة بالمقارنة مع كل ما فعله فيّ هذا الشخص الخرف، هذا الفك الساقطة أسنانه، مثله مثل كل تلك القروش/الذئاب التي تدعي كتاباتها أنها الحامية للثقافة العربية وللأمة العربية وللجماهير العربية، أسماك سليمان العربي، إلى آخر الأكليشيهات الستالينية، بينما تتهاوى وهي تتشخلع بخصور أصحابها الرقاصة على قدمي ورقة نقد بالعملة الصعبة.

* * *

رسالة واحدة لم تجب عليها، فقط رسالة واحدة من مئات الرسائل التي أرسلتها إلى صاحبة دار الثقافة الجديدة (جديدة بالكلام) بعد أن جعلت من أفلام "العجوز" رهينة لديها لم تُفْرِج عنها إلا حين هددتها باللجوء إلى القضاء إلى آلهة البحر الطالحة، فأعادتها إليّ في الغلاف ذاته المرسلها أنا فيه، أي أنها لم تتفضل حتى بفتحه طوال عامين والأفلام متربعة هناك مترفعة بين قروش "التقدمية" وصَدَف "الاشتراكية"، حتى ولو بكلمة اعتذار صغيرة لم تبعث! وكل معاناتي ما كانت إلا لأجل عيني بهية، فلست بعاجز عن نشر كتابي العشرين أو الخامس والعشرين أو الثلاثين في أي مكان آخر أو جزيرة، ولأجل عيني القارئ المِصري، قارئ أردت لأجله أنانية النحلات التي لا تطعم العسل إلا لأخواتها، أن يقرأني هو لا عملاء الصمت، علمًا بأن مؤلفي "كتب وأسفار" قد صدر في القاهرة لدى الهيئة المِصرية العامة للكتاب بدون وساطة من أحد لأن الجودة الإبداعية جواز سفري الوحيد عند الناشر والقارئ والقرصان.

* * *

أما الوجه الثاني لمدالية التنك الصدئة، فعلى علاقة بقروش المكاتب، بملوكها المهترئة عروشهم لكثرة ما احتكت أقفيتهم بها وهم عليها قابعون منذ مولدهم عشرات السنين من عمرهم الذليل. يتغير سفراء، ويذهب حكام، وتقوم حروب، وتزول دول، وتنشف بحار، وهم دومًا ههنا بوسخهم وعنترياتهم وبكرهنا لهم لا يزالون على أكبادنا قاعدين. ذات صباح، طلعت على قلمي وكتابي حشيشة القمر الحولية، فكتبت لوزيرنا الوحيد أن اقصهم جميعًا من الماء إلى النار المهلكة وجئ بالمخلصين الجديرين من شبابنا سمك الفضة النابض بالحياة لتذهب بجديدين إلى المرحلة الجديدة، وليكن لنا انتقال الحق كما يقال في القانون أو الأيلولة، لكن معاليه –هذا المتطيز- لم يتفضل بالإجابة على رسائلي العديدة دأب كل الوزراء المتأدبين في العالم، فتلك عروش نخرة هي في حقيقتها مستنقعات ترتكز عليها سياسة الفشل من فشل إلى فشل التي يديرها، وهؤلاء يداس عليهم بالنعال ليقولوا نعم أيا بني نعم، وهم إن كانوا في حقيقتهم قروشًا صغارًا أخذت أشكال أشباه الملوك، فلصورة عن إمبراطورهم، لأن العين إذا فسدت فسدت سواقيها، هم في العجرفة والفظاظة مثله (ولو كنت فظًا غليظ القول لانفضوا من حولك) وسياسة إدارة الهزائم التي تفسخت (من فسيخ)، فيا ابن عبد ربه الأندلسيّ لا فائدة مما قلت في كتاب اللؤلؤة في السلطان عن الأحنف بن قيس: من فسدت بِطانته كان كمن غَصَّ بالماء، ومن غَصَّ بالماء فلا مساغ له، ومن خانه ثِقاته فقد أُتِيَ من مأمنه، فهؤلاء، المكاتب مُلْكٌ لهم ولورثتهم من السمك المعفن من حياتهم إلى مماتهم، وكل دول العالم، القمعية أولها، عندما تفشل سياسة أحد يجري تبديل هذا الواحد غير الأحد بواحد آخر وبسياسة أخرى، لكننا نحن لسنا جزءًا من العالم، نحن على حدة، على أدمغتكم حتى القهر أو القبر، ومن لا يعجبه فلا يستبقي ماء وجهه، بعد أن أعدموا المروءة، في الوقت الذي ينعدم فيه ماء وجوه قروش ملوك مكاتبنا الذين يرتدون لك أقنعة صغار القُرَيْدِس، ويأخذون بإطلاق سَجْع الحمام، فكيف يخدعك من هو من جسدك في اللحظة التي يشيع فيها البعض في الجزائر إشاعة مفادها أن القَيّم على مكتبنا يريد أن يمنع دخول روايتي "القمر الهاتك" الصادرة في عمان إلى الجزائر، ليتفوق بذلك على الرقيب العسكري الإسرائيلي في علم الجوهرة، رقيب سبق له أن منع روايتي "المسار"، أضخم رواية عربية ليست حتمًا أسوأها، صدرت في أوائل الثمانينات، وصادر الطبعة الثانية من روايتي "العصافير لا تموت من الجليد" قبلها، أما الذرائع التي يبرر بها ما لا يبرر: الرواية "تتهم" الجزائري العادي بكل مصائب الفلسطيني العادي خاصة عندما تطرقت إلى مسألة متقاعدين تقذفهم الوزارة في مزابلها أو مقابرها بدون حق التقاعد كحيتان تُدفع إلى الموت دفعًا! وكذلك تواطؤ المكتب في إذلالهم، علمًا بأن الرواية لا تتهم فقط بل تندد وتدين سلطة القروش وقوانينها المجحفة في حق البَلَم الجزائري والصِّبر الفلسطيني على حد سواء بما فيها سلطة قروشنا، قروش أنطقت فِرجيل بلسانها ما يلي: لو يقرأ الجزائريون الرواية لصارت مذابح يقترفونها في حق الفلسطينيين...! ألهذه المذابح تُمنع الرواية أم لأنها تكشف عن الفضائح وتقول في مذابح ستقوم بها القروش في حق سمكنا وسمكهم، وبالفعل قامت!

* * *

ثم يأتي من يقول ما لم تقله الرواية: إنها تشوه سيرة المناضلين! بينما جاءت الرواية بشخصيات حسيبة بنت بوعلي وعلى لابوانت والعربي بن مهيدي وآخرين غيرهم ووضعتهم في أنين الريح، في إطار فني يعاصر واقع الجزائر اليباب المتردي اليوم، ومن خلال الجزائر كل العالم العربي الفائض بالرمل، ونظرت إليهم من زاوية انهيار شامل أودى بكل ما هو نضالي، بكل ما هو جميل في الثورة إلى هوة البؤس الأخلاقي والاقتصادي والاجتماعي، فكانت لهم مهمة فنية غرضها الفضح والكشف وزلزلة الإنسان الجزائري الفلسطيني العربي، هزه من أعماقه (لو بقيت له أعماق من المستطاع هزها) لينهض من سبات معاييرهم وقيمهم المشوهة له، فيقوم على سطح الماء بعبء التغيير (لو أمكن... هل يمكن؟) وحق رغيف الخبز لا الموز الذي يباع الكيلو منه بمائتي دينار وزجاجة الكوكا كولا بمائة وسبعين وكيلو الثوم في أرض الثوم أيا أرض الثوم بأربعمائة... في وضع ينهار كل شيء معه في الجزائر الهاربة منها السفن أيبقى ماض نضالي لأحد؟ أيحمي الجزائر هذا الماضي من حاضر أجمل ما فيه وجوه حكام دميمين دمويين أرادوا بالماضي أن يأخذ هذا النهج وهذا الشكل، الدم يوم ينعدم المصل بعد أن عهروا كل شيء، وأنهوا كل شيء، ودمروا كل شيء، حتى البطاطا في أرض البطاطا أيا أرض البطاطا التي كانت الجزائر الطيبة تطعم منها كل فرنسا غدت أكلة للسفراء!

* * *

وأجدني أصرخ بالقراء الذين مشت عليهم "غيرية" غيري على غيري ألا تضعوا الحكمة عند غير أهلها فتظلموها، ولا تكتفوا بقراءة الصفحات الأولى من الكتاب أو بشذرات منه على الرغم من أنها تفترض حالة درامية لحسيبة بنت بوعلي ولعلي لابوانت وللعربي بن مهيدي تفترضها افتراضًا لغاية فنية ليس غير، لاستفزاز تلح عليه كلمة الغلاف، ولتشويش كان هدفًا لرامبو في قصيدة قلبت معايير الشعر الحديث في الكون رأسًا على عقب ضاربًا بها نعل الريح، ولوعيي الأكيد الشديد لشخصياتي أعود وأسجل حالما تنتهي مهمتها الفنية في النص عظمة نضالها وخصالها كأي تَمّ عندما نعرف أن التَّمَّ هو الإوز العراقيّ، أي أن النص يعيد إليها ماضيها المجيد بعد أن ينزع عنها اغترابها القسري السلطوي. وعلى ارض الواقع، أكمل النص عليها ما ينقصها منذ الاستقلال، وأقر لها الحق، إذ بعد الضجة الإعلامية الكبرى حول "القمر الهاتك"، احتفلت الجزائر لأول مرة -ولآخر مرة- بذكرى مصرع حسيبة بنت بوعلي وعلى لابوانت، وذلك بإقرار عطلة رسمية شملت البلاد من أدناها إلى أقصاها.

* * *

هذه صيحة في بحار قروش مكاتب لا حاجة لها إلى أمواج تنهار بدءًا من قرش مكتبنا الصغير التعيس في باماكو الأصغر الأتعس الراشق بالسهام إليه، حبسه أبو عمار لاغتصابه قبلة من فم آخر حورية بقيت لنا دون أن يرتدع إذ لم يزل يختلس رواتب موظفيه من بين ما يختلس القامع لهم وهو المقموع، فكيف لما يقمع المقموع مقموعين أكثر منه؟ المدمر لحس الدبلوماسية لديهم، حس بمثابة المد والجزر للأمواج ومنه يستمدون إنسانيتهم، ليمحق كل ما هو إنساني فيهم، فيغدو الواحد منهم أنشوفة طوع قدميه هو المسبّح تحت الأقدام تمامًا كما يفعل أي سجان كان بحارًا وصار جلادًا في الأرض المحتلة، يفتح الرسائل، ويراقب التلفونات، ويرسل الجواسيس، في الوقت الذي يزرع فيه المانجا وغير المانجا من موز مخمج وبرتقال محمض وأراشيد هارون الشديد بأموال منظمة التحرير، ويصدرها باسمها لحسابه الخاص. هذا وقد اكتشفت السلطات الجزائرية مؤخرًا في مطار هواري بومدين أدوية موجهة إلى مالي بحوزة أجنبي، فهل هي موجهة إلى سفارة فلسطين؟ علمًا بأن العيادة الفلسطينية تشتري الدواء دينًا وقرش السفارة –بل قرشها وأخطبوطها- يبيعه وهو يتفرج! فهنيئًا بأبي اللطف بسفرائه تجار الأوجاع الأماجد مصاصي الدم يوم ينعدم المصل صُناع الهزائم! وواحسرتاه على دولة تعتمد مثل سعادات هؤلاء السفراء السفاحين الجهلاء جهل الغبيين وجهل الأميين بعلم الأخساء أحمد الشيطان وأحمد عبد الرحيم وأحمد حماد في غينيا-بيساو سارق بواخر الإسمنت وبواخر العار القياديين القوادين المقودين الذين كان الواحد منهم جامع خراء أو عامل جهاز من غير أولئك البسطاء من عمال الأجهزة الشرفاء الرافعة لهم فلسطين الحنان فلسطين الحنين أكثر من تحية وسلام! صديقه موسى طراورة أخذه الشيطان إلى جهنم وبئس المصير، وهو لم يزل قرشًا مسخًا على عرشه من المهد إلى اللحد كباقي إمعاتنا الخالدين من أشرار الملوك، فخيرها، يا ابن المقفع، من أشبه النسر حوله الجيف لا من أشبه الجيفة حولها النسور، فلنذكّره بالفادي كونتا الذي قُتل بظروف غامضة بعد أن لطش منه أربعين مليون من الفرنكات الإفريقية، والممرضات اللاتي يَرْشُنَّهُ لأجل إرسالهن في بعثات إلى القاهرة بينما هي تجري على حساب الهلال الأحمر الفلسطيني، وكذلك السبعمائة دولار عدًا ونقدًا ثمن جواز سفر مالي يعطيكه في الحال، وناقلات البنزين التي يسعى إلى حوزتها بقوة السيف والتهديد والإطاحة بوزير من لدن العربي بشير... هذا ما نقلته زوجه الطيبة مريم التي أعطاها موعدًا في الليدو، فبصقت عليه. أما عن رواتب موظفيه كان ولم يزل يسرق معظمها، فالفلوس لم تصل بعد أو أن خزينة السفارة لا نقود فيها. فلنُشْهِدْ عليه مامودو كايا سكرتيره الخاص المدني، الذي لاحت له أطياف، فرفع عريضة إلى أبي اللطف يشكو فيها الانحطاط الاستغلال وكذلك ممارسات السفير اللادبلوماسية الجائرة في حق موظفيه وفي حق القضية بعد أن صارت له القضية قضية سرقات ومكاسب شخصية عائلية تسيرها عائلة عديم الذكر "أبو رباح" ونسيبه "اللي الله ما يربحه"! الجاهل المطرود من الأردن صاحب جواز سفر موريتاني على التأكيد مزور! وبصفته عميدًا للسلك الدبلوماسي تصله مساعدات من كل حدب وصوب يلطشها ليس آخرها كراتين المعلبات المهداة من السفارة الكندية، يعرف كل هذا غازي الجبالي النائب العام.

* * *

أما أخي المحامي أيمن، السكرتير الثاني، فقد عزله عن كل عمل إداري لأن حذاءه أشرف منه، وهو يخشاه لعينيه الصادقتين الكاشفتين للأسرار اللتين لا تهابان تماسيحنا النذلة تحت ذريعة أنه خدم الجزائر أكثر مما خدم فلسطين، وهو من كبر في الجزائر لما جاءها طفلاً وعلى قدميه تركع كل حوريات حيفا. مرورًا بقرش اليونسكو الأمي المرتدي ثوب سمك الكراكي تارة وتارة ثوب سمك موسى اليهودي، وذلك حسب ظروف القضم والهضم العائدة عليه بالمصلحة القاعد منذ عشرات السنين في نفس المكان المظلم لا يحس بالزمان يمر عليه وهو طول الوقت يتلفن لأبي فلان وأبي علان يداهن ويثرثر ويتآمر ليخلع صوصنا العام، فهو يحلم منذ مولده باعتلاء عرش مكتبنا في مدينة النور التي جعلوها ظلامًا وليصير جارًا لبريجيت باردو المدافعة عن حقوق الحيوانات سواء أكانت فقماتٍ أم قروشًا. لقد أعطى لفكه معنى القضم وكفى، فالسياسة الفلسطينية لديه قضم، والثقافة الفلسطينية لديه قضم بقضم كما هي عند غيره ممن هم على شاكلته في دائرة الخساسة، قضم ولطش ولهط وسمسرة.

* * *

لقد تاجروا بكل شيء بالقدس تراثًا وبالتطريز وبالفلكلور باسم جمعيات أبناء الشهداء والشهداء وعائلاتهم على حساب جهد وعرق أمهاتنا سمكات غزة ورفح وأريحا في البحر الحي وفقدان بصرهن في بطن بحر الاحتلال المدلهم، يدفعون مائة فرنك لثوب تقليدي أنفقن في تطريزه عشرات الساعات، ويبيعونه بآلاف الفرنكات العائدة بالربح السمين على جيوبهم. أنت تأخذ كذا مبلغ في تونس، وأنا آخذ كذا مبلغ في باريس، لن نتفق، بل سنتفق، ويتفقون. وكاسيتات لأجل الانتفاضة يشتريها أجانبُ ناسٍ هم أشرف من أبناء جلدتنا وأشد حماسًا وأكثر إخلاصًا يتقاسمون أيضًا أرباحها ليبتاعوا عطورًا باريسية بينا كل عطور باريس وكل أنهارها لا تكفي لإزالة رائحتهم رائحة السمك المعفن الطالعة... ويدعي ابن أبي مسامكة هذا أن مكتبه مفتوح للجميع، فيداهنك، ويتملقك، وينافق في أمره معك، فإن كنت من أعضاء اللجنة التنفيذية يدعوك بلهجته المائعة اللواطية البائخة الفائحة بيا معالي الوزير، وإن كان لك حق عنده تقضيه يتخبأ وتقول لك سكرتيرته إنه في اجتماعات (تقولها لك بصيغة الجمع تقطع أواصر الأمل لديك وتشلك) لن تنتهي قبل 15 الشهر لشهر لم يبدأ! وأنت تعرف أن لا أحد يجتمع بأحد في اليونسكو الشاطئ المفتوح على الشاطئ إلا والكل يعلم بالاجتماع، فالمؤسسة دولية لا فلسطينية، وبرنامجها معد ومخطط له ومنشور في الصحف والمجلات من رأس السنة حتى نهاية العام، لكن اجتماعات قرش اليونسكو الصغير مثل سائر اجتماعات الهروبيين الخرعين من ملوكنا! تتصنع أنك تصدقها، فتسأل: أين تدور الاجتماعات؟ في أية قاعة؟ في أي بحر؟ في أي مرحاض؟ كي تذهب إليه وتحل مسألتك معه، فتفرقع في وجهك: لا أستطيع أن أقول لك! وكأن الأمر سر من أسرار آلهة الماء الآسن، لتخفي بالطبع كذبها وفي الوقت ذاته لتضفي على السردين الظان نفسه قرشًا هالة من العظمة والخطورة، وكأنه على مرمى حجر من فتح البلاد لا فتح رأسك، فأنت أدرى الناس بطبيعة الحجارة الكريمة من الكريهة. أما إذا ما انضغط وأصدر ترجمة لكتاب كل حول أو كل قرن، فالمترجمون يُختارون حسب مزاجه العرشيّ، يبحث عنهم في زحل أو في عطارد على أن يتصل بفلسطيني وإن كانوا أميين مثله لا يعرفون اللغة العربية ويجهلون الحروف الأبجدية (عندما تتكلم وإياه ثقافة يقول لك بصوته المخنث أنا جاهل)، لأنه يرى في كل فلسطيني قرصانًا مهددًا آخذًا لمنصبه، والكتّاب يُختارون أيضًا حسب مزاجه ومزاج أسياده في دائرة السفاهة مزاج قروش صغيرة وأخرى أصغر وكلها حقيرة. هذا ما جرى مع أنطولوجيا الشعر الخالية من كل شعراء الأرض المحتلة الملعونين سمكًا فضيًا وذهبيًا، وهذا ما سيجري مع أنطولوجيا القصة محاججًا بنفسي أنا البحار التياه التائه صاحب أربع مجاميع إلى حد اليوم في آن البحر وغدًا في آن البر إن جرى لنا في البر آن، لأنهم لو تركوا أدبنا للقارئ الغربي لما صفق لهم، أما عن فلسطين المرساة والمأساة والدعاية لها والدعوة إليها فآخر ما يهمهم... ألا فليسقط ملوك كهؤلاء القروش! أصحيح أن هؤلاء ديمقراطيون كما هم بكل قحة يتبجحون؟ يموت الشهداء من أسماكنا وهم لا يموتون، فلماذا لا يموت سوى غيرهم؟ لأنهم من ذوات قروش جبانة، يتخبأون وقت الخطب في سراويل زوجاتهم! قوافل من سمكنا طوتها سليمى وهم على أوسخ مناصبهم قاعدون، وكأن الشهداء يموتون لأجل أن يبقوا قاعدين حكامًا وهمومًا متداعين على أمخاخنا، شأنهم شأن كل حاكم عربي متقرش مجرم متسلط جاء بانقلاب عملته السي آي إيه، أما هؤلاء فلا انقلاب ممكن معهم ولا اغتيال، فمن يُغتالون هم أولئك المزعجون لسياسة إخضاع شعبنا سمكًا ومحارًا وإذلاله، ونقول أيضًا أما هؤلاء فهم مطبلون مزمرون مع البقية الباقية من مطبلي عربنا ومزمريهم، الطراسيح الخادمة لهذه السياسة، أو على الأقل هم دمى خائرة على شكل أسماك من شمع لا تزعجها، وهم لهذا السبب ثابتون في الموج مثبتون، فأين هي تلك الديمقراطية التي تغيرهم في نفوسهم وعلى كراسيهم؟ أين أثينا؟ وأين الهند؟ ديمقراطيون يمنعون رواية ليسوا ديمقراطيين، يمنعون نشرها كما فعلوا "بالعجوز" أو يمنعون توزيعها كما سيفعلون "بالقمر الهاتك"، ديمقراطيون تهددهم رواية هم بالأحرى جزارون خرعون كجرذان عكا، وإن كان لنا أفلاطون فلسطيني فليسقط أفلاطون! وإن كان لنا أرسطو آخر فليسقط أرسطو! وليحي الشرعي الصحيح الشرعي الصحي على شراع الانفلات السياسي؟

* * *

ماذا أقول الآن في مكتبنا الباريسي؟ مكتبنا أو مستنقعنا؟ لن أقول كل ما أود قوله وإلا احتاجني ذلك إلى كتاب! سأقوم باستحضار بعض الصور التي ليس من الممكن تمييزها إلا في المتخيلة لتراكم التفاصيل الواقعية على بعضها وامتزاجها حتى غدت سريالية، لأعكس جوهر أُم المصائب والاستغراق فيها... ها هي ذي صورها تأتيني إتيان أمواج الأمازون بقوافل من سمك الضارّ "البيرانا"، في كل مرة أغوص للبحث عنها أكتشف أنواعًا جديدة منها لم يعرفها الإنسان من قبل: الأسنان المشحوذة المربعة والمثلثة والمكعبة، العيون الجاحظة المقعرة والمسطحة والمفلطحة، الأنوف الفطساء الطويل منها والضخم والأقنى... الرؤوس القرونية، الأجنحة القدومية والأذيال السكينية! تراها كيف تلتهم الغيدر ومِنَحًا تُعطى لسنواتٍ ثمانٍ لأن هذا أخوه موظف في المكتب، يحرم ثلاثة طلبة من الدراسة بينما يقدم آخرون ملفًا يرفض عشرين مرة! ابن أبي مسامكة معه الحق في منحة لدراسة علم نفس ليعالج نفسه لا شعبه، أما أنا الذي أنا، ابن سلافة العنب، ليس معي الحق في منحة للطب أو الهندسة، تلك المنح التي يتم توزيعها على أصحابهم حسب شهادات مزورة كما اكتُشف ذلك وافتُضح أمره وأمرهم في باريس!

* * *

تسهو قليلاً، فتقضم البيرانا لك ساعدك، تنظر في الدم الراشقك رشقًا، فترى أشلاء اتحاد الطلبة، اتحاد كان يهز فرنسا هزًا في عهدنا كيف مزقوه والهلال الأحمر كيف لوثوه وجمعيات الصداقة كيف طفّشوا أعضاءها وهرّبوا الكوادر ولم نعد نسمع شيئًا عن عدم سماعنا لما لا يفعلونه لأجل الانتفاضة اليوم، وغدًا لأجل الدولة إن كانت هناك دولة أو طبخة!

* * *

تفرك رأسك، فتقضم البيرانا لك ساقك وفخذك، تنظر في الغائط المغرقك غرقًا، فترى المطاعم المحجوزة طاولاتها والبيوت المشتراة لأغراض وطنية وهي كرخانات، التبرعات المسروقة والشيكات المشترى بها بيانوهات لعزف النوتة الزرقاء لشوبان، فتجيئهم من أعالي شجر غابات بولونيا بالبعوض الأزرق كي تنتقم منهم بالحمى الصفراء، لكن جلودهم لا تتأثر بلدغات تميت البعوض ولا تميتهم أصحاب الجلود الميتة: ما من متطوع أتاهم المكتب إلا وطردوه، ما من بنت دخلت عندهم إلا وسبتهم، ما من صحفية أرادت أن تسألهم عن حال الأهل إلا وبصقت عليهم... لياليهم كنهاراتهم موزعة بين مائة وثمانين حفلة كوكتيل لمائة وثمانين دولة في العالم تحتفل بعيدها الوطني وبين باقي أيام السنة أو نصفها الثاني حيث تجدهم قابعين في مقهى "السلامبو" يلعبون "اللوطو"، اليانصيب، وسباق الخيول، وبكرة السحب، فإذا سألت عنهم قيل لك هم في اجتماعات (بصيغة الجمع دومًا) أو في مهمات (بصيغة الجمع الدائمة) في وزارة الخارجية!

* * *

أين هي تلك الريح الموسمية التي لم تهب عليهم بعدُ ماحقةً؟ وأين موج بحر دمنا المنتقم؟ أين هم لصوص البحار قراصنته الطيبون الآخذون لشرفنا وعتاد السفينة من لصوص المكاتب سوقيي الفضيلة زقاقيي الدائرة الساسة عشرة، الدائرة الأثرى في باريس، وضدهم سيجيء فيكتور هيجو من قلب شارعه العتيد متهمًا وشاهدًا وباصقًا؟

* * *

نعرج الآن على قروش مستشفى فلسطين في قاهرةِ مُعِزٍ لا عز له غير محظور التهريب من جثث الموتى حتى العقاقير بعد أن محا أطباؤه من مفهوم الطب والتطبيب كل معنى إنساني، من علاقة الطبيب بالمريض كل تعلق إنساني، من عاطفة المعالِج بالمعالَج كل حرارة إنسانية، بعد أن خنقوا الأمل بالشفاء بجرعة، بعد أن قتلوا أماني الصحة والعافية بِحَبة، بعد أن سملوا عيون الرغبة في الحياة بإبرة، ودفعوا الشيوخ من حيتاننا كالشبان إلى اختيار موت هو أرحم من كل قروش الرحمة. أيا أبا العبد الحوّ! من لا يعرف أبا العبد الحوّ أول فدائي من فدائيي مصطفى حافظ لما لم تكن هناك بعدُ منظمات ولا بنو قرش ولا آباء... زارع الزهر في بيروت بالرصاص والدموع؟ يعرفه أبو عمار، ويعرف ابنه الطيار في اليمن ونيكاراغوا والجزائر كيف قاتل وسيقاتل... جاء إلى مِصر عند عائلته بعد الخروج وذهابِ علمٍ ضيعوه، في النهار كان يتشبث بعصا من شجر زيتون القدس تكسرت، وفي الليل كان النوم يهجره على قارب يشق النيل إلى فكرة في رأس أخناتون ستغدو سمكة، فرعد في جسده شلل نصفي ليأخذوه حيث يقتلون فلسطين في مستشفى فلسطين على أيدٍ فلسطينية، ولما جاء الطبيب والممرضات ليكشفوا عليه وجدوا نصفه لحمًا ميتًا ونصفه ينبض بالرجاء الحي، فقال له الطبيب القرش أن لا شيء عندك، وما هذا الإزعاج؟ فارتعدت فلسطين في جسده، وقامت من جزئه المشلول صائحة، إلا أن القرش الطبيب دفعه من الرعب لست أدري أم من رد فعل إرادة المشلول على طريقة الواطين من أطبائنا في المعالجة، فوقع من التخت، ومات!

* * *

أيا إبراهيم جبر! من لا يعرف إبراهيم جبر المقاوم للحصار بدكانه المفتوحة على نوافذ المخيم وبشاحنات المواد الغذائية والحليب والطحين عبر كل الطرقات من مدن القطاع إلى مخيم البريج المحاصر؟ من لا يعرفك، يا جد الفلسطينيين الحادب علينا؟ من ضلعك جئنا، وعلى قدميك استشهدنا لأنهما لنبيّ. أردتَ أن تحمي أولادك الضاربين لجنود إسرائيليين لم يعودوا قادرين على النوم المريح، وأفقدوهم طعم الهواء المالح الهابّ علينا من بحر غزة الهوى المضني، أردتَ أن ترفع عن الجذع ضربة بجذع البندقية وعن الصدغ لكمات القروش العنيفة، فالكواكب التي لنا من الممكن أن تغدو مراكبًا، والمراكب التي لهم من الممكن أن تبحر في حِضنك وحِضنك مهدنا، لهذا أخذك الجنود كما يأخذون عالمًا، واعتبروك جيشًا يقاتل جيشًا، فما رحمك جيشهم الجرار وأنت سلاحك ذراعاك وأولادك أسلحتهم أصداف البحر. كنت شيخًا شابًا قبل أن يضربوك، وغدوت شيخًا كهلاً لما جئت مستشفى فلسطين ليعيدوك شابًا، فقال لك أبناء القرش أطباء الموت: عد من حيث جئت إلى لعنتك بدل أن ننفق عليك جهدًا وعنايةً ودواءً أنت الشيخ ننفقها على واحد شاب! فشتمتهم، وقلت أعود إلى العلاج عند الذين قتلوني! وبالفعل دخلت مستشفى تل أبيب هناك حيث القروش سمك والسمك بشر، وبعد ثلاثة أيام توفيت!

* * *

أما أنتِ، يا جدتنا العجوز، فلم يكن أحد يعرفك، ثم عرفك الكل بعد كل ما عانيتِ في مستشفى الذين أهلكونا، وهذا هو السيناريو: المكان خان يونس: منع التجول، الحجارة، الانتفاضة. الجيش يطارد ولدًا والولد طائر. الجنود القاتلون لأبيه أول الانتفاضة يطاردونه آخر (؟) الانتفاضة حتى بيت جدته. الأب استشهد والعم في الحبس. الأخ الأصغر نائم يأخذ الجنود بضربه. الأخ الأكبر بطل مصارعة يخطف أكبر سكين ويقتل جنديًا وضابطًا. الأخ الأوسط، ذاك الولد الطائر، يتمكن من الهرب. الجنود يأخذون بضرب المصارع والأخت النائمة تدخل في عينها رصاصة. الجنود يأخذون الأخوين الأكبر والأصغر إلى المستشفى، وبعد فترة يعتقلونهما. العجوز تبقى وابنة ابنها المصابة في عينها. الناس كلهم سمكًا وحمامًا يؤازرونهما. يأخذون ابنة الابن إلى مستشفى لم ينفع العلاج فيه. بعض القابضين بالدولار يقولون للعجوز اذهبي إلى مستشفى فلسطين، المستشفى مجهز بأحدث الأجهزة والأطباء مهرة وخاصة هم إنسانيون! التاكسي يوصل العجوز وابنة ابنها من خان يونس، بعد أن تقطعا جهنم سيناء، حتى باب المستشفى والأمل يحدو الجدة بشفاء حفيدتها. العجوز تحكي للطبيب المناوب، طبيب كان أبوه جاسوسًا للإنجليز واليوم هو جاسوس للإسرائيليين. أبوه يقتل الناس خارج المستشفى في الأرض المحتلة وهو يقتلهم داخله. الطبيب يقول للعجوز: يا عجوز، اذهبي إلى مستوصف عين شمس! العجوز تقول للطبيب: أنا أعرف عين شمس أو عباد شمس؟! جئت من خان يونس، وضعني التاكسي عندكم، قالوا لي ستساعدوننا أنتم... لكنه يطردها!

* * *

ثم جئتِ، يا ستَ الحُسْنِ، رأيتِها مع حفيدتها ذات الثماني السنوات، وهي تبكي، فذهبتِ إلى الطبيب، وأخذتِ تعاتبينه، فكيف سيُخضع حُسْنُكِ قرشًا غادره الحس بالجمال؟ ولما وجدتِ ألا فائدة هناك، أعطيتِ جدة كل الفلسطينيين عشرة جنيهات لتعود طبيبًا رَفَضَتْهَا وقالت: مُحَرّمة عليّ مستشفياتهم، مُحَرّم علي دواؤهم، أما الآن فسأرجع إلى خان يونس الحوت الذي يأبى، وخلينا تحت الاحتلال أحسن لنا من هؤلاء السارقين للأدوية البائعين لها في السوق السوداء! كنتِ تعرفين، أيا ستَ الحُسْنِ، أن ذاك الطبيب أو القرش ذاك القرش أو المجرم يهرّب الأدوية المتبرع بها لصيدليات القاهرة ولا يصرف للمرضى المصابين بالقلب غير الأسبرين. أطباء جاؤوا بالواسطة، وشهادات مزورة بحماية هلال الدم الفلسطيني: بحماية رئيسه "فوفو" –كنية أخ ياسر عرفات- وعصابته. حملت العجوز حالها وحفيدتها وعادت من حيث جاءت إلى القطاع المحتل القطاع الحنون، عادت في نفس النهار.

* * *

وأنت، يا دكتور عبد القادر، الكل يعرفك لقدرك قبل أن يعرفك لمهارتك. كنت "الكل بالكل" في مستشفى غزة وعيادة الدامور –سكانه من بقايا مخيم تل الزعتر- وفي صبرا وشاتيلا وبرج البراجنة كنت تذهب إلى المخيمات وإلى كل من هو متواضع من الناس، كل ما هو متواضع من المستوصفات، وكل الناس كانوا يحلفون بحياتك. بعد 82، ذهبت إلى ألمانيا، فسلمك الألمان موقعًا هامًا في مستشفى كبير، وأعطوك مسئوليات معتبرة، لكنك لما سمعت بمستشفى فلسطين الحديث تركت كل امتيازات العشر السنين مع ألمان يرون الإنسان في الإنسان لو كان قرشًا ولو كان مريضًا، منصبك تركته، وحياتك المرفهة أنت وزوجتك وأولادك، ونزلت إلى القاهرة لتعمل في مستشفى التي لم يأخذوا منها سوى اسمها، والتي جعلوا منها أعرافًا، وها أنت إلى غاية أمس لم تستلم قرارًا بتعيينك ولا بتجديد إقامتك، فقط لأنك كشفت عن حرمناتهم ولأنك تصلي! وفي الأخير، قررت العودة إلى ألمانيا، وصارت لك ألمانيا فلسطين!

* * *

لا، لا حاجة لنا إلى جدران تنهار، لأن كل شيء في العالم العربي منهار: الثقافة، الاقتصاد، الجبال، الأخلاق، كل شيء، كل شيء منهار بعد أن عملوا على انهيار الإنسان فينا. كيف نستطيع تحرير البلاد والانهيار شامل؟ والانتهازيون مثقفون أو حكام؟ والدماء مياه؟ لكن شعبي العظيم مروض البحار لم يقل بعدُ كلمته الأخيرة. وإني أقول له في هذا المقام إذا ما حصل شيء يكون لنا فيه دمار وكوارث –وهذا ما هو حاصل في جهنم الأمم- فالثورجية الفلسطينيون والتقدمجية العرب والمسقفون (بالسين لا بالثاء) ممن هب ودب هم من ورائه قبل أن يكون من ورائه قروش الشيوخ والأمراء والملوك والرؤساء –فلا فرق بين جرب اللسان في تحطيم الكيان- الذُّهانيون الراكعون في الليل والنهار تحت نعل أمريكا الحنون المتعرون على المكشوف، بعد أن خلعوا كل أثواب الكرامة، وتوحدوا لأول مرة في تاريخهم في أحضان بوش الرحمن الرحيم، تاركيننا لمئات السنين في حضيضهم أسفل سافلين، حضيض حق القرش وشرعية السرطان ونظام الأخطبوط العالمي الجديد التدجيل والتدجين، فأولئك كنا نفرق عن خطأ فيهم بين محمود أمين الجاهل مثلاً وأنيس مهزوم أو إبراهيم تعسة، وهؤلاء يتذابحون أو يدقون البرق في فكوك بعضهم البعض لجيفة سمكة نتنة تمضي في شارع بيغال العرب، ويتلاحمون عورة تلتحم بعورة في اللحظة التي يبيعون فيها وطنًا أو يخضعون شعبًا، فأين أنت، يا عبد الله بن ميمون القداح؟ ومتى تكون عودتك، يا الحسن الصباح؟ وأنت، يا حمدان القرمطي؟ ويا صاحب الزنج وكلنا اليوم زنج؟

* * *

مرة أخرى ينطبق عليهم قول أبي العلاء المعري في أحكام الكواكب، أحد أعظم الشعراء الذين مارس عليهم مطبلو الثقافة أكبر عملية تعتيم لم يعرفها شاعر من قبله –وعرفتها أنا من بعده- لأنه شاعر للعقل شاعر العقل لا شاعر الحاكم الديوث والقارئ الطُّرسوح الذي يريدونه أن يبقى غبيًا وجاهلاً، فإذا اجتمع احتلال العقول واحتلال الاقتصاد صارا أخطر من احتلال الأرض وكل البحار:

مَساجدُكُمْ ومَواخيرُكُمْ سَواءٌ، فبُعدًا لكم من بَشَرْ
وما أنتم بالنباتِ الحميدِ ولا بالنخيلِ ولا بالعُشَرْ
ولكن قَتادٌ عديمُ الجَناةِ كثيرُ الأذاةِ، أبى غيرَ شَرّْ
وليلكم أبدًا مظلمٌ، فهل تَرْقُبونَ صباحًا جَشَرْ
فيا ليتني في الثّرى لا أقومُ إنِ اللهُ ناداكُمُ، أو حَشَرْ
وما سرني أني في الحياةِ وإن بان لي شرفٌ وانتشرْ
أرى أربعًا آزرت سبعةً وتلك نوازلُ في اثني عشرْ

* * *

لقد قضوا ليلهم ونهارهم طوال عمر الثورة وعمر البحر منذ العام 65 وهم يعملون على تهميش المثقف الفلسطيني، الشاعر والروائي والقاص والمفكر والفنان والطالب والقارئ وسمك المرجان، هم الأميون حيوانات العلم، ليعلوا على ثقافة أسقطوها، فسقطوا في هامش السياسة اليوم بعد أن صنعوا سقوطهم بأيدي الصاعدين من أذل الحكام العرب مذ قامت العرب على وتد أمريكا الساقطين بشروط إسرائيل الأمر والنهي والإسفين الذين باعوها وباعونا وصنعوا نفيهم الكليّ.

يخيفهم الأدب هؤلاء، الأدب الخالد.

يرعبهم الأديب هؤلاء، الأديب الملقي بعتاد سفينته والمشهر سيفه على رقابهم.

يغيرون من ظلال مؤخراتهم، فكيف لما يكون الأمر متعلقًا بظل "العجوز" العملاق؟

أما الآن، فلنتركهم مؤقتًا في بحرِ دمِنَا يَلَغُون، ولنستمتع بقراءة "العجوز" الخالدة الصارخة في وجه مغتصبي أرضنا وحقنا في الحياة من أعداء يهود وأعداء عرب أبوهم ليس إسحق وليس إسماعيل ونبيهم ليس محمدًا وليس موسى.



باريس يوم السبت الموافق 17 مارس/آذار 1990







* أعيد النظر في هذا الإعلام في غمرة المساومات السياسية المصيرية وخوازيقها الجهنمية على فلسطين والفلسطينيين والأمة العربية من أعلى مستويات قروش أولي الأمر إلى أحطها دركًا بما في ذلك دائرة الثقافة البائعتنا عضلات أونطة الكلمة وطق الحنك والبلطجة في زمن تحت كل ذي جهل جهيل وازْفِنْ للقرد في دولته، في وقت يقول عنه البعض ليس وقتًا للصراحة ولا للحساب والوقت لديهم واحد لا وزن له في السراء والضراء في صحراء الرمل وصحراء الماء لأنهم مع المطبلين إذا طبلوا ومع الباكين إذا بكوا ومع الناهقين الناعقين إذا شكوا، بينا نرى فيه اليوم وقتًا للصراخ أقوى ما يكون عليه الصراخ: نعم لمنظمة التحرير التي صنعها شعبنا بشهدائه ودمائه وبنادقه وحجارته وأكف نسائه وتضحياته وعلى أجساد سمكه وطيره وحيتانه، وألف لا لهم هم الذين أودوا بنا إلى ما نحن عليه اليوم بعد أُم المعارك من أُم المآسي لا فرق بينهم وبين أشد أعدائنا من القرش العربي الربيب إلى القرش الراشد في التوراة بطشًا بنا... نعم وألف نعم للوطني البديل!



باريس يوم الأحد الموافق 11 أوت/آب 1991































العجوز














"من هي في قلب كل عربي وتسمم روحه".

دانيال ريج




يدعونها "العجوز". العاقلة. المجربة. المتبصرة. الأكثر استنارة. لأنها من بينِ كلِّ العجائزِ الأكبرُ عمرًا. وكذلك توقيرًا لما فعلته أو جرؤت على فعله وديدنها الحكمة. يتذكر الناس يوم ميلادها وهم يشيرون إلى شجرةِ بلوطٍ في القدمِ عريقة، أو يوم زفافها وهم يستدعون حصاد الذهب الوافر أكثر ما يكون عليه في كل تاريخ القرية. من القمح كانت هناك المحيطات، وليس فقط القمح، البركة الطيبة لهذه الأرض الكريمة، ولكن كذلك الزيتون والعنب، إلا أن في تلك السنة كانت وفرةُ السنابلِ الأعظمَ. يستذكر الناس كلماتها الأولى والمَعْز الطويلة الوبر الحريرية الجزة من أنغورا، خطواتها الأولى والجياد الكريمة البيضاء أو المُدَنَّرَة من جزيرة العرب. وللكلام عن أزمانٍ تغيرت الأشياء فيها ودارت على العجوز الدوائر، يسوق الناس إلى الناس فيضانًا أو زلزالاً، حربًا أو حريقًا، وهم يقرنونها بموتِ إحدى بناتها أو برحيلٍ من غير رجعة لأحد أبنائها أو أحد أحفادها. ويجري الحديث عنها والمماحكة حولها إلى ما لا نهاية: شعرها الداكن الطويل الواصل إلى قدميها لما أرخته لأول مرة في ساحة الجمال وأول كسوف للشمس ابتلع العالم في سواده. كان تقليدًا وثنيًا عرضُ البلوغِ ذاك منذ أجيال وأجيال، عرضٌ يدور في ساحة الجمال، عند عتبة المسجد، وفي الوقت ذاته يفيض عن الله، من هنا سُميت الساحة العامة للقرية "ساحة الجمال". ويتجادل الناس، ويحكون. يحكي الناس كثيرًا عن أول انقضاض للجراد، عن أول مطر مالح، عن أول طلقة أُطلقت من يدِ أخٍ في صدر أخيه. لشحذ الذاكرة، كان الناس يميلون إلى استحضار أول حدث وقع، ودومًا بربطه بجميلة. هكذا كانوا يسمونها، وهي شابة. جميلة. أول حب عابر لها، أول خروج لها إلى الحمام، أول ليلة قضتها عند زهرة، أعز صديقاتها، أول تَمَنٍّ لها، أول تعهد، أول تخوف. وآخر رغبة لها، الرغبة الأخيرة في إيتاء الرغبة في التغير لمن يَثِبُون نحو خداع الكبرياء وسراب المجد، والرغبة في قضاءِ حياةٍ تعني العظمةُ فيها معرفةَ الذات. إن صح القول، كانت سرَّ هذا المكان البعيد، البعيد جدًا، المنعزل جدًا، ولكن المسيّج تمامًا بالأحلام والجبال، وفي الوقت ذاته، كانت سريرةَ هذهِ الكائناتِ، سُكَّانِهِ، ذوي السجايا المماثلة للحجر، الأقدم من الحجر، حجر النار، أو الحجر الذي تقيم عليه النسور أعشاشها، والأكثر نفاسة، كجميلة: الألماس، اللازورد، الفيروز، الزَّبَرجد.
كانت الابنة الوحيدة لسيد عظيم دومًا ما دللها، دومًا ما حقق لها كل رغباتها. هذا لجميلة، وذاك لجميلة. الفساتين والفاكهة، الغزالات والظباء، المُوبِرات، الضَّيونات، حتى ساكيات الأمازون، لتكون راضية. وهذا أيضًا لجميلة، تريده، تحلم به. أن يجيء هذا من هنا أو من هناك، حتى ولو من بعيد، من بعيد جدًا، ومهما كان الثمن. كل شيء يُجلب لأجلها، كل شيء يُفعل لأجلها. تُحَرَّكُ الجبال، تُحَوَّلُ الأنهار. ولأجلها، بالإضافة إلى طقس عيد ميلادها، كانت الأعيادُ تُعَدُّ غيرَ ما تُعَدُّ الأعياد، أفخم الأعياد، لأقل مناسبة: لما ثقبت أذنيها، لما ألبست أسنانها بالذهب والسرّ الخفيّ، لما حفظت عن ظهر قلب الجزء الأول من القرآن أو جدول الضرب، لما كان لها أول طَمْث، أول سن للعقل، أول مُهر، أول طَقْمِ مجوهرات. ما عدا عرسها، الحفلة الصائتة الأكثر كانت بمناسبةِ شراءِ عِقدٍ من اللآلئ السوداء، نادرة النوع، ملكتها إحدى إِمْبِراطورات الصين، بلد السور العظيم وألف ألف عجيبة. كان العِقدُ عجيبةَ العجائب. اثنتا عشرة لؤلؤة سوداء ذات اسوداد متلألئ ليل نهار، شموس سوداء في النهار، وأقمار سوداء بسواد الآبَنوس، في سماء بيضاء تمام البياض، في الليل.
هذه اللآلئ السوداء النادرة والنفيسة كانت تمثل القرى الاثنتي عشرة التي كان والد جميلة حسيبها. بإهدائه هذه الجوهرة المدهشة لابنته، أراد والد جميلة أن يُعبر في الوقت ذاته عن حبه لها وعن تعلقه بِوَحْدَةٍ توثق العرى بين كل تلك الأقاليم في مقاطعة كبيرة تحت إمرته. وكذلك أراد أن يُظهر كم كان عمق فهمه للعدالة يدفعُهُ إلى حبِّ لآلئٍ جاءت من نفس البحر، من نفس الرحم، ولكلها العيارُ نفسُهُ. على النمطِ نفسِهِ كان الناس هنا متشابهين كلهم، وكلهم عظامًا. ولهذا كانوا كلهم نبلاء وفي رخاء. كانوا يأتون كلهم لحضور عيد اللآلئ. هكذا أخذوا يدعونه: عيد اللآلئ. كانوا يقولون: في عيد اللآلئ اشترينا حصّادة، ومنذ ذلك الوقت ونحن نعمل عليها، منذ أعوام. سنة بعد عيد اللآلئ بنينا دار البلدية. أو أيضًا: ستكون لابني عشر سنين في عيد اللآلئ القادم. وعيد اللآلئ، وعيد اللآلئ... كان رؤساء كل القرى هنا، بصحبة أبنائهم وبناتهم، وكل القرويين، مزارعون وفلاحون خِلْطًا بِلْطًا حتى أوضعهم. في هذه المناسبة، كان الأولاد مع الأولاد يتنافسون أُوارًا في لفت نظر جميلة إليهم. كانوا يأملون كلهم بكسب ودها، ويصبون إلى الزواج من جميلة الجميلات. وكانت الجميلات الأخريات تأكلهن الغيرة، مَغيظات، مغتمات. ومع ذلك، لم يكنّ دميمات، وإنما بكل بساطة مهملات، لا يقدّرهن أولئك الشبان حق قدرهن، وكان كل طموحهن أن يسقطنهم في حبائل الزواج... في مناسبة كهذه، كان الكل، بنات وأولاد، شبان أو شبان أقل، كان الكل جميلاً قطعًا، إلا أن جميلة كانت محط الأنظار. وكان من الصعب على جميلة الاختيار، من الصعب عليها قول نعم لهذا ولا لذاك. كانوا كلهم جميلين وأغنياء، كتلك اللآلئ السوداء بجمالها اللا يُضاهى، وقيمتها النفيسة جدًا. عندئذٍ، فضلت الانتظار. بالنسبة لها، العاقلة، كان الحب الكبير وراء ما يقطعه العقل على نفسها عهدًا.

وجاء الحب يطرق بابها بقوة، بقوةٍ قويةٍ جدًا، لما كانت جميلة تقوم بنزهة في الحقول، بصحبة من يصحبنها في كل غَدَواتها وَرَوَحاتها. فاجأها الظمأ، وكان من اللازم أن تتسلق الصخور للشرب من ماء شلال يبعد عنها بعد الزرقاء عن الغبراء، ولم يكن باستطاعتها ذلك حتى بمساعدة تلك النساء الرخصات العود اللواتي كن يصحبنها ويُطَمِّنَّ خواطرها. لم تفلح في الصعود، فانفجرت بالضحك، وارتمت من الضحك على الأرضِ متراخية. في تلك اللحظة، ظهر شاب تراه جميلة لأول مرة. حملها حتى الشلال، وسقاها من باطن يده. كان اسمه سيفًا، وكان جميلاً وشديدًا، إلا أنه أبعد ما يكون عن كونه ثريًا أو ابنًا لمولى. كان ينتمي إلى تلك الجذوع من الفلاحين الذين كان العمل قِسمتهم والنزاهة نصيبهم. ابنًا وحيدًا. فَقَدَ أباه وأمه في السنة التي ماتت فيها فرس جميلة وانهارَ الركامُ المُزْنِيُّ مع الحصون الزرقاء في مملكة السماء. لم يستطيعا التسلط على ميولهما، فأخذ التعسين مرضٌ لا اسم ولا وجه له في عدة أيام، ثلاثة أيام بالتدقيق. كيف أصابهما المرض؟ هذا المرض الخطير الغريب كان من المستحيل تصوره في فردوسهم الأرضي. لم يكن من الممكن الاعتقاد بالمرض مرضًا، ومرضًا مهلكًا، فقال الناس إنه جاء من مكان آخر. وعندما يقول الناس من مكان آخر، يعني الناس من وراء الجبال. والحق يقال إن أبوي سيف عبرا جبل قاف، أعلى الجبال، ليبيعا حصادهما بأفضل الأثمان، إلا أن هذا لم يكن سبب وفاتهم. بيد أن سيفًا عندما ذهب لطلب يد جميلة، حكى لأبيها عن خطأ أمه وأبيه في الكسب مكسب الخاسر خارج المقاطعة، فمع حسيبها يجب التعامل. دار الأمر على الشاب العاشق بعد أن جعل الأب القويّ منه ذريعة لرفضه زوجًا لابنته، فالكيفية التي تسير بها الأشياء كما يرى الأشياء لم تكن تخفى على أحد. ستتزوج جميلة من ابن زعيم، ثريّ مثله وإلا فلا، عندئذ يحق عليها أن تبقى في البيت. لا شيء ينقصها، جميلة! كان لأم الفتاة الرأي نفسه، غير أن سيفًا، غير ما توقعه أحد على الإطلاق، وبرضى جميلة، حضر في ليلة سوداء بسواد اللآلئ الإمْبِراطورية لقطع الجبال معها، والاستقرار قرب النهر الكبير نهائيًا. لم يكونا خائفين من المرض، ولا من أي شيء آخر. وَلَوْلَمْ تُبَدِّلْ جميلة رأيها في اللحظة الأخيرة، وتتصرف بروية، لكانت قد ارتكبت أكبر خطأ في حياتها. طلبت من سيف أن يقودها إلى بيته، فيمضي كل شيء إلى حاله. والحالة هذه، حسب الأعراف والتقاليد، المرأة التي تجتاز بقدمها عتبة أعزب دون موافقة الأهل هي "حلاله"، بكلام آخر زوجته. ونتائج هذا الفعل؟ الشر كل الشر في احتمالها. سيسيل الدم ربما، وسيكون الموت مصير الإنسان في الموت. ادعت جميلة أن باستطاعتها حل كل شيء مع أمها، وحلت كل شيء مع أمها... بصعوبة من يمارس شعائر دين غيره. كانت أمها لا تبادلها أفكارها، كانت تريد لها زواجًا أشبه بزواجها، بلا حب، زواجًا "يسويه" رجال الأسرتين ما بينهم، فهي لم تر زوجها لأول مرة إلا ليلة العرس. هكذا كان يا ما كان في قديم الزمان، زمنها، زمن لا يُمَسّ إلا ممن مَسَّهُ الشيطان. الأزمان تتبدل، قالت جميلة، العقليات، العلاقات بين الناس، بين النحلات، بين الرمال والموجات، حتى نظرات فتاة عاشقة للورد. كل شيء يتبدل. لم تكن أمها ترى من كل هذا إلا الظاهر. يبدو كل شيء قد تبدل، وفي الواقع، مصير النساء، النساء خاصة، يبقى، وسيبقى دومًا نفس المصير، كريشة في مهب الريح، ريشة من حديد الأعراف والتقاليد. غير أن ابنتها كانت وحيدتها، طفلتها، صغيرتها التي دللتها كما لم تدلل أُم من الأمهات، زَهْوَها وخُيَلاءَها، وهي لهذا فعلت كل ما بوسعها للحيلولة دون وقوع أسوأ مما وقع. أبوها وعابدها بالقدر ذاته تَرَدَّدَ، كان في أسوأ حالاته، فجميلة كانت صغيرته هو أيضًا، خطيئته التي لم يرتكبها أبدًا، أمرها لا يخطر ببال، ومهما زادت الحالة خطورة، إلا أنه لم يتوقع أن تغادر البيت هكذا مع القادم الأول. كان من الصعب عليه أن يفهم إحساسها، قرارها، اختيارها. بالنسبة له، أكثر ما أغضبه، بين أبيها والغريب، أن تختار الغريب! لكنه استسلم في الأخير، وليقطع الطريق بسرعة على اغتباط المرائين وإشاعات المجانين التي انتشرت في القرى الاثنتي عشرة وحتى ما وراء الجبال، حتى وصلت البحر الكبير، قطع على نفسه عهدًا بإقامة أكبر عرس عرفته المنطقة مذ وجدت في العالم هذه المنطقة وحتى أبد الدهور. كان عرس ابنته، وحيدته، عرس جميلة، جميلة التي له، جميلته، وتم كل شيء كما قطع العهد على نفسه.

مع الوميض الأول للشمس، غادر موكب العروس بيت العروس بالعروس إلى نهر الشهوة. كانت عادة قديمة من مَجاهِل الأزمنة، عادة تطهير الجسد، فالأمور مرهونة بأوقاتها، والكيفية التي تسير بها الأشياء كيفيتها. دخلت جميلة الماء، وهي تضع عليها حيكًا من الحرير الأحمر المتأجج في رمان الفجر، بصحبة المداحات: ستكونين الأسعد، أكدن على الكلمات، ستأتين بالأولاد! لن يماثلك أحد، يا جميلة، بِوَرْدِكِ يا جديرة! وكن يرمينها بالزهور. اخترقها الماء، فأحسته في جسدها، وجعلتها برودته ترتعش ارتعاش الزنبق في العراء. الشَّهوة واللَّذة، هاتان الخطيئتان الجسديتان امتزجتا واستُهْلِكَتَا. كل ما فيها انقذف خارجًا: كانت ماءً، وكانت ضوءًا. ثدياها، بطنها، فخذاها، أصبحت كلها نقية تحت ثوب الحرير، حريرية، تحس بالهدوء يرين عليها. عاد جسدها إلى وضعه الأصلي، جسد طفلة، محررًا من كل قانون، بانتظار ليلة الزفاف حيث تنبثق الشهوة ثانية كما لم يكن من قبل، وحيث يكون المشتهي في أوج المتعة. ستكونين الأسعد، ستكونين الأكثر شهوة... ستكونين الأكثر اشتهاء!
زهرة، صديقة جميلة الأعز، كانت حبلى في شهرها التاسع، وكانت تُسْنِدُ العروس بذراعيها لما شعرت فجأة بأولى آلام المخاض، فآلمت جميلة على الرغم من كل إرادة العالم لمنع ذلك. هزة عنيفة فيها جعلتها تغوص في الماء، فقطعت المداحات مديحهن ليهتممن بالأم الصغيرة. كان السفرجل الأصفر في الفضاء الأخضر، وكانت الولادة في الماء خلال بضع لحظات، بضع دقائق أو يكاد، وَوُلِدَ صبيٌ أسموه "غواص الجميل". لأنه وُلِدَ تحت الماء، يوم زواج جميلة. وأشرقت جميلة تحت الأشعة الذهبية، شمسها وضوؤها وزواجها ونهرها وهذا الوليد الجديد القادم إلى العالم. كانت معتزة ومبتهجة، قبل أن يبدأ طقس الحنة، طقس، حسب الأسطورة، يأتي العروسين بالهناء. ومن جديد، انطلقت المداحات يمدحن، "ستكونين الأسعد"، أيضًا وأيضًا إلى ما لا نهاية. دار هذا الحدث السعيد بالعرس من أدناه إلى أقصاه، ودارت من الشائعات أسوأها. قيل إن هذه الولادة أبانت زهرة على حقيقتها، فقصد زهرة بفعل كهذا تلويث حمام جميلة، وخاصة لأنها جاءت بولد. إشارة من الله ذات شؤم، فذرية جميلة ستكون ملعونة، وكأمها لن تلد طفلاً ذكرًا يستطيع يومًا أن يكون على رأس المقاطعة وسندًا لها في الأوقات الصعبة. هراء! قالت العروس العاقلة لأعز صديقة. أنت لم تحددي ساعة ولادتك مع الله، ولم تعرفي إن كان ذكرًا أم أنثى! بكت النفساء بين ذراعي جميلة، ولتبرهن على صدق نيتها، أصرت على إعانتها حتى النهاية على الرغم من هشاشة وضعها. كان الوليد هناك، على بعد خطوتين منها، في سرير العروس، والعروس ترتدي فستانها الأبيض المُشترى من مِصر، والمُخاط حسبما أملاه ذوقها. فستان من التُّل الوهميّ المرصع بالحجارة الكريمة، بأكمام طويلة من الدانتيل. رائعة من الروائع! كانت عشر نساء تحت تصرفها، وتلك المداحات اللاتي يمدحن: ستكونين الأسعد... كان صوتهن يصل الآذان مُوَقَّعًا مع الطبول. جاهزة أخيرًا، رغبت جميلة في أن تُري نفسها في ثوب العرس لأمها التي كانت تطبخ في الفناء، ليتصاعد الدخان حتى أبواب السماء، فيطرقها، وتنفتح للسعادة المحلقة على أجنحة الملائكة.
غني عن البيان أن الأم لم تكن تثق بالطباخات، فتلك النساء الشابات، حسبها، كن يفتقدن للموهبة، وهن يتعلمن بصعوبة فن الطنجرة. كان عليها البقاء قربهن لتقودهن، فمن الواجب أن يُبقي الناس رائحة طعام جميلة طويلاً في مناخيرهم. أضف إلى ذلك أن هناك مائة خروف تم ذبحها، ألف دجاجة، وعشرة ثيران، مما يتطلب من الجهد الشيء الكثير. قولي لجميلة أنا آتية خلال لحظة، ردت الأم على المُرسلة من طرف ابنتها. وأتت حقًا، ولكن بعد ساعة أو ساعتين. عبدت ابنتها في ثوبها الأبيض، وسجدت لجمالها. لم تجد ما تقول غير: الله يحميك! بلا كلل، لتمنع نفسها من حسد ابنتها. الله يحميك، الله يحميك، الله يحميك! قبلتها، وقبلت زهرة. يجب عليك أن ترتاحي، يا ابنتي! قالت لزهرة، يبدو عليك التعب! مددتها إلى جانب "غواصها" لترضعه، وجميلة تضحك بخجل على رؤية الثدي الهائل. فتحت الأم صندوقًا على عِقدٍ بألفِ لونٍ يبرق في الضوء: عقيق ويَنَع ويَشَب. هذا العِقد منا جميعًا، هدية زواجك، قالت الأم للعروس، وراحت تعطي اسم فتاة لكل حجر: غيداء، ميساء، إيناس، أنيسة، لمياء، باسمة، سامية، دينة، أميرة، ريم الغزال، نور.... زهرة، وهي تواصل إرضاع صغيرها، وضعته لجميلة حول عنقها، فانطلقت الزغاريد أخاذة، ثاقبة. عادت المداحات إلى الغناء، إلى الضرب باليدين، والنساء إلى الرقص، إلى الضرب بالقدمين. ومن بعيد، من الناحية الأخرى للقرية، سمع الكل زغاريدَ أخرى. كان سيف وأصدقاؤه، يناجون أنفسهم ولا يريدون النجاة بأنفسهم. كانوا يحممونه، ويحلتونه، ويلبسونه، ويعطرونه. وصل غناؤهم الآذان، ولم تكن الزفةُ ساعتَهَا، إلا أن غناءهم كان يصل الآذان من بعيد، وهو يسري مسرى المثل. يوم عيدك، أحلى الأيام... كان قرع الطبول يُسمع وكأنه آتٍ من الجبال التي تصغي، وكان لا يبقى في الآذان إلا قرع الطبول هذا، قَرْعٌ قَرَصَ القلوب فجأة. كان يأتي من بعيد، من بعيد جدًا، من وراء الجبال. أحلى الأيام للأحلى... كان يأتي مع الأمواج.

أقيمت المآدب في ساحة الجمال، وامتدت حتى أبعد الحدائق، لاستيعاب كل المدعوين. جلس أبو جميلة بأبهة في وسط طاولة ضخمة، وهو يرتدي عباءة بيضاء خِيطت بماء الذهب، وجاء رؤساء القرى واحدًا واحدًا ليقبلوا يده قبل أن يأخذوا مكانًا إلى جانبه، بعضهم سقط على قدميه، لا بدافع الخضوع وإنما بدافع رضى الفَخورينَ بكونهم من رعايا هذا السيد العظيم. كانوا يرونه على صورة جبل يخترق السحاب، وفي أفكارهم، كانوا يرتقون إلى مستواه، وكانوا يحتقرون العالم، فيمتلكون كلهم الشرف شرفه والجلال جلاله، ويتقاسمون كلهم هذه النعم الطيبة للنفس الإنسانية المسماة عظمة مجد كبرياء لا الخطل في الكلام. وهو محاط بهالة هذا السمو الأميري ظهر سيف، مرفوعًا على أكتاف أصدقائه ومع صراخهم: يوم عيدك، أحلى الأيام، أحلى الأيام للأحلى... فلتنعم! وفي قلب هذا الجلال الملكي ذهبوا بالعريس حتى عتبة منزل العروس، بينا كانت أجراس الكنيسة الصغيرة تقرع، مع أن سيفًا وجميلة لم يكونا مسيحيين. ذبحوا جَذَعًا عند قدم العاشقين السعيدين في اللحظة التي خرج فيها سيف بجميلة من بيتها، ليتم فعل الإخصاب في أحسن الشروط، ولإبعاد الشر عن طريق الوليد الذكر المرتجى. أخذ الزوجان الراضيان مكانًا قرب نافورة سحرية، وعندئذ بدأ طعام العرس بالحليب والعسل، لينتهي طعام العرس بالحليب والعسل، حتى ولو مع الخروف المشوي شَرِبَ المدعوون ماء الحياة ومع المقلوبة ماء الجرار. كانت الصواني الضخمة للأرز المرشوق باللوز المقلي والصنوبر المقلي مفروشة على الموائد، في وسط كل منها ثور محشي بالخراف والخراف محشية بالدجاج والدجاج محشي بالكلاوي والخصاوي والأكباد، وكانت صواني ضخمة أخرى للحم والخضار تغري العداوة بين الأسنان: فاصولياء خضراء، كرنب، كوسا، قرع، باذنجان... وغيرها، ثم غيرها. وكل أنواع الخبز: شعير بالحليب، سميد بالزيت، سميد بالخميرة، بالبندق، بالتمر، بالزبيب. خبز باللحم. ثم الكعك. كثير من الكعك! كثير من الحلويات! بالجوز، باللوز، بالشوكولاطة، بالعسل، وباللوز، وباللوز، وباللوز، كل اللوز!... وتلك الزغاريد التي لا تنقطع، التي لا تتوقف، وذلك الغناء الذي يعطي انطباع صورة في الأذهان وفي الأذهان ذكرى ما كان لما يكون لغناءٍ ينبثق من حلوق الرخام، وتلك الألعاب التي تقفز الخيول فيها قفزَ جِنٍ لا تعرف الكلل ولا تعرف الملل، وتلك الطلقات النارية، وتلك السيوف الفضية، وتلك الموسيقى الغجرية، وذلك الرقص البدويّ. كان المدعوون يرقصون بين طبق وطبق، وكانوا يضحكون، وكانوا يترامون في نهر الشهوة، وحبُّهُم للأشياءِ يُعْمي ويُصِمّ... حتى سقوط الليل سقوطَ من أسقطهم من حق. اشتعلت قناديل الزيت، وتواصل الأكل، وتواصل الشرب، وهم في ذلك ما فعلوا غير أن يلتزموا حدود القانون. أكل المدعوون كل ما طاب لهم، فاختلط الحلو بالمالح، وشرب المدعوون كل ما عُرض عليهم، فتنوع الروحي مما شربوا والغازي. ورقص المدعوون أيضًا وأيضًا، وضحكوا أيضًا وأيضًا، وتراموا في نهر الشهوة أيضًا وأيضًا، لا للتطهيرِ وإنما لإيقاظِ كلِّ الشهواتِ التي تنام في جوف الماء. أَعْضَلَ الداءُ الدواءَ، فغادر موكب العروسين بالعروسين إلى عش العروسين، ومع ذلك واصل المدعوون الاحتفال بليلة العروسين الأولى حتى الفجر، فمن الغبطة والرفاهية تقام السلطة الغاشمة على باقي الأحاسيس، ولا ذنب لعدم التبصر في شيء. لم ينتبه أحد إلى العُواء القادم من الجبال المجاورة، ولم يلق أحد أقل نظرة على النقاط اللامعة في الكهوف، العيون البراقة.

يحكي الناس بلا لف ولا دوران عن برابرة كانوا يعيشون مع ذئابٍ هناك في الجبال، جاؤوا من بعيد، ومنهم من شق البحار هاربًا أمام أعدائه. كانوا مَدينين لأعدائهم بالفضل والجميل، لما يكون الفضل بالمعروف عذابًا، والاعتراف بالجميل نكرانًا. حاول رئيسهم، "الحاكم باسم الله"، الاتصال بأبي جميلة مراتٍ عديدةً لاقتسام خيرات الوادي والماء دون أن يفلح. وفي كل مرة، لم يكن يُخْطِرُ بقدومه، فزاد الحالة خطورة، ولم يستدرك أخطاءه. ادعى أن السحاب له بوصفه سيدًا للجبال: لكم الأرض ولي الغيم، قال، ودونَ مطرٍ يحبلُ بِهِ الغيم، أرضكم لا تساوي شيئًا، فلنتقاسم. لم ينفع شيء، حتى هذا اللقب السلمي "الحاكم باسم الله" لم يخدم حامله. سَكَّنَ الناس روعهم ولم يُسَكِّنوا تعطشه إلى أرضهم عندما قالوا ساخرين: حاكم منذ متى، واحد مثله؟ وباسم الله فوق هذا! لقد جاوز الحد! فأغلظ لهم في القول: صاحب هذه الأرض لمن يملك الغيم! بموجب حقٍ لا يُعلى عليه عال، رمى إلى اجتياح كل شيء، إلى ابتلاع كل شيء، ولم ينتظر متى يشيب الغراب. على طريقته، كانت الحكمة ضالته، فاضطلع بمسؤولية الوجود، وأخذ على عاتقه حرية أتباعه. لينفح الأفظاظ، أفظاظه، بِظَرْفِ العقل، وينتزعهم من البربرية، كان عليهم ارتكاب أشنع الأفعال، إلا أنهم كانوا قليلي العدد، أولئك البرابرة، وفضلاً عن ذلك ضعفاء. ارتضوا بأكل العشب والصيد في الصحراء بانتظار أن يصبحوا أقوياء وأكثر عددًا، وكل ليلة تلمع عيونهم وعيون أصدقائهم الذئاب عندَ النظرِ رغبةً في كل هذا الأخضر الشاسع على مرمى أبصارهم، كل هذا الماء الغَدَق، كل هذه الحضارة المغرية. في البداية، خاف ناس القرى الاثنتي عشرة منهم، ثم تعودوا عليهم، ومع الوقت نسوهم. لم يضعوا القدم أبدًا عندهم، وعندما كانوا يضطرون إلى تسلق الصخور لحاجة ماسة، كانوا يدورون حول كهوفهم آخذين المنافذ الأكثر وعورة، مخاطرين بحياتهم، وروح المخاطرة أبعد ما يكون من الميل إلى المخاطرة. كانت كل شرور العالم القادمة من وراء الجبال تمضي حتمًا بأولئك البرابرة، وكل الأمراض، وكل اللعنات، وكل الأخطار الأخرى، وكان من الأفضل تفادي كل هذا والقعود في البيت. كان نوعًا من الدفاع السَّلبي لا يخلو من الاحتقارِ بعضُهُ نحو أولئك المجردين من كل شيء والذين لن يقدروا على شيء بحالٍ مِنَ الأحوال.

بُعَيْدَ ليلةِ الدُّخْلة، جاء الحاكم بشخصه لتهنئة العروسين. كان يرى في سيف، زوج الابنة الوحيدة للحسيب وأب الوارث المحتمل للمقاطعة، مفاوضًا عليه واجب التوجه إليه بعد أن رفض أبو جميلة استقباله، إلا أن المواجهة بين الرجلين أثارت كل السكان. قطعوا شعرة معاوية مع النسيب، واشتعلوا غضبًا، فصرف الحاكم انتباههم بإطلاق النار على الغيم، وبعواء الذئاب، لكنهم لم يجعلوا أنفسهم تحت تصرفه. قالوا الصرامة لا تقبلها إلا الصرامة، والحق لا يجوز التصرف فيه. لم يمنعِ الحاكمَ ما قالوا من العودة في أربعين الزواج ليجدد تهنئته، فوقع أبو جميلة مريضًا، وأعجز الأطباء مرضه. نعم هو، أقوى الرجال وأشدهم والأكثر خشية! من في يده أمور النفوس والعباد! هل هي الطبيعة أم ما فوق الطبيعة؟ الظلام أم الظُّلامة؟ التعرُّض أم التعارُض؟ قَوِيَ قلق القرى الاثنتي عشرة عليه، وأحس الناس بوجودهم مهّدَّدين. ماذا هم فاعلون إذا ما فارقهم سيد البَرَكَة؟ لم يكن الأطباء يقدرون بالفعل على فعل أي شيء لإنقاذ سيدهم، فأمضوا الليالي بطولها، وهم يندبون، ويبتهلون. جُنَّ بعضهم، وانتحر بعضهم أو فرّ أمام قدره. تسلقوا الجبال، هناك حيث كان البرابرة بانتظارهم ليجزروهم، بينا لازم أبو جميلة غرفته بلا انقطاع، وقد استثناه الأجل بالسرعة التي جاء والدا سيف. تغطت الحقول بالأزهار السوداء، وبدأ الحديث عن داء غامض سيفتك في البلاد فتكًا ذريعًا. فُتِنَ الناسُ في دينهم، ودغدغت الأنوف رائحة المنون. مات والد جميلة، ثم والدة جميلة، ثم مائة من الأشخاص الآخرين، ثم ألف من طيور السنونو، ثم مائة ألف من الدُّعْسُوقِيَّات المجنحة، وقامت الحجارة، وكأنها اللحود في مدفن الكون. قال الناس: هذا من غضب الله، مذ وضع الحاكم قدمه على أرضهم تخلى الله عنهم! لم يطل الوقت على الثروة التي ورثتها جميلة حتى نفدت لحساب رؤساء القرى المتنافسين مع رؤساء القرى في النقش في الماء، لتَعَطُّشٍ لا يُروى إلى كرسي الحكم. حرموا سيفًا أول من حرموا من كرسي الحكم لكرسي الحكم، وأبعدوه عن كل سلطان. وبعد ذلك، حاولوا انتزاع زوجته منه، لاغتصاب منصب الحسيب. ولما فشلوا، كانوا للشقيقة إخوتها. اقتلعوا الوفاق، وزرعوا الشِّقاق إلى حد التآمر على حياة جميلة وزوجها. أجبروها بثمنٍ بخسٍ على بيع غلالها، وبينهم لم يكونوا أبدًا متفقين. في غيابِ رئيسٍ للرؤساء، تصارعوا فيما بينهم، وتقاسموا المقاطعة، وكل قرية اعتبرت مقاطعة. في حال كهذه، انقلاب الدهر فيها متعة للعين، وتقلبات الزمان سلام للنفس، على الضنيك أن يعيش عيشة الضَّنْكِ، فاضطرت المدللة جميلة إلى العمل في حقلها إلى جانب زوجها كأية فلاحة. قال عنها الناس "دؤوبة، كدودة، لا تساويها امرأة"، ولم يتوقعوا من الابنة "الناعمة" للحسيب المتوفى أن تقبل التحدي تحديًا للحقيقة، فكان عليها المقاومة بضراوة من أجلِ استردادِ الماضي وضمانِ مستقبلِ فرخِهَا الغافي فيها.

تنفست الصُّعَداء لتقول كم غدت صعبة اللحظات التي عاشتها منذ، منذ... كل شيء يختلط، ويذهب حُلُمُها ذهاب الزمان على مر الأيام. الشهور تمر والأعوام والقرون، وهي هَهُنا، ترى الزمان يمضي في أحلامها. خطت خطواتٍ ثلاثًا. بطيئة، ثقيلة. والتفتت. إلى حيث كانت منذ لحظة: لا شيء، لم تر شيئًا.
إنها العجوز.
وجهها حفرته الريح والدموع، خريطة ممزقة قطّعتها التجاعيد طولاً وعرضًا، شعرها عشب يابس جف تحت الشمس، وجسدها ما كان إلا غصنًا مكسورًا، معقوفًا.
رفعت قدمها من أجل خطوة جديدة، إلا أنها أحست بنفسها منهوكة، كالخيط البالي، يموت الخفق فيها، على وشك الانحلال. فت في ساعدها وجع قديم، يا للتعاسة! تعاسة الأزمان، تعاسة الأحياء، تعاسة الأنام! تعاسة التعاسات، وكل التعاسات التي جرؤ الإنسان على ابتداعها مذ كانت الأزمان.
أحست في ساقيها بخفق الحياة، وهو يخبو رويدًا رويدًا، فهل تستطيع الصعود فوق، حتى الربوة؟ فتحت عينيها على سعتهما، وجفناها يرمشان. أدارت وجهها نحو الشمس. الشمس! تشققت شفتاها لابتسامة، وتقوس حاجباها الكثان. بقيت ذراعها في حركتها دون حراك، فذراعها لم تعد ملكها. تلك الشمس التي أرادت السلام عليها لم تعد شمسها، لم تعد تسطع لها. شمسها، شمس الماضي الخائن، انطفأت، ولم يعد من حق لها إلا في الليل الدامس، فلا هي آية من الآيات، ولا هي ضوء وماء، والقمر الذكر حل محلها حاملاً عصا من آس الجنة صانعًا أسى الكواكب السبعة، وفي نهاية كل عام كان القتل له هدية الزواج، فأمسكت بالرماد تذروه مع موعد الحرث الذي مضى، وانكفأت على أعقابها في ضوئه الدموي تسعى، فلا يسعى الظل معها ولا الضوء، وجعلت لها الظلامَ لباسًا. بعد الآن، رمادٌ وغبارٌ كلُّ شيء. كلُّ شيءٍ غدا حجرًا. هل هو خطأها؟ كل الأخطاء التي ارتكبها غيرها؟ غير أنها لم تكن تشاء ما لم تشأ. التقطت الرماد في يدها، لكنه لم يعد اليوم الأول للصوم، وقد مضى فصل الحراثة. زلق الرماد بين أصابعها، وحملته الريح بعيدًا.
هُنَيْهَة. ثم تحركت. خطوتان. عيناها محدقتان. فمها مُرّ.
زفرت. مرة أخرى. يا إلهي! في الحاضر، وهي وحيدة مع الله، دارت حول نفسها، ذاهلة: لم يكن قصدها. بقيت ذراعها في حركتها دون حراك: ذراعها ثقيلة. ذاك الثقل الساحق لكتفيها يضاعف ألمها، ألم قديم يسري فيها رويدًا رويدًا، ويترك في فمها مذاقًا مرًا. لمحت الأخرى، الضحوكة. لمحت جميلة. لم تُعَلِّمْهَا أمها أبدًا ما المرارة، ما الحزن، ما المِرَّة؟ فقط الحلاوة والغبطة. لهذا ترى "الأخرى" وتقول لنفسها لا، لن تعرف الأخرى ما الألم. ارتكزت على شجرة يابسة، قصفت عرقًا، وأخذها التفكير. لن تعرف الأخرى أبدًا ما الألم. ألمها كمرض الروح، يحيلها مُرَّة. أمها، أمها التي لها، خدعتها. دون أن تعلم. كانت سذاجة الكبار في ذلك الوقت، في تلك الغضراء من العيش، ولكنها خدعتها. فجأة، رأت نفسها – رأت بالأحرى الأخرى- وهي تبكي في ثوبها الممزق بيدين ملوثتين بالدم: سقطت من شجرة التوت. ثم نظرت إلى يديها، ونادت أمها.
عادت العجوز بهذه الذكرى الملطخة من حيث جاءت لما فجأة سقط عليها صوت سقوط الصاعقة:
- أيتها العجوز!
صوتٌ آتٍ من الحجارة:
- أيتها العجوز! أيتها العجوز!
كأنه ينبثق من غائر أحشائها.
نظرت حولها: لا أحد. الحجارة تنادي. حياتها مصنوعة من حجارة ودموع وضربات أظافر. نظرت حولها. الحجارة تنظر إليها بدورها، وتتفادى النظر إلى الحجارة، فتظهر عجوز أخرى، وكأنها تخرج من الصخر. لم تكن زهرة. زهرة ماتت منذ سنين. هذه تدعى العجوز ذات أمارات الحجر. تجاهلتها تمامًا، تلك العجوز التي حب الفضول ديدنها في كل مرة تكون في حضرتها. كباقي عجائز القرية. للهرب من نظرتها الفاحصة، سارعت بالدخول إلى الحظيرة. كانت طريقة العجائز في الهرب من بعضهن البعض، شيء لا طائل فيه، وكان رُهاب الاحتجاز أقل وطأة عليهن وللعجوز بيت الروح، فترتاح في العتمة، ربما بدافع نظرها الضعيف، فالأشياء لا تمييز بينها، ولها لون الغابة المحترقة. لكل أشياء الحياة نفس هذا المظهر الغامض، حتى في الضوء. لو لم تزل أمها على قيد الحياة لقالت لها: كفى هذيانًا، يا جميلة! وحذار من اللاأمل! حذار من اللاأمل؟ حقًا؟ ولكني لست "الأخرى"! أنا الدميمة، بعد كل ما عشت!
مست العجوز جناحي الدجاجة مسًا خفيفًا، كانت تحضن بيضها، فاطمأنت إلى اليد التي تعرفها. جلست إلى جانبها، بقدر ما قدرت عليه، على بقايا نقالة مقلوبة، ولم تعد ترى نفسها طفلة. لم تعد ترى أمها، كانت ترى نفسها هي أُمًا، وترى أطفالها، أطفالها الغالين على قلبها. عندئذ، كلمت الدجاجة، وهي تأخذ مكانًا قربها. ستصبحين أُمًا، أيتها الصغيرة، قالت لها، وسيجثم أفراخك تحت أرياشك، سيعرف كل واحد منهم كيف يناديك باسمك متى جاع، وستكونين سعيدة لما يأكلون شُبعتهم.
ولكن كيف هذا؟ تساءلت العجوز الأخرى ذات أمارات الحجر. ليس من الممكن! ليس من المعقول هذه الأمنية الغبية بينا نحن نكابد ما نكابد من أشياء رهيبة! يجب تقويم أفكارها، دونَ قلبِ غريزةِ الأمومةِ لديها، غريزة بقيت سليمة رغم العمر، ولها يجب قول ما يجب قوله: إن هذا إحساس كل أُم منذ ميلاد العالم، ما قالته منذ قليل. إلا أن تعاسة الأم دومًا ما كانت أكبر تعاسة لما ينقص الغذاء، وسعادة الأم دومًا ما كانت أكبر سعادة لما يكون هناك فم تم ملئه. هناك دومًا فم من الواجب ملئه! هناك دومًا هذه المعركة: أن نعيش لنتوالد وأن نتوالد لنعيش، وستكون دومًا في فم كل عجوز، تركت كل الحياة وراءها أو يكاد، هذه الذريعة السهلة: الأُم التي تريد إطعام صغارها لهي قادرة على زعزعة الجبال.
وإذا ما الجبالُ قاومت؟
سنصب عندئذ دمها في الفم الصغير، فللوالدين اللذين جاءا به إلى الوجود، الطفل أغلى من كل غال. غالٍ هو أولاً، ثم هو وعد القصور والعلالي!
فجأة، سُحرت العجوز الأخرى بسحر الوعد: القصور والعلالي ! حسنًا ما قالت، جدة الدجاج! هذه المرة قالت ما هو حسن! كل شيء بدأ هكذا لكل الأمهات ما عداها، لأنها تختلف عن الأخريات. أتنسى من هي؟ أتنسى عيد اللآلئ وكل الأعياد التي احتُفل بها أروع ما يكون الاحتفال إكرامًا لها؟ أتنسى يوم عرسها؟ لم تكن العجوز ذات أمارات الحجر بعدُ مولودة إلا أن أمها في حياتها لم تتوقف عن الحديث عنه. كانت الحياة عيدًا لها، لهم، ثم انقلب كل شيء، غرق كل شيء كقارب مثقل بالأحلام. ليس لأن سيفًا لم يكن ثريًا، كان الثراء يكمن في زرع الأرض، في بذر الذهب، ولكن خاصةً في حب بعضهم البعض، فالحب المبدأ الحي للأحاسيس، وهم لهذا كانوا يعيشون سعداء على الرغم من كل شيء، وأبدًا هم كانوا يتظاهرون بالسعادة. كانت لجميلة بناتها، وكانت تنتظر –فلنقل كانت تتمنى- مولدًا لصبيّ.
أطلقت العجوز ذات أمارات الحجر زفرة، زفرة هائلة. كنا نعيش سعداء! كنا نبذر الذهب! وبيدها تخيلت نفسها، وهي تداعب محيطًا من القمح المتموج في الظلام، فغنت طافحة بالفخر والاعتزاز:

أيها الغالي! يا الغالي على قلبي
تعال بقلبك إلى قلبي
فأرى العالم قربي

ابتسمت لنفسها، بينا لمست العجوز بيضة تحت الدجاجة كانت ساخنة. ارتعشت للحرارة الحريرية، فقالت لها: في جوفها ينمو نسلك، وعما قليل سيفتح نسلك إلى الوجود طريقًا شائكًا... كما لو كانت حياة أحد أطفالها. بيضتك لقحتها الريح، وبعثت بالنَّفَس الخالق فيها، فالزمان سيكون ولدك، والنار ستكون ابنتك، وستُسمى الجبال بأسماء بناتك وأولادك.
شائكًا! تجرؤ على قول "شائكًا"؟ إنه خطأ الحياة إذا ما كنا وُلدنا فقراء وتعساء، إلا أن للولد كل حظوظ النجاح –هذا ما كانت تعتقد، جميلة، بكل جهلها العالِم، الارتقاء بأسرتها إذا ما كانت على الدرجة السفلى للسلم، أو حمايتها من تقلبات الزمن إذا ما كانت على درجته العليا.
هذا ما كانت تفكر فيه الابنة الوحيدة، المخلوقة الضعيفة في عالم المخبولين. وهذا ما كانت تفكر فيه كل مرة تقع فيها حبلى، وحتى الآن في كل مرة تريد فيها أُم أن تصنع طفلاً بلا غبطة، فزمن الغبطة غدا بعيدًا. جفت كل متعة مذ جف نهر الشهوة، ولها كل شيء انتهى مع ميلاد ولدها. على الأقل، قليلاً بعد مجيئه إلى الوجود. نعم، كل شيء توقف. هذا الحدث السعيد كان يحمل تعاسةً مِنَ المتعذرِ ترميمها، فسمى الناس اليوم الذي وقع فيه: يوم القبر. كان من اللازم فعل شيء. ورغم ذلك كلمها الناس. حذرها الناس يوم وُلِد غواص الجميل في الماء المبارك لزواجها ليلوثه، ويهدد نسلها. كان من اللازم منع الشر من وقوعه، كان من اللازم فعل شيء، كان من اللازم التفكير في هذا. لم يكن من الممكن التفكير في موتِ طفلٍ في مهده، وُلِدَ لتوه. ومع ذلك.

أيها الغالي! يا الغالي على قلبي
تعال بذراعك إلى ذراعي
فينأى الموت عني

ومع ذلك، وُلِدَ الموت مع البراءة ليحيا، ويبقى دون أن يكون بالاستطاعة أبدًا التخلص منه. اعتاد الناس على حضوره المضني حتى الزهق، ولما لم يبق غير الزهق للزهقان، كان الهرب إلى صورة فكرة ذكرى، وأحيانًا إلى نّذْر أمنية شهوة. في غياب كل أمل، يكون هذا النَّذْر مُلْحِفًا، هذه الأمنية مخادعة، هذه الشهوة خانقة.
في البداية، كانت ترى وزوجها في مولد ابنهما كل سعادة الدنيا التي كانا يرميان إلى صونها. ولما كان لهما هذا الصبي المنتظر، الحق لم يكونا ثريين كما كانا في عهد والدي جميلة، وإنما في بحبوحة من العيش. باعت جميلة لآلئها الإمْبِراطورية لتكبير الحقل وبناء بيت من الحجر بدلاً من كوخ سيف. ولتدوم هذه البحبوحة، لتحميهم، لتدافع عنهم، ولِمَ لا لتعيدهم على رأس مقاطعة كبيرة، ولكن فيما عدا بعض الاستثناءات ليصبحوا أثرياء، أثرياء جدًا كما كانوا قبل وفاة أبي جميلة وأمها، أراداه، صغيرهما، حبلهما السُّرِّيّ. غير أنهما لم يكونا يعلمان أن سعادتهما سيُضَحّى بها، وسيدفعان ثمنها باهظًا.

..........................
صاحت زهرة:
- إنه صبيّ!
ابتهلت جميلة دون أن تصدق أذنيها. نعم، إنه صبيّ! بعد كل ذلك الانتظار، ذلك الصبر، تلك الأحلام! لم يكن ممكنًا إلا العيش مع حلم الحصول على ولد، وها هو هنا. أحقًا هو هنا؟ تساءلت جميلة: ألا تكذب، زهرة؟ ألا تخبئ عني الحقيقة؟
- قولي لي إنها بنت، يا زهرة، فلم أعد آمل بشيء خارق للعادة، بما كنا نحلم أمس. كل هذا لي سيان اليوم.
اقتربت زهرة وكلها انفعال:
- لا تكن في عقلك موجة، يا جميلة!
رفعت الوليد من قدميه لترى الأم أنه الولد المرتجى، والصغير يصرخ أمام فظاعة الحياة، وهو من جاء الآن إلى الحياة.
- انظري إلى هذه الأجراس بين فخذيه، يا لظرافتها، أليس كذلك؟ كأنها أجراس مُنَمْنَمَة لكنيسة. انظري جيدًا! هل أكذب؟ إنه رجل صغير! افرحي من كل قلبك، يا جميلة! لقد تم نَذْرُكِ أخيرًا، وستتحقق كل أماني حياتك!
جمعت جميلة يديها على صدرها، قرب قلبها، وبقيت تغمض عينيها. أزمانها لن تعييها الذكريات، فكرت في زَهْوٍ وَخُيَلاء. فجأة، هزت زغرودة كل كِيانها. فتحت عينيها، ورأت أشباحًا في الحجرة. طرق أذنيها كلام غامض، وتحركت في رأسها كائنات ما ورائية: أفواه تُفتح وتُغلق، وعيون تُضيء وتُعتم، وجباه تتغضن وتَمْلُس. خلية نحل تغلي. إلى ما لا نهاية. ثم جاء غواص الجميل، غدا ولدًا كبيرًا. رأته، وهو ينبثق من نهر الشهوة، فأحضر إبريقًا مليئًا بالماء، وصبه على رأس الوليد، وزهرة تغسله بلين.
.......................

لقد تمنت حاميًا، فكان لها! لقد تمنت مدافعًا، فكان لها! حياتها الحلوة تستحق ذلك، حياتها، حياتهم!

أيها الغالي! يا الغالي على قلبي
تمامٌ كلُّ شيءٍ قل لي
ليكون الفَرَحُ لي

كانوا يعتقدون أن السعادة خالدة! خدعتهم البراءة! حتى وهم كبار كانوا صغارًا لا يخشون أن يكونوا وحيدين.
سأكشف لكِ عن سر، قالت العجوز للدجاجة، ميلاد طفل لا يعني أن كل ما حلمنا به قد تحقق، سيضطر إلى السفر في يوم ما، وإذا بالعزلة تسكن عندنا. اهتز عنق الطائر. نعم، وحدي أتعذب، أنا وحدي... أين هم الذين جئت بهم إلى الوجود والذين أحببتهم؟ ذهبوا كلهم إن لم يقتلهم رجال الحاكم، فنادي جبرائيل معي، هو المكلف بقول الأسرار، ليعلنَ عن عودتهم، ويُعْلِمَ العالم أجمع بتعاستي، أكبر تعاسة!
ستكونين أُمًا خلال عدة أيام، وجدة فيما بعد، وإن لم يقتلك البرابرة، ستصبحين عجوزًا، مثلي، لا حول لها ولا قوة! نعم، ستصبحين عجوزًا وحيدة، فتفهمين أنه لم يكن خطأي إذا ما ولدتُ لأعطي الريح، وستذرفين دمعتين، واحدة عليّ، وواحدة على واحدة من بناتي، الواحدة التي بقيت لي!
بل العكس هو الصحيح، الخطأ خطأها، وكل دموع العالم لن تروي غليل العجائز ضدها، لأنها لم تحم ابنها طفلاً ليحميها رجلاً، ففقدن جنتهن، وحُكم عليهن بالعيش مع ذئابٍ قلوبها بقسوة الصخر، وبرابرةٍ الدمُ ماؤهم والمجازر غذاؤهم. أيها الغالي! يا الغالي على قلبي... أستأهلُ أن يذرفَ الناسُ كثيرًا من الدموع عليّ، وعلى مصيري أذرف كل دموع جسدي لو أشاء، لكني أرفض البكاء. لِنُبْلٍ أو عجرفة، لست أدري. يقولون لحكمة! حكمة فلاحة أنفقت حياتها الطويلة، وهي تكد بلا جدوى.

أيها الغالي! يا الغالي على قلبي
سُخامٌ كلُّ شيءٍ قل لي
ليكون الهَرْجُ لك

أتغنين؟ مأساتي تجعل الملائكة تغني! سأقول لكِ، انتظري... لكِ صوت جميل لحكاية جميلة حزينة... لا، لن أبكي هذه المرة، لماذا لا أريد البكاء؟... لأني لا أستطيع الضحك! هكذا. تعملين إشارة برأسك لأنك فهمت، أيتها الأم الصغيرة المسكينة التي سيقطعونها إربًا، ثم سيلقون بها في دمها على الحجارة...
زفرت زفرة عميقة، وتلفتت حولها: الأشياء تبدو لها سوداء، وكلها متشابهة، لولا بعض لطخات من العتمة الفضية هنا وهناك تسمح لعينيها بتمييز ما حولها من حزم القش والأخشاب النخرة، المجرفة الصدئة، المحراث المكسور، المناجل المعقوفة، و، أبعد، حطام أخرى لزمن قديم جدًا، جنحت. أيها الغالي! يا الغالي على قلبي...
غير أن الحظيرة أضاءت، واخترق ضوء الحصاد حتى أقصى زاوية، هتفت أصوات الفرح، وتنادت وامتزجت، أصوات رجال، أصوات نساء أيضًا وأطفال. الكل سعيد، الكل يحسب عدد الحزم، الأكداس التي حملها الحمار على ظهره والتي تتراكم وتعلو بتؤدة. عَامَ الغبارُ في أشعة الشمس، أشعة تقطع الحظيرة الآن، لها رائحة الحرارة، التوت، القش المقطوع، القمح المسحوق، قمح يتراكم في المكان المعد له أمس، وتحت ضربات مدقات الرجال يُفصل عن سنابله، ويُسمع رطم المدقات وزفرات العمال. انبهرت العينان للضوء الآتي من الخارج، فلم تميزا غير خيالات تقوم وتقعد على دفعات، وهي ترفع حزم الذهب، وكان الذهب في كل مكان. في كل مكان كان الذهب. كان الذهب. الذهب كان. الذهب. الذهب. كان الذهب.
كان من الصعب على العجوز معرفة تلك الخيالات التي تسكنها، تحيا فيها، تتكلم معها. ومع ذلك، كان لكل خيال اسم، اسمه، وكانت لكل خيال حكاية، حكايته. هي نفسها كان لها مكان فيها. بعد الآن كل شيء يختلط، ويذهبُ حُلُمُها ذهاب الزمان على مر الأيام. الشهور تمر والأعوام والقرون، وهي هَهُنا، ترى الزمان يمضي في أحلامها...
زفرة جديدة، أكثر عمقًا، وقامت بصعوبة، وهي تتحسر. ابتهلت: رحمتك، يا الله! شفقتك! غفرانك! هكذا كان دومًا معها عندما تجد نفسها وحيدة مقابل عسر الحاضر في حقيقته، واستحالة عجن الوجود بيديها. محراث مكسور لابنة الأرض كان محنة وبلاء. كلمت نفسها، العتمة، وربما شبح غواص الجميل الذي بقي طفلاً بعد جفاف نهر الشهوة. بعد ذلك، راحت تنادي بصوت خفيض، تبتهل، تنادي وتنادي. نادت أبناءها وأبناء أبنائها واحدًا واحدًا باسمهم أو باسمهم المستعار. وهي تسمعها تبتهل دون أن تتعب، وتلمحها تخلط المقدس والمدنس، أبدت العجوز ذات أمارات الحجر غيظها:

أيها الغالي! يا الغالي على قلبي
لم تعد الغالي
فليأخذك الشيطان معه!

كانت تريد الوشاية بعابد لدى معبوده: لِمَ إذن باعت قوتها للشيطان، بما أنها تقضي طوال وقتها وهي تبتهل وهي تنتظر معجزة أخرى غير معجزة الماضي السعيد، ماضي جميلة؟ في جهنم، في وضعهم هذا الذي هو وضعهم، لم تعد هناك معجزة!
ستكون المعجزة إنسانية، قالت العجوز. من بطوننا، نحن الأمهات، عجائز أو شابات، سنلدها.
جعلت هذه الكلمات تظهر على وجه العجوز ذات أمارات الحجر علامات الفظاظة أكثر من علامات الحنانة:

أيها الغالي! يا الغالي على قلبي
لم تتعلم شيئًا مني
انتظر قليلاً وكل شيء سينتهي

بطنها المتباهى به فيما مضي ها هو بالون مثقوب، وثغرها المشتهى زهرة ناشفة! أيها الغالي! يا الغالي على قلبي... الماضي أين هو؟ الماضي هو شبابك، أيامك الخضراء، الماضي هو أنتِ قبل أن تصبحيك. أنت الآن غريبة عنك، ومع هذا، فلم تكوني يومًا أنت. نعم، أردتُ أن أكون المستقبل، ولكن... ماذا تقول لها لتفهم أن الصبيّ المنتظر في أيامهم لم يعد له وجود، وكل بطون العالم لا تستطيع أن تعد بهذا الحامي المِقدام، فلم يعد هناك شيء للحماية. وفوق هذا، هن عجائز، عجائز جدًا، مصانع "المعجزات" هذه، والشابات بينهن لن يقبلن بإعطاء العالم حتى ولا صرصارًا مع كل هذا العُقْم لحياتهن.
- بلى، ستكون المعجزة إنسانية، ألحت العجوز.
ضحكت العجوز ذات أمارات الحجر ضحكة منفرة.
- هل قلتِ إن المعجزة ستكون إنسانية؟ صاحت متهكمة.
- المعجزة حفيدي، "باسل".
- أيتها الخَرِفَة!
- المستقبل مستقبله، أميري.
- أيتها الرعناء!
- مستقبله المعجزة.
- المعجزة كانت شبابك، لآلئك، أيامك الخضراء. كانت جميلة، قبل أن تغدو هذه التي أصبحت الآن، الدميمة، الكريهة، الرهيبة، المروعة ذات الأفكار المروعة. بعد الآن، أنت غريبة عنك.
- أعرف. ولكن في عمري هذا، أيتها الأم الصغيرة، همست العجوز للدجاجة، أي مستقبل ينتظرني، ينتظرنا، نحن، كل العجائز؟
والأخرى ذات أمارات الحجر ثابتة على رأيها، عازمة:
- المعجزة كانت ماضيك السعيد، هذا الماضي السعيد هو مستقبلنا، وسيبقى حتى في قلب الأنقاض!
تركتها العجوز وراءها، في العتمة، بحثًا عن معجزات تُعْجِزُ إعجاز القرآن. وقبل أن تعود إلى قلب الشمس المحرقة، توقفت على عتبة الحظيرة، وألقت نظرة إلى أقصى مكانٍ أقصى ما تستطيعُ عليه، حتى شجرة جافة، هناك، وسط الحقل. حقل ميت وسط الدنيا! لم يعد لها فيه عَمَق، ولم يكن نهر الشهوة غير أثر، ذكرى. أَسِفَت على عيد التطهير، أَسِفَت على ميلاد غواص الجميل. لم يكن يستطيع أن يفعل شيئًا، هو، ابن الماء، وفي الوقت الحاضر، وهو شيخ، لا يستطيع دومًا أن يفعل شيئًا. أرادت العجائز أن يجلب لهن ماء هذا الماضي السعيد، لكنه لا يستطيع أن يفعل شيئًا. كل شيء مجدب. كل هذا الحاضر المليء بالشمس والغبار التفَتَ إليها، وبدوره نظر إليها، تحداها. حتى اللحظة، هذا الحاضر هو "المعجزة" الوحيدة الممكنة.

......................
كانت النسمة رخية، والسنابل تموج ذهبية، كالبحر العارف لكل شهور السنة، الحادب على أيلول. كان الصيف الفصل المفضل لجميلة، يختال فيه صدرها، يبتهج فيه جسدها. حملت بيدها منجلاً، حملت الفجر بيدها. الفجر، الفجر المحبور. كان الفجر قدرها، وكانت فكرة الحرية.
- أكاد لا أصدق! قالت جميلة، أكاد أموت من الفرح!
- يا حلوتي! همهم سيف، يا امرأةً طيبةً الأرضُ لها عاشقة!
- هل كل هذا الخير لنا؟
- من السياج إلى السياج!
- نعمة السماء!
- كان كدنا كبيرًا.
- يا لك من شجاع، يا سيف! هل تريد قليلاً من الحليب؟
- أريد أن أشرب القليل بدلاً من كثير.
- الحنان سيكون لك، وأشياء كثيرة أخرى. هل أنت ظامئ؟
- الآن أنا ظامئ، ظامئ جدًا!
- هاكَ، قالت وهي تمد طاس الحليب، وهي تقبله، ارو عطشك، لتحفظ ماء نهر الشهوة حتى المساء.
جرع من الحليب جرعتين طويلتين من يديها.
قالت له:
- هو لذيذ، أعرف، فهو طازج! هل هو لذيذ؟
- هو لذيذ! اللبن والعسل وشفتاك ألذ ما على هذه الأرض!
قبلته أيضًا، ومنعته من أخذها بين ذراعيه.
- ألم تعد ظامئًا؟
- أنا ظامئ لك!
- أنا، ستشربني هذا المساء... والآن وقد شربت من يديّ؟
كانت تشع، تشع، والأشرعة تبحر في الضوء، وفي بسمتها يزهر كل الحب للزوج، للأرض، وللقمح. للريباس الأسود.
- إذن... ماذا، يا حلوتي؟
- هل نبدأ أم ماذا والمناجل جلخناها وجبل الزيتون سقيناه؟
- نبدأ، يا حلوتي.
قفز أمامها، وتقدم نحو الضِّفة، حيث بحر القمح يلقي أمواجه. كان وقت الحصاد. القمح والحُب، الماء والضوء، الحليب والقُبَل. كان وقت النفوس والأجساد التي تهتز على صورة جميلة وسيف، الشكيمة والبأس. أصاب الناس الداء وجرى بينهم الخلاف الممزق لرؤساء القرى إلا أن لا شيء مس قلوب العشاق، ولا المعجزات التي تبدعها أياديهم. التفت إليها والسعادة تديخه، وصاح بها: "ماذا تنتظرين؟" صيحة قوية، عميقة، مزيجة بصيحات أخرى لا تدرك بالحواس.
لم تكن جميلة تنتظر غير هذا، هي التي صبغت يدها بفن من فنون الحكم. وضعت طاس الحليب على الأرض، ورفعتِ العُنُقَ رفع الدجاجة الشابة لعنقها، في حركة من الفخر والاعتزاز. ثم، وهي تقطر جذلاً:
- أن تناديني، فأجيئك مثل أنثى ليست صابرة!
فصاح من جديد، أقوى ما يقدر عليه:
- تعالي! أنا أنتظرك لنبدأ. أنت التي كل النساء لي!
ركضت نحوه، وهي تطلق الصيحات، وما لبثا أن أخذا بالحصاد، وهما يقبلان بعضهما، كمن يجرد سيفه من غِمْدِهِ، فتكبر حركة التموج، وتعمق، وتضع يد البحّار ضَمَّة من الذهب على الساحل. المراكب تموج، الذراع تعانق القمح، والمنجل يتقدم في الموج، بينا يفتح السمك معبرًا أمام الجسدين. شق كل منهما دربًا في اللامدى، واللهاث نفسه يجعلهما يتقدمان على نفس الإيقاع، وتنبثق أحلام الليالي الطويلة من الدجى، هنا، على شفرة المنجل. الآمال السعيدة. كانا يغنيان اللحن نفسه، كل على حدة، ويغنيان معًا:

يا ميجنا، يا ميجنا!
أُعطيني أنا لما تعطيني أنا
أرضي
كل هذا الخير!

وكذلك:

على دلعونا، على دلعونا!
غَنِّجْها تُغَنِّجُكَ
امكرْ لها تُمْكِرُ لكَ
لتقفَ على السر!

عندما عَمُقا في الحقل، توقفت جميلة توقف شجرة تميل على جذورها، وقالت محبورة:
- بانتظار "الضيف" عمل شاق.
الضيف وما أدراك ما الضيف، والضيف كان الجحش. هذا الحمار الصغير الذي يرهقه كل فلاح بالأثقال، أرادت جميلة أن تعافيه من كل مهمة صعبة.
- صغير السن هو، وأنا أخشى عليه من التعب.
- جعلته يرتاح منذ ثلاثة أيام. لا تنسي، يا جميلة، أنه أخي الوحيد.
- ثلاثة أيام راحة ليست كافية لما ينتظره من عمل، فهو لم يزل صغيرًا جدًا.
- راحة "صغير العائلة" لا تفعل سوى زيادة كسله.
- هذا صحيح.
- بشرط المعاملة بالمثل.
- هو شجاع كأخيه الكبير!
أضحكتها فكرة أن يكون عم أطفالها جحشًا، فاتنة الضحكة، ناعمة الرنة. تحول بحر القمح إلى أكوام، إلى العديد من أكداس الذهب والأحلام، فسألت:
- كم من الوقت سيحتاجنا لدرس القمح؟
- هذا يتوقف على همة الضيف.
- وعلى همة أخيه...
ومن جديد، ضحكت الدنيا.
تردد سيف، أجرى حساباته، ثم:
- ربما أربعة أيام أو خمسة.
أربعة أيام أو خمسة، لم يكن كافيًا زمن الشكيمة والبأس، فالحصاد كان وافرًا. لهما الاثنان، تلك السنة، كان الحظ حليفهما. تلك السنة، وُلد ابنهما، الحامل لكل آمال العالم، وطفح القمح. كل هِبات الله هذه دفعة واحدة! كل رغباتهما أُشبعت! عادا إلى العمل، وبعد قليل، جاءت بناتهما الصغيرات الثلاث لعونهما. "عونهما" لم تكن الكلمة الصائبة، بقدر ما كن لعوبات، مسرورات، ضاحكات، مضحكات. كانت الصغيرات الثلاث يزعجن بالأحرى أبويهن في أدائهما، فتركها سيف تفعل ما تفعل، قططه الصغيرة، وعلمتها جميلة كيف تقطع سنبلة، بحنانِ الحَنون، وكل منهما يضرب موالاً:

عيونك أحلى من نبعات الميّ
وخدودك حبات تفاح أحمر ما تقول أيّ
وشفايفك جروح نسمات الليل
أفديها بعينيّ
أوف... يابا!
.....................

ابتعدت العجوز عدة خطوات عن حصاد الصور والذكريات، عدة أحوال، عدة قرون لو نَحْسُبُ حساب الأشياء. كل شيء يبتعد، كل شيء يتوقف. كل شيء يغدو كغابة لا يمكن قطعها. طال بها الوقت قرب السياج: اجتاح القحط كل شيء، الذاكرة، والأرض. الجبال جرداء، محترقة. سوداء. غادرها البرابرة إلى الوادي، ورحلت الذئاب. لم تحتمل بعد اليَباب. وصل إلى أذنيها غناء، من مكان ما من الأعماق الجافة لنهر الشهوة، كانت العجائز ترتل لحنًا لغنائية:

عيونك أحلى من نبعات الميّ
وخدودك حبات تفاح أحمر ما تقول أيّ
وشفايفك جروح نسمات الليل
أفديها بعينيّ
أوف... يابا!

يا إلهي! كل شيء يبدأ من جديد. منذ لحظة، فقط منذ لحظة، كانت تعتقد أن هذا النصيب من الوقت الفاصل بين اليوم والماضي الهنيء من المتعذر عبوره. كان يكفي بعض غناء مُدَنَّن لإبطاله فورًا. غير مستقرة المشاعر الإنسانية! وفية وخؤونة في آن، خادعة ومخدوعة. لم تكن منيعة، عقبات الزمان.
بكت العجائز زمنًا ضائعًا. وشفايفك جروح نسمات الليل. أفديها بعينيّ! وما لبثن أن تفرقنَ تاركاتٍ إحداهن خلف صخرة. لم تتوقف المرأة عن البكاء، عن الانتحاب، عن صفع وجهها. ضربت نفسها أيضًا وأيضًا، وبكت، وذهبت في نحيب ونواح. بحثت عنها العجوز، ولم تجدها. كانت تسمعها، ولكنها لا تُمَوْضِعُهَا.
- أنت هنا؟ طلبت العجوز لما انتهى بها المقام إلى رؤيتها.
استدارت الأخرى، وهي تمسح دمعها.
- هل تعتقدين أنك قادرة على إغراق كل هذه الصخور بدمعك؟ عادت العجوز تطلب.
لم تجبها الأخرى، عادت تبكي، وتَغُصُّ:
- بدمعي أريد أن أعيد نهر الشهوة إلى ما كان عليه لأرتوي.
لم تكن العجائز على اتفاق معها، لهذا تركنها. أرادت جميلة أن تتركها، هي أيضًا، بصحبة سُخْفِهَا، لكن صوتها الذي تكره استبقاها: كأنها ضفدعة تَنُقُّ. كان الصوت الوحيد المتميز عن غيره، المميَّز بين باقي الأصوات، المتجرد عن أصوات الأخريات. كان يزعج. مع المغنيات الأخريات، ضاعت جميلة في الجَهُورِيَّة، في الجمالية. ولدمعها الشيء ذاته. لن يَلْطُفَ دمعها إلا بتدخلهن كلهن. وتقول إنها تريد أن تعيد الحياة إلى نهر الشهوة، هذه البلهاء! ووحدها! وبهذه اللآلئ التي ملحها الاحتقار والاشمئزاز! لا تريد أن تفهم أن كل شهوة جافة تجف مرة واحد وإلى الأبد، وأن أجسادنا المرهقة تحت قحط الحاضر لن تجد أبدًا الطريق إلى نهر الماضي.
إلا أن هذه النائحة، لا تلجأ إليها، لا تلجأ إلى جميلة، إلى الماء والضوء، وكل الشهوات الحلوة. كانت تتمنى أن تبعث شهواتها من أعماق الرمل دون عون أحد، دون وسيط. شهواتها المُرَّة.
- وبعدين، تذمرت العجوز، ألم ينتهِ الأمر معكن، أنتن كلكن!
- لا، لم ينتهِ بعدُ، احتجت الأخرى.
- جف هذا النهر إلى الأبد، وكل دموع العالم لا تستطيع ملئه.
الدم ربما، لا الدمع... ستتركها. ستتركها تبكي شهواتِها المُرَّةَ شهوةً أخيرةً في إغراقها والإنهاء عليها، نهائيًا. ستكون الخاسرة، حتمًا. مما وراء الجبال ستأتي العاصفة التي تملأ الأنهار بالماء والقلوب بالآمال. فجأة، بدا على الأخرى أنها فهمت فعلتها التي لا تُفعل، وفي آخر المطاف فعلت شيخوختها المخالفة للصواب بصواب:
- وحفيدك، ما هي أخباره؟
- جيدة.
- جيدة؟
- هو في بلد بنى فيه ألف مدينة. إنه ثمن المطر، ثمن مطري، لأجل نهري، لا مطر إلا لي.
بصواب، ولكن ليس بلا نهاية.
- ليس إلا لك! ألقت الأخرى بنبرة معادية. حقًا لقد أصبحت أنانية قذرة! كيف تجرؤين؟ واحدة بائسة مثلك!
وأعطتها ظهرها. كل واحد يا رب نفسي، نعم، حتى ولو تعلق الأمر بطوباوية "حقيقية". فلتعد إلى نحيبها لتروي "مُحالها"، مُحالي سيبقى سليمًا، فلتبك حتى العمى! اجتاح العجوز حقدٌ مفاجئٌ عليها لا على صوتها، نقيقها كان محتملاً حتى تلك اللحظة، فمها، رأسها، أفكارها أو أقوالها. جدت في اعتبارها ضفدعة، لتنجح في الاقتراب منها لمخاطبتها من جديد. الأخرى، ذات دموع الملح، صارت بعيدة. تعثرت لما نادتها عجوز العجائز. كانت في شعرها المشعث ورقة خضراء. أخذتها العجوز، أدارتها بين أصابعها، وتأملتها بانتباه. كانت تعرف من أين جاءت، تلك الورقة الخضراء، فلم يكن هناك ما هو أخضر إلا في أرض الحاكم. هذه الورقة الخضراء من بستان الحاكم الذي جعلتموه أممكم وحصونكم، جمجمت العجوز. اختطفتها الناحبة من يدها، ومزقتها. ألقتها على الأرض، وبغضبٍ داستها. أمسكت العجوز من يديها، وهزتها هز شجرة الخوخ:
- أيتها الشجرة العجوز العفنة!
أرادت الشجرة العجوز العفنة أن تقول ما قالت العجوز ذات دموع الملح عنها، أن تعترف. لو كانت عفنة، عفنها بالمقابل كل هذه العجائز. أرادت قول ما يقعد على قلبها، لكن الأخرى عادت إلى البكاء. دفعتها، وشتمتها:
- أيتها العجوز الغبية! أيتها القذرة! أيتها الخرية!
وابتعدت بخطوة متخلخلة. اسمعي! (كان يكفي قول "اسمعي" لتتوقف، الجبانة.) توقفت، وقابلتها. مالت العجوز على الأرض. لم تكن تميل على جذورها. كانت الحجارة تعيقها، الحجر السُّمَّاقي أحدها، وحجر الكُحْل، وحجر القمر. هناك تلك الورقة الخضراء الممزقة، تناولت قطعة منها، وفركتها. مدتها، ولم تقل شيئًا. أحست في يدها بقطعة من سيف، من سيفها، بشيء كجناح نسر مكسور. وفي الأخير قالت إن هذه الورقة الخضراء من حديقة الحاكم، هذا الجلاد الذي ضحت المرأة ذات دموع الملح بحياتها من أجله لما كانت شابة، وتداوم على التضحية في الوقت الحاضر لما صارت شيخة! عديمة الذمة! مدت المرأة لها لسانها، وأعطتها ظهرها، وهي تنطنط ذاهبة كضفدعة سمينة. رفعت ثوبها الطويل الأسود لتسرع أكثر ما تسرع. عندما اختفت تمامًا، طأطأت العجوز، وبرقة التقطت قطع الورقة الخضراء المبعثرة، وحاولت إعادة تكوينها. ارتعشت. كل حياتها مع سيف كانت تختلج. وعلى حين غِرة، سقط عليها صوت طالبًا إذا ما كانت تحفر، فأحست بالقلق يختطفها. ظنت أن سيفًا عاد، فهي لم تره منذ الحريق الكبير. ومع ذلك، لم يكن الصوت صوت زوجها، كان صوتًا حادًا لامرأة تمضي من هناك، فسارعت إلى طمر الورقة الخضراء بالتراب.
- إذا ما كنت أحفر؟ سألت العجوز واقفةً.
- نعم! هل تحفرين؟
حدقت كل واحدة منهما في الأخرى، كمن تلتقط الواحدة الأخرى في حالة التلبس، وأخذت المرأة تحك عنقها بفظاظة. آه!... نفخت. كانت الحرارة ساحقة، واجتاح وجهَهَا المتغضنَ بشكلٍ مهينٍ حزنٌ غامضٌ، وجهها الشاذ الممتلئ بالعُقَد.
- سنموت عما قليل! همهمت.
- لم أكن أحفر، كان ذلك مجرد...
لم تكن تحفر، لكن الموت كان يجول، وكانت تحس بِنَفَسِهِ قرب عنقها. سيموت الكل عما قليل، وماذا بعدُ؟! لقد فقدنا كل شيء. بدت قوية، متعجرفة، فتقدمت الأخرى، وزرعت أظافرها، مخالب الصقر أظافرها، في كتفها، وعنفتها:
- تريدين لنا الموت، أيتها اللعينة!
ودت العجوز لو تقطع لها ذلك الوجه الدَّرنيّ بشكل شاذ، تلك العقدة الغوردية التي قطعها الاسكندر الكبير بسيفه، لو تنتزع أظافر الشيطان أظافرها. رغبت في وضع حد لفُضول كل تلك العجائز الكريهة، ولها أيضًا سيكون المصير ذاته. هي أيضًا سيكون لها نُعاسٌ هادئٌ في الأخير، ولكن قبل كل شيء، يجب على هذه العجائز أن يذهبن دون رجعة. حضورهن لا يرضي سوى الموت الذي يغمض عينيه، والذي لا يفعل شيئًا. في نهاية المطاف، يعبد الموت الشباب، لهذا يحرد على كل هذه الأجساد المدعوكة. صعدت فيها شهوة الانتقام. يجب مضايقة الموت. بقول آخر، يجب إرسال كل هذه الدمامة إليه. وراحت تحفر هذه المرة، كما لو كانت تحفر لدفن أحدهم. قبور. تريد أن تحفر القبور لكل هذه النذلات المُعَمِّرَات.
قرفصت المرأة ذات مخالب الصقر.
- يا أختي، إني أخاف الشيطان! قالت بصوت متأمل.
- شيطان الموت؟
هو بالأحرى من يخاف منكن، من يكرهكن، من يهرب منكن. نظرت إليها بدهشة: ها هي عجوز تخشى الموت! عجوز تريد العيش! وعجوز تريد مواصلة العيش عليها أن تكون ظاهرة غير مألوفة! نظرت إليها، تفرست فيها، وهي تتمنى اكتشاف سرها. ولكن لا سر هناك، نحن فقط نعتاد ألمنا، نتعلق ببؤسنا. لم يعد الماضي السعيد حلم اليوم. مَسَّاكَ الله بالخير، أيها الموت!
- في شبابي، كانوا يدعونني "بالشيطانة"، لكثرة ما كنت أحب اللعب. كنت كثيرة الحركة، أثير سَخَطَ الجميع. كنت الشيطانة، ولا بأس في ذلك! ومع ذلك، فالشيطان الذي أخاف منه، يريد اللعب بحياتي. ضخم هو هذا الشيطان، دميم، شرير! هو ضخم، هو دميم، هو شرير، كما لم تر عين، وبقرون: كأنه ثور! وهو أسود.
- أسود أم أبيض؟
- أسود. كله سواد. ثور أسود بقرون سوداء!
- أيتها الحمقاء! هذا وصف لا يليق بملاك السماء!
- رأيته وأراه كل ليلة قبل نومي.
- وتستطيعين النوم في الوقت الحاضر ككل من يستطيع النوم!
- فظيعٌ هو شيطان الموت هذا، يهددني كل ليلة، ويقترب مني خطوة، ويبتسم لي.
- يجب القول يبتعد، يهرب.
- ألا تصدقينني؟
- لماذا أصدقك وأنت تَخْرَفِين؟!
- أَخْرَفُ، أنا؟!
- نعم، تَخْرَفِين، تتلفظين بحماقات، تهذين!
- لا تصدقينني إذا شئت، ولكن خذي حذرك! الشيطان شغله على وشك، متى انتهى من إحدانا بدأ بالأخرى، حتى ذلك الحفيد المنتظر لن يكون باستطاعته أن يفعل شيئًا.
وابتعدت بعجلة.
هذا هو ما يخيفك، قالت العجوز لنفسها، ما يخيفك الموت لا الشيطان. أنت لا تريدين الموت، أنت يا من حياتها تغيظ الحياة، وموتها يثير الموت! لِمَ لم ترشي الشيطان بالعبادة كما رشوت الله؟ ارتقت إلى عهد بعيد، وهي ترسم ابتسامة على شفتيها أو شيئًا يشبه الابتسامة، شبح ابتسامة: أنا، شيطاني ملاك جميل، ملاك مشع سيجيء بحثًا عني بسعادة كل الأرضيين. سَيُقَبِّلُنِي من فمي على الرغم من كل بشاعتي، من كل برودي، من كل تشوهي!
أخذت تحلم باللحظة التي يقترب فيها منها: الموت لي هو الحرية، الخلاص. هو حتمًا موت آخر غير ذلك الذي تخاف منه تلك المجنونة، موت رحيم لامرأة وادعة لم تكن الحياة معها رحيمة، واستطاعت الإبحار عكس الريح.

........................
عرّى سيف ابنه، حان الوقتُ لِيُعِدَّهُ حصانًا ومَسْكَنًا، ليجعل منه رجلاً، منذ المهد، وارثَ حقٍ للمقاطعة، وإن تأخرَ عن موعدِهِ تألم، تألم كثيرًا. حرق الموسى بالنار، ثم أمسك الفرج الصغير بأصابعه، "الحمامة" كما كانت تقولُ جميلة، جذب الغُرْلَة، وبضربة خاطفة قطعها. عوى الرضيع، فخاف سرب من الطيور. تفجر الدم أحمرَ باحمرارِ نهر الشهوة مع النيران الأولى للفجر، ومن وراء الباب، كانت البنات الصغيرات الثلاث يبكين. كن خائفات من رؤية الحمامة، وهي تُذبح. جمع أبوهن الدم في كأسٍ مِنَ الكريستال أخذ منه جرعة، وصب الباقي على نبتة زهرها أزرق. لما اطمأن إلى نوم الطفل بين ذراعي أمه، رجع إلى الحقل ليكمل عمله.
لقد بقي له من العمل كثيرًا، فَدَرْسُ القمحِ كان عملاً للرجال. ومع كونه وحيدًا، نَشِطَ وحده فيما توجب الدَّرَّاسة عليه، من أجله، من أجل ابنه، بعون الضيف طبعًا، بانتظار أن يكبر الصبيّ، أن يساعده، ليمزج حياته بحياة الأرض ويحميها، هذه الأرض، خضراء أم أقل اخضرارًا، كما تشاء الفصول، وفقط كما تشاء، وفي ذلك الوقت كانت الفصول إلى جانيهم. لم تكن قبل الأوان، لم تكن بعد فوات الأوان، كانت مضبوطة ضبط الساعة، وكانت ميثاقهم مع الطبيعة. نعطيكِ قوتنا كلها، حبنا كله، لا نألوا جهدًا في سبيل حبك، وأنت لا تُعِدِّينَ لنا أية مفاجأة. مع هذه الفكرة كان سيف يدير الدَّرَّاسة، إلا أن عواء ولده في اللحظة التي ختنه فيها لم يتركه لحظة واحدة. سيغسله غدًا في النهر المبارك، وسيكون تطهيره كاملاً. لم يزل بعدُ صغيرًا، ولكن ابتداء من هذا العمر، سيكون جاهزًا للزواج.
في الليل، نادته جميلة:
- تعال لتنام، يا سيف! أنت تعبان، يا ابن عمي! غدًا بكرةً سيكون لديك أيضًا الكثير من العمل طوال النهار، وسيكون النهار طويلاً.
لأجل هذا، لأجل ابتعاده غدًا عن صغيره، طوال نهار بأكمله. كان ينحني برأسه على الطفل النائم تحت الناموسية، وكان يحكي معه، يبتسم له، يدعو له.
- أريد أن أرى وجهه وعيناي مفتوحتان وعيناي مغلقتان.
جاءت جميلة إلى جانب زوجها، أحاطت كتفيه بذراعها، وتأملته برقة. يحبه كل هذا الحب إذن! يعبده! ليكون له وفيًا لما يكون كبيرًا. وفاءٌ، إخلاصٌ، تفانٍ. الطفل لما يكبر يجعل من أبويه طفليه، مسئولية كبيرة لم تفكر جميلة فيها. كانت نظرة سيف من العمق بحيث ضاعت فيها، وراح قلبها يخفق بقوة قوية. رأت نفسها تقع في هاوية، نوع من اللولب الحلزوني لا نهاية له، فخافت عليهم كلهم من هذه النظرة الأبوية، العميقة جدًا، العمياء جدًا، المِلكية جدًا.
- وبناتك الثلاث؟
أشارت بإصبعٍ ترتعش إلى الصغيرات بشعرهن الطويل الأسود، وهن يستلقين على بساط، ويلفهن الغطاء نفسه.
- هل سيكن بوفاء أخيهن؟
- نعم، لكن المرأة لزوجها. قبل الزواج، بانتظار أن يكبر أخوهن، سأكلفهن بكل الواجبات، فيعطينه كل السلطات، يكون حاميًا، ويكنّ محميات. في الوقت الحاضر، لن تحميه البراءة، أنا من يحميه.
بالطبع أنت من يحمينا، هو والبنات ونحن كلنا، نحن الذين ترهقنا البراءة. تبدلت نظرته، غدت نظرة سيف التي تعرفها، النظرة العطوف للمخلص زوجها. قبلته، فشدها فجأة من ذرعها، ودفعها على صدره. أوجعها، وحيرها تبدله المفاجئ. عادت تلك النظرة الغائرة الغور الغامضة الغموض، نظرةٌ المكانُ فيها تعرى من الأشجار.
- اسمعي، أنا قلق من أجله، قال بلا لف ولا دوران.
- احمنا، يا رب! ارحمنا!
- أنا قلق، لا أدري لماذا.
هي كذلك. نظرته ما كانت تقلقها، نظرة من فقد أعز صديق لديه، لكنها حاولت التخفيف عنه:
- أنت تَعِبٌ. لم تشأ ترك الحقل طوال النهار. سألتك مرتين التوقف قليلاً لتأكل شيئًا، لكنك رفضت. قلت لي يجب أن ينتهي الحصاد اليوم. ومرة ثالثة اقترحت عليك أن تأكل قليلاً قبل أن تُدخل الحبوب المستودع، فاكتفيت بشربِ طاسٍ من الحليب. لهذا أنت قلق. لم ترتح ولم تأكل بما فيه الكفاية. عندما نقوم بعمل شاق كهذا وخلال نهار كامل، من الطبيعي أن نكون قلقين من التعب والعياء، هذا كل ما هنالك. أنت فريسة الحمى؟ لستَ ساخنًا. هيا، تعال ننم قليلاً! عليك بالنوم، يا سيف. تعال إلى الفراش، يا حبيبي! عندما تلفني بذراعك ستنسى قلقك. قلقك قلقي. إنها نظرتك، يا حبي! أنا خائفة من نظرتك! تعال إلى جسدي، وانْجِدْهُ! تعال إلى ثديي، والْقَمْهُ! سأجعلك تغرق في بطني، بعيدًا عن نظرتك!
أخذها بين ذراعيه، وضمها بقوة قوية جدًا، جميلتَهُ، ولم يشعر فيها، ككل مرة يضمها، بِبَلَدِِهِ. هجرته إلهة الجمال. حتى شفتاها لم يكن لهما طعم النار والفراولة نفسه. كل شيء تغير فيه. كان غياب الطمأنينة، لا غير. أحسته، هي أيضًا، غريبًا عن نفسه، فرجته من جديد المجيء إلى السرير، الاختباء تحت الشرشف. كانت البنات ينمن ليس بعيدًا، فتحدى سيف همومه، حالته المضنية، حالة من يتألم من غير أي سبب، هواجسه السوداوية التي لم يحس بها أبدًا سوى مرة واحدة، قبل موت أبويه، قبل ذلك المرض العضال. قاما بفعل الحب عرايا إلى جانب أطفالهما، بلا غطاء يغطيهما، بلا خجل من مفاجأتهم لهما. ربما كان الخجل من الحب ما يعذبه دون أن يعلم. والحال هذه لا. لم يكن ليخجل أبدًا من حب جميلة. كان مستعدًا لكل شيء من أجلها. حبه لها كان مجده. كان شرفه ذلك الجسد المنتفض تحت جسده. ثم، لقد توقف عن التفكير. جسد جميلة المقدم إليه كان ينسيه العالم بأكمله. ولكن، فجأة، أعادته طرقات عنيفة إلى ذلك القلقِ المُشْقِيِّ الذي أعاد إليه نظرته الداجية، وصرخات قوية:
- يا أهل الدار! النار، يا أهل الدار! نار جهنم!
فتح سيف الباب بتهور، وقفز إلى الخارج بدل أن يقفز إلى الداخل ليذهب بالطفل عن الخطر بعيدًا. لعدم الفطنة، لعدم البصيرة. هذا التهور، ارتكبه أول مرة عندما نسي أن النار باستطاعتها أن تنشب في أية لحظة. قَلَقُهُ اللامُفَسَّرُ تَفَسَّرَ. وثاني مرة عندما نسي أن نسله باستطاعته أن يحترق بالنار. واحسرتاه! تبعته جميلة على الطريق ذاتها، طريق الرعد، النار، والبرق. تبعته على الخطأ ذاته. رمت بنفسها في هوة نظرته. لقد قُضي الأمر! لعنتهم جميعًا قد بدأت! احترق المستودع، وتفجر تنين النار برؤوسه السبعة. صرخت كالهالكة في الجحيم، بينما جمد هو، كحطبٍ على وشك الاحتراق عشية عيد. ما قلَّ حَظُّهُما عن حَظِّهِم، فصاح الناس من كل جانب:
- ماء! ارشقوا النار بالماء!
تعالى اللهب، وزمجر الجمر. نعقت غربان الرماد، ودفنت جميلة رأسها في صدر سيف منتحبةً. وهو، كان هناك، مذهولاً، محملق العينين، مشتعل الوجه، جسده مرساة، وروحه، ويا للغرابة، بعيدة عن أن تكون روحًا قتالية.
- ارشقوا النار بالماء! النار بالماء، النار ب...
انتزع قدميه من الأرض، وقفز باتجاه البئر. كان المستودع قد احترق تمامًا، والنار قد زحفت إلى الحظيرة، وعما قليل إلى بيتهم. غواص الجميل كان هناك، كان ولدًا، وكان يبكي. كان صغيرًا وضعيفًا. اختطف سلاح حارس الحاكم، وقتله به، فاقتلعوا أظافره. بدافع العجز عن الدفاع عن النفس. كل عالم الذهب والحلم ذاك كان عاجزًا عن الدفاع عن نفسه. القيام بهجوم مضاد كلمات لم تكن جزءًا من لغتهم، المقاومة، القتال أقل. كانوا كلهم ضعفاء ومجردين من السلاح أمام النار. وتلك الصرخات، وتلك النداءات، وذلك الصهيل. كانت القرية الملونة بلون النار جميلة بشكل غريب. وهناك، غير بعيد، في قلب الظلام، كان البرابرة يستعدون للهجوم. كان دورهم ليحققوا حلمهم. أمانيهم. وخلال عدة لحظات، ستعود كهوفهم إلى الماضي. كانوا ينتظرون هذه اللحظة منذ زمن طويل. كانوا يتألمون. للألمِ مردودٌ لدى الناس الذين يفكرون. فكروا فيها مليًا تلك اللحظة، طويلاً، طويلاً جدًا، مع أصدقائهم الذئاب. هذه الحيوانات ذات القلب الرقيق على عكس ما يقال. كانت بنادقهم على أهبة الاستعداد للخروج من مخابئها وإنهاء فعل الحريق، وذلك بالقضاء على أولئك الخوافين، مع شجرهم وظلالهم. كانت ليلة الحريق الكبير، المجهول المعلوم، الأسود الأبيض، للقنابلِ قبلَ يومِ قيامةِ العدو، كانت الحيلة البريئة، الحقد العطوف، الخداع الصادق، الخيانة الوفية، و، قبل كل شيء، المشروع البنّاء للهدم الكامل الذي اكتمل شكله في قلب الحاكم، وراحَ يتضخمُ كحشدٍ فوضويٍّ مِنَ الجراثيمِ المبيدة.
فلتحي الحيلة إذن، فليحي الخداع، الخيانة، الحقد... بعد موت أبي جميلة، كل أولئك الرؤساء الطامعين في المقاطعة بذروا بذور كل هذا، بخداع، وخيانة، وحقد. كانوا أبناء الحيلة، أولئك الأوغاد. نصابو الوطن، كما كان يقول الفلاحون التعساء. مع شعارهم المعروف: "الدين لله والله للجميع"، قُطّاع الطرق، فاقطفوا ما بذرت أيديكم! ولكن كان من اللازم التفكير في هذا من قبل، في مثل تلك الشروط، كان من اللازم انتظار قدوم البرابرة، لأن "الحاكم باسم الله" هذا كان مع ذلك مقربًا منهم، حاكمًا كباقي الحكام الآخرين، رئيسًا كباقي رؤسائهم. ربما كان أكثر عُتِيًا وأكثر تجديفًا، إلا أنه يبقى حاكمًا كالآخرين! بعد السحاب، أراد الأرض، وبعد الأرض الرجال. بينما رؤساؤهم، كان الرجال من يريدون، وبعد الرجال الأرض. غالبًا ما كانوا يخطئون، أولئك القرويون المساكين. كانوا غالبًا ما يرتكبون من التبصر عدمه، ومن الخطأ قاتله. بدل أن يهاجموا البنادق فضلوا مهاجمة النار، وانتهى بهم الأمر إلى الهزيمة النهائية. غدت الجنة لهم جهنم، ولم تعد من جنة هناك في مكان آخر غير قلوبهم... فَرْقَعَ كل شيء بمتعة لونها النار الماحقة، في تلك اللحظة التي يدافع فيها مساكين الناس أولئك بأيديهم العارية. غدت النار أشرعةً، ونهر الشهوة رمادًا. جفت كل تلك الشهوات التي لم يُحْسَنْ اشتهاؤها... ومع ذلك، قرر سكان القرية الحياة بعد هلاك: قطعوا جريد النخل وضربوا ذاك العملاق الأحمر المقهقه، المتلوي بآلاف الوجوه، القاذف لآلاف الألسن. ضربوا في الوقت نفسه الفاكهة، دمروا الأراضي المزروعة، وخنقوا بنات الظل المتموجة أوراكها على واجهات البيوت. هكذا كانوا يتصورون نهاية العالم، فهدموا البيوت، و، بينا كانت تجرفهم المتعة الكَدِرَة، ضاعفوا هجماتهم اللامجدية ضد الجحافل الوحشية لزمرد النار الزاحفة وياقوتها. حتى أن بعضهم، عندما لمحوا غربانًا بمناقير صفراء ومخالب حمراء انطلقت فوق غابة اللهب، أطلقوا بعض الطلقات، لا أكثر من بعضها، بينا أبحرت أشرعة الدخان في السماء قبل أن تتمزق...
......................

قالت العجوز لمجموعة من العجائز الأخريات المجتمعات حولها أمام الموقد: "طالما أن المرء يعيش دون ما حذر، دون ما تفكير في الشر، وحتى لو تصرف بشرف، يكون الخير مهزومًا على الدوام." هذا بالضبط فيما فكرت جميلة ذلك المساء، في اللحظة التي وقع فيها الحريق الكبير، وبعد الحريق الكبير التدمير الكبير. ومنذ ذلك الحين، فكرت الشيء نفسه في فرص أخرى، دون أن تقدر على فعل شيء، وكذلك تلك العجائز الكريهات اللاتي كن حولها. كانت لهن هيئة ضائعة، كما لو لم يزلن يعشن تلك اللحظة المفجعة. لم تزل الريبة تُقرأ على وجوههن. الشك. التشاؤم. يُضحكن الإنسَ والجن. وأنتن، أيتها المنهوكات؟ كنتن تفكرن في هذا، كنتن تفكرن في هذا البهتان الذي كان يلزمنا لنتسلح ضد الاعتقاد الأعمى بالخير؟ تفكرن في هذا دائمًا، فماذا فعلتن؟ لم تفعلن شيئًا. لم تفعلن شيئًا على الإطلاق. وحتى الآن، أنتن لا تفعلن شيئًا!
كن اثنتي عشرة. كالقرى الاثنتي العشرة التي تتكون منها المقاطعة. رقم شرير للعجوز ك 13. ككل الأرقام في الحال التي هي فيها.
- أنتن لا تقلن شيئًا، أيتها العوهاءات!
- ليس علينا نحن أن نفعل، قالت العجوز ذات أمارات الحجر، فوضعنا سيء، سيء جدًا، ولكننا نقدر على تحمله.
- تقدرن على تحمله! وضعكن سيء جدًا، وتقدرن على تحمله؟ كيف هذا، تقدرن على تحمله؟
- نتدبر أمرنا كما نتدبر أمرنا، نحلم، نبكي، نتأكل، نتسلى بشيخوختنا لو شئتِ، وهذا شيء بطولي من طرفنا!
- بطولي؟
- نعم، بطولي، بطولي!
- لا أرى في هذا ما هو بطولي، أنا، فما هذا سوى زيغ وبهتان، سلوككن. هذا ما يُدعى الوهم النهائي، لأن، ما بعد الاجتياح الكبير، لم يعد شيء كالماضي. لا شيء، لا شيء على الإطلاق. إلا إذا...

.........................
ثم تلك الطلقات المجبولة، وتلك الخيول المجنونة، المنبثقة من الظلام والساحقة تحت حوافرها أجسادًا بشرية، أجسادًا حيوانية، أجسادًا شجرية... دون أن تقدر المقاطعة على فعل شيء. أولئك الأسياد، أسياد لا شيء على الإطلاق، كان من السهل سحقهم كلهم، حتى بالحجارة. كانت الجبال مليئة بها، وكان يكفي أن تُلقى، وَيُجَرَّ عليهم ذيلُ العفاء. ولكن ليكون انتصارًا فعليًا، كان من اللازم أن يسيل الدم. ومن جديد، طلقات نارية جديدة، أروع فتكًا كانت، وأجساد أخرى تساقطت. ثم أخرى، ثم أخرى. لتكون هزيمة جميلة، على النار أن تتأجج أعظم التأجج، أن يسدد الله خطاهم. وصل اللهب النجوم، تلك النجوم الهازئة بالنجوم، فأشربوا بهم ما لم يشربوا. دكت النارُ النارَ في أركان البيت الأربعة، ذلك البيت الخائن للبيت، ودالت على الأطفال الدولة، فبكى الأطفال. بكاء أطفال. بكاء غير وفيّ لأطفال. رباب المغني. ودت جميلة الرحيل، وهرعت إلى المكان الذي كان أطفالها ينامون فيه منذ قليل. لم تمنعها سحابة الدخان من نَحْوِ نظرِهَا إلى تلك النداءات، تلك النداءات الصغيرة غير الوفية للحياة، برعاية الله وحفظه، فركبت الأخطار والأهوال. كان الرشاشُ دُرَّتَها التي لَنْ تُرَكَّبَ لغيرِ سُلطان، ومطرُ النارِ جزاءَ الإحسانِ بالإحسان... أحست بالهدوء يرين عليها، شيء لا يصدق، وفي الوقت ذاته لا شيء يجعلها تتراجع. رأت جميلة نفسها جميلة، عاهرة، ففرقعت الطلقات، ودمرت القنابل كل شيء في القرية، كل شيء على الإطلاق، حتى الظلال، حتى الصور. وبسرعة، انقطع البكاء، ولم يعد الدخان يحمل غير النواح الفظيع. أفظع من ذاك النواح لم تسمع. نواح الرياء. أهل الرياء لَمّا ينوحون بصدق، لَمّا يرون صوابًا. اكتشفت اثنتين من بناتها ميتتين، والثالثة كانت تئن، بِكَتِفٍ مفتوحةٍ على رحابِ الكون، حمراء كرمانة، فأخذت تنعق لتطرد الوجع، لا، لتستقبله. لتسلط عقابًا على نفسِهَا، هي التي صُعقت نفسُهَا. وكذكرى، غدت ذكرى قبل أن تكون ذكرى، طرق ولدها الصغير روحها، فسارعت بالذهاب إلى سريره، إلا أن النار كانت أسرع منها. كان في مكانه غصنٌ... محترق.
بعد عبور النار على حصانها، لم يعد بيت سيف وجميلة شيئًا آخر غير أنقاض، وكانت أجراف الدخان هنا وهناك. لم تَشْكُ أمرَهَا إلى الدخان، وهي، مشعثة الشعر، ممزقة الثياب، تربض على أكداس القمح المكربن، جاذبةً ابنتها الجريحة إليها، طفلتها الوحيدة التي بقيت لها. انحنى البعض لأخذها منها، لمعالجتها، شمس الظلام، لكن جميلة سألتهم:
- هل رأى واحدٌ بينكم سيفًا؟
لم ير أحدٌ سيفًا، فصاحت، تائهةً زائغةً حائرةً عاهرة:
- أيها الملعونون! لماذا لا تقولون لي الحقيقة؟ لماذا لا تقولون إنهم أحرقوه في جهنم؟ أيها المراءون القذرون! ليقتلكم بالرصاص الجنود الذين يحتلونكم! ليحكمكم الحاكم، هذا الشيطان الذي لا قلب ولا قرن له، ليحكمكم، ليضاجعكم! ليجرفكم لهب الجحيم!
رشقت وجهها بالطين، فغطت بجمالها سائر النساء، والنساء حولها يبكين، وكذلك الشجر، وتلك الميموزا التي نجت من اللهب. جاءت زهرة في الأخير: عندما لا يكون فرحٌ هناك تجيء زهرة آخر من يجيء، عندما يكون كل شيء قد انتهى. كانت تحمل غواصًا، ابنها، بين ذراعيها، تقبل يديه المقتلعة أظافرهما، وتبكي كالنساء الأخريات. كان غواص يبكي كذلك. غواص، الولد، كان يبكي. وعلى حين غِرة، قذف بنفسه بين ذراعي جميلة، وواصل البكاء. كان كمن يريد الولادة من جديد، مع جميلة، في نهر الدموع.
..........................

لم يزلن هناك، كل تلك العجائز المترهلات، الخَرِفات والرخوات، لم يزلن يحكين حولها. ككل ليلة، كن يتجمعن قرب النافورة، النافورة القديمة، لأنها جفت، وغدت أنقاضًا في ساحة المعدمين بالرصاص. هكذا صارت تُدعى ساحة الجمال منذ ذلك الوقت فصاعدًا، ساحة المعدمين بالرصاص، لأنها كانت مسرحًا للمسرحية الإغريقية الأكثر دموية: مائة من المحكوم عليهم بالموت غداة الحريق الكبير. شبان. كلهم شبان، صبيان. كان الحاكم يخاف خاصةً من الشبان، كل أولئك الأبرياء الذين كان يدعوهم "محاربو الغد"، كل أولئك الظباء، "المعقود لهم لواء القيادة". لم يكن يعشن على الطبيعة، كل تلك العجائز اللاتي لفظتهن الطبيعة من فمها كما تلفظ النواة، وتركتهن للموقد رمادًا. تناولت العجوز بين أصابعها جمرة سقطت من الموقد، وأعادت رميها في اللهب، وهي تفكر أن النار جميلة رغم كل شيء. فركت يدها بأناة، وكأن الجمرة لم تمسها، وأضافت حطبة. كانت لهن النار، لكنهن يشعرن بالبرد. حتى في أجمل أيام الصيف، هذا البرد، برد الشياطين، لم يكنّ يستطعن طرده من أجسادهن. رفعت العجوز رأسها، وتأملت الليل القاسي البرد، وهي تقول لنفسها ومع هذا، فهي الليلة الأولى للخريف. قديمًا، كانت هناك مقهى الأقاقيا، وكانوا يذهبون كلهم إليها، رجالاً ونساءً، إلى مقهى القرية. لأجل أن يأخذوا شرابًا ساخنًا، وأن يبقوا جنب النار، لأجل أن يلتقوا قرويين فيما بينهم، وأن يحكوا قليلاً. لم يكن سيف يحب الكلام، كان عكس ما يقترحه اسمه، فينطق كلمة أو كلمتين. لم يكن شيءٌ له من المُبَاِرز، إلا أن هذا الشراب الساخن وذاك الجو "العائلي"، في ليالي الخريف، كانا ينفخان الحياة فيه، فَيُفْضِي كل ما في قلبه، كالكل. كانوا يقولون لبعضهم كل شيء: كم دفعوا ثمن حبوب البندورة لبذرها في الموسم القادم، أو بكم باعوا ثورًا صغير السن، وكيف سيباع القمح بقيمته ذهبًا هذه السنة. كانوا يتكلمون عن القمح، والشتاء لم يأت بعد، وكانوا يعتقدون بمعرفة الشيء قبل وقوعه، ويتبادلون الأسرار. كانوا يبوحون بأشيائهم الحميمة، وأولئك الذين شربوا كأسًا أو كأسين كانوا يضحكون، ويروون بصوت عال حكاياتهم الصغيرة الرذيلة في الفراش. وكانوا يضحكون، وكانوا يقهقهون، وكانوا يتمنون أن يدوم الليل. العُزَّاب، أولئك الصبية الجميلون الذين ضُحِّيَ بهم على ساحة المعدمين بالرصاص، كانوا آخر من يغادر المقهى، وكانوا يغرقون في شارع الأقحوان، شارع صغير منعزل بعض الشيء، بعيد عن النظرات الفضولية، هناك حيث كان يوجد ماخور يتجنبه كل القرويين في النهار، ويرتاده كل الشبان في الليل. العُزَّاب. هكذا كانوا يدعونهم، أولئك العشاق العابرون.
اقتربت العجوز ذات أمارات الحجر بيدها من النار، أقرب ما تستطيع عليه، قبل أن تقول إن الطقس كان حارًا جدًا في النهار، وفي الليل صار باردًا جدًا، وأن هذا لا يبشر بالخير لأول الخريف. هذا نذير شؤم. نذير شؤم؟ كان من اللازم التفكير في هذا من قبل، في نذير الشؤم، قبل السقوط في برد الحياة، كان من اللازم التفكير في هذا بدلاً من الغرق في أحلام بلا جدوى. وانظرن إليها، لا تتمكن من تسخين يديها، ولا من طرد الثعبان من جسدها. محكومٌ عليها بالبرد حتى في الجحيم! سيكون الخريف قاسيًا هذه السنة، هذا أفضل! سيكون قاسيًا، سيكون طويلاً! وبالمقابل، هناك الكثير من الشجر الميت، الكثير من الحطب... ونهضت العجوز.
بعد قليل، عادت بحزمة من الحطب بين ذراعيها، وخلال لحظة تأملت اللهب المتلاعب مع ظلالهن. غَذَّتِ الموقد، فنشطت النار من جديد، وعظمت، غير أن تلك العجوز المعتوهة السقيمة داومت على الشعور بالبرد حتى العظم! ومن ناحية أخرى، كلهن سواء! لم يكن يوجد غيرها عندما يكون الطقس باردًا، من تَقنع بقليل النار، وعندما يكون الطقس حارًا، بقليل الماء. كانت الشجاعة هي ما يلزم للحد من الحاجات، والقوة للتخلي عن الرغبات.
رأت العجوز ذات مخالب الصقر فيها الشيطان الذي يهددها كل ليلة، فتوجهت بالحديث إلى جارتها التي لم تكن أخرى غير العجوز ذات دموع الملح. قالت لها إن هذه المُعَمِّرَة، صاحبة المائة عام، تريد دومًا التظاهر بأنها الأقوى، هذه المحتقِرة! وأضافت الأخرى أنها تريد التظاهر بأن كل شيء لها، الأنانية! وزايدت ثالثة أن لا حاجة لها إلى شيء، كما كان عهدها في الماضي، المدعية! أنها عاقلة! أنها متبصرة! بينا هي في الحقيقة غبية تمام الغباء! تجهل ما ينتظرها، تعتقد دومًا بكونها جميلة الأمس! لا تثقن بها، همهمت رابعة، حذار من... وهي تُعلي صوتها وتُخفضه، بلا شعور، حتى ضاعت في الصمت.
صُمٌّ بُكْمٌ!
همست العجوز ذات دموع الملح في آذانهن قائلة لهن إن العجوز، منذ هذا الصباح، تعلم أنهن لم يزلن يعملن في إقطاعة الحاكم، في البستان، كما كان من عادتهن تسميتها، إنها وجدت ورقة خضراء في شعرها. لم يسعد ذلك العجائز الأخريات، وشكّوا في حقيقة أمرها. كان من اللازم أن تجعل من الفطنة رداءها، فتلك العجوز المئوية قادرة على فعل كل شيء في سبيل أن تمنعهم من تشغيل شيخوختهم حتى الرمق الأخير. فجأة، أحسسن بالضياع. كن خائفات فجأة من أن يجدن أنفسهن أمام أنفسهن. كن يغششن، كن يكذبن، كن يُزَوِّرْنَ. كن يتظاهرن بأنهن انتهين. كن يرتكبن الجنح ضد الأخلاق. وفي الوقت الحاضر، كن يشعرن بالحاجة الملحة إلى من يُشَدِّد عزمهن، كطفلات يرمين إلى إخفاء ذنوبهن. آنذاك...
العجائز معًا:
- وجدت ورقة خضراء على رأس أكثرنا غباء، ورقة شجر سعيدة، لسنا ندري... تعيسة! اسمعن، يا العجائز الغبية! لتكن لكنّ روحٌ ذكية! عليكن المشط قبل مغادرتكن، مشط شعركن بِمُشْطٍ دقيقِ الأسنان!
العجوز ذات دموع الملح:
- وكل الأشجار الخضراء تكون لنا... أريد القول كانت لنا، يوم كانت لجميلة.
العجوز ذات مخالب الصقر:
- جميلة، جميلة، جميلة! مللتُ جميلة! انظري إليها، أبشع من كل الشياطين! شيطان الموت هي! لنطالبها بحمل كل شيء، تخوفاتنا، تألماتنا، تكدراتنا. تقول عن نفسها الأقوى، فلتحمل كل شيء، فلتحتمل كل شيء. الحر والبرد، الجوع والظمأ، هذا أفضل! لتأخذ كل هذا معها!
بدا على العجوز فجأة أنها تفقد كل قواها، فتأوهت، وكما لو كانت تكلم نفسها:
- أستطيع أن أحتمل كل شيء، الحر والبرد، الجوع والظمأ، الملح والدغام، لا العياء، ولا التعب. آه! كم أَصْبَحَت ضعيفة تلك القوية التي كنتها. منذ بعض الوقت، أشعر بالتعب، بالعياء! صدقوني أنا، لا تصدقوا جميلة. دفعتنا جميلة إلى إسكات ما علينا قوله، أنا، أنتِ، أنتِ، وأنتِ، وأنتِ، وهي، وهي، وهي.
وجدت العجائز ما يبحثن عنه من تعزية، لأنها هي أيضًا كانت تكذب:
- تشعر بالتعب والعياء، وهذه هي المرة الأولى التي تعترف فيها. حتى أنها تقول إنها تعبة جدًا، عَيَّة جدًا، وهذه هي المرة الأولى التي تقول فيها، كما لو كان ذلك في مأتم. وتتأوه! بلا متعة! كدر متعة دفينة. آه! يا خانقة الأوراق المسكينة...
- لكن لا يلبث هذا أن يذهب، ثم يعود، وهكذا إلى ما لا نهاية... كنت أكذب كي أعطيكن الشجاعة على الرفض، على الامتناع، على مواجهة الشياطين الفعليين، على إيقاف البكاء! على ألا تشاركن، يا عجائز الناس، في النشاطات الخسيسة للشابات من الناس، على هجر أوهامكن، فاصرخن صراخ الخائف بدلاً من أن تهمسن همس الذليل! لم أشأ سوى إنهاض أجسادكن.
- أجسادنا المدعوكة بيد الزمن غالبًا ما تكون ناهضة، كل نعاس العالم لا يكفيها! لا فائدة هناك!
- لا فائدة هناك! إذن فلأُنهض النجوم الغافية، وأنا أحكي لها حكايتي التي لن تنساها جميلة أبدًا. ليس أنتن. حكايتها، تلك التي سبقت حكايتي، أتركها لكن. أترك لكن هذه الحكاية التي تحكونها لأنفسكن في أسوأ لحظاتكن، وبها تقتنون كل متع العالم. حكايتي، حكايتي الفظيعة، تُنهض حتى النجوم التي لا نراها. أقول تُنْهِضُ، أيتها البلهاوات، لا تُرْقِدُ. هي، ربما، ستفهم.
وهذا الصمت المضني، وهذا الصوت المنبثق من كل مكان ومن اللامكان:
- كان يوم الحصاد، كان... منذ زمن بعيد عنا. لم أزل أرى ذهب القمح المائج في حقلنا. عملنا طوال نهار كامل، أنا وسيف، بالمنجل. جمعنا ضُمم القمح في المستودع، وكان علينا، أن نبدأ الدرس في صباح الغد. كان من اللازم ختن الصغير لخلط دمه بالأرض، التي كانت كريمة معنا، وكان ما كان. في اليوم التالي، عاد سيف إلى البيت تعبًا. وفي المساء، بقي زوجي لفترة، وهو ينحني على رضيعنا الذي أنمناه. "أريد أن أرى وجهه وعيناي مفتوحتان وعيناي مغلقتان"، قال لي. أحطت كتفيه بذراعي، ورأيت نظرته، نظرته الحالكة. نظرة حالكة وغائرة. هوة تحسدها جهنم. أخذني من ذراعي، وجذبني إليه. توجعت، وتركتني له. "اسمعي، قال لي، أنا قلق من أجله، لا أدري لماذا." ابتهلت إلى الرحمن الرحيم، ولم أجرؤ على قول إن نظرته، كل تهديد الوجود يأتي من نظرته دون أن يعلم، حبيبي سيف، حبيبي المسالم سيف، حبيبي زوجي الذي يُرثى له! عانقته، وأنا أرتكب خطأً قاتلاً. لينسى قلقه، دعوت جسده إلى التحرر، وتركت روحه ترقد. ليس الأمر نفسه معكن، فأرواحكن ميتة، وأنتن لا شيء غير خيالات... قليلاً فيما بعد، سمعنا طرقات عنيفة على الباب وصيحات رهيبة. كان تنين النار يزحف في المستودع حيث توجد أكداس الذهب والضوء، كل تعبنا، كل حياتنا. خففنا إلى اللهب لنسوطه بجريد النخل، إلا أن طلقاتٍ ناريةً دوت من أعماق الظلام، وهي تزرع الموت زَرْعَ اتفاقٍ ومقامرة. عدو. عواء. الكثير من القتلى في تلك الليلة: فقدتُ طفلي وبنتين من بناتي واختفى زوجي في النيران. اختفى زوجي... اختفى...
هذا كل ما هنالك.
كانت النجومُ بصمتٍ تصغي. النجوم، العجائز. كن يصغين بصمت. تلك النجوم، تلك الأرواح التي ظَنَّتْهَا ميتة. وذلك الحاجز الخفيّ الذي يرتد عنه الصوت:
- حكاية غريبة، حكايتها! أرادت إنهاض الجسد إلا أنها أنهضت الروح!
وبروح يقظة، ابتعدت أول عجوز عن النار، واعتزلت عن العالم. قالت بهيئة مُكْتَرِبَة:
- أذكر كل شيء، نعم: الحريق، الموت، الأضاليا. كان ذلك فظيعًا! يوم النار الكبرى ذاك، كان رهيبًا! كنا ندعوه هكذا، يوم النار الكبرى. لأنها كانت نارًا كبيرة جدًا قلبت حياتنا. لكن...
- لكن ماذا؟ طلبت العجوز بصرامة، لا يوجد لكن.
- لكن قبل النار الكبرى...
- قبل قبل، وبعد بعد، الآن يبدأ برقصة النار الكبيرة التي بقيت مشتعلة على الدوام!
- قبل النار الكبرى، كان الحصاد، ضُمم القمح، الأغنيات، وكل الفصول كانت لنا كلنا. كان لنا كلنا ذلك الوقت السعيد، كان لنا كلنا ذلك الزمن العظيم، كانت لنا كلنا ساحة الجمال، مقهى الأقاقيا، نهر الشهوة، أشجار التوت، أشجار الكستناء...
علت خفيفة، استدارت حول نفسها، ناسيةً الليل والبرد:
- كانت تحت شجرة الكستناء، في شارع الأقحوان، قبلتي الأولى، غزلي الأول.
قلدت عجوز ثانية العجوز الأولى، بنفس الحركات الجذلة:
- كانت عند قدم وردة بيضاء أول صلاة لي، أول إجّاصة لي، أولى قطوف العنب!
وثالثة تقلد الثانية، ويذوب البرد والليل تمامًا تحت الشمس السوداء للذكريات:
- كان الشرف والفخر أبًا عن جد، احترام الكل لنا، من نهر الشهوة إلى البحر الكبير! كان الزمن بلا مشاكل، الصور بلا مرايا! كان ما كان لما كان التاريخ لنا! نحن، أبناء أعظم المعارك، أعظم الأعمال، أعظم الحضارات. آه! يا لها من متعة، متعة التفكير في كل هذا! يا له من سحر، سحر ذلك الزمن القديم!
مع سماعها للأخريات، بدت عجوز رابعة مسكونة بمتعة قصوى أقرب إلى الشَّطْحِ والانتشاء:
- نعم، أنا أيضًا أذكر كل هذا، مع كل ذلك الهديل، مع كل ذلك الطنين، مع كل ذلك الحفيف، ذلك الهفيف، ذلك الهسيس، وتلك الرعشات اللطيفة! ومن ناحية أخرى، أشعر، في كل لحظة، بأصغر ارتعاش من أكبر سعادة، دون أن أنساه أبدًا.
العجوز ذات دموع الملح:
- هذه السعادة الكبيرة جدًا وهذا السبب السحري لوجودنا يمتزجان بالندم وتأنيب الضمير، لأن الحكاية الحزينة لعجوزتنا ليست مما لا يفطن إليه أحد، حكايتها تمسنا جميعًا، لكنها ليست الوحيدة، حكايتها تشبه أخرى، وليست أيها، حكاية دمع ودم.
أحست العجائز الأربع بالبرد بغتة. حكاية أخرى؟ هناك إذن حكاية أخرى؟ هناك إذن حكايات أخرى تُزْعِجُ الإزعاجَ نفسَهُ وتُتْعِبُ؟ ها نحن نعود إلى ذلك العياء المُعْلَن، إلى ذلك الذنب الخفيّ. وَعُدْنَ إلى الجلوس قرب النار، فالخزي لمن أساء الظن:
- حكاية أخرى، نعم، لا كباقي الحكايات... حكاية رهيبة، حكايتها! فلنسمعها، حتى ولو فاجأنا الفجر، حتى ولو اكتمل الليل. فلنسهر كما لو كانت الليلة الأخيرة من حياتنا...
- غداة النار الكبيرة بدأ التدمير الكبير، روت العجوز ذات دموع الملح، كان الطفل فينا الذي لم يقبل الخضوع بسهولة، هذا الطفل الغبيّ. كنا نسمع جميلة، وهي تبكي، ونحن كلنا، بناتٌ وصبيانٌ، نذرف الدموع الأكثر حرقة، الأكثر مرارة. كانت لأخي سنوه السادسة عشرة، كان ولدًا، لكنه كان يعتبر نفسه المسكين جالوت، أو لست أدري من. كان ذلك بدافع العجرفة أكثر من دافع الوطنية. فلاح ذو ستة عشر ربيعًا لا يرى فرقًا بين شجرة زيتون شيخة وشجرة زيتون شابة. الأهم لديه هو الجني: أن يعرف إذا ما كان الجني جيدًا أم سيئًا. هذا هو وطنه، وفرة المحاصيل أو قلتها. هذا المتعجرف، بدافع احتقاره للعدو، وليروي غليله، هوس المقاومة لديه، أخذ بندقية الصيد التي لأبي، وأطلق عيارين ناريين من النافذة، وفي الحال سقط بربريان ميتين. وجهنم البارحة عادت تشتعل من جديد، كل أفراد أسرتي أُعدموا في الحال مع كلابنا الثلاثة. أنا، تركني الجنود لحالي، لأشاهد تدمير بيتنا، ثم تدميري، احتضاري البطيء. فأنا كنت جميلة كوردة دمشق، وكان علي أن أدفع ثمن تهور أخي الصغير، كما لو كانت الجريمة التي ارتُكبت في حق أخوتي وأخواتي، في حق أبي وأمي، لم تكن كافية. الجريمة، العنب الأسود، الجديلة الشقراء. كان عليّ أن أعوض بجمالي كل تلك الفظائع، كل تلك القبلات، كل ذلك الحرير، فأخذني أولئك البرابرة الأقوياء عند الحاكم ليقرر مصيري، مصير كلبة، مصير سوار. باسم ربه، على كل شيء الخضوع له. الخضوع. كل شيء. وعندما أقول كل شيء يعني كل شيء: حتى الثعبان، حتى العقرب، حتى الصراصير أو الديدان. وليشعر بنفسه سيدًا على كل شيء، كان يعامل الإنسان كالحيوان بقسوة. كانت رحمة العسل كما يفهم. حتى عندما يحب، وكانت تلك حالي. أحبني بالشكل الأكثر غِلظة، الأكثر بهيمية. كان يشتهيني ببهيمية، بهيميته "الإنسانية"، كما لم يتوقف عن ترداد ذلك في أذني، عن إهراق العطر على ثديي. كان رجلاً في غاية الوحشية، باختصار بربريًا! كان شبقيًا، داعرًا، منحرفًا، ساقطًا، وفي الوقت نفسه نبويًا، إلهيًا، سماويًا، لازمنيًا! كنت فريسته. كان يلتهمني كل ليلة، الوحش، فذوى جسدي، واختفى جمالي، بريقي، شبابي. ذبلت الوردة التي كنتها، وغدوت دميمةً وعجوزًا، غرابةً، حلمةً لا تتقن العض، وداومت على فعل كل شيء دون إرادةٍ للتمردِ عليه...
قطعت كلامها، ثم، بعينين ثابتتين:
- ... إلى حد الآن!
تابعت، وهي تزفر:
- رغم ضعفي، رغم احتضاري الطويل. نعم، أموت ببطء. آه! كم أتألم!
بكت العجائز:
- آه! كم أتألم!
آه! كم كانت الحياة قاسية معي!
كانت قاسية، كانوا لا يشفقون!
آه! كم يطيل الموت أخذي بين ذراعيه!
موت كسول، حياة قاسية!
ربي، أرحني...
وترنحت، تلك التعيسات، في عجز العمر، بين الموت والحياة. أمس، لا أبعد من أمس، كن يخفن من الموت. اليوم، هن يتمنينه، وبأسرع ما يمكن. سر السنين، فكرت العجوز. أما عنها، إذا ما دفعت الموت بعيدًا عنها، هذا الموت العادي لكل شخص عادي... أو إذا ما أخرته قليلاً، كان في الواقع الفعل الوحيد الذي أرادته ونجحت في تحقيقه. النجاح في سنها؟ لا جدية في الأمر. بالأحرى غرابة. هي، على الأقل، لم تعد في خدمة هذا البربريّ. هذا الإلهيّ. سيد الثدي والساق. ومع ذلك، ترى جيدًا كيف يقتلن أنفسهن في خدمته...! ولا أقل شفقة في قلبه. لو كن بقرات أو كلبات لأعفاهن لباقي أيامهن. حركت العجوز بعض الحطب في الموقد، ودندنت: حرقوني! بناري، في موقدي! كالأعشاب الجافة، حرقوني! لم يذهب سعيها عبثًا، اشتعلت الظلال، ظلالهن، ظلال تلك العجائز الضائعات دائمًا.
- آه! كم أتألم!
آه! كم كانت الحياة قاسية معي!
كانت قاسية، كانوا لا يشفقون!
آه! كم يطيل الموت أخذي بين ذراعيه!
موت كسول، حياة قاسية!
ربي، أرحني...
أعلنت العجوز التي بحثت عن ظلها وفي النهاية وجدته:
- لم أعد أتألم، أنا.
بما أن جسدها القديم لم يعد في خدمته، ذلك الجذع المستبد، لم تعد تتألم. هذا لا يكفي إذا ما أراد المرء التحرر، قالت العجوز لنفسها، إذا ما أراد الطائر التحليق. حدقت في النار، وعادت ترى وجهها الشاب. لكن الماضي، الماضي الرهيب، لم يتأخر عن حجب صورته، فانبثق من النار وجهها القديم المتهدم. النار... كالمرآة، تُضَخِّمُ الهامات السوداء التي تداوم على التألم. هي، هي لا تتألم، لا تتألم. ربما كانت تتألم، ولكن أقل من العجائز الأخريات. أقل أو بشكل مختلف. لم تعد تتألم الألم ذاته الذي كان لها. ما الألم لشخص مئوي السن عرف كل أنواع البؤس؟ الأقاقيا؟ في السابق، كانت تشعر بألمهن، كانت تعيشه كما لو كان ألمها، كانت تعتبرهن كأخوات، وتعيش المساواة في الألم. وفي الأزرق؟ ليس بعد. يجب أن ينهين كل هذا. كل هذه الوجوه المدعوكة، هذه الأقنعة المختومة بخاتمِ لحظةٍ طويلةٍ تدور وتدور منذ قرون. كل هذه الأفواه التي لا تعرف سوى النواح، سوى الشكوى، التي لا تعرف سوى بصق التأوهات، الشَّكاة. يجب أن ينهين كل هذا، وبسرعة. بعدما انتظرن الكثير، وقبل أن يكون الوقت متأخرًا. نعم، على الرغم من عمرها، أملها، أملها الغامض في حفيدها أعاد لها عمر جميلة. لها عمر جميلة في رأسها. عمرها الجميل. جميلة الجميلة. ورأتها، وهي تجلس إلى جانبها، وهي تبتسم، وهي تحني رأسها برقة.
حسبت العجوز نفسها في عالم آخر غير عالم تلك التمساحات الدرداءات اللاتي يبكين، فقالت مشددة على كلماتها:
- لم نكن متساويات، أرامل وعذارى، إلا في البؤس! يجب أن نكون حرات ومختلفات في الرخاء.
أي رخاء! كان يكفي النطق بهذه الكلمة الممنوعة في الوقت الحاضر ليشعرن بالعار. وذلك الألم الذي يطاردهن، وتلك الدموع، وذلك الندم. عوت الأمنيات، فانفجرت إحداهن:
- كان من اللازم...
ثم سكتت، دون أن تحتمل الصمت. نعم، كان من اللازم، كان من اللازم، كان من اللازم، ألف مرة، ألفي مرة، وربما أكثر، مائة ألف مرة "كان من اللازم". لعقها الموت بلسانه، فارتعدت من الخوف والذعر:
- كم الليل دامس!
لم تدرك إلا الآن أن الظلام شديد – ومع ذلك كان الفجر على مرمى حجر-، وأنها تخشى العودة إلى بيتها. الخوف، الخوف الحقيقي. خوف غير ما هو عليه في رأس عجوز بلهاء. الخوف من الوجود ذاته، وليس الخوف من الوجود. الخوف من الذهاب إلى كل مكان، من التنزه في الحلم. فيما مضى، لم يكن الليل يخيفها، رغم أنها لم تستطع النوم أبدًا ملء جفنيها خلال أعوام. ومع ذلك، كان يحصل أن تنام في الماضي، خلال شبابها. الشبابُ الجَذِل! كم هو حلو أن تكون شابًا! حلو بمرارة السكر! كانت تعتقد أنها لن تذوى أبدًا، أنها لن تشيخ. وفي كل ليلة، قبل النوم، كانت تمص قطعة سكر أو قطعتين مسقيتين بماء الحياة. قالوا لها إن لذلك فعالية ناجعة ضد الشيخوخة لكن... لكنها شاخت كالآخرين.
الآخرون! الآخرون! الآخرون، حكاية أخرى. الآخرون، هم الآخرون، السعداء. الأفواه. وهُنّ، هُنّ، التعيسات. الأثداء. شيء مُسَلٍ كل هذا! نعم، مُسَلٍ! مُسَلٍ ومحزن... حتى البكاء! كن شابات والقمر وردة بيضاء هائلة على مقربة من أيديهن. كن شابات ونديات، لكنهن لم يستفدن من حياتهن. لم يكن أنفسهن، حتى في ذلك الرخاء اللعين. لم يغدون ملكات... ثم، لم يتخيلن أن يجدن أنفسهن وحيدات يومًا كفأس مهجورة.
- كم الليل شنيع وكم هو جليديّ!
- اقتربي من الموقد.
- انطفأ الموقد.
- آه! يا إلهي! كم البرد شديد! اشعلي لنا نارًا، أيتها العجوز! أين ذهبت العجوز؟
وهذه الصرخات التي تمزق الليل... وهذا الدم الأسود الذي يتألق.
- أيتها العجوز!
- لقد ذهبت.
- تركتنا لقمة سائغة في فم القدر، وذهبت؟
- أين ذهبت؟
- ذهبت دون أن تقول لنا وداعًا!
وأيضًا هذه الصرخات التي تجتاح البرد والليل... وهذا العنب الأسود الذي ينضج.
- أيتها العجوز! هيا، تعالي! اشعلي لنا نارًا! أنت من لديك الحطب.
- اختفت دون أن تقول لنا شيئًا.
- يا إلهي، آه! يا إلهي! احمنا من البرد!
- ومن الليل.

في الظلام، استلقت العجوز على سريرها الخشبي، وأحست على كتفيها بالليل جسدًا يسحقها بالتدريج. حافظت على رباطة جأشها، كما هي عادتها مذ كان أمرها مع سيف، مذ كان اختطاف جميلة من طرف زوجها القادم. هادئة وساكنة، تأملت المستقبل، فَجَرَّهَا مستقبلها نحو اللحظات الفاجعة التي عاشتها فيما مضى. عادت ترى نفسها في السرير نفسه، عندما كانت سخلة جميلة لم يخلبها الزمنُ بعدُ ببراثنِ سبعِ الطيرِ التي له.

.........................
أكورديون.
كانت الموسيقى تأتي من شارع الأقحوان، ويأتي معها غناء غير واضح، وكان الجنود يرقصون، وثلاثة منهم يشربون، وهم ثملون كالبراميل: أحدهم يجلس تحت طاولة، في وسط القاعة، وهو يدندن، بيد قدح، وبأخرى قنينة. وكان ثانٍ ينام على صدر ثالث، وهو يُرَبِّتُ على خده، و، فجأة، يصفعه أعنف صفع، دون أن يعي ما يفعل، وبحدة، يأخذ الآخر بالصراخ، وهو يدفعه، ويركله. وعما قليل، علا غناء فوق الدخان:

خذني في أحضانك!
إذا غاب العشاق
فلتبحث عن جسد!
خذني في أحضانك...

كانت الطريق خالية، والقرية تنام، وكان الغناء يبتعد، وكأنَّ سفينةَ قراصنةٍ تبحرُ بِهِ. ومن وراء زجاج الماخور، كانت الخيالات، خيالات ملائكة للواحد وللآخر خيالات شياطين، لم تكن تُعرف الخيالات من الخيالات. هناك ملائكة شيطانية، قالت العجوز لنفسها. غداة الاجتياح الكبير، جاء الحاكم، الحاكم الشيطان، عند جميلة، ليبدي قوة الملاك. وليرد الأشياء إلى نِصابها، كان من اللازم زيارة ابنة الحسيب الكبير. اعتذر إليها دون حياء، عن كل ما حصل، الحريق، موت أطفالها، اختفاء زوجها. أضاليل الأضاليا! أضاليا تزرع الرعب والعدم هكذا لا سماح ولا غفران لها أبدًا. قال الحرب هكذا، وهو لم يستطع السيطرة على كل جنوده. لتبرير ما لا يبرر، قال ما لا يقال. لن يعيدَ اعتذارُهُ صغارَهَا إليها، إلى جميلة، القذر! كان الأصفر لون النفاق، والأحمر لون الحنق. وعاد بعد عدة أيام، فماذا سيقول أهل القرية؟ جميلة تبيع نفسها للحاكم؟ هذا ما سيدور على ألسنتهم، أهل القرية، في مقهى الأقاقيا، وهم يرون المنتصر عليهم، وهو يروح ويجيء عندها. لم يكن باستطاعتها طرده. وعند زيارته الثالثة لها، عرفت الفكرة التي تنام وراء رأسه. ليقر الاجتياح شرعًا، أراد الحاكم الزواج من الوريثة الوحيدة للمقاطعة الكبيرة، أراد الزواج من الأرملة. لم يكن أحد يعلم إذا ما كان زوجها ميتًا، وكان يريد الزواج من المرأة المنكوبة الأكثر في العالم. كان قد فعل كل شيء لتكون الوريثة الوحيدة بقتله ولدها، وكان مستعدًا لكل شيء ليمتلكها. أخذ رجاله يرفعون حطام مسكنها، ليقول بنزاهةِ سعيِهِ إليها، طريقة في إخفاء ما كان واضحًا! هو من كان قادرًا على قتل زوجها ليصل إلى غايته. هذا الجذع الذي أحرق المقاطعة عن بكرة أبيها لن يتردد، إلا أن جميلة، دون أن يتوقع أحد، طردته هذه المرة شر طردة. الحاكم، الرهيب، رأى نفسه مطرودًا. لم تكن جميلة امرأة كسائر النساء، فلم يكن بمقدوره أن يفعل شيئًا. وفوق ذلك، أمام جمالها، كان عاجزًا عن فعل أي شيء. سجد لجمالها، وأحس بنفسه مجردًا، متنازلاً، وحتى مذنبًا، فهدد، وكرر أنه لم يكن باستطاعته التحكم بكل رجاله، وليتمكن من حمايتها، عليها قبول طلب الزواج منه. فكري...
لم تبدل جميلة رأيها. ومضت الأيام. لم يعد زوجها. أما الحاكم، فلم ييأس. سيجد الوسيلة التي تخضعها، التي تدفعها إلى القبول، التي تلوي عنقها... وتلك الضحكات الآتية من شارع الأقحوان، وتلك الروائح التي تنتشر من القبور، وتخنق كل حياة. كان عيد الموتى، وكان الغناء يُسمع من كل أنحاء القرية، قرية يمتلكها أولئك الملائكة الشياطين الذين كانت مهمتهم إخضاع جميلة، تطويعها، جعلها لعبة في أيديهم، لا يد أخرى غير أيديهم. كل ذلك الضجيج كان يذهب بعيدًا، لكنه كان يبقى، وكأنه معلق، طافيًا أمام العيون، ولا أحد يستطيع لمسه بيده: صدى بسيط للصدى، ضوء بسيط للضوء...
فليقع كل ما هو فظيع! خذني في أحضانك... خطوات عمالقة... تلك التي كانت تدوس الحقول... تحركت الأغصان بحفيفها المختنق، وتعالى غبار دامس تحت البساطير، ثم، ببطء، تساقط، وتذرى. سمعت جميلة الخطوات خلف الباب، فنهضت من نومها دفعة واحدة، وسحبت الغطاء على صدرها. حدقت في سواد الليل، سواد قدرها. ذلك الأسود القدري، اللاممكن. وأطلقت نَفَسًا. ذلك النَّفَس الأسود، اللامحتمل. تحركت أشكال لامحددة وراء النافذة، فتقلص حلقها، لكنها تماسكت: ظلال، اثنان، ثلاثة، أربعة، انتقلت من مكان إلى مكان، بِيُسْرٍ مُوقَع، وكأنها ترقص، و، في الأخير، جاءت لتقف دون حراك وراء نافذة زينب، ابنتها الغافية في سريرها: في الثالثة عشرة من عمرها، زينب، في نعيم الجحيم. كانت تحلم بأميرها، زينب، أميرها المصارع للوحوش، حبيبها الغريب.
وتلك الظلال الأربعة التي كانت هناك دون حراك.
تشنجت أصابعها على الغطاء، ولم يكن بمقدورها فعل شيء أمام الخطيئة، خطيئتها! عندما تحل، الخطيئة، تكون حتمية. قالت لنفسها: إنه القدر! فماذا يعد لها، القدر؟ أشياء أخرى على أشياء كابدتها وصنعت منها حكاياتها؟ أم أنها نهاية حكاياتها؟ تلك النهاية التي تخشاها، التي تتخيلها بألف طريقة، ها هي ترتسم عبر النافذة تحت شكل ظلال سوداء دون حركة.
يا إلهي!
كان عليها أن توقظ ابنتها بسرعة.
لم تعرف كيف نجحت في الذهاب بأسرع ما كان باستطاعتها إلى الصغيرة زينب، وإلى أخذها بين ذراعيها. فتحت الفتاة عينيها في اللحظة التي اخترق فيها الجنود الأربعة الجنود الطوّافون الأربعة ذلك البيت الملعون، الذي، منذ كان بناؤه بنقود اللآلئ السوداء، لم يتوقف عن توليد المآسي. دوت صرخة لم تكتمل... سحقتها يد العبث المشعرة، ووجدت جميلة نفسها محمولة وابنتها على أكتافِ جنودٍ يركضون في أزقة الموت، بينما جاء اثنان آخران على رائحة الغنيمة. هبت الريح، خفيفة في البداية، وفجأة ريح الشمال. بدأ المطر بالسقوط، خفيفًا في البداية، وفجأة الزوبعة. اندفع باب الماخور، فَفَجَّرَ قدوم المرأتين عاصفة من الصيحات والضحكات. عبرتا فوق الرؤوس من يد إلى يد، حتى الطاولة. كانت الصغيرة تنظر حولها بوجه خشبيّ، دون أن تفهم شيئًا. كانت الارتياع، زينب، وكانت الإبداع، جميلة، أمها. كانت تهتز كأوتار عود تحت أصابع عازف مجنون. أي جنون، هذا الماخور! لَوْثٌ وسُعْرٌ كل هذا! ترك كل الجنود من كن في أحضانهم من مومسات، وجاءوا ليحيطوا بجميلة وابنتها، تلك النرجسة السائلة. رفعوا كؤوسهم، والبرابرة يرددون بحضارة:

شمر عن إيدك، يا عرص!
اللي طالع اسمه طالع
واللي نازل اسمه نازل
شمر عن إيدك، يا عرص!

قبل أن يفرغوا كؤوسهم في حلوقهم، ومن جديد، بصوت واحد:

خذني في أحضانك!
إذا غاب العشاق
فلتبحث عن جسد!
خذني في أحضانك...

وبأي ظُرْف! وبأي لُطْف! صب أحدهم كأسه على رأس جميلة التي بقيت هناك، مذهولة، معقودة اللسان: ضحك وتصفيق يذوب الواحد في الآخر. كانوا يضحكون في كل لحظة، كانوا يصفقون في كل لحظة، كانوا يعرفون التصفيق في كل لحظة، كانوا يعرفون الضحك في كل لحظة، كانوا يعرفون الغناء للعشاق الغائبين، وخاصة للأجساد التي يشتهونها. اقترب آخر، وقلب رأسها إلى الوراء، جميلة الجميلات، و، بقوة، فتح فمها، وأفرغ فيه كأسه. في تلك اللحظة، أحست أن شيئًا قد وقع، شيئًا يتجاوزها، يتجاوز إرادتها. إذن كان هذا، شارع الأقحوان، كان هذا، الماخور الذي لم يكن أحد يجرؤ على تسميته باسمه. سيغطيها الطين طويلاً، ستخبط طويلاً في القذارة، ومنها ستحتفظ بطعمها، وستذرف الدمع لياليَ ولياليَ... كالإعصار الذي يفجر في الخارج الصواعق، الذي يُسقط كل أمطار الطوفانات في العالم، الذي ينفخ كل رياح الكون.
فجأة، صرخت جميلة صراخ الملاعين، وراحت تضرب كل من تصله يداها. انحل لسان زينب: صرخت الصغيرة كأمها، بيأس طفلة في صدد الغرق، تستنجد أبًا قويًا. حملوا الأم من يديها وقدميها إلى زاوية، وألقوها على الأرض. قفز جندي فوقها، مزق قميصها، وامتطاها. ثم كان دور البنت، لتدين للموت بالحياة. كانت تصرخ، كانت تبكي، وغواص الجميل يشاهد كل شيء من النافذة. كان أكبر مما كان في الوقت الحاضر، لكنه لم يكن يقدر على فعل شيء. كان يبتهل، في الوقت الذي كانت فيه الجرافات تحول نهر الشهوة. ألقى الشاب التعس بنفسه في الأمواج، ليضع حدًا لحياته. له، جميلة كانت حياته. حطموا حياته، فليضع حدًا لحياته، إلا أن الماء حمله إلى الشاطئ، فخاف العمال من ذلك "الشيء" الذي انبثق فجأة من الأمواج تحت الأضواء. سمكة كبيرة! صاحوا. حوت! وهربوا.
.........................

العجائز معًا:
- إذن، فهم أخذوكِ في أحضانهم، ولم تعودي غير جسد مباح للجميع! لماذا أنتِ؟ لماذا جسدك غدا مذنبًا؟ جسد المرأة هذا؟ لماذا أنت المرأة؟ لماذا أنت هذه المرأة لا الأخرى؟ لماذا الفريسة؟ لماذا الغنيمة؟ الغنيمة الجميلة! والقرية كانت تنام، كل ذلك الوقت، رغم العاصفة، والناس حولك كانوا طعامًا للديدان، والحاكم الجبار يشع فرحًا وسط البرق والرعد.
العجوز ذات أمارات الحجر:
- لماذا أنت؟ لماذا جسدك غدا مذنبًا؟ جسد اللهب هذا؟ لماذا أنت لهب؟ لماذا أنت هذه المرأة التي نهشوها كلهم نهشهم للحجر، والتي عجزت عن نسيان أسنانهم؟ ولكنها ليست سوى حكاية، سنقول حكاية بين حكايات! حكاية بين حكاياتك!
العجوز ذات مخالب الصقر:
- حكاية دون حكاية! لأن لا أحد وقتها جرؤ على رفع إصبعه الصغيرة، ما عدا غواص الجميل، لا أحد جرؤ على الانتحار لأجلك! آه! كم نحن جبناء أمام الموت، كم نحن عاجزون عن الحب! كم نحن عاجزون عن الشعورِ بحقدٍ حقيقيّ، حقدٍ شديدٍ على الغير! فهل نحقد على بعضنا إلى هذه الدرجة؟
كل العجائز:
- لنحقد على الجبن الذي فينا،
الخسة
لنحقد على القذارة،
الخرع
لنحقد على الدناءة،
الجبن.
لنحقد على كل ما يُحقد عليه فينا
لكننا غير قادرين على التشنيع،
على التحريم.
كل شيء ذنبي يجب عليّ القول
وهذا أسوأ
مائة مرة أسوأ
يا رب، اجعلني أحقد عليّ؟
العجوز ذات دموع الملح:
- لم توقظهم العاصفة الكبيرة، لم تقتلعهم من نومهم، لم تلق بهم في قلب الريح. فيما بعد، وجدوا أنفسهم محاصرين من كل جانب، ولا أحد استطاع المجيء لعونهم، لا أحد استطاع نجدتهم، مَنْعَ غضبِ السماء! البنت المغتصبة كانت عارهم! لا أحد استطاع بكاءَها، بكاءَكِ، فلنبكِ على أنفسنا! لنجعل من دموعنا نهر الاحتقار!
- لنفرغ العاصفة التي فينا
لنبكِ
لنبكِ
لنذرف دموعنا حتى نهاية الأزمان.
كانت شهقاتٌ تأتي عَبر النافذة ضاربةً أذني العجوز، بينا أخرى لم تزل تقرعُ في ذاكرتها. جمدها ذلك الحوار الرهيب المنعقد بين صرخات نساء معذبات وصرخاتها. قرعت في أذنيها الشهقات: شهقات داخل أعماقها، وهي تصعد لُجَّ ذاكرتها، وشهقات خارج أعماقها، وهي تَقْدُمُ مِنَ الهناك. تصادت التي فيها والتي ليست فيها، وامتزجت في شكوى مأتمية واحدة ترن في الأفاق.
أخذت رأسها ملء يديها، وراحت تئن بدورها، تئن كعليلة، وفي أنينها يمتزج الماضي الذارف من عينيها الدموع السيالة والحاضر المسموعة شهقاته في الحجرة وفي الخارج في آن.
دَوَمان.
إلا أنها لم تقدر على احتمال هذا النواح أكثر، نواح يكبلها بلحظة مرعبة تريد أن تنساها بأي ثمن. لليلة واحدة فقط. أن تنساها. لتغلق عينيها على صفحة بيضاء من حياتها، لو بقيت صفحة بيضاء في حياتها. نهضت دفعة واحدة، وأطلقت صرخة مزق صريرها لها الأنفاس.
حط الصمت...
الهدوء كلي.
عما قليل، عادت الشهقات تتصاعد وراء النافذة، وكأنها تسعى إلى كَسْوِ صِبْغَةِ الأسلوبِ بالعراء. كم هو ملطخ هذا الفصل المكتوب بريشة لآلئها السوداء! ذهبت إلى الباب، وفتحته، فازدادت الشكوى، شكوى مَنِ افْتُضَّتْ بكارةُ شيخوختِهَا. في أيام العَجَزَة، لا تنفك العجائز يعشن في الخيال. كان الخيال فاكهتهن، والنواح حقلهن، ومن وراء كل شجرة من الشجر الميت كانت امرأة تبكي بكاءً يقتلع الأجفان من شروشها. التقطت العجوز الحجارة، ورجمت الأشكال السوداء، التي، كالقطط نطت، وامحت. وامحت الذكريات، هي كذلك.

نهار.
غواص الجميل، هذا الشيخ بلحيته البيضاء، التقط بعض الأعواد الجافة، واقترب من المجرى الجاف لنهر الشهوة، وهو يعرج. جلس على حافته، ووضع قربة الماء التي لا تفارقه. جعل من الأعواد الجافة كومًا، وحك عود ثقاب ما لبث أن انطفأ. حك آخر، فدقت النار. فرك يديه فوق اللهب، وأطلق نفسًا مديدًا.
- النهار بارد! قالت العجوز التي انتصبت على حين غِرة أمامه.
رفع حاجبه، وهو يظن سماعه صوت جميلة، ثم جمد، دون أن تند عنه أدنى حركة. خفض حاجبه بهدوء، و، كمن لا يتوجه إلى أحد:
- ومع ذلك، هناك أعواد ونار، يا أهل النار والدمار!
لها، كان دومًا غواصًا، الطفل الجميل في ما مضى:
- لم أرك منذ مدة طويلة، يا غواص! هل كنت تسعى في سهول السامرة، سهول البؤس والعظمة، في البستان، كما يطيب للجميع تسمية إقطاعة الحاكم؟
أشار غواص برأسه إلى قمم الجبال، ثم صَوَّبَ إصبعه:
- كنت هناك، على جبل قاف، استطعت الصعود حتى القمة، تحديت شيخوختي، وصعدت، فحكى لي عن كل هذه الجبال التي حوله، واحدًا واحدًا، حكى لي حكايتي.
- منذ متى تتكلم الحجارة؟
- منذ كانت الحجارة. تتكلم، تنظر، تتنفس، وليست المرة الأولى التي يقول الجبل لي.
- كن واضحًا! قالت العجوز، وهي تتوجس ريبة، قل لي كل ما يقعد على قلبك!
- كل ما يقعد على قلبي؟ كل شيء، كل شيء حقًا؟
- قل لي كل ما يقلقك!
- نظرت إليكم من أعلى، وشاهدتكم في الليل نيام، وفي النهار عبيد.
- ماذا كنا سنفعل وقد خيم علينا هذا الليل الطويل.
- احتلوا القرية، وكأنكم كنتم تنتظرون هذا منذ أمد بعيد، فاحتللتم أنفسكم.
- احتلوا القرية، نعم، احتلوا الحياة، وحرثوا على ظهورنا، جاءت مواسم فيها الخير، لم تكن مواسمنا.
- كانت للحاكم، لحاكمكم الذي في أنفسكم.
- حاكم كهذا يحلبك كالبقرة، ويشعل بعظامك المواقد، فأحرقنا باطلاً نحن الآتين له بالنار.
- والدمار.
- والاخضرار.
- أي اخضرار؟ أنا لا أرى من حولي شيئًا آخر غير الدمار!
- كانت أرضنا خضراء، فيها نبع وعيون، حتى انتهت كل المواسم، المواسم التي كانت لنا. يا رب! يا الله!
أغمضت عينيها، وهي تبتهل.
- كفي عن الابتهال! نبر الشيخ، اغضبي الله، لينزل من عليائه، ويراك!
- ليسه أعمى أينما كان، همهمت العجوز.
- بلى!
ارتعدت طالبةً الصفح، وعادت إلى الابتهال.
- تقضي نهارها، وهي تبتهل، وهي طوال الوقت تنتظر، أن تأتيها معجزة، أن يستمع إليها الله.
- لقد شخنا كثيرًا، أنا وأنتَ، خاصةً أنا.
- وما الفائدة، أن نبقى صغارًا؟ لن نفعل غير ما فعلنا، لن نكره أو نحب غير من كرهنا أو أحببنا.
- كنت تحبني، يا غواص، أليس كذلك؟ كنت تحبني؟
- حاولت الانتحار لأجلك.
- آه! يا غواصي المسكين!
- لم يشأ نهر الشهوة تحقيق شهوة ظننتها الأخيرة. وجدت نفسي في جوف الماء، ودفعني الماء إلى الحياة. أخذتني الأمواج بأمومة غريبة، وشوشتني قائلةً إن عليّ واجب العيش لأجلك. روحك المعذبة، بعد ما جرى لك في تلك الليلة، كانت في حاجة إليّ. وكانت هناك أيضًا زينب. كانت أمي تقول لي: "اعتن بزينب، ابق إلى جانبها، تتألم المسكينة!" لكني أنا، كنت أريد البقاء إلى جانبك، النظر إليك، البكاء عليك. وبكيت حتى لم تبق لي دمعة واحدة أذرفها. أنا، ابن الماء، كنت قادرًا على سكب دموع العالم بأجمعه للمرأة التي أحبها. كنت تشعرين بذلك. كنت تشدينني إلى صدرك، وتقولين لي: "لا تبك، يا صغيري غواص، ستذلل جميلة كل هذا يومًا!" كنت أشد بصدري إلى صدرك، وأداوم على البكاء. كنت تحبينني كابن، وأنا، كنت أحبك كملعون. لم يكن باستطاعتي سوى إدانتي، قمع كل عاطفة. لم يكن باستطاعتي سوى البكاء، سكب دموعي. ثم، في أحد الأيام، كشفت زينب عن حبها لي. كانت تشبهك قليلاً، ابنتك، كانت لحمك، الأغلى على قلبك، وكل غالٍ لك كان غاليًا لي. كنت أحب زينب، ولكن ليس بالقدر الذي كنت أحبك فيه، أنت. ليس كما كنت أحبك. كم من مرة حلمت بك عارية بين ذراعيّ في قعر الماء! مع زينب، لم أكن أقول الوداع لطفولتي، كنت أستقبلها. قبل، كنا نلعب، عندما كنا صغارًا، وداومنا على اللعب، دون أن نعلم، ألعابنا الأخيرة. تحت شجرة التوت، على الأرجوحة، مع الفراشات. كنا نضحك، وكنا نصعد حتى الأعشاش، وعندما نكون فوق، كنا نتحدث مع صغار العصافير، وكنا نضحك. ثم، فجأة، لم نعد نضحك. عنادك في رفض الحاكم دفعه إلى اللجوء إلى وسائل أخرى للاحتفاظ بأراضينا، فقرر بناء سور من الحجر حول المقاطعة للحيلولة دون كل هجوم من الخارج. ووكل إلينا صغارًا وكبارًا هذه المهمة الصعبة. ماتت أمي تحت صخرة سحقتها، وغدا حبي لك بالغًا في أقسى الآلام.
كان من اللازم عليّ أن أهرب منك، وبما أن نهر الشهوة قد تم تحويله تمامًا كان من اللازم عليّ أن أبحث عن منابع أخرى ، عن أنهار أخرى. كان السور يعلو، يطول، أكثر فأكثر. كان يخنقني، ذلك السور، الذي أبنية على الرغم من ذلك بيديّ، الذي نبنيه بأيدينا. لم أعد أتنفس. تلاشى حلمي، وأنا أعوم معك، وأضمك، وأنت عارية بين ذراعيّ. كنت بحاجة إلى امرأة وفضاء، امرأة تحبني، تحبني بالفعل، وفضاء شاسع، ألعب فيه كل ألعاب الكبار بكل حرية. الجبال، وما وراء الجبال، حتى النهر الكبير. كان هذا فضائي، حريتي. كان البرابرة قد هجروا الجبال ليغلقوا الأبواب على أنفسهم وراء سور كبير بكبر سور الصين، ليختنقوا. أما أنا، فرغبتي كانت أخرى. على عكسهم، على عكسكم، المحكوم عليكم بالانغلاق مع أولئك البرابرة، كنت أتمنى ترك كل شيء من ورائي وتسلق هذه الجبال الفتانة، تسلق حريتي. هكذا سأتحرر منك، وأتخلص من كل التزام نحوكم. كنتم على خوف دائم من ذلك المرض الغريب القادم من وراء الجبال، أنا لا. لم يكن هناك أخطر من احتلال الزنابق التي لا لون لها ولا رائحة. سأكسر أعناقها قبل اكتمال السور، وسأغادر. وهذا ما حصل، في ليلة دون قمر ولا نجوم.
وبينما كنت أصعد على جبل قاف، كانت عيون تلمع، وهي تترصدني. كانت بعض ذئاب لم تترك أوكارها بعد نزول البرابرة في الوادي. هذا ما أوضحته لي ياسمين، غداة وصولي إلى القمة. كبيرة كانت دهشتي، لا لأن تلك الذئاب فضلت عدم الذهاب إلى الغرب، ولكن لوجود تلك القبيلة التي تنتمي إليها ياسمين، والتي تعيش في أكواخ قرب السماء. كان أفراد تلك القبيلة دومًا ههنا مذ كان قاف. لم يكن يخيفهم وجود البرابرة ولا أي وجود آخر، حتى أن ياسمين أرتني ذئابًا أليفة، وقدمت لي برابرة تبنوا طريقتهم في العيش. ربوا الغنم، البقر، أو الدجاج، لا لأكلها، وإنما لاقتيات ما تنتج، وزرعوا بين الحجارة كل ما يحتاج لذيذ الحساء. لم أقع في غرام ياسمين، تلك الشقراء ذات الأديم الأبيض والعينين البيزنطيتين، كنت مكبلاً بحبك دومًا، ثم، هدفي، كان النهر الكبير. وعلى العكس، فوق، بمخالطة أولئك الناس، فهمت ما يعني ذئب مدجن. كإنسان قبيلتنا، كالإنسان أيًا كان، قال لي أبو ياسمين. على الإنسان إلا يكون شخصًا آخر وأن يكون نفسه. للانتصار على البربرية في الإنسان، على الإنسان أن يمحي أمام الإنسان، وذلك بأن يصبح نفسه. الذئب ليس ذئبًا هنا، لكنه يمتلك دومًا تلك العينين اللامعتين في الظلام. الذئاب هنا كالبشر آلهة. لنكون بشرًا وآلهة يجب معرفة العيش مع الذئاب الآلهة، التي بدورها لا تسعى إلى الاعتداء على الإنسان، ولكن إلى العيش معه بسلام، فتقترب السماء من أيدينا. في حين أن السماء تبتعد عن أيدي الذين يجدون أنفسهم على أعلى قمة في العالم إذا ما لم يوفقوا إلى الامحاء بتواضع أمام كل المخلوقات، وإلى المساهمة، بشكل شخصي، في إعداد هذا العمل الهائل الذي هو الحياة.
وأنا أنظر إلى وجهي في مرآةِ نبعٍ صغيرٍ عند قدم صخرة، قلت لياسمين إنني لا أراني قادرًا على الامحاء. جعلني حبي لجميلة أنانيًا جدًا، أرضيًا جدًا. كنت أريد الذهاب وبسرعة، بأقصى سرعة، إلى النهر الكبير، بحثًا عن نفسي. كان من اللازم عليّ أن أجد نفسي في وثاق مع حب كبير آخر غير حبك، كي أجد نفسي وأحقق معجزتي. في الغد، رافقتني ياسمين حتى كوخ إحدى الصديقات الواقع عند منتصف الطريق بين قاف والنهر الكبير. كان اسم هذه الصديقة زمردة، وقبل أن تعود ياسمين على أعقابها، قالت لي إن هذه الصديقة ستصطحبك حتى النهر الكبير. عندما رأيت زمردة وكأني رأيت جميلة. صعقة الحب! هل نسيتك؟ لا، لم أنسك. وجدتك في جسد آخر. وذلك الحلم الذي أعوم فيه معك وأنت عارية، أحققه في الأخير. كنا نعوم كل يوم، وكنا كل يوم نحب بعضنا أكثر. لم يكن بمقدوري الامحاء، وكوني نفسي أقل. امحوت فيها، نعم، ولم تنمُ شخصيتي بكل "كرمها" إلا لأرضي زمردة، حبيبتي. لم نكن ننشغل إلا بنا، وغدا العالم عالمنا. غدت كل أوجاعي الماضية ليس غير ذكرى رديئة، حتى أنني لم أعد أذكر ذكرياتي. قبلة من زمردة كانت تكفيني طوال النهار، لمسة من يدها كانت تقذفني في المستقبل. دومًا ما كنت أفكر في الغد عندما تكون في أحضاني، فيما سأفعله معها، فيما سنفعله. كان الناس ينظرون إلينا باستغراب، كانت لهم نظرة ذئب وحشيّ جائع شهوة إلى الآخرين. كانوا ينتقدوننا، ويريدوننا أن نتزوج. وقعت زمردة حبلى دون زواج، فنكد الناس حياتنا ملحين على الزواج. لكننا دوامنا على العيش هكذا، وفقًا لقوانيننا الخاصة بنا، وكنا أسعد السعداء في العالم. مع الأسف، ليس على الدوام! زمردة، المرأة التي كنت أحبها الأكثر في العالم، ماتت أثناء الولادة، تاركة لي صبيًا جميلاً أسميته "منتصر"، وقبل رجوعي إلى دارنا عهدت به إلى ياسمين، منذ ثلاثين عامًا في الوقت الحاضر، أربعين عامًا.
- لك ابن، يا غواص! صاحت العجوز فرحًا، لك ابن!
- لا تعجبي! لي ابن، ولدته لي حبيبتي، أما أنتم، فلدوا للموت، وابنوا للخراب!
- استطعت أن تصنع ابنًا؟ لك ابن اسمه منتصر!...
- تمنيت أن يهزم الأعداء، أن يعطيني تلك القوة على أن أكون متواضعًا، وأن أكون نفسي، هكذا لن تكون حياتي ظلاً يمضي، هذا ما تمنيت. لأن ابني، كما هو عليه في الوقت الحاضر، غير ما تمنيت أن يكون، قال غواص بخطورة من ارتكب خطأ جسيمًا.
بعد لحظة، أطلق ضحكة طفولية.
- لكن رغباتي ستتحقق قريبًا، قال. لابني هو أيضًا ابن، اسمه محارب، إنه مع حفيدك باسل، باسلك، في معسكر للمقاومين، قرب النهر الكبير.
- تريد القول إنه لم ينضم إلى تلك القبيلة الغريبة؟
- لا، ليس تمامًا.
- لماذا؟
- لأن هناك نوعين من الآلهة: المحاربون والمسالمون. سيبقى الأمر على ما هو عليه إلى أن يقرر الإنسان وضعَ حدٍ لعذاباته.
- أنت، أيها الأعرج، من أنت حتى تحكم على البشر والآلهة هكذا؟ قبل، كان حبك لي يملي عليك سلوكك، ولكن اليوم، بلا حب، بلا قوة، بلا جمال...
- أنا، الأعرج، لا أحكم عليهم، أنا لا أعمل سوى رد رغباتهم.
- يا لغواص المسكين، يا لغواص المتشرد المسكين، يا للشيخ المتشرد المسكين!
- لا ترثي لي!
- أنا أرثي لشيخوختك.
ولم تلبث أن عدلت عما قالت:
- لنقل بالأحرى أنا أرثي لشبابك، يا غواصي الشيخ الصغير المسكين!
- لا ترثي لي!
- كانت أيامًا!
- ضاعت، فلا حمامة سوداء كانت، ولا غرابًا أبيض كانت!
ونبر:
- لكني أقسم لك أني قاومت. انظري...
ثنى يديه، فرأت أظافر أصابعه المقتلعة:
- انظري، انظري!
- اقتلعوا أظافرك.
- لم تكن آخر محاولة.
- أذكر يوم قتلت حارس الحاكم ببارودته، بعد أن خلصته إياها.
- وبعد ذلك، هل تذكرين ماذا جرى بعد ذلك؟
- احتلوا القرية، ورموك في سراديب الموت. لم يشفع لك سنك!
- أحرقوا مخزنكم ليلتذاك، وقتلوا أطفالك.
تأوهت:
- اسكت، لا تذكرني!
- أنت تذكرين ذلك كل يوم، كل ساعة، كل دقيقة.
- اسكت، اسكت!
- احتلوا القرية منذ ذلك العهد... إلى اليوم.
- يا لغواص المسكين! يا لغواص المسكين!
- كفى! لم أعد مسكينًا!
- وتقول هذا بجد، أنت من لم يكن السعد حليفه، لا مع جميلة، ولا مع زمردة، ولا مع ياسمين! لماذا عدت إذن لتكون منذ أربعين عامًا منحصرًا هنا؟
- لأفقه ما علمني إياه أبو ياسمين، وأكون قادرًا على اعتبار الذئاب كآلهة.
- خلال كل هذه الأعوام؟ أنفقت من الوقت الكثير!
- ولأني أردت أن أتعلم أيضًا ما يقوله لي نهر الشهوة وقد غدا جافًا.
- وماذا قال لك؟ لم يقل لك شيئًا غير العدم.
نفخ غواص الشيخ واقترب منها أقرب ما يقدر عليه، وبصوت مفكر:
- تعلمت أن الذئب غير المدجن يبقى ذئبًا غير مدجن دومًا، إلا إذا ما لم يتبدل إنسانًا، وأن نهرًا محولاً يبقى إلى الأبد محولاً إلا إذا ما لم يتبدل بحرًا.
- كل البشر، كل بحار العالم، في الوضع الراهن للأشياء، لن تستطيع تحويل شيء، يا غواصي الشيخ الصغير المسكين!
- القوة التي استطاعت تحويل الإنسان والنهر تستطيع أن تعيد إلى الإنسان إنسانيته وإلى النهر أبهته في مجراه الأصلي، قرب قلوبنا!
- قرب أحلامنا، تريد القول.
- قرب قلوبنا، قرب شهواتنا ورغباتنا التي تتحقق في الأخير. لهذا صعدت على جبل قاف، كنت أنتظر أن يكون منتصر قد تزوج، أن يكون له أولاد، أن يكون قد فهم مثلي كلام أبي ياسمين. لأن السماء لنا، نحن سكان الوادي، ليست دومًا قربنا. نقيسها بغير ما هي عليه، حتى ولو كانت قربنا. عبرتُ إذن سور الشيطان سورنا، المحيط بنا، والمحيط بنفسه، من خرم قضيت شهورًا في حفره. تغلبت على هشاشتي هشاشة شيخ أعرج، وصعدت الجبل، وكم كان عاليًا لشيخ عجوز! استقبلتني ياسمين، والدموع في عينيها. آه! كم شاخت، تلك الفتاة الحلوة، فتاة البارحة! لابني، منتصر، شعر أبيض قبل الوقت، وهو يشبه أمه. وبشكل غريب يحن إلى هنا، يحن إلى كل ما يتعلق بالمقاطعة وماضيها المجيد، على الرغم من أنه لا يعرف من كل هذا غير ما حكت له ياسمين. خاطر بفصله من القبيلة، بسبب تلك العاطفة، فلنقل "وطنية". فوق، لا نشعر بعاطفة أخرى غير التآخي. بيزنطي، عربي، أو غوليّ، الإنسان بكل بساطة. الواحد والآخر يعرف نفسه من عمله في خدمة القبيلة برمتها. يعيش مستقبل الإنسان أحوالاً قبل أن ندخل فيها. هو في سلام مع نفسه ومع حيواناته، وحيواناته في سلام ما بينها ومعه. إله هو وكل واحد إله. طلبت مني ياسمين أن أبقى، فالحياة لم تكن سهلة معي. لم يكن من الفرق شيء كثير بين عمري وعمر زمردة، ومع ذلك... أترين؟ لمنتصر، أنا عجوز جدًا في الوقت الحاضر. وكياسمين، أراد أن أبقى. وهو يراني قربه، انقشع حنينه. كأن كل المقاطعة تسلقت الجبل معي. لم يكن باستطاعته أن يفعل شيئًا لمقهى الأقحوان، ومستقبل المقهى الغالي والأقحوان المعبود من شأن حفيدي محارب.
- وحفيدي باسل.
- وحفيدك باسل، وكل الشباب أبناء الزنى الذين هم هناك، قرب النهر الكبير. هذه المرة، ياسمين كانت على اتفاق معي: ليعلو الإنسان حتى أعالي القمم، عليه أولا أن يصفي حساباته مع نفسه، أن يمحو أخطاءه أخطاء الماضي بالطريقة نفسها التي ارتكبها فيها. يعني بالحديد والنار. هذا ما قالته لي، القديسة ياسمين. هل تسمعين؟ بالنار والحديد. كيلا يهيمن شيء آخر غير نار العقل. رأيت فوق بشرًا يشبهون الأضواء، إنها نار العقل، قالت لي ياسمين، عندما تتماهى معرفة الذات ومعرفة العالم. وبعد ذلك، قابلت كل عقلاء القبيلة، فقالوا لي أشياء.
- ماذا قالوا لك؟
- قالوا لي أشياء.
- ماذا باحوا إليك؟
- باحوا إليّ بأشياء كثيرة، قالوا لي أشياء كثيرة
- حسنة أم سيئة؟
- حسنة وسيئة. قالوا لي أشياء كثيرة، أشياء لا تعد ولا تحصى.
- منذ بعض الوقت، أشعر بنفسي تعسة، أشعر بنفسي تعبة. قديمًا، حقًا كنت تعسة، إلا أنني أبدًا لم أشعر بالتعب. البارحة، شعرت أني تعسة كم لم أشعر من قبل، وأني تعبة جدًا لأني أصبحت ضعيفة، هذا ما قاله لك الحكماء الشيوخ فوق، أليس كذلك؟ إنني سأكون تعيسة، إنني سأكون كل حياتي ضعيفة، إنني سأكون كل حياتي ضعيفة وتعيسة!
أخرج غليونه وحشاه، أشعله وفوق رأسه سحابة صغيرة كالقطن لا تلبث أن تمحي.
- نعم، عادت العجوز إلى القول بصوت خفيض، يسمع بالكاد، أحتاج إلى من يقول لي، أحتاج إلى من لا يخفي عني شيئًا.
- ها أنت في الأخير ككل العجائز اللاتي يبحثن بكل الوسائل...
لكنها تابعت:
- أنا أحتاج إلى من يغمرني بالعطف، ولكن ليس من أجل هذا أشعر بما أشعر. يدور في رأسي دون توقف، أنا تعيسة، أنا ضعيفة، سأكون إلى الأبد ضعيفة وتعيسة. بعمري، الأمر غريب مع ذلك، هذا الشعور. لعجوز مثلي، عادي أن أكون ضعيفة وتعيسة، ومع ذلك... الأمر غريب مع ذلك كشعور. شيء لا أجد له اسمًا، كذلك المرض الذي فتك بالمقاطعة، كطائر يخرج من رأس ميت... أنا أرتعب خوفًا من الشعور بالضعف، بالتعاسة، ولكن ليس لأجل هذا أشعر بكل هذه الأشياء.
- ستكونين تعيسة وضعيفة كل الأيام الباقية من حياتك، هذا ما أقوله لك، أنا، ولن يكون باستطاعتك تجاهل هذه الحقيقة طويلاً، ولكن الأمر لا يتعلق بك.
- الأمر لا يتعلق ب...
- الأمر يتعلق بزينب، ابنتك.
- زينب، ابنتي؟!
- الأمر يتعلق بصهباء، حفيدتك.
- القبيحة؟! ما الذي جاء بها لتفعل هنا، هذه الرتيلاء؟!
- كما تقولين هذه الرتيلاء ستكون من وراء سعادة الجميع.
- سعادة الج... هذا ما قاله لك العقلاء الشيوخ فوق؟!
- مع جندي بربري ينبذ بربريته ستجلب السعادة للجميع، هذا أفضل الأشياء التي أعلنها لي الحكماء الشيوخ.
- هم يخطئون عقلاؤك الشيوخ، يا صغيري غواص! ومن ناحية أخرى، "عقلاء"، أتساءل إذا ما كانوا فعلاً.
- هم لا يخطئون.
- سعادتنا شأن باسل ومحارب إلا إذا ما نسيت ذلك؟
- باسل ومحارب لتحريرنا، ابن صهباء لجلب السلام والرخاء.
- آه! كم يخرفون عقلاؤك الشيوخ، يا صغيري غواص.
- هم لا يخرفون.
- سلامُنا ورخاؤنا شأنُ نغلٍ ابنِ جنديٍّ بربريٍّ وممن؟ من صهباء، ابنة الشيطان؟!
- كما تقولين هذا النغل سيكون ثمرة الحب، ومن هذا الحب ستولد سعادتنا وسعادتهم.
- سعادتهم؟ تتكلم الآن عن سعادتهم، أولئك البرابرة، أولئك المغتصبون، أولئك القتلة؟!
- نعم، سعادتهم. سعادتهم وسعادتنا على هذه الأرض الموعودة للوجع!
- آه! يا إلهي، ليس هناك غير وجعي على وجه الأرض، وغواص الشيخ الصغير يرى أوجاعًا أخرى. هل توجد أم غيري على وجه الأرض أعطت كل شيء للريح كيلا تجني غير الدم والوجع؟
- نعم، توجد. أم بربرية هي أم قبل أن تكون بربرية، وهي تتألم لما يصنعون من ابنها جنديًا يهدده الموت في كل لحظة.
- قاتلاً، مجرمًا!
- كل ما تشائين، ولكن قبل كل شيء ابنًا يهدده الموت في أية لحظة، ولأجل هذا تتألم أمه الألم نفسه الذي تتألمينه.
- لم أفكر أبدًا بين البرابرة أن يكون من الممكن هناك أمهات تتألم.
- لفقدان أولادهم، بلى.
- لا، أبدًا لم أفكر.
- فكري من الآن فصاعدًا، من وقت إلى آخر على الأقل، سيساعد هذا قليلاً ابن صهباء في مهمته.
- تسمي هذا مهمة؟
- أسمي هذا مهمة لأن أتباع الحرب والفقر الذين من عندنا وخاصة الذين من عندهم لن يوفروا شيئًا في سبيل نسف كل مساعيه ومنعه من أن يفعل شيئًا على طريق السلام والرخاء.
- الأقحوان والأضاليا.
- ماذا؟
- أهلوس، هذا كل ما هنالك.
- إذن بدأت تفهمين.
- وزينب؟ ماذا قال لك العقلاء الشيوخ بخصوص زينب؟
- ليبتعد السلام والرخاء إلى الأبد عن المقاطعة، ولتبقى فقط روح القتال والحقد، سيسعى البرابرة إلى الهيمنة على مستقبلنا مثلما يهيمنون على حاضرنا، وسيزرعون في بطن ابنتك الطفل الذي سيفعل كل ما يريدون.
- طفل من زينب سيبتعد بالأقحوان والأقاقيا؟
- كيلا تبقى أبواب مشاريع توسعهم وسيطرتهم موصدة، وهذا أسوأ شيء أخبرني به العقلاء من شيوخ الجبل. طفل من ذئب ستلتقي به زينب عندما ستُضيع طريقها نحو الشجرة الشبيهة بالتنين ذي الرؤوس السبعة في المدينة ذات الأسوار الخالدة للبحر الكبير، طفل سيخضعنا، ونطيعه بالحديد والنار. حاكم من عندنا، وفي الحقيقة نسخةٌ عن حاكمهم، مدافعٌ عن مصالحه. معه، يكممون أفواهنا ويكبحون أحلامنا الجديدة عندما نقتلع أحلامنا القديمة الباقية لصق جلدنا، ولن نعتقد بعد بالمستقبل الذي سيأتي به ابن صهباء. بعد ذلك، ستمتد مرحلة مشئومة طوال جيل أو جيلين.
انفجرت العجوز فجأة نائحة، بكت وأنّت. ذرفت دموع أمة من الأقحوان، ولم يكن الضمير اللاذع أمام تعاسات الآخرين، بعد كل التعاسات التي عاشتها. مرحلة مشئومة طويلة ستمتد. رغب غواص الشيخ في البكاء، هو كذلك. فكر أن حفيديهما، حفيديهما هما الاثنان، هناك، في مكان ما قرب النهر الكبير، تحرضهم إرادة شبه إلهية، في صدد الاستعداد للمجيء من أجل اقتلاعهم من تعاستهم، من ضعفهم، ولن يفعل وحي الحكماء الشيوخ فعله إلا فيما بعد. غلب التفاؤل التشاؤم، ولم تعد في الوقت الحاضر سوى إرادة، إرادة واحدة، تحلق فوق رأسيهما: إرادة باسل ومحارب. هذه الإرادة مَنْ عليها واجب إرشادهما، حمايتهما، حتى يفعل الوحي فعله. شرب غواص الشيخ بعض الماء، وأعاد إشعال غليونه. أحس بنفسه مليئًا بالشفقة عليها، على جميلته العجوز: هي وحدها من ستكون ضعيفة وتعيسة كل باقي حياتها.
- لا تبكي، يا جميلة، اهدأي! همهم.
- أبكي لأني حقًا ضعيفة، وليس باستطاعتي أن أفعل شيئًا، همهمت.
- لا تفكري فيما تفكرين! تأخذ النبوءة وقتًا لتتحقق، فاتركي هذا لأبناء أبناء أبنائنا، الذين سيولدون من بعدنا.
- لقد بدأ الأمر، وربما سيتم خلال عشر، عشرين، ثلاثين سنة، لكنه ما بيننا. سيلاحقني في كل مكان و، في هذه اللحظة، ها هو هنا... ها هو يَثْقُلُ وزنًا فيّ.
- لن يأتيك غير من سيأتيك.
ابتسمت لنفسها، وقالت:
- يا له من ملاك رضيّ من سيأتيني! وراحت تحلم باللحظة التي سيأتيها فيها، إنه موت طيب من أجل امرأة طيبة قست عليها الحياة!
- موت خارق.
- هذا ما قاله لك العقلاء من شيوخ الجبل؟
- سأقول لكِ... قال غواص الشيخ.
- قل أيًا كان القول، يا شيخي الصغير. في نهاية المطاف، لم يقل لي صاحب الأحلام كل شيء قبل أن يموت.
- بانتظار ذلك، اخرجي من ثوبك الأسود، واحرقي كل آثاره!
- ومن أين لي بنار؟
- في أرض الحاكم نار تسعى!
- النار لمواقد الأمس، فأينها؟ أين براكين الأمس، زلازل الأمس؟ الأمس لم يعد لي، صار للحاكم!
- اذبحي ذبيحة، ووزعيها على الفقراء!
- ومن أين لي بذبيحة؟
- في أرض الحاكم خراف ترعى!
- الذبيحة لأيادي الأمس، فأينها؟ أين سواعد الأمس، عضلات الأمس؟ الأمس لم يعد لي، قلت لك، صار للحاكم!
- إذن لا تضحي بأي حيوان، لا توزعي أية قطعة، لا تعطي طعامًا لأحد، وافعلي عكس ما يفعل الآخرون، وستذهبين مغمضة العينين إلى الجنة، قال، وهو يفكر أنهم فوق لا يأكلون أبدًا لحم حيواناتهم، وليست لديهم نقود ليشتروا أو يبيعوا –ومن ناحية أخرى هم لا يشترون شيئًا لا يبيعون شيئًا- وهناك ما يكفي من حساء الأعشاب للجميع. هم يعيشون بسلام مع أنفسهم، مع الطبيعة، وخاصة مع الروح. جحيمنا الذي لنا سيظل أرضيًا.
- ما أنت إلا مجنون، ردت العجوز، وأنا من تقول عنك شيخًا صغيرًا حكيمًا عاقلاً! الجنة، لم أعد أفكر فيها. وفوق ذلك، أين ستجد حيوانًا تضحي به في هذا الجحيم؟
لم تفهم أنه أراد تكسير كل شيء فيها، عاداتها، أمانيها، آهاتها، للتخفيف من ذلك الشعور بالتعاسة والضعف في عروقها، ولإراحة ضميرها بعض الشيء. لم يشعر بالهدوء، وكل ذلك الثقل الجاثم على الضمير. ضميره. ضميره الذي له. ضميره الحميمي: الكدر والكرب! لأن، في الحقيقة، كان رأسه يثقل عليه. وَدّ القول: ضميره. لأسباب عديدة! باختصار، لأنه أضاع حياته. والنبوءة لا علاقة لها بهذا. أضاعها ابتداء من اللحظة التي عاد فيها إلى بيته، بعد موت زمردة. كان من اللازم ألا يعود هكذا بخفي حنين. سرقه الحاكم إياها، حياته. عانى التعب كل حياته تحت ثقل الأعمال المرهقة التي فرضها عليه رب الأضاليا والأضاليل. لو ترك له الجبار أن يختار ولم يسرقها له، حياته، لصنعها بشكل مختلف: لقاتل أو لحفر الآبار. لو سيترك له الجبار أن يختار، ولا يسرقه له، موته، لصنعه بشكل مختلف: لمات موتًا عاديًا كما تموت النجوم أو لانتحر هذه المرة كما تنتحر الحيتان. مص غليونه، وهو لا يريد التفكير في كل تلك السنين الميتة.

كم هي عزومة، زينب! كان جبينها يرشح عرقًا، وتكاد تختنق. ومع ذلك، صممت على عدم التوقف والاستمرار حتى تهلك، فلا من بنات الدهر هي خائفة ولا من نيابه، وما هي إلا حياتها الدنيا. مالت بجسدها إلى الأمام، واستقامت، ثم مالت بجسدها من جديد. قلبت بفأسها كتل التراب، ولكن أيضًا النهار واليأس، قلبت الموت. تفتتت مدرات الأرض تحت قدميها، وهي تخل بالنواهي، فالأرض جافة بلا رائحة، ولا رائحة في الهواء، ولا رائحة في ثمر الشوكة.
ضربة هنا وضربة هناك ومع كل ضربة كانت زينب تحفر حفرة لا تتلألأ فيها أية دمعة، و، وراءها كل تلك العيون الميتة المفتوحة على سعتها التي ترميها عبر أجفانها العارية بنظرة حاقدة. كانت الأرض قشرة دون حياة، فيها أفواه أطفال موتى. شيء مهول، أفواه الأطفال الموتى، لا أكثر هولاً! لم يكن ما تفعل سهل الإدراك، وزينب تفتح جرحًا في قلبها: كلما أنزلت ذراعًا يغدو الطائر جرحًا والجرح هوانًا تستكين إليه، وكلما رفعت ذراعًا يغدو الجرح طائرًا والطائر ضِغنًا يسري في دمها شديدًا منهكًا كعصارة النبات الوحشيّ تحت الأسيجة المهجورة، يسكنها، يلتهمها، وليس بالاستطاعة تلطيفه إلا بهذه الضربات التي تمزق وجه الأرض.
بفأسها كانت تحفر حفرة في قلب الأرض لتواجه أشياء كثيرة: هذا الجدب الساحق أولاً، ثم أشياء كثيرة. ربما أرادت التعويض عن حال المرارة والمحل تلك بأخرى، حال وهمية: الانتقام من أولئك الذين عَدُّوا خطواتها مذ جعلوا أنفسهم "حماةً" لها ولم يزالوا لِيَعُدُّوها أَرُومَةً قديمة.
- أسالوا ثدييك، زعقت العجائز الاثنتا عشرة، وسلخوا ذراعيك، وامتلكوا بطنك، قتلوا من أجل أن يمتلكوا بطنك... ساموك أشد عذاب قائلين لأن هذا في صالحك.
العجوز ذات أمارات الحجر:
- سيظهرون في الحفلات مبتسمين، وسيصرحون، الشيطان في الجسد، أن هذا من أجل صالحك، وأنهم اكتفوا بحلبك وبسلخك، بدافع الإنسانية... ستتنافس وكالات الأنباء مع وكالات الأنباء في الحصول على أخبارهم، فما صنعوا للإنسانية إلا المكتسبات، وما كان كل هذا إلا من أجل الهناء والرخاء ودفعًا لعجلة التطور. التطور. تطور التقهقر! سيصورون الحاكم الكريه، وهو يرتدي أجمل الثياب... سيطبعون صوره في الجرائد مع تعليقات لا تعد ولا تحصى، وأوصاف في مدح الأبطال، القائد الهمام، ناكح الورد، المرشد، وبوجيز العبارة: "المنقذ!".
العجوز ذات مخالب الصقر:
- هو، القاتل، منقذ؟
العجوز ذات دموع الملح:
- سيذكرون في الصحافة والتلفزيون والراديو أن هذا البربريَّ تقدميٌّ أفكاره تتجاوز أماني العمال، نعم العمال، العمال الذين يعملون في الحقول كالعمال الذين يعملون في المصانع، وأن خطه السياسي نابع من صميم المصلحة العامة وموحى من إرادة تحسين كل شيء، تحسين كل شيء، تحسين كل شيء...
ولا شيء يتحسن، من سيء إلى أسوأ كل شيء. جهنم! استقامت زينب، وبظاهر يدها مسحت ما ينضح جبينها من عرق. رفعت شعرها، وتنفست الصعداء. سكنى الملعونين! كَمِنَت لنفسها، والفأس في قبضتها. إلى الأبد عليها واجب القبض على الفأس. كان في باطن يدها جرح مفتوح، جرح على جرح، ودم أسود يسيل على عصا الفأس. طار من الجرح طائران ميتان، فما الفائدة، إذن، وكل شيء يموت؟ قَوِيَت عليها، وفي أعماق نفسها همست: "ليموت الموت!"
على حين غِرة، ودون أن تلتفت:
- هل هذه أنت، يا أمي؟
وهي تداوم على ضرب الحجر الذي يطيع والحجر الذي يعصي.
- عرفتني من خيالي؟
- لا! أنت تشبهين كل العجائز هنا. خيالاتكن واحدة، وأثوابكن واحدة. خيالات من خاب سعيه، وأثواب من لبسه الحداد.
- إذن كيف حزرت أنني أنا؟
- لأني كنت أنتظرك. ما انتظرتك مرة إلا وقادتك الريح إليّ.
وهي تداوم على كسر عناد الملح في الحجر، على ردم حفر الحياة في العيون الميتة، على فتح طرق الجوع في أفواه الأطفال الموتى. وضربة أخرى، ثم ضربة أخرى، ثم ضربة أخرى.
- من العادة أن يحصل هذا في الحال.
- هذا لأني أريد ذلك.
- لِمَ هذه الرغبة؟
- وَلِمَ هذا الانتظار؟
- ما الحَدْسُ إذن الذي يوحدنا؟
- حَدْسُ الخراب، ولأني أعطيت اسمك للعمل الناقص.
- نعم، يا أمي، الناقص. منذ أعوام، لم أستطع بناء أية مدينة، لم أستطع رسم أية حديقة، ولم أفعل سوى استنفاد قواي. أنا أحتضر ببطء، يا أمي.
تراءت للعجوز المقبرة القديمة، القبور القديمة، النخلات القديمة، وفكرت فيما قاله لها غواص الشيخ، في ذلك الموت العادي الذي ينتظره انتظار النجوم لموتها. بعد صمت قليل، سمعت ابنتها تقول لها:
- تقدمي!
تقدمت العجوز إلى أن توقفت على مرمى فأس منها، عند حافة الحجر القديم، وعندما سقطت الفأس، انغرزت قرب إبهام قدمها. ارتجت عصا الفأس، بينا راحت زينب تتفرس طويلاً في أمها، وكأنها تقع عليها بعد سفر طويل.
- لماذا تنظرين إليّ هكذا؟
استعادت تعبيرها العادي، و:
- ظننتني أرى ما تغير في وجهك.
تنهدت زينب، فكلُّ تَبَدُّلٍ مفاجئ يقلقها. قالت بلا ندم:
- كدت أقطع لك إبهام قدمك.
انحنت لتتناول الفأس، وبحركة عجلى قلبت أمها الفأس، ووضعت قدمها عليها. لم تكن زينب امرأة عاقلة، لم تكن عاقلة منذ تلك الليلة، وكأنها تركت واجبها نحو عقلها وعقلها وراءها.
- كوني عاقلة، يا ابنتي!
تأملت بإمعان ما أكملت زينب من عمل، ولم تر غير عيون مفقوءة وبطون مبعوجة!
صرّت زينب:
- اذهبي! اتركيني!
واجهتها، ودقتها في صدرها، والعجوز تتراجع.
- ابتعدي! أيتها المومس! اذهبي! ماذا فعلتِ عندما أخذوني أول مرة؟ ماذا فعلتِ عندما اختطفوني من زوجي آخر مرة؟ ماذا فعلتِ؟ ما انتقمتِ وما تركتني للانتقام! وضعتِ قوس قُزَحِكِ في السحاب علامةَ ميثاقٍ بينهم وبيننا.
تخلصت العجوز من غضبها في الأخير، وبخطاها الخائرة تقدمت إلى وسط فضاء لا شكل له. سقطت على ركبتيها، تناولت كتلة من التراب، و، بذراع مرفوعة، عصرتها بيدها، والتراب يسيل بين أصابعها. انتصب جسدها المنهوك كالوتر، واهتز. نعقت، وهي تضرب صدرها، ونواح من المتعذر كبته تفجر من حلقها المعقود على حلقها. لكنها تماسكت بسرعة، وتوقفت دموعها. ابتلعت دموعها، ومسحت عينيها الحمراوين بعصبية. التفتت إلى ابنتها: لا، ما انتقمت وما تركتها للانتقام! اغتصاب بنت أسوأ من كل شيء، ولخطأها، طاردتهم لعنة المتعة. لم يكن الانتقام ينفع في شيء، وهم ملعونون كلهم. حل الوجع محل المتعة، ، وجف نهر الشهوة الذي فيهم قبل أن يكون تحويله. ملعونون. جميعهم ملعونون لخطأها، بالقدر الذي كان عليه مصير الأرض، ينبوعها، وثعبان الروح.
عادت زينب إلى ضرب الأرض بفأسها، والأرض تذرف دموع الرمل والحجر، فحاولت أمها إيقافها:
- توقفي!
وكلتاهما تلهثان بصوت عال، تلتهثان.
- لا تكوني مجنونة!
- مجنونة؟ أنا؟... أنا من أرادت بعث الحياة في هذه الأرض؟
- أنت تنسين.
- أنسى ماذا؟
- النبع، تنسين النبع، يا ابنتي! النبع جاف. لن تغتسل الآلهة إلا في بيوتها.
- سأفجر النبع.
- ستفجرين النبع؟
- وسيسري الماء كما لم يسر من قبل.
- هل تحلمين؟
- سترتوي الأرض.
- كفى حلمًا!
- سيصبح كل شيء أخضر.
كان على المرء أن يصبح مجنونًا لتحويل الصحراء إلى بستان من بساتين الجنة! حقًا لم تكن أرضهم الصحراء، إلا أنها، في الوقت الحاضر، ميتة، من الظمأ ميتة. من الأفضل أن تتركها، ابنتها. فلتتسلَّ مع يأسها! من الأفضل أن تتركها مع عناقيد الزهور البيضاء تلك الكثيرة العطر في رأسها. نعم، ستتركها. تركتها، وخطت خطوة، خطوتين... كانت تطلب المستحيل، كانت تنسى من كان هنا، من يراقبهم.
- وحتى لو نجحتِ، فسيكون الحاكم هنا دومًا، ألقت العجوز.
لم تجب زينب. آه! هذا الحاكم الشيطان! العديم الشفقة! الجبار! هذا الزنديق، الغريب عن قلوبنا وأجسادنا! أرجع إليه، فأجدني في بداية الأزمان، ممسوخة قردة، ورغم ذلك، عما قليل، سأصبح عجوزًا... عجوزًا بقدر هذه الأم الملعونة، فتمتلئ روحي بالمرارة. لكن هو، سيفعل ما يريد، ما يشتهي. فتحت عينين يطفو فيهما غمامٌ مِنْ غيرِ ماء، غمامٌ عاقر. كانت مكبلة مرتين: هذا ما لن تنساه. روحًا وجسدًا. مكبلة ضعفين. شخص مكبل ضعفين لم يعد لديه ما يأمله. كلُّ شيءٍ جهدٌ ضائع! إسقاء أرض جافة بالجفاف! ستحفر إذن، ستحفر، ستحفر حتى تجد النبع! بيد أنهم جربوا هذا، ولم يكن الحل. وبحزنٍ قالت: لم يعد هناك سوى نبع واحد... لدى الحاكم! وإذا ما داومت على الحفر حتى الغد؟ من بعيد، أتت العجوز بحركة تعبة:
- لن يتفجر الماء طالما بقي الجفاف يهيمن على الخيال، فللإرادة دون خيال ثمن: العبودية.
وبنظرة مليئة بالحنين:
- بفضل هذا الخيال الذي كان يسكن فينا، كانت أرضنا خضراء، فيها الينابيع والعيون، ثم، لا شيء، لا خيال. منذ ذلك الوقت، والأضاليا بيننا. مضت مواسم تلتها مواسم، وهي تأتي بما تأتي، رغم فقدان الخيال، ثم مضت مواسم تتلو مواسم ومواسم، وهي تأتي بما تأتي، ومواسم أخرى... ثم، لا شيء! الأرض لا تعطي طويلاً دون خيال... هل تفهمين؟
لم تفتح زينب فمها. تقدمت نحو أمها بخطوات بطيئة، وأمها تتابع:
- أعطت الأرض للحاكم كل ما استطاعت إعطاءه، ثم جفت، والآن انتهت في الآن كل المواسم، وأنت كل ما تفعلين تسقين أرضًا جافة بالجفاف. الأرض اليوم مثلي، الأرض أنا... عجوز! لا قوة لها ولا خيال! وما كل هذا سوى جنون!
توقفت زينب على بعد مترين من أمها، وعلى حين غِرة، عادت إلى ضرب الأرض.
- لا فائدة من ذلك! لن تستجيب، همهمت العجوز لنفسها.
- اسأليني ما أفعل، عّنَّفَت الأخرى.
داومت العجوز على الهمهمة لنفسها:
- أشفق عليها، المسكينة! أشفق عليها، ابنتي!
- اسأليني لِمَ أفعل ما أفعل، هنا، في هذه اللحظة.
والعجوز تداوم على التحدث مع نفسها: "لن تستسلم! لن تستسلم!"، ثم تلت آيات قرآنية، آيات غفرانية.
- أنا أقتل الشيخوخة في هذه الأرض! عوت زينب، أنا أقتل شيخوختك! هكذا أصنع حياتي، من هنا تأتي المعجزة!
والعجوز لنفسها:
- لا حول ولا قوة إلا بالله! لن تستسلم!
تفجرت زينب مقهقهة.
كان فيها من العنف ما عاد بالدم في كفها إلى السيلان، أُثلجت عيناها على مرأى اللون الأسود، وتضاعفت قهقهتها. توافدت على مخيلتها الصور: لما كانت زينب في الثانية عشرة، ولما كان غواص الجميل يدفعها فوق أرجوحة معلقة على شجرة توت، ولما كانت تضحك والأرجوحة تنزل بها... تنزل بها. كانت ضحكاتها نقية بنقاء انعكاسات النبع الأولية، وكان يدفعها بقوة أكثر فأكثر، فينتفخ فستانها، ويطير، ويرى غواص فخذيها السمراوين، وهي تضحك، وهو يضحك، وهو يداوم على دفعها.
الفستان يطير... الفراشة تطير... البنت تطير... النجمة تنزل عتبات السماء... وفي الأجواء ضحكات طفلة وعطر كل الأزهار العبقة. أوقف غواص الأرجوحة، وأخذها بين ذراعيه ليساعدها على النزول، إلا أنها تفلت منه، فيلحقها:
- زينب! زينب!
تناديه:
- غواص الجميل!
وتركض في البستان.
تعثرت زينب، ووقعت بطولها على الأرض. وقع غواص إلى جانبها، لفها من خصرها، وبقيا ينامان في الحشيش. تحرك شيء ما وراء السور، فوقفا، وسارا على الطريق الصاعدة إلى البيت. تحت، قرب السلسلة، رأيا جمعًا من الفلاحين تحت حراسة الجنود: الجباه عابسة، الثياب مغبرة، و، في الصدور، العذابات، الآمال التي لم تتحقق، لن تتحقق، والطيور التي تموت. وفي الصدور، القلوب الفخورة. الحوافر. الصهيل.
صفوهم، وقتلوهم.
دم. دم أيضًا. دم أيضًا وأيضًا. أقحوان.
تفجرت أمواج الدم، حمراء كالأقحوان، ولطخت كل ألعاب طفولتهما وبراءة عمرهما. جذب غواص زينب إلى صدره، والصغيرة تبكي بكاء الكبيرة. بكت كما لم يبك أحد، وبكى معها.
- لا تبكي، يا زينب، قال لها، لا تبكي، لا أحب أن تبكي!
وجرها من يدها، ليقودها حتى قفص الأرانب.
- إن لم تتوقفي عن البكاء، ذبحت ذاك الأبيض، قال لها.
لكن دموع البنت لم تجف، خلّت غواص الجميل، ورجعت إلى البيت راكضة.
ما أن ذهبت، ذبح غواص كل الأرانب.
العجائز الاثنتا عشرة حزينة:
- أقحوان! يا لهذا الولد الشيطان!
في كل حكايات العالم المرة الأولى التي تجعل البراءة من نفسها مجرمة! لكن دم الرجال ما لبث أن غسل خطيئة هذا الطفل العاثر، وهم يذهبون إلى الموت بالعشرات. للتكفير، وللإيقاع بصقور السماء. قدموا لها أجسادهم مأدبة، ففتحت ملوكُ الطيرِ الطريقَ لأشعةِ الشمسِ بمخالبها ومناقيرها، لتتغلغل حتى أعماق أوردتهم. جف دمهم في الوقت الذي جف فيه ماء نهر الشهوة. كانت بداية الجفاف الكبير. كانت بداية تعاسة على تعاسة، ومن هي السبب كانت تجهل أنها المسئولة عن هذا المصاب، وأن عليها أن تدفع الثمن بدورها.
- انتبهي... الدم! قالت العجوز لابنتها.
فتحت هذه يدها وضغطتها على يدها.
- هل ترين النتيجة؟ أنت تدمين.
العجائز معًا:
- وأنت التي تزفرين على أرض يابسة جف النبع فيها ونفد الحليب، أنت التي تضربين الأرض بفأسك وتشعرين بما يشعر الحجر، أنت التي تتألمين أقسى الآلام والأخيرة التي تعلم، أنت التي كل هذا، ولكن دون جدوى، والتي يداها مكبلتان، سيسقط رأسك تحت فأس الأضاليا. قالوا لها: لا تتوقفي أمام باب مكسور، لأن التنين ذا الرؤوس السبعة عضك في شارع الأقحوان، ولأن جراحك لن تبرأ إلا في مدينة الأسوار المهدمة، عند ساحل البحر الكبير، على مسيرةِ ثلاثِ ليالٍ دون قمر.
لكزت الفأس بقدمها، فوقعت على عصاها، شراعًا أعياه الإبحار.
- اسمعي، يا أمي! قبل أن يفوت الوقت، قبل أن نغرق في بحر الزمان!
اقتربت من أمها، وبنبرة غريبة:
- لِمَ لا نَفِرُّ من هذا المكان الجاف الذي لا مكان جاف مثله؟ وإذا ما ذهبنا إلى عكا، مدينة الأسوار الخالدة للبحر الكبير؟
آه! يا إلهي... النبوءة!
- أنا ما بقيت على قيد الحياة، ردت العجوز وهي ترفع رأسها عاليًا، لن أبرح مكاني هنا. حتى بعد موتي، سأعود، وسأبقى!
- كيف ستبرأ جراحي الدامية إذن؟
آه! يا إلهي... ابن زينب، وليد الذئب!
- لا تطلبي ما ليس معقولاً ولا تبحثي عما هو مستحيل، يا زينب! هل تسمعينني؟ شجرة التنين التي يقال إنها توجد في عكا خرافة، وهي لو كانت غير ذلك، ما كان من ورقها شفاؤك. شفاؤك، شفاؤنا كلنا، سيكون من شجرة تين في جنة الحاكم يحرسها الجنود. ولكن ما أنت سوى...
للجراح مكان حياتها وموتها، وهي تجر معها الجسد كله. هنا، ها هي في صدد الموت. ولأنه يحتضر، لحم زينب يترهل، ونهدها يتساقط، إلا أن وجهها يبقي نضرًا. حتى متى؟ لا أحد يعلم. غدا بطنها رخوًا، فلا ننس كل الأولاد والبنات أولادها وبناتها. لا، إنها الجراح. الجراح! تَغَضَّنَ أديم فخذيها بسبب جراحها. والعجوز، ماذا ستقول؟ ماذا ستغدو مع جراحها؟ لها جسدٌ يابسٌ كُلُّهُ، وظهرٌ منحنٍ كُلُّهُ! أما زينب، فحليب نهديها لونه أسود كالأسود لون جراحها. لهذا ابيضّ شعرها، وازرقت عروقها. ولكن ما هي سوى...
صاحت العجوز بصوت أجش:
- ... جبانة! أفهم الآن لماذا كانت كل مهزلتك تلك منذ قليل، أيتها الجبانة الصغيرة! ما أنت سوى جبانة صغيرة!
- افهميني! أنا أختلف، لن تبرأ جراحي في مكان آخر أبدًا غير مدينة الأسوار المنهارة.
- مغترة، أنانية!
- سأفعل كل شيء لتبرأ جراحي، ومن ناحية ثانية، أنا لا أقاتل إلا لهذا في الوقت الحاضر، أنا لا أقاتل إلا لأجلي.
- أنا قاتلت كل حياتي لأجلك.
- لأجلي أم لأجل الحاكم؟
- لأجلك، فقط لأجلك! أنت، الابنة الوحيدة التي بقيت لي. ولأجل أبنائك!
- وأنا، من قبل، ألم أقاتل لأجل أبنائي؟ لئلا يجوعوا؟
- سأقول لك شيئًا: حياتي المضطربة بدأت مع موت أخيك الصغير في مهده، أنا الماضي الأسود! أما أنت، أنت الحاضر الذي نرى عَبْرَهُ يرتسم المستقبل الأخضر لأبنائك.
- لا، اليوم، أنا لا أقاتل إلا لأجلي. ثم، أين هم أبنائي؟ استشاطت زينب. هل تستطيعين أن تقولي لي أين هم، أولادي وبناتي، العقوقون؟
حزرت العجوز أملاً منسيًا، أملاً صغيرًا منسيًا، في أعماق صدر ابنتها، والتي أخذت تستدعي في ذاكرتها أبناءها واحدًا واحدًا:
- أحدهم قُتل، قتلوه، وقتلوا ظله، المسكين عتريس، وآخر ذهب، ولم يعد أبدًا. نجح باسل في اجتياز السور حتى الجبال، وحتى السعار. أما صهباء وساذجة، ابنتاي اللتان بقيتا لي بين أربع أخرى أو خمس، الأولى متصلبة ومتعقدة، والثانية رومانسية وحالمة، كلتاهما لا تستطيعان أن تفعلا شيئًا من أجلي. أنت من تقولين لي هذا، يا أمي، بينا أنهك كاهلي الرحم بعبء حاجاته، وأفرغني الجلاد من كل قواي بأثقل الأعباء، فذبلت، مثلك تمامًا، وعما قليل، سأموت في الوقت الذي تموتين فيه بعد أن أُدْرِكَ الأعوامَ التي هي طرقات الزمن الموغلة بين عمرينا؟ أنت من تقولين لي هذا، بينا جَعَلْتِني أفهم أن نبعنا قد جف إلى الأبد وأن الظمأ إلى الماء في أرضنا ليس باستطاعة العواصف أن ترويه؟ أنت من تقولين لي هذا، بينا أنا هي التي قتلوها بنتًا صغيرة أول مرة وفتاةً ثاني مرة وامرأةً ثالث مرة، والتي يقولون عنها "تعيش"؟ ولكن البغلة تعيش والذئبة تعيش! لهذا قلتُ لك إني أختلف عن الآخرين!
هل تذكرين تلك الليلة، المرة التي... آه! يا إلهي! منذ تلك اللحظة، وفي مهبلي حشرة صنعت عشًا، ولم تتوقف أبدًا عن فرش جناحيها... كَبُرَتْ فيّ في الوقت الذي كَبُرْتُ فيه... و، كلما خفقت جناحيها مزقني ألم يسمم لي روحي. ها أنا أستطيع تدمير نفسي وحدي، أقول أنا، لا أنتم! نكبة كهذه ألا تكفيني؟ سأكبر، وستكبر الحشرة فيّ. ستبيض، وستحفر ملاجئ جديدة. أي عالم عفن مليء بالهامّات أحمله معي، في داخلي! كلما فكرت أني لست شيئًا آخر غير قشرة يسيرة مكلفة بحماية هذا العفن الذي يعج في داخلي وفي الوقت نفسه هذا العفن نفسه يعج حولي، تحت شكل أو آخر، أقول لنفسي من الأفضل أن أعطيني الموت. لكنّ فعلاً كهذا يفترض شجاعة كبيرة و، أنا، مجردة من مثل هذه شجاعة. لقد قلتِ لي منذ قليل، لقد قلتِ لي جبانة أنا، وهذا صحيح!... أتوسل إليك... قولي لي ما أفعل وهذه حالي!...
الحق يقال لا شيء، فكل شيء في وقته. مَعَ مِزاجٍ كمِزاجِهَا، لن تقدر على شيء. من اللازم أن تفعل ما عليها أن تفعل، الآن أو أبدًا. كانت زينب على أهبة الاستعداد لكل شيء، إلا أنها لم تعمل بنصيحة أمها:
- إذا كنتِ قادرة على التحرر بالفعل من عالم العفن هذا، فاذهبي على التو، واقتلي الحاكم حيث يكون، في مملكته.
- لا أستطيع، قالت زينب مع حركة عاجزة.
- أرأيتِ!
- ما تطلبين مني فعله فوق قواي، يا أمي! لا، شكرًا!
- ماذا أعطيك إذن؟
- ذراعك.
- لم تعد ذراعي ملكي، فأينها ذراعي؟ أين أيادي الأمس، سواعد الأمس، عضلات الأمس؟ الأمس لم يعد لي، صار للحاكم.
- إذن ماذا؟
- افعلي مثلي.
- مثلك... شكرًا أيضًا! لا أريد أن أفعل مثلك.
- أأثير في نفسك العار إلى هذه الدرجة، أيتها الابنة العاقة؟
ليس العار... ومع ذلك... لا! لا تريد أن تفعل مثل أمها، فحياتها ليست حياتها. كانت جميلة تقول الشيء ذاته، والجواب بقي واحدًا. "حياتي حياتك! حياتك تكرار لحياتي! لا خيار آخر لك. ليس هناك سوى الظاهر ما يتغير." ظاهر معركة خاسرة مسبقًا على الدوام، اسمها معركة الأجيال. الأقحوان. الأضاليا. الأقاقيا. كانت تريد أن تكون شيئًا آخر، زينب. جميلة أيضًا قالت هذا. ثم، اكتشفت أن هذا فوق إمكانياتها، فوق إرادتها. كان هذا بعيدًا عن مرمى يدها، رغم كل الأعياد التي أقيمت لها، كل الفساتين التي خيطت لها، كل اللآلئ، كل الصديقات، كل الشهوات التي أشبعت.
- في ما مضى، كنت...
- في ما مضى، في ما مضى، في ما مضى!... ولكني أنا لست الماضي، ماضيك!
- يمضي الماضي دومًا بالطريقة نفسها...
- لا! يتبدل الوقت كل لحظة! تُبَدِّلُ الأفكارُ أديمَهَا كالأشجارِ في الصيف، وتتبدل الوسائل... كل شيء يتبدل!
- والحاكم في مكانه؟
- ..............
- سأقول لك، يا بُنَيَّتِي، فاسمعي! أنا... أنتظر منقذًا ينبثق من قلب الظلمات ويأتي بالماء والضوء، فانتظري معي!
- هذا يعني أن عليَّ رميَ كلِّ شيء على عاتق الغيب، هذا يعني أن عليَّ قُبُولَ الأشياءِ كما هي الأشياء، والاستسلامَ للذئاب! لم أعد أحتمل، يا أمي! لم أعد قادرة على الانتظار!
- عندما تنتظرين حدثًا تعتقدين بوقوعه، وعلى هذا الحدث أن يُولَدَ من بطن البغي، ليس الشيء نفسه.
أجابت زينب بقحة وحزن:
- كان عليّ ألا أسمع لك، كان عليّ ألا أخضع لك.
- عليك واجب احترامي وطاعتي، أنا أمك.
- كان عليّ أن أواصل الحفر، الحفر، الحفر...
- كم أنت مجنونة، يا زينب! هناك انتظار وانتظار، وانتظاري لا علاقة له لا من قريب ولا من بعيد بما تعتقدين. وتتابع العجوز كما لو أصابتها رِعدة: كل مرة فكرت أنه سيأتي عما قليل، شع أسفل جلدي شكلٌ غريبٌ من أملٍ غريب.
- ومن يكون، يا ترى، هذا الفارس الخارق للعادة؟ لا تقولي لي إنه باسل، ولدي المغامر؟

نادت الصور الصور، وهمزت الأفكار الأفكار...
قفز أمامها، وتقدم نحو الضِّفة، حيث بحر القمح يلقي بأمواجه. التفت إليها والسعادة تديخه، وصاح بها: "ماذا تنتظرين؟" صيحة قوية، عميقة، مزيجة بصيحات أخرى لا تدرك بالحواس.
لم تكن جميلة تنتظر غير هذا، هي التي صبغت يدها بفن من فنون الحكم. وضعت طاس الحليب على الأرض، ورفعتِ العُنُقَ رفع الدجاجة الشابة لعنقها، في حركة من الفخر والاعتزاز. ثم، وهي تقطر جذلاً:
- أن تناديني، فأجيئك مثل أنثى ليست صابرة!
فصاح من جديد، أقوى ما يقدر عليه:
- تعالي! أنا أنتظرك لنبدأ. أنت التي كل النساء لي!
ركضت نحوه، وهي تطلق الصيحات...
أوقف غواص الأرجوحة، وأخذها بين ذراعيه ليساعدها على النزول، إلا أنها تفلت منه، فيلحقها:
- زينب! زينب!
تناديه:
- غواص الجميل!
وتركض في البستان.
تعثرت زينب، ووقعت بطولها على الأرض. وقع غواص إلى جانبها، لفها من خصرها، وبقيا ينامان في الحشيش.

عبر أمامها، وهو يقفز، وتقدم نحو ضِفة بحر القمح، إلا أنها تفلت منه، فيلحقها: زينب! زينب! تناديه: غواص الجميل! التفت إليها والسعادة تديخه، وصاح بها: "ماذا تنتظرين؟" وتركض في البستان. تعثرت زينب، ووقعت بطولها على الأرض. رفعتِ العُنُقَ رفع الدجاجة الشابة لعنقها، في حركة من الفخر والاعتزاز. وقع غواص إلى جانبها، فصاح من جديد، أقوى ما يقدر عليه: تعالي! لفها من خصرها، ركضت نحوه، وهي تطلق الصيحات...

كانت هناك صور جميلة في حياتهم، وكانت هناك صور رهيبة: نظرة واحدة إليها كانت كافية ليقشعر بدن العجوز ارتياعًا، ومع ذلك، بفضل ذلك الأمل الغريب، كل شيء غدا لها محتملاً. نظرة واحدة إلى الوراء، منذ الحريق الكبير، كانت كافية ليقشعر بدن العالم ارتعابًا، ومع ذلك، تركوها في البداية تزرع الحقل. كانت تذر الأرض، وتجني الثمر، لكنهم كانوا يأكلون ما تجني. هذا ما كان في البداية، ثم اقتادوها إلى القصر، فالحاكم بنى لنفسه قصرًا فخمًا، ولم يتوقف أبدًا عن إغرائها، لكنها طردته كما سبق وطردته، ورفضت كل مشروع للزواج منه، فاسترقها. غسلت ثياب الجنود، وبالسكين جرحت الحجر، وحكّت الجدران حتى احتكت أصابعها. بقيت على حالها سنوات وسنوات دون مغادرة القصر، فلم تر النهار، ولم تر الليل، ونامت في سرداب القصر الصقيعي. لم تكن حال زينب أحسن من حالها، زينب البالغة. في ليلة ليلاء لا قمر فيها ولا نجوم، اقتحم عليها جنود الحاكم الدار، واختطفوها، ثم رموها في أحضانه، ليفترسها. أكلها، ولم تأكل إلا البقايا، قليل الفتات، إلا أن الجلاد أطعمها أكلات لا أزكى من تحت يدي كرباج حزين تكفي لمائة سجين. في البداية، تركوها تزرع الأرض، فزرعتها، وهم أكلوا. وكان عليها أيضًا نقل الماء، في البرد، وفي الريح، أجن ريح، وتحتَ مطرٍ يدقُّ في جلدِهَا المسامير. كان عملها: جلب الماء... وجلب الحطب. تعثرت في الوحل، وكانت الغابة بعيدة. في إحدى المرات، عندما خرجت في الليل، لجلب الحطب، اختطفها أزلام الحاكم، واغتصبوها، وهكذا سقطت حبلى بصهباء ابنتها. شكت حالها لسيد المكان، فعلقها من جدائلها في السقف، وبدوره اغتصبها. بعد ذلك، أرسلوها إلى الحقل، ليس لزرع الأرض، التحدث مع النمل، أو بذر القمح، لا. هذه المرة، لجر عربات القش كالدواب. مع أمها. كانت المستودعات بعيدة، وفي الطريق مشتا في الشوك، وإلى اليوم تشعران بالألم في قدميهما. بعدَ بعدَ ذلك، كان عليهما أن تبنيا الإسطبلات، فالحاكم يركب الخيول كما يركب النساء! لأجله كسرتا الصخور التي لا تكسر، وحملتا الحجارة التي لا تحمل، وبنيتا البيوت التي لا تبنى. أما السور، فضاعفتا سُمْكَهُ. آه! هذا السور، سور الآلام والصخور، سور ياجوج وماجوج! وهكذا جعلتا من سور حياتهما في العذاب حصنًا منيعًا!
- عندما انتهت الأعمال رمونا في السجن، رجالاً ونساءً، وأحكموا علينا الإغلاق.
- حاولنا أن نفتح المعابر.
- فسدوها وعاقبونا.
- استبسلنا، وقمنا بمحاولات أخرى، أيضًا وأيضًا.
- إلى درجة أن أظافرنا أخذت تنبت كالقرون، فأدهشهم ذلك، ولم يفهموا لماذا!
- ربما أنتِ لا تعرفين بوجود معبر على الرغم من كل شيء، معبر واحد. أمس، عبر منه غواص الشيخ إلى الجبل.
- هذه هي المرة الأولى التي أسمع فيها بهذا، هناك إذن منفذ ممكن؟!
- صه!
- ما بِكِ؟ لا أبواب حولنا.
- صه! الهواء حولنا، الحجر حولنا، السماء حولنا.
- من يستطيع سماعنا في هذا العالم؟
- صه! صه! الحيطة أم الحذر!
صمتتا، ونظرتا إلى كل النواحي، بارتياب.

مثل كل مرة تكون فيها أمام النول، تغني ساذجة، حفيدة العجوز:

إذا ما جاء الليل
جاءني حبيبي
إذا ما جاء الليل

إذا ما جاء الليل
ضمني حبيبي
إذا ما جاء الليل

إذا ما جاء الليل
قبلني حبيبي
إذا ما جاء الليل

إذا ما جاء الليل
أبحر بي حبيبي
إذا ما جاء الليل

كانت تغني، وتحلم، وتنسج حُلُمًا. وعندما تندفع هكذا إلى ما وراء الأشياء المرئية، كانت لا تسمع نداء آخر غير النداء الذي يسكن حُلُمَهَا. وعلى الخصوص، عندما يغطي الليل الكون، وتقترب ساعة لقائها بمن اصطفاه قلبها.
- يا عاشقة!...
ولم تسمع. كانت ساذجة من تلك الفتيات اللاتي يستغرقن في ما يحببن من أعمال حتى الضياع ونسيان كل شيء، وأكثر من هذا عندما يتعلق الأمر بالحب. كانت قادرة على التضحية بنفسها كليًا تحت سلطان العواطف، بشرط أن تكون متبادلة، وألا تكون سعادتها مركزة بأنانية على نفسها، وإنما متدفقة على كل من هم حولها.

إذا ما جاء الليل
جاءني حبيبي
إذا ما جاء الليل

إذا ما جاء الليل
................

عاد الصوت ينادي بنبرة بَرِمَة:
- يا عاشقة!...
وساذجة مشدودة إلى عَمَلِها، تمامًا. كانت الخيوط الملونة تلعب في يديها ككلمات الأغنية على شفتيها، وفي النسيج حكاية جدتها أيام شبابها، حكاية بقيت معلقة، لما فجأة طار حجر، وتكسر زجاج. نظرت ساذجة إلى قطعة الزجاج الأخيرة، وهي تسقط، فجمعت نفسها، ونهضت بسرعة.
من النافذة، تفحصت حواشي البيت: حركة بعيدة بين الأشجار اليابسة، تبتعد، وتذوب كموجة في الرمل. هل هو عندليب، حبيبها؟ جاء قبل موعدهما؟ ولكن لماذا فر هكذا لو كان هو؟ في كل مرة، كان يخشى أن يلقوا القبض عليه، فهو لم يكن من عندهم، كان يأتي من بعيد، من مدينة ساحلية، وبما أنه يشبه البرابرة، ويتكلم لغتهم، كانوا يتركونه يمر. أعادت غلق النافذة، وهي تفكر أن ذلك من حظه أن يشبه البرابرة، وعادت إلى نولها. ترددت قليلاً، وهي تجيل النظر بين النول وقطع الزجاج، تلك المراكب الراسية على الساحل، ثم انهمكت في عملها. تباطأ رِفْلٌ من ضوء النهار، وما لبث بحرٌ دامسٌ أن صعد، وجرف كل شيء: المراكب والساحل والنجوم. فكرت، وهي صغيرة، أنها حاولت عدها، تلك النجوم التي لا تعد ولا تحصى، وأنها أحست، في ذلك الوقت، إحساس المرتبك الحائر، بالخوف من الضياع في المطلق.
أشعلت ساذجة القنديل، وانشغلت بنولها. تغضنت عيناها تحت ما تبذله من جهد، وهي تتابع حركة الخيوط والصور في الحبكة. ثم، بشرود، رفعت رأسها، وهذه المرة، ارتعدت من قمة الرأس حتى أخمص القدم من الرعب. كانت قامة سوداء تقف في وسط الحجرة...
- هذه أنا!
بذلت ساذجة جهدًا لتستعيد هدوءها.
أسقطت القامة السوداء الملاية عن رأسها، فبان وجه متهدل شائخ قبل الأوان لصهباء، أختها البكر، مع أنها لم تتجاوز بعد الخامسة والعشرين من عمرها.
صهباء هنا، والباب مغلق! لم تنتظر زيارتها لها قبل وقت طويل... في الواقع، منذ بعض الوقت، لم تلتق الأختان: حكاية بنات. بدافع الغيرة ما في شك، لم تشأ صهباء أن تسمع بحبيب لأختها الصغيرة. وبدافع القرف من الحب كذلك. أو بدافع اليأس. فتاة منفرة مثلها لن يحبها أحد. تقدمت صهباء بقدم مصممة من النول، وبينا بقيت ساذجة مشلولة في مكانها غير قادرة على الإتيان بأقل حركة، أنشبت أظافرها في النسيج، وأخذت تمزق الخيوط ضاربةً الحبكة. لم تجد ساذجة ما تقول غير الترداد بضعف وبصوت واه:
- لا! لا! كفى! كفى!
وبينا صهباء تتلف كل القصص والحكايات، انحنت الأخت الصغرى على نفسها، وبكت. تحطمت كل حكاية العائلة عبر جميلة، كل حكاية المقاطعة، كل حكاية الأرض، حكايتك، يا صهباء، ما تمزقين.
استقامت الفتاة القبيحة أمامها، وساذجة لا تتوقف عن البكاء، وترفع نحو أختها وجهًا محزونًا:
- ماذا فعلتُ لكِ، قولي لي؟ ماذا فعلتُ لكِ؟
كل شيء. دون علم منك ككل مرة. أمسكتها الأخرى، وأخذت تهزها، فتقاذفت ساذجة تقاذف البحر للمراكب، حتى قنعت صهباء بإتمام عملها. ليس كل عملها. في الغالب ما كانت هناك بقية معها. حصة الشائخة، ثم حصة الشابة. عمل مزدوج على صورة جسدها.
- هذا لا شيء غير عقاب، عقاب صغير، قالت صهباء بنبرة نصف متكسرة. لم تريدي تعليمي النسيج، لهذا، ولأروِّض قلبك.
لأجل هذا، لترضي تلك الغيرة، تلك الغيرة العمياء. على عكس صهباء، كانت ساذجةُ جميلةً جدًا، بسذاجة مزعجة. أمسكت صهباء القنديل، وسارت إلى المرآة المعلقة على الحائط. أرادت النظر إلى نفسها. كانت تعرف تمام المعرفة وجهها، ولكن لإرضاء تلك الغيرة الغبية ولإذكاء حقدها على ساذجة والجمال، أرادت إثارة أختها الصغيرة حتى السُّخْط. رفعت القنديل حتى مستوى وجهها، وتأملت نفسها مليًا. كانت دميمة بالفعل. هزت رأسها، وقالت متهكمة:
- لقد ازددتُ جمالاً، أنا، أجمل النساء، أنثى الريح، العاصفة العفنة!
آه! لو تستطيع أن تتحول إلى زوبعة لتزيل بنفخة كل هذا العفن، عفن شيخوخة بالقوة في غابة من غابات الدمع والشوك! استدارت برأسها نحو أختها:
- ماذا تقولين؟
أبقت القنديل قرب وجهها، لترغم ساذجة على قول عكس ما تفكر، فأبرز الضوء الشاحب دمامتها، تجاعيدها، وفاقم أفكارها. أمسكت صهباء المرآة، وعادت تسأل أختها:
- ألا ترين أنني ازددتُ جمالاً، أنت، أيتها الدميمة؟
تقدمت، متهكمة، جلست على الركبتين، واقتربت بوجهها أقرب ما يكون من وجهها. نظرت كل واحدة من الأختين في عيني الأخرى بحثًا عن أكذوبة.
- ليس باستطاعتك لفظ كلمة واحدة تؤكد ما أقول، لأنك دميمة، نعم، دميمة، دميمة بفظاعة! قالت البنت الفظيعة.
وصفعت ساذجة صفعة هائلة.
بشعرها الشَّعِثِ، داومت ساذجة على النظر إلى أختها، وفي صدرها شعور مزدوج من الشفقة والقسوة.
- قولي، صاحت بها الأخرى.
فصاحت ساذجة مجبرة ومرغمة:
- ولكن بلى، أنت الأجمل!
- أليس كذلك؟
- أجمل فأجمل!
- وأنتِ؟ انظري إليك!
وضعت صهباء المرآة تحت أنفها:
- كيف تجدينك؟
وجه نقي وصاف كقمر نائم بين ذراعي المساء، عينان واسعتان لم تزل الدموع تتلألأ فيهما، قطرات ندى على وجنتي المخمل، شعر شَعِث يغطيها بالضوء كنجم هارب في الفضاء، كل هذا، وذلك الحزن الذي تحمله في سر قلبها، يعطيها ألقًا غريبًا مشعًا، ألقًا أسود يجعلها تسطع بجمال سماوي. أمام كل هذا الجمال، بقيت الأخرى، الدميمة، منذهلة، فاغرة الفم، ثم:
- لماذا لا تقولين إنك دميمة، يا أختي الجميلة؟
- إذا كان هذا يمتعك...
- يمتعني، كثيرًا.
- أنا بالفعل أكثر دمامة. هل أنت راضية؟ اتركيني بسلام الآن.
اقتربت ساذجة من النول.
- ماذا تفعلين؟ طلبت صهباء بصرامة.
لتبدي تفوق الأخت الكبرى، وتمنعها من الخلق.
- سأعيد عملي.
ليكون المرء مشوهًا كصهباء كل خلق يعني دونية.
- لن تعيدي عملك!
- سأجعله ينطق بحكايتك، يا صهبائي المسكينة!
- لن تجعليه ينطق بشيء!
محاصرة بكل هذه الممنوعات، أحست ساذجة بالاختناق، بالتهديد. لن تعيدي، لن تجعلي... وأطاعت. هذه المرة، أصابت صهباء هدفًا. اتجهت الأخت الصغرى إلى النافذة، الهواء المثلج، ما كان يلزمها. ولتطرد الأرواح الشريرة، كما كانت تقول جدتها.
- إلى أين أنت ذاهبة ثانيةً؟
- سأفتح النافذة لأتنفس قليلاً وأطرد الشيطان من بدنك.
- لن تفتحي النافذة! لن تتنفسي! لن تطردي أحدًا!
- وماذا أيضًا؟
- كما أقول لك.
- إذن سأفتح الباب لتخرجي... لا كما دخلت.
- لن تفتحي الباب، وسأخرج كما دخلت.
- كيف دخلت، يا صهباء؟ هلا أخبرتني؟
- ليس هذا شغلك.
- كنتِ هنا، اعترفي، يا صهباء. دخلتِ أثناء غيابي. لماذا لا تقولين لي شيئًا؟ خلعت الباب.
- الباب لا ينفع لشيء، لا أكثر من النافذة! لا شيء ينفع لشيء!
بالفعل، لا شيء ينفع لشيء. ومع ذلك، كل هذه الأوامر، كانت تضيقها. اعتادت أوامر أزلام الحاكم، ولكن بين أخوات! أقل ما يقال، لديها الحق، صهباء، لا شيء ينفع لشيء. كانت الحال مثيرة لأكبر غضب، وعلى النقيض من ذلك، خطت ساذجة بضع خطوات باتجاه النول، وفي رأسها دومًا فكرة "تخليد" جدتها. حقًا وسائلها متواضعة، لكن هذا يشغلها، يخرجها من كل هذا الجو المكرب، ومن هذا العالم المداجي، هذا العالم الزائف الذي تحيا فيه، زائف كوجه صهباء الزائف. انحنت على خيوط مِغزلها المتشابكة، فصاحت الأخرى بها:
- توقفي!
- أريد التقاط الخيوط.
- قلت لك توقفي! هي حيايا بين يديك!
حيايا زائفة. توقفت، و، ببطء، استقامت. حدقت في وجه أختها، هذا الوجه الزائف الجميل. قبل كل شيء، هي أختها، هذه الصهباء التعسة. من المحتمل لأنها اعتادت هذا الوجه الفائق للعادة، لا تجده ساذجة كريهًا إلى هذه الدرجة. قِناعها. هناك شيء جميل في وجه صهباء الدميم. خلف العادة مع ذلك، هناك الصبر الذي تديره ساذجة وقد كواها في أعماقها وفجر غضبها نارًا: ارتعش وجهها، فتحت فمها، وبكل قوة نقاء طال قمعه، انفجرت:
- لا تكوني شريرة! اتركيني بسلام!... من غير الممكن أن تكوني أختي!... من غير المعقول!... من غير المعقول!
وأخذت تتراجع أمام صهباء، وهذه تميد من الغضب، وتهمهم بصوت خشن قائلة كلمات غامضة تختلط بأصوات غير ملفوظة بوضوح:
- إذن... من أنا؟... هاه؟... من أكون، يا ترى؟... قولي!... نغلة!... ثمرة اغتصاب!... أم ابنة عاهرة؟...
من غير الممكن أن تكون غير أختها، وهي لم تكن شريرة إلى هذه الدرجة. هذا لأنها تعيسة جدًا، صهباء، وحيدة جدًا، مبعدة، مستبعدة، ملفوظة من الجميع. ارتكبت ساذجة بتهور ما ارتكبت، فتراجعت إلى أعماق الحجرة، وصهباء تلاحقها برأس منخفض:
- ابنة عاهرة! قولي، أنت الجميلة جدًا، النقية جدًا! ترين أنني أقول عنك، أنا، مليكة العناكب! أقول بصوت عال ما تفكرين! أتظنين أن أمك لم يلذها ذلك، المرة الأولى التي ضاجعها أول جندي؟... قطعت شعرها، وذرفت بعض الدموع، لكنها ما لبثت أن نامت مع ثانٍ، ثم مع ثالثٍ، ثم مع أربعين آخرين! كانت امرأة منكاحة، أمك العاهرة!... كان لها الفن والأسلوب اللذان يلذان عشرات الجنود، هذه القحبة! انظري إليّ، يا حلوتي، أنا نتيجة هذه اللذة الحيوانية التي تحملها فيها... أنا العار، الحرام، الحقارة، ثمرة الاغتصاب! تمامًا كما تفكرين!
فجأة، إذا بها تبكي، تتمرغ على الأرض، وتشد شعرها.
- لهذا السبب ولدتني أمي على مثل هذه البشاعة. أنت، أعطتك الجمال، وأنا الدمامة! أنت، أعطتك الشباب، وأنا الشيخوخة! أنت، غمرتك بالعطف والحنان، ببعض العطف والحنان على الأقل، أما أنا، أنا، فكرهتني، ولولا الحياء لرمتني في الحقول.
غزت الشفقة قلبها، قلب الأخت الصغرى، شفقة من غير قسوة، فجلست إلى جانب صهباء التي تناولت رأسها، وجذبته إلى الوراء:
- انظري إليّ! ازرعي عينيك في هذه الجيفة الفظيعة! لربما امحى القليل من شكلي المرعب! هل أخيفك إلى هذه الدرجة؟
لم يعد للكذبة مكان، وإنما للحقيقة، فقط للحقيقة. مدت ساذجة يدها، وراحت تداعب وجه أختها، هذا الوجه المسالم الفظيع.
- كم أنت طيبة، يا ساذجة! همهمت البنت الفظيعة وقد لانت، كم أنت جميلة، كم أنت لطيفة!
أدارت وجهها لعارها من نفسها. كان باستطاعتها أن تقول كلامًا رقيقًا، وتعبر عن مشاعر طيبة. لم تكن سيئة إلى هذه الدرجة، ولم تكن قوية إلى هذه الدرجة. لتغطي على الضعف، على عبء العواطف والشهوات، حاولت النهوض والهرب، إلا أنها لم تصل إلى ما تريد. أنهكها هذا الجهد، هي الضعيفة جدًا، وفي النهاية استقامت كصارية تترنح. وهذا الصوت المتكسر المتصادي:

إذا ما جاء الليل
جاءني حبيبي
إذا ما جاء الليل

قالت ساذجة كمن في حلم:
- اصغي!
أصغت صهباء.
- اصغي، يا صهباء، يا حبيبتي، اصغي!
ارتعش حاجباها لهزة خفيفة، ونظرت من النافذة:
- أسمع لكني لا أرى أحدًا، لا أرى شيئًا! لا شيء غير الأشجار والحجارة!
- أحدهم يغني لي.
- أحدهم؟
- عندليب. حدثتك عنه ذلك اليوم، ولم تريدي سماعي,
- آه! نعم، عندليب.

إذا ما جاء الليل
ضمني حبيبي
إذا ما جاء الليل

- سآتي به، قالت ساذجة بحركة لهفة.
- تأتين به؟
- نعم.
- وهل يريد المجيء؟
- سأعود معه. رافقيني لو أردت.
- لا، لن آتي. سأبقى هنا، تعرفين أين... في أعماق العتمة، في الظلام.
- لماذا لا تريدين مرافقتي؟
- تعرفين جيدًا لماذا.
ثم أضافت، وهي تخفض عينيها، كما كانت تخفض عينيها بنتًا صغيرة، تلك البنت الصغيرة الحيية التي أكربتها دمامة الطبيعة قبل أن تجعل منها دمامة الأفئدة امرأة ساقطة:
- الكل يكرهني، أنا عنكباة! أنا ضائعة من ضائعات شارع الأقحوان!
- سيحاول انتزاعك من المصير الذي لك، هو، حبيبي...
- انتزاعي من المصير الذي لي؟
- إنقاذك.
- إنقاذي!
- نعم.
- إنقاذي مِمَّ؟ ممن؟ عندما يسعى الناس إلى الانتقام، لا يجدون وسيلة أفضل مني لجذب الشر. بالعمل على تعذيبي يصل الناس إلى الانتقام من الآخرين، من كل أولئك الأوغاد الذين يزرعون الأضاليا في أرضنا، الذين يعذبون الأقاقيا في مقهانا، الذين يضاجعون الأقحوان في شارعنا.
- أنت لست سيئة بالقدر الذي تدعين، يا صهباء! ربما وجد علاجًا لدمامة وجهك، فتعودين نضرة مثلي، جميلة مثلي. نعم، يا صهباء، مثلي!

إذا ما جاء الليل
قبلني حبيبي
إذا ما جاء الليل

شاخت صهباء أكثر، دفعة واحدة... دومًا ما يبدو عمر القلوب على الوجوه.
- سيجد لك علاجًا.
- علاج! جرعة سحرية؟
- وغدًا...
- سيجد لي علاجًا؟
- وغدًا سيختفي هذا القناع.
- هذا القناع هو لحمي.
- سيجد طريقة، يا صهباء! سيجد حتمًا طريقة، وسيعود لوجهك نقاء اللؤلؤة. إلى اليوم، والناس يتباهون بلآلئ جدتنا السوداء. هل تذكرين هذه اللآلئ الإمْبِراطورية، النادرة، هذه اللآلئ النقية؟ سيكون لك نفس النقاء.
- سيكون لي نفس النقاء؟
- سيكون لك نفس النقاء.
- تبدو عليك الثقة، يا صغيرتي المسكينة، ساذجة!
- صدقيني، يا صهباء.
- سيكون لي نفس النقاء...
- نعم، يا صهباء، سأقول له...
- لن تقولي له شيئًا، يا ساذجة، لن يقول لك شيئًا، هو أيضًا!
- سأقول له، ولن يسكت، سيكرس وقته لحالتك.
- مستحيل! لن يلبث الشر أن يستعيدني. يا لساذجة الصغيرة المسكينة، تبدو عليك الثقة. في هذه اللحظة، غادرني الشر. هذه الرغبة في تدمير كل شيء، هذا الميل إلى تعذيبكم: لهذا تجدينني هادئة ورحيمة، كما تستطيعين ملاحظة ذلك. ولكن لا تكوني ساذجة إلى هذه الدرجة!
- سيقتل شرك.
- أنت متأكدة من نفسك كثيرًا، يا ساذجة! واثقة من نفسك كثيرًا!
- سيكون كما أقول لك.
- ليس جيدًا أن يكون المرء واثقًا من نفسه كثيرًا.
- سيقتل شرك، كما أقول لك.
- أنت واثقة من نفسك كثيرًا، أنت واثقة من نفسك كثيرًا جدًا!
- سينتزع الشر الذي فيك.
- الشر يسري في دمي.
- سيصفي دمك.
- إذن سيقتلني.
- لا تقلقي، يا صهباء. سيعطيك حقوقك، حقوق الأقحوان، حقوق الحياة.
ساذجة التي تريد الدفاع عن حقوق أمها كذلك، تقول فجأة:
- اسمعي، يا صهباء، يا أختي. لم تكن أمنا، على كل حال، سوى ضحية، فلا تدينيها! ليست ذئبة ولا حية ولا فرس! عامليها باحترام، هذه الأم التعسة.
والأخرى تسمع، وتحس بأختها، أختها الصغيرة، واثقة من نفسها كثيرًا، واثقة من نفسها كثيرًا جدًا.
- سأجلب لأمنا عِقدًا من الياسمين، وسأقول لها العِقد منك، وفيما بعد سأزرع ورودًا من كل نوع في حقلنا، وستغدو للورود براعم، الورود التي تحبين.
- لم أعد أحب الورود، قالت صهباء بنبرة مُكَدَّرَة.
- لم تعودي تحبين الورود؟
- لم أعد أحب الزهور، كل الزهور.
- لماذا؟
- لأني... لأني فأس، لهذا. لأني فأس هائمة على وجهها.
- والقمر؟
- أيضًا.
- لا تحبين القمر؟
- أنا عواء الذئاب.
- والعسل؟
- أنا ملح الحجر.

إذا ما جاء الليل
أبحر بي حبيبي
إذا ما جاء الليل

- هل تسمعينه؟ سأذهب.
- له صوت رقيق، عندليبك، حلو، سريع الزوال، يُسمع بالكاد، أصداؤه لا تُسمع، لا تهز الورق...

كانت زينب وأمها هناك، كشبحين مهجورين في ساحة المعدمين بالرصاص. غير بعيد عنهما، كانت العجائز الاثنتا عشرة يسهرن في مقهى الأقاقيا، ويتحدثن بصوت منخفض. كان هناك أيضًا ثلاثة قرويين، وهم يتهامسون بأقصى حذر، ويعبسون، ثم يستغرقون في صمت طويل، ولم يتأخروا عن ترك المقهى. سارعت ساذجة بقطع الساحة، وهي لعجلتها لم تلاحظ وجود أمها وجدتها. كان حبيبها ينتظرها، وهي لم تكن تفكر إلا في هذا، في اللقاء والقبلات والمداعبات. كان من العادة أن يناديها، ثم يذهب إلى مكان قصيّ قرب السور، لتلحق به بعيدًا عن الأنظار، فهو كان "غريبًا" عن المقاطعة، ولم يكن الناس يستمرئون رؤية الغريب. كانوا على خطأ، فعندليب كان شخصًا قويم السلوك، بشمائل كل سكان الساحل: عنيفًا ولطيفًا في آن. كان عنيفًا مع الأعداء، ولطيفًا مع الأصدقاء.
لمحتها أمها وأوقفتها:
- إلى أين أنت ذاهبة على مثل هذه الساعة؟
تقدمت ساذجة منها وقبلتها:
- سأعود خلال لحظة، يا أمي.
- تخرجين في هذا الليل؟ في هذا الجحيم من البرد والألم؟
- لن أتأخر، أعدك.
اقتربت جدتها بقدم متعثرة، فقبلت ساذجة يدها، إلا أنها بقيت حطبًا. الناس لا يقولون أشياء مُطْرِيَة عن بنت تخرج في الليل وحدها، أبدًا! آه! لو توقف الأمر عند هذر الناس... ولكن باستطاعة أي شخص الاعتداء على أية فتاة في أي مكان. عندما كان للعجوز عمرها، لم تكن تجرؤ على الخروج وحدها، حتى في عز النهار. كان هناك من يرافقها دومًا. وبعد لقائها الأول عند الشلال مع سيف، لم تستطع خلال شهور الاختلاء مرة واحدة بالرجل الذي حجزت له قلبها. وسيفها المسكين لم تسنح له فرصة الاقتراب منها ليكلمها، كان يكتفي بالنظر إليها من بعيد، وبالابتسام لها!
- عودي إلى البيت بسرعة، يا ساذجة، قبل أن يعتدي أحدهم عليك! أمرت العجوز.
- ولكن، يا جدتي التي أعبد، أنا كبيرة بالقدر الذي يجعلني قادرة على الدفاع عن نفسي.
- إذن كوني حذرة ولا تكلمي أحدًا.
- أتكلم مع من أريد، ليس أي واحد، ولكن مع من أريد. أنا حذرة، يا جدتي المعبودة، فلا تقلقي من أجلي!
- في عالم البؤس والتعاسة، فتاة في مثل سنها عليها أن تحذر من أقل نسمة، فمَنْ حَذِرَ سَلِمَ، قالت العجوز ذات أمارات الحجر.
- دومًا ما كانت تخرج جميلة بصحبة من يصحبها... ومع ذلك، كان الناس قديمًا طيبين، وكانت عيونهم مفتوحة، ففتح الله عليهم، قالت العجوز ذات مخالب الصقر.
- اليوم، الناس الأوادم، اقتلعت عيونهم، وأوباش الناس في كل مكان، فأخذوا كل شيء بِوَبَرِهِ، قالت العجوز ذات دموع الملح.
العجائز معًا:
- حاذرت جميلة خلال كل شبابها، وستحاذر خلال كل شيخوختها.
زينب:
- أنا أيضًا أحاذر، أنتبه، وخاصة في هذه الأيام.
كل العجائز:
- على الرغم من سنها، تنتبه، زينب. لها، ليست المسألة مسألة سن. لا غير أنها تخشى البربرية المختبئة في الإنسان، والتي ذاقت منها المر في كل أعمارها.
- أطلب منك أن تعودي أدراجك، يا ساذجة، قالت زينب لابنتها. لن ينقذك حسن طالعك، هذه الليلة.
- سأنتبه، يا أمي، وأحاذر، ولن يحصل لي شيء، أقسم لك.
أطلقت العجوز زفرة: كانت البنات طائعات في زمنها، في زمن زينب. زينب. الغالية على قلبها زينب. تداوم على الطاعة. حتى أنها تحب الطاعة. البنات في زمنها وفي زمن ابنتها كن يعبدن الطاعة. لم يكن يكرهن الخضوع. إن لم يطعن لم يكن يشعرن بكونهن بنات. إن لم يتركن أنفسهن نهبًا للتوبيخ، وفي بعض الأحيان لسوء المعاملة، لم يكن يشعرن بكونهن يعشن.
- لا تكره الخضوع، زينب، لكنها تعاند أحيانًا، تركب رأسها لحظةً واحدةًً ثم تستسلم، وتغدو بنعومة أنثى الحَمَل: ابنتها ساذجة استثناء. استثناء، ساذجة. أما الأخرى، الفظيعة، فلن تخضع إلا ميتة!
في تلك اللحظة، استدارت العجائز الثلاث نحو قامة صهباء، الواقفة قربهن منذ عدة لحظات. لا يُسْر يستعجلها، ولا عُسْر يستبطئها. راحت تروح وتجيء كالشبح، وكأنها تعبر الجدران.
- هل هو شبح الشيطان أم تمثال قادم من جهنم؟ تساءلت العجوز.
- هذه ابنتي البكر، قالت زينب، هذه صهباء.
زلقت صهباء صوبهما بخفة، لمستهما، قرصتهما، ابتسمت لهما بغرابة، فسألتها أمها بقسوة:
- أذاهبة أنت إلى لقاء الشيطان؟!
كانت تعرف إلى أين تذهب، ابنتها الكبرى: عند الفرنسيات. لم تكن زينب تجرؤ على قول إلى الماخور، فمن العار قول "ماخور". وبالنسبة لها، كان هذا المكان الملعون يثير لديها ذكريات رهيبة. على حين غفلة، ألقت صهباء بنفسها عليها، وزرعت أظافرها في وجهها، فنشبت معركة بين الأم والابنة، بين قطتين وحشيتين... توصل من كان هناك، في الأخير، إلى اقتلاع الأم من براثن ابنتها. هذا ما يحصل بين كائنين فوق العادة، ويكرهان بعضهما، فوق ذلك! غمست زينب إصبعًا في دم صهباء، ورسمت دوائر في محاولة منها لطرد الشيطان المحلق فوق ساحة المعدمين بالرصاص، والمختلط بأرواح الشهداء.
- يا مجرمة! نعقت الأم، يا غرابة!
ولتثير غبار الليل، أخذت صهباء شارع الأقحوان، واختفت في زُرْقَتِهِ.

من طرفها، أخذت ساذجة طريقًا ضيقةً وسط الأغصان اليابسة، ولسيرها السريع، جِدّ السريع، اضطرب تنفسها تأثرًا بخطواتها، وتدافعت أفكارها الغرامية. سارت بسرعة أكثر فأكثر، ركضت تقريبًا، وَلِمِسَاسِ نَفَسِهَا الدافئِ بهواءِ الليلِ الباردِ تلألأت قطرة ندى على أرنبة أنفها الدقيق. أحست بالبرد، فتلك السنة كانت ليالي الخريف باردة، ليالي صُنعت للعاشقين الذين لا يتمزقون غيظًا، وللعاشقات اللاتي يتصنعن عدم الخوف. قالت ساذجة لنفسها إن حبيبها سينتظرها في الخريف أو في الشتاء، وسيأخذها بين ذراعيه. ستعشش على صدره، ولن تشعر بقرص البرد، لن تخاف من أي شيء... لما فجأة شبك ثوبها غصنٌ يكره العزلة، وجعل قلبها يثب. ليسه عندليب، حبها، شهوتها. وعلى حين غِرة: إذا ما جاء الليل، جاءني حبيبي، إذا ما جاء الليل... عادت إلى نفسها، وأخذت تركض باتجاه الصوت الساحر:

إذا ما جاء الليل
ضمني حبيبي
إذا ما جاء الليل

- رويدك... لا تخافي!
- من هناك...؟ هذا أنت، يا عندليب؟
- هذا أنا!
بحثت ساذجة عنه في الدجى، فأحست أصابعَهُ في شعرها، وأحست بشعرها ينثال بين أصابعه. انفعلت، وهو يهمس في أذنها:
- شعرك شلال! عندما أغوص فيه بيديّ، الليل بأجمعه يغمرني، فأترك نفسي تغرق في موجه.
فك أزرار ثوب الليل، وظهر، فترامت في أحضانه. وضع شفتيه على شفتيها، وعاد يهمس:
- أحبك!
انفعلت، انجرفت. عندليب! لأنفاسه رائحة البحر.
- يا حبي، الليل بحر يغطي الأرض بأسرها! همس عندليب.
وحملته الأمواج.
- ضمني! ضمني بقوة أكبر! اجعلني خائرة القوى!
- عندما أنتظرك، قال عندليب، يخترقني هواك كنصل السيف.
- أمغرمٌ أنتَ بي كل هذا الغرام؟
- أنتِ كل شيء لي، السنابل، الأعشاش، الرند الزهريّ. أنت الشمس والقمر، أنت كل شيء لي، كل شيء.
- أنتَ كذلك.
- أنتِ روحي وأنتِ قلبي.
- أنتَ كذلك.
- أنتِ أرضي وأنتِ بحري.
- أنتَ كذلك.
- يا حبي...
ثَمِلا بنبيذ الليل، وتفتحا في رمل المساء، فذاب كل عسل النار على شفتيهما. أنتَ كذلك... أنتَ كذلك...
- يا حبي! يا حبي...
أبعدها عنه ليشدها من كتفيها، من كتفيها الهشتين، من جمالها الصافي. لعاشق البراءة والسذاجة، كل هذه الهشاشة، كل هذه البشاشة. سار بها إلى منحدر، إلى منحدر طويل، فأين يأخذها؟ كانت المرة الأولى التي تنحدر بهما الطريق.
- كوني لطيفة، رجاها، تعالي معي.
- آتي معك؟
- أستحلفك أن تأتي معي!
نظرت ساذجة إليه، وأخذت نفسًا عميقًا.
- أعرف خطورة ما نحن قادمون عليه، ولكن يجب قبل كل شيء انتشالك مما أنت فيه من خطر تتعرضين إليه. شخصيًا أنا لا أخاف شيئًا، أستطيع مواجهة كل شيء من أجل المجيء لرؤيتك، للإمساك بيدك، لتقبيلك، وسأعمل كل شيء لامتلاكك. في المقاطعة، أنتم تعيشون في مخزن للبارود والمتفجرات.
- الآن تدرك أننا نعيش في مخزن للبارود والمتفجرات؟
- أنتم تعيشون في مخزن للبارود والمتفجرات بالفعل، لهذا، أنا خائف عليك، نعم، خائف كثيرًا. أنت تصدقينني على الأقل؟
قبلته من خده، ذابت بين ذراعيه.
- تحبني إلى هذه الدرجة؟
قبلها من عنقها.
- يا حبي، يا حبي... ردد، وهما يواصلان نزول المنحدر. ستأتين، قولي لي نعم، ستأتين. لقد أعددت كل شيء... يا حبي!
- ماذا أعددت؟
- لقد أعددت كل شيء. تنتظرنا فرس وزوادة، في الناحية الأخرى من السور. وكما تعرفين، البرابرة يعرفونني جيدًا، وسيتركونك تذهبين. أمي تنتظرك على أحر من الجمر، حدثتها عنك، وهي تعرف كل شيء. حدثت أبي كذلك، وكل الأهل.
- حدثت عني كل الأهل؟
- نعم، كل الأهل. قلت لهم ستأتين، ستبقين قربي.
- وماذا سنفعل هناك؟
- سنفعل كل ما نريد، حتى القيام بجولة حول العالم، أريد أن تبقي قربي إلى الأبد.
سحبت ساذجة برفق يدها من يده، وابتعدت، وهي تغرق في تفكير لا سذاجة فيه، فللسذج من البشر أرواحٌ مُرْهَقَةٌ بالريبة وأحيانًا بالازدراء.
- ولكن هناك أهلي...
وَهُنَيْهَة بعد ذلك، وبتوانٍ، وكأنها تغترف كلماتها من أعماق البحر وجذور أشجار السنديان:
- كنت أفكر أنك ستأتي عندنا، يا عندليب، كنت أفكر أنك ستبقى بيننا، وأنك ستجد حلاً لمواجهة الموت والدمار اللذين هما قسمتنا ونصيبنا. هل تسمعني، يا عندليب؟ كنت أفكر أن إخصاب أرضنا سيتبع اتحادنا، زواجنا، أو، إذا شئت، إخصاب جسدينا، إخصاب خالد كالحب الذي أحمله لك في قلبي. هل تسمعني؟ كنت أفكر في كل هذا، والآن تطلب مني الذهاب معك تاركة كل شيء من ورائي، تاركة كل شيء يثقل هامات الآخرين، كل شيء، الأرياح أول الأشياء، لتتلاعب بنا. جدتي المسكينة هي الآن عجوز بما فيه الكفاية، وأمي أعانها الله، لم تزل في خدمة الحاكم، وأختي المغضوب عليها تبحث عن طريقة تتحرر فيها مما يكربها من عذاب علته العلة، دمامة وجهها وغرابة خلقها. هل تسمعني؟
وهو يصغي طوال الوقت... وهو لا يصغي...
- لا تقل لي إننا سنعود فيما بعد، إخوة لي وأخوات ذهبوا، ولم يعودوا... إلى اليوم. لن يعودوا أبدًا!
وهو يداوم على الإصغاء... وهو لا يداوم...
- أحبك! قالت ساذجة. أموت من أجلك، يا عندليب، يا حبي! افهمني تمام الفهم: ماذا سيكون وضعي إذا ما عرف الناس أني هربت معك؟
أراد عندليب الكلام وقول ما يريد سماعه:
- لكن...
لكنها تابعت:
- في أية حال ستكون المسكينة أمي عندما يشير الناس إليها بأصابعهم في الطريق وهم يتهامسون: يا له من زمن! هذه هي من هربت ابنتها مع الغريب الذي اختارته!
- لا تنسي هذا، يا ساذجة: حبنا لحن خالد! أقوى من كل شيء، كل شيء، كل شيء على الإطلاق!
فَتَرَت همة ساذجة بالتدريج، اختلج كل جسدها، وموجات متعة الصوت العذب لحبيبها تجوب في جسدها، فرددت حالمة:
- حبنا أقوى من كل شيء!
ثم، وهي تسترجع وعيها، سمعت نفسها تقول، كما لو كانت تخرج من حلم زائف:
- حبنا أقوى من كل شيء، لكن حبنا ليس كل شيء، لا شيء غير لحن! أغنية! خالدة؟ أشك في ذلك!
طعنة خنجر في قلبه هو المجنون بها! علا وجهها في الليل قمرًا، والهواء، راح يتلاعب بشعرها، فيتطاير شعرها في الهواء حمامًا. أختها الشنيعة صهباء، كانت تبحث عن علاجٍ شافٍ وذراعٍ قوية. أرادت أن تقول له: "هل تعرف دواءً ناجعًا يشفي أختي غير الغناء؟" إلا أنها أطبقت فمها. رأت أمها المعذبة، سطر حياتها كله، منذ اغتصابها لأول مرة. رأت التقاطيع المتآكلة لجدتها، والتي تنتظر منقذًا بنفاد صبر. تذكرت كل الأشياء الحالكة التي عاشتها، كل الإساءات، كل العذابات، كل الصلوات الطويلة التي لا تنقطع في كتاب العباد الملعونين. تقاطرت كل الصور في رأسها، وأسالت دمعتين ثقيلتين من جفنيها صورة أخيها عتريس في اللحظة التي رموه فيها بالرصاص في ساحة الجمال القديمة.
كان وجودها لا تُفصم عراه عن وجود الآخرين، أهلها وكل الآخرين الذين يعيشون مُسَوَّرِين. عند قدم المنحدر، ألقت ساذجة نظرة خاطفة على السور القائم على مقربة منها، وقالت لنفسها: يكفي أن أقول له خذني، فيحملني على كتفيه، ويطير... لا! سأقول له: لا!... سأنتصب أمامه، ربةً لمصيري... لن أتوسل، لن أبتهل... سأعيد القول: لا!... سأقول له: كنت أعتقد أنك تأتي كل يوم لتبقى معي لا لتأخذني معك، وترحل بي بعيدًا، وأنا المزروعة هنا، وأنا التي جذورها، رغم طراوتها، نسجت حَبْكَتَهَا عميقًا في الأرض... بنيّة اللون جذورها، عطرة الفوح أنفاسها، حادة الطبع جَواذِبُها. اذهب! ابتعد! لا تعد! اتركني لأوجاعي... سأقول له: لا!... سأقول له: لن أغادر أبدًا هذا المكان، طالما ظن الناس في تركه فراري!... سأقول له أيضًا: اعتقدت أنك ستقوم بكل ما يلزم لتقتل قاتلنا، أنت يا فارسي... الذي أحببت.
- ساذجة،
ساذجة العاقلة!
سوّت كل شيء مع سذاجتها
سوّت كل شيء مع فؤادها
أو تقريبًا
دون ما غِلّ
دون ما نَزْوَة
هل ستستطيع العيش دون ما حب؟
دون ما حبها الكبير؟
وحدها مع صراحتها
لن تعرف صهباء غير الكواسر من الطيور
أكثر من ألف مرة تموت كل يوم
وكل يوم يكون
صهباء وساذجة
صهباء أم ساذجة
حكايتان
حياة!

غداة العاصفة الكبيرة، لم يحتج أحد على اغتصاب جميلة وزينب اللهم إلا عاهرات شارع الأقحوان، وعلى الخصوص اغتصاب زينب، لأن هتكَ عِرْضِ طفلة بتلك الطريقة كان بمثابة إهانة لهن، ورفضن استقبال الجنود قبل معاقبة الجناة. لم تكن القضية لهن قضية ألفاظ، ولم يلقين بأنفسهن في مغامرة الكلمات، فذهبن بحركتهن حتى القيام بإضراب عن الهوى، وهن الجائعات إلى الهوى، إلى الحنان، إلى الدفء، إلى الملذات، فتيات الملذات، وذهبن حتى الامتناع عن تناول كل غذاء ما عدا الماء والسكر والشاي. كن ملائكة جريحة، ملائكة غاضبة. وكجواب، مَنَعَ الحاكم الجميع من مخالطتهن، وذلك بإغلاق شارعهن، وقَطَعَ عليهن الماء والكهرباء. يَقُمْنَ بإضراب عن الطعام، عوى الحاكم من الغضب، فلينهضن بأعباء مثل هذا فعل، ولينهين حياتهن في أحلك أيام حياتهن. يا له من زمن عاهر! عاهرات يمارسن السياسة، هذا ما ينقص! وكعادته، عرض المختار خدماته، لتجد الإنسانية المعذبة مكانها الهنيء في الجحيم. تعدى آمال الآلهة، بعد أن سبق له المساهمة في قمع ثورة فلاحية، حقيقية، حقيقة اسمها اللامعقولية، فقد كان الأقحوان الملعون يتحرك من وقت إلى آخر، هذا الأقحوان لم يولد "مسالمًا" إلى تلك الدرجة إلا في علم دلالة الألفاظ. كان القرويون يرفضون الحكم البربري من وقت إلى آخر، وكان المختار حاضرًا دومًا لتهدئة الأوضاع. بِعْنِي أرضك، أراضيك، أراضيكم، كان يقول للناس، وحافظوا على أبنائكم ونسائكم، اشتروا قطعة أرض في الجنة! في علم المعاني هذا يعني أن تُعَايِشَ جحيمًا! كان يكفي أن تكون عربيًا ومسلمًا لتدافعَ بوهمِ كينونَتِكَ عن كونك: أمجاد الأجداد، عبادة الله، ازدراء الغرباء، كل هذا كان أفضل علاج ضد الأضاليا. وسكان الأرياف أولئك لم يكونوا أنبياء إلى هذا الحد، ولكن عندما يقول المختار "حافظوا على أبنائكم ونسائكم"، بلغته هذا يعني: ورطتكم كبيرة، أترككم لمصيركم، تدبروا أموركم مع جلادكم، الذي لن يتردد! فيبيعون له أراضيهم بِحَفْنَة من النقود، ليبيعها بدوره للحاكم بِضَمّة من الأضاليا. كان يبلّغ عن الفلاحين المعاندين، أبناء الشرموطة -كما كان يقول- ويسلّم نساءهم، فيُغْرِضُ الغَرَضَ، ويغرب في الضحك. وعندما يكون في حضرة البربريّ الكبير، كان يسقط على قدميه، متوسلاً أن يوفر أسرته، فقد كان يعرف أنه لم يكن في منجى، وأن المسئولية الفردية جريمة لم يدركها الفلاسفة. عندئذ ينفجر الحاكم المتكبر ضاحكًا، وبقدمه يدفعه محتقرًا، معاملاً إياه معاملته لكل جبان. هل تعرف ما الجبان في مفهومه؟ أقاقيا زرقاء. وعلى النقيض، كان يمجد العربي الغابر، من أفلح في فتح العالم. أقاقيا حمراء. تحت عيني المختار، كان يقتل الجيران، أولئك الخوافون –كان يقول- أولئك الرعاديد! وكان يغطي بالمديح فحل الخيل العربي. لاتماثلية تماثلية. لاتناكحية تناكحية. وأثداء تلدها فخذان إلهيتان. عندما يخرج المختار، هذا الشخص الوضيع، من عند سيده السفيه، يعمل حاله فخورًا، يبرم شاربيه، ويذل القرويين الذين جاؤوا يشتكون إليه. أقاقيا خرياء. لا شيء يُشاء فوق ما يَشاء! لاإيديولوجية إيديولوجية. لم يكن يضع القدم أبدًا في مقهى الأقاقيا، لأنهم يقدمون الكحول "للكفار"، ولم يكن يحيي اللحام أبدًا ولا الفران ولا اللبان، لأنهم "يغشون". كان يرجم زبائن بنات الهوى، فالرجل الشريف عليه ألا يفعل إلا ما أمره الله بفعله: أن يعمل، أن يأكل، أن يشخ، أن يخرأ، أن ينام. والنساء، سيتزوجن ذات يوم، يجب ألا يخطئن. بخطيئة جميلة لم تهدأ العاصفة، بخطيئة زينب لم تهدأ النفوس. يجب ألا يخطئن، يجب ألا يضحكن للشمس، ألا يكشفن عن زنودهن للقمر. يجب أن ينتظرن يوم زواجهن، ويكتفين بانتظارهن. هذا الحق في الزواج الذي كان يعتبره مقدسًا رفضه لِمِقدام، واحد من أبناء عمومته، لا لشيء إلا لأنه من الصحراء، ولأن أديمه غامق. إيمان، ابنته، كانت ترغب في الزواج من مِقدام، فهو ابن عمها قبل كل شيء، ولون الأديم لا علاقة له بالعواطف. ليس ابن عمك، أجاب أبوها بصرامة، حتى أنه ليس عربيًا، هذا البدوي القادم من الصحراء الكبيرة، أو مما لست أدري. أقاقيا حمقاء. تعاطى مِقدام الخمر، وغرق في اليأس. من وقت إلى آخر، كانت إيمان تأتي لزيارته خفية، كمن ينفث قلمه على الورق، للتخفيف عنه، لتمنعه من ارتكاب "الحرام"، لتعده بألا تكون إلا له، إلا أنه داوم على إسقاء كينونته، والعبث بِكِيانه. ثم، حصل أن فقد مِقدام عقله، وهو يرزح تحت عبء رفض عمه المخزي، وإيمان عذرتها. تم ذلك في أحد البساتين، في النار الخضراء، والأضاليا البربرية تتابع المشهد بعين الرضا. غدا مِقدام مجنونًا، ولم يعد يهتم به أحد غير عاهرات شارع الأقحوان، ليسقط في أحد الأيام تحت رصاص الجنود. كان العاشق التعيس يريد حماية أحد زبائن الماخور، الهارب أمام قدره.
إذن، هدد المختار بنات الهوى بهدم السقف على رؤوسهن لو لم يضعن حدًا لإضرابهن. البنت، كبيرة أم صغيرة –قال عن زينب تلميحًا- ستفقد عذرتها عاجلاً أم آجلاً، يومًا أو آخر. المرأة صُنعت لهذا. ولتبقى في البيت، تغسل وتطبخ وتهتم بزوجها، بأولادها. لكن أنتن، على قفاكن، ما أنتن سوى قحبات، فلا تلعبن معي لعبة الوطنيات، وإلا... وهذه الماكرة: ستهدم السقف على رؤوسنا! وكل الماكرات الأخريات قهقهن، وأنشدن:

سجل
أنا كلب
ورقم بطاقتي خمسون ألف
وعشاقي ثمانية
وتاسعهم سيأتي بعد صيف
فهل تغضب
سجل
أنا كلب
وأعمل مع رفاق الكدح في بيت بغاء
وعشاقي ثمانية
أسلّ لهم رغيف الخبز
والأثواب والدفتر
من فرج
ولا أتوسل الصدقات من بابك
ولا أصغر
أمام بلاط أعتابك
فهل تغضب
سجل
أنا كلب
أنا اسم بلا لقب
صبور في بلاد كل ما فيها
يعيش بفورة القبل
جذوري
قبل ميلاد الزمان رست
وقبل تفتح الحقب
وقبل الأقاقيا والأقحوان
وقبل ترعرع الصور
أبي من أسرة المحراث
لا من سادة نجب
وجدي كان فلاحًا
بلا حسب ولا نسب
يعلمني شموخ الردف قبل قراءة الكتب
وبيتي كوخ ماخور
من القضبان والقصب
فهل ترضيك منزلتي
أنا اسم بلا لقب
سجل
أنا كلب
ولون الشعر فحميّ
ولون العين بنيّ
وميزاتي
على رأسي بصاقٌ فوقه نونية
وكفي ناعمة كالمني
تضاجع من يلامسها
وعنواني
أنا من قرية عزلاء منسية
شوارعها بلا أسماء
وكل رجالها في القصر والبستان
يحبون البربرية
فهل تغضب
سجل
أنا كلب
سلبتَ كروم أجدادي
وأرضًا كنت أفلحها
أنا وجميع أولادي
ولم تترك لنا ولكل أحفادي
سوى هذي الصدور
فهل سيأخذها
حاكمكم كما قيلا
إذن
سجل برأس الصفحة الأولى
أنا لا أكره الناس
ولا أسطو على الحلمات
ولكني إذا ما جعت
أكلت لحم عشاقي
حذار حذار من جوعي
ومن شبقي

كان بيت البغاء أفضل مكان للتغني بالمجد والحديث عن القومية العربية بكل حرية، فيه تُضَاجَعُ الكتابة في كل الأوضاع، ويقذف الكاتب في فم القارئ السطحي والناقد الغبي. وبالمقابل، لم تنس إيمان أبدًا ما فعلته هذه "السيئات" ذوات القلب الطيب لمِقدام. كانت تذهب عندهن بلا علم الجنود جالبةً الماء والسكر والشاي، فتدعمهن نفسيًا، وتخبرهن بما يدبره أبوها من خطط مع الحاكم، وبنوايا الأضاليا، وبأخبار الأقاقيا والأقحوان. ومثل كل مرة، تشكرها فتيات الليل، وتطري جمالها. مذ غدت امرأة، تألقت إيمان بأنوثتها. وذكّر جمالها بجمال جميلة يوم احتفالها بأربعين زواجها. سطعت بجمالها، ولم تكل العشيقات العابرات عن شكرها. بفضلها، واصلت الأقمار الدامسة حركتها.
عندما اكتشف الحاكم سر إيمان، رماها في السجن، على الرغم من أنها كانت ابنة المختار، "حليفه". انهار المختار، فابنته، ابنته من لحمه ودمه تعارضه، وتجعله هزأة، تعرض للخطر كل العائلة، بينما هو، يفعل كل شيء ليحفظها! عندما علم أنها شانت عرضه، أطلق رصاصة في رأسه، فأثار موته الذعر بين الناس، تمامًا كما كان الحال حين وفاة أبي جميلة، فالناس يبحثون إلى يوم الدين عن زعيم، عن حامٍ، عن إله على الأرض، وهم يجلون كل من في يده الحكم، حتى الإذلال بتلذذ. وبشكل غير مباشر، ساهمت هذه المأساة بشكل من الأشكال في إجلال الحاكم. استغلت الأضاليا الوضع لدفع بنات الهوى إلى إيقاف إضرابهن، بعضهن أُخضعن إخضاع نساء البلد الأخريات، وبعضهن طُردن لتحل محلهن باريسيات أسماهن الناس "الفرنسيات". بعد مضي بعض الوقت، عادت الفرنسيات إلى بلدهن، وجاءت أخرى، عربيات، بربريات، أو درزيات، إلا أن الناس ظلوا يسمونهن الفرنسيات. لم يعودوا يقولون كنت في شارع الأقحوان، أو سأذهب إلى شارع الأقحوان، وإنما: أنا آتٍ من عند الفرنسيات، أو أنا ذاهب عند الفرنسيات. الفرنسيات، الفرنسيات، الفرنسيات… كاسم زائف، ككود سري.

وهي تدخل بيت البغاء، نظرت صهباء إلى الزبائن، كانوا قليلين على غير عادتهم هذا المساء، وفكرت في أختها الصغيرة، ساذجة تقبل حبيبها الآن، تستسلم للمداعبات، تتغنى بالحب، وفي رأسها، قررت كل شيء. سترى هذه الليلة اختفاء دمامة وجهها. سيتحطم الشر. سيخلص جسدها من كل خطاياه. ستستعيد هويتها الحقيقية. ستكون فكرة الخير. الحق. كل الزهور ما عدا الأقحوان. كل الطيور ما عدا الحمام. ستكون خير الفكرة، كريم الآيات. كان من اللازم فعل ما عليها فعله منذ زمن طويل، ولم تزل تتردد. أمرتها القوادة بالصعود، فاستدارت صهباء: جندي! ابتسم أمام دمامتها. كان شابًا. كان جميلاً. لو لم يكن لباسه العسكري لقال الرائي تلميذًا في الثانوية. داوم على الابتسام، ودعاها إلى الصعود أمامه. كان واحدًا عن حق، السبب في دمامتها، وهي، كان يلزمها واحدٌ عن حق، لمحو كل شيء، لتدمير كل شيء. لكنها صعدت، فالنظرة الصاعقة للقوادة كانت تكفي. في الحجرة، كانت النافذة مفتوحة. إذا ما جاء الليل... عندليب. وما يدريها؟ ربما ليسه. كان عندليب بصدد عناق ساذجة، بصدد ترداد "أحبك... أحبك..." آلاف المرات، دون أن يكل. كان بصدد قتل روحه. وهو يتعرى، بان للجندي جسدُ امرأة، أملسٌ ورخو، إزميلٌ انزلق على منحدر السوء.
- لماذا اخترتني، أنا؟ سألت صهباء فجأة. لست أجمل ما في البيت.
- أنت تشبهينها، أجاب الجندي.
- من؟
- خطيبتي.
- خطيبتك.
- أنت تشبهين خطيبتي.
- أنا أشبه خطيبتك.
- اليوم تكون قد ماتت منذ سنة.
- أعد ارتداء ثيابك، أمرت صهباء جازمةً، إحياء لذكرى خطيبتك، سأقضي الليلة معك، فقط معك، ولكن ليس هنا.
- المكان خانق هنا.
- ككل مكان.
- على الخصوص هنا.
كان هو أيضًا يطارد نفسه، يبحث عن نفسه، يبحث عما فقده في يوم مضى، عمن فقده، وهي من وجد، صهباء. كان يتمنى أن يجد الأخرى، أن يجد نفسه. كان يتمنى مثلها أن يستعيد جماله، وكانت تأمل أن تستعيد الأخرى التي فيها: هو، بمضاجعتها، هي، بقتله.
عاد الجندي يرتدي ثيابه، فذهبت صهباء بيديها إلى ثديه، وبشفتيها إلى بطنه.
- ماذا قلتِ لي؟ سأل الجندي.
- كيف ماتت؟ سألت صهباء.
- هكذا.
- قتيلة؟
- لا.
- كيف؟
- موتٌ طبيعيٌّ.
- لا يوجد.
- الموت شيء غير طبيعيّ لمن لا يعرف الموت أعرف.
- إذن لا تقل موتًا طبيعيًا.
- طبيعيٌّ غيرُ طبيعيّ.
- وهل كانت حقًا تشبهني؟
- كانت تشبهك.
- هل كانت دميمة مثلي؟
- أنت لست دميمة.
- أنا الدميمة لست دميمة!
- أنت لست دميمة.
- وكل هذه الدمامة؟
- أنت لست دميمة.
غضبت، أعطته ظهرها.
- أنا لا أجدك دميمة.
- كفى، نبرت، انْهِ ارتداء ثيابك.
- ربما لستِ جميلة ولكنك لستِ دميمة.
- قلت كفى، عادت تنبر.
- المسألة كيف أراك.
- طبيعيٌّ غيرُ طبيعيّ، تهكمت.
- تمامًا، فالأشياء كيف نراها.
- وهذا، كيف تراه؟ نبرت، وهي تبدي ثديًا مدمرًا لجماله.
- كما أرى وجهك أراه.
- وهذا كيف تراه؟ عادت تنبر، وهي تبدي بطنًا مدمرًا لجماله.
- كما أرى وجهك أراه.
- وهذا كيف تراه؟ تلعثمت، وهي تبدي فرجًا مدمرًا لجماله.
- كما أرى وجهك أراه.
بكت صهباء بغزارة، فاقترب الجندي منها، وضمها بكل تحنان الأرض راجيًا:
- لا تبكي، يا حبيبتي! ستتلفين عينيك! كم مرةً قلت لك ألا تبكي؟ كم مرةً أفهمتك أن البكاء لا ينفع لشيء؟ كم مرةً شرحت لك أن للبحار عيونًا كعيوننا، وأن لا جدوى من البكاء، وكل هذه البحار التي تبكي علينا؟ أنا هنا، وسأبقى هنا، قربك. عديني بألا تبكي، عدي حبيبك! أحب عينيك، أحب شفتيك، أحب ثدييك، أحب فخذيك، أحب كل جسدك، أحبك كلك، يا هدية الحياة لي!

جلست العجائز الاثنتا عشرة حول أكبرهن سنًا في ساحة المعدمين بالرصاص، وهن بين الخوف والشك، الخوف الحقيقي والشك الموجع، المعذب، المنتزع من الروح حرية رؤية الأشياء بوضوح. بدأن الكلام من النهاية، نهايتهن، هن الممقوتات. في نهاية المطاف، طردهن الحاكم كلهن. كان من اللازم أن يقع هذا يومًا، حتى الماكينات الأكثر متانة، يبدلها المرء بعد مضي بعض الوقت. كن أقل متانة من الماكينات، ومع ذلك. ماذا كان باستطاعته أن يجعل منهن أكثر، الحاكم، يا رب السماء! قردات؟ خنزيرات؟ ضفدعات؟ جعل منهن حشرات طفيلية، هذا يكفي! ورغم ذلك، وعد بإبقائهن في خدمته ما بقيت قوة فيهن، ولم تزل فيهن قوة! لنقل البقية الباقية، فهن عملن كالثورات، كالأرواح الحيوانية، كالعبدات، إلى حد العُقْر، وهن كددن كالملعونات! لو ترك لهن بعض الأكل كل يوم لهان الأمر، أمر البطش لا أمر العيش في منفاهن داخل بلدهن. أخذت العجوز ذات دموع الملح تبكي، والأخريات:
- لا تبكي، يا جدتي، لا تبكي
أنت تحرقين لي قلبي
أنت لا تقدرين على شيء، يا الغريبة، في بلدك
كن حمقاوات، فصدقنه، هذا كل ما هنالك! لو كن يعرفن ما ستؤول إليه حالهن لكن لجأن إلى الحيلة، الأريبات الصغيرات، نعم، إلى الحيلة، إلى حيلة صغيرة جدًا، تمكنهن من استعادة حريتهن قبل هذا الزمن بكثير، قبل الكثير من السنين: لكسبن كل تلك السنين التي أضعنها. إلا أن أزلام الحاكم لن يكونوا أغبياء كيلا يكتشفوهن ويعاقبوهن، وذلك بإلقائهن في جحيم سيدهم، جحيم وقودها الناس والحجارة. كل وجودهن تم ابتلاعه، تمت إبادته! فليذقن أشد العذاب بعيدًا عن جنة لا يموت المرء فيها ولا يحيا!
لا ريب أن كل واحد فقد شيئًا ما في حياته، جميلة، زينب، إيمان، صهباء، الجندي الشاب، ساذجة منذ لحظة، غواص الجميل، أما تلكن المنحلات، تلكن العجائز المنبعجات، فهن فقدن الحياة. لهذا، لم يكن يبحثن عن أنفسهن، وبقين غريبات في أبدانهن. لهذا، لأنهن كن غريبات في أبدانهن، كن قادرات على القيام بأي شيء، حتى أكثر الأشياء عبثية. لأنهن كن غريبات في أبدانهن، لأنهن كن ضعيفات أمام جَذّارهن، لأنهن كن بكل بساطة مغتربات. من السهل على مغترب أن يبدي العَداء لشخص مختلف، فقط إثباتًا لنفسه في العبث، برهانًا على وجوده في التفاهة، على كونه قادرًا على القيام بشيء فيما وراء لا قدرتِهِ، وَهَنِهِ. إذن ماذا سيفعلن غير التخلص من العجوز، النبيهة، آكلة الرجال، المدعية –هذا على الأقل ما كن يفكرن فيه ضحايا شكهن-، وبالتالي المختلفة، المذنبة، المنتمية إلى نوع آخر من البشر، نوع آخر من الأجناس... غدون ذئبات.
- ذئبات، رمت العجوز، أنتن ذئبات!
- أي نعم، أكدت العجوز ذات مخالب الصقر، وهي تخدش، ذئبات أقوى من كل الشياطين!
- ذئبات في احتفال، نعقت العجوز ذات أمارات الحجر، سيكون احتفالك، كابوسك على الأرض!
- استعدي للاحتفال بموتك، زايدت العجوز ذات دموع الملح، لذرف دموع الدم، عليك أن تدفعي الثمن عنا جميعًا!
لم يكن الموت يخيفها، العجوز، بل على العكس، عندما تفكر أن منقذها قد تأخر، قد أضاع الطريق، عندما تفكر فيما قاله غواص عما ينتظرها من موت خارق... سمعت نفسها تقول: "أيا منقذي! أيا منقذي!"
العجائز معًا:
- لم يعد منقذ هناك
كل الأبطال ماتوا
البارحة...
- لا تصرخن، تكلمن بصوت واطئ وعن الغد.
غدًا سيكون الجوع قدرهن! غدًا سيأكلن لحم بعضهن البعض خارج الأصفاد! غدًا سيجبرن أنفسهن على جبل الطين! ما العمل؟ هذا "الغد" الهالك يطرح عليهن سؤال الحياة، أو الموت لو شئنا، موت على موت، الأساسي، لما نعرف أين وصلت بهن الحال. ما العمل إذن، نعم، ما العمل؟ ولكن الأمر من البساطة الشيء الكثير، ستقول العجوز، يجب عدم التفكر في الأمس، هكذا لن يجعن، عجائز اليوم، عند التفكير في الغد.
- ما قلتُهُ حق، يا غواص الكهل، قالت بصوت منخفض، أمس لم يعد ملكنا، أمس ملك الملائكة! أمس الجميل للملائكة الجميلة، وأمس الدميم للملائكة الدميمة. لنكون جميلين كالآخرين، أولئك المغضوب عليهم، بإمكانهم اقتسامه، ذلك الشطر الجميل من أمسنا. كأحفادنا، الجميلين والأقل جمالاً، مع المستقبل الجميل لباسل، حفيدي. ما أقوله حق، يا صغيري غواص، كل الحق، يا جميلي!
فزعقن، وزعقن...
- ازعقن كما تشأن! تابعت العجوز. بعد قليل، سيترككن اليأس بلا صوت، ولن يكون لَكُنَّ من وسيلة أخرى غير الصيام لتخدعن جوعكن...
رسمت بيدها دائرة:
- ... وهذه الأرض الخَراب اليَباب حتى آخر الأزمان!
ثم حاولت إقناعهن:
- ما يهلكنا، نحن العجائز، التفكير في الأمس على الدوام، ولكن، في الواقع، في الطُّرُقِ التي تسمح لنا بالحصول على الطعام غدًا، حتى وإن كنا لا نأكل كثيرًا. لدينا معدات كبيرة بقدر قبضات اليد، ناشفة وهزيلة، وبحصر المعنى ليس من الضروري أن نأكل. ونحن نخطئ، نحن اللواتي عشن عيش ثلاثة أجيال أو أربعة، في بحثنا الدائم عن الغذاء، ونحن نخطئ في حمل الرمل إلى الرمل، ونحن نخطئ في ألا نتعلم من الاعتدال قليله! لو سمعت كل واحدة منكن كلامي، وحرمت نفسها من الأكل، لحققت نصرها ونصرنا كلنا.
- ما النصر نصرها؟ نصرنا؟ منذ العاصفة الكبيرة، لم نكابد إلا الجوع، كابدنا كل مرارة، وبعد ستة أيام من الطوفان، اجتاح المطر الأرض، ثم لا شيء، لا قطرة واحدة، ما عدا طوفان الدموع!
الحكيمة:
- لو صامت الواحدة منا في هذا العُمْرِ عُمْرِنَا، كل يوم، وإلى يوم الدين، لتحدت الجلاد، ولكن الشيخوخة أيضًا، هذا ما أعتبره نصرًا.
هُزْءٌ وتهكمٌ وسخريةٌ، شكلٌ ساخرٌ من أشكال الشك.
- تعيد كلمة نصر وتتكلم عن التحدي! أي تحدٍ لشجرةِ سنديانٍ عجوزٍ تَعِجُّ تحتَ جلدِهَا أَرْجَالٌ مِنَ الجرادِ الجائع؟ صحيح ما يقال: عندما يشيخ الشيطان، يجعل من نفسه ناسكًا!
العجوز:
- اسمعن! هذا ما تريده الحكمة، أما الباقي، فسيدور عليكن! ولتتذكر كل منكن هذا: نهايتنا قريبة، ومصيرنا معروف، وإذا لم نقاتل الجلاد بخير الصوم الكريم وشر الشيخوخة الجميلة، كانت كالكلبات ميتتنا، سيرموننا في جوف البحر طعامًا للأسماك، ويطعمون من لو يشاء الله أطعمه!
استقامت كل العجائز دفعة واحدة و، هن يتقدن من الحنق، سقطن على العجوز، ورحن بها ضربًا. سيلبسنها جلد النمر! سيجعلنها تنفق مثل كلبة! سيتخلصن منها في الوقت الذي يتخلصن فيه من... لا شيء، لا شيء على الإطلاق، لأن الوَهَن، حتى الوَهَن، تخلى عنهن، للوَهَن، للنَّهَك، هكذا لن يعدن يفكرن في الغد، ولن يعدن يشعرن بالسَّغَب!
ابتسمت العجوز للموت، لما فجأة رشقتهن زينب بدلو ماء قذر.
- يا لنا من غبيات! لنتركها للحياة! نرى جيدًا كيفها سعيدة للرحيل! لنتراجع! لنبتعد! لنأخذ تُرْسَ عَتَهِنا ولنهرب! لنغرق في المياه الواسعة لليل!
تسللن، وهن ينطنطن، وتركن الساحة في الليلة الظلماء.

الليل، الليل دومًا وأبدًا، هذا المخمل، هذا الخضم، هذا الفضاء اللانهائي.
الموت، التوقف، الفضاء النهائي.
نهاية الوقت.
غناءُ صَرَّارِ الليل. صراخُ بوم. جذلُ الشقاء.
الكون. إلهام الرعب.
الكون الأعمى.
الحياة تحيا في نظرته.
الحياة تغرق في صمت السواد.
اليأس.
وصَرَّارُ الليلِ هذا الذي يستجوب السكون...
أصدت خطوات صهباء والجندي والصرير، وَنَعَبَ البوم في الصمت الصارخ. غادر غراب عشه، وهو يصفق بجناحيه. هذا الجَمَثْتُ الداكنُ هو الأمل! أرادت صهباء قطع المسافة الخيالية التي تفصلها عنه للوصول إلى الأمل. هذا الجَمَثْتُ المحترقُ المتساقطُ، بينا هي تتساقط في الليل. ارتعشت ارتعاش الورق في أحضان العابثين، واهتزت اهتزاز الأغصان بين أصابع الريح. قهقهت، فتضخم زعيق الغراب قليلاً قليلاً حتى حاكى زعيق الهالكين في الجحيم.
عادت العجائز الاثنتا عشرة من الفضاء اللانهائي، وتبعثرن هنا وهناك، ليصحن بصوت خفيض:
- قهقهت صهباء كما لو كانت تقهقه أمام مشنوقين، فالشر يقهقه بفمها، ليغادر الشر جسدها، ولتقع أحداث أقل ما يقال عنها فاجعة! بانتظار ذلك، ستمتزج هذه القهقهات البهيمية بالزمن في اكتمال دورته الأخيرة، وعما قليل، سيكون ميلاد قاتل جديد نراه بأم عيننا. عما قليل، سيُسمع نواح الروابي القاحلة على إيقاع جوقة أفواهنا المثقلة بدم سنينا المنصرمة، ورقصة أجسادنا المتحجرة في أثواب حدادنا. عند ذلك، سيكون موعدنا مع من لم نعد بانتظاره. عند ذلك، سينتهي الوقت، سينتهي بالفعل، وسيموت العالم، سيموت تمامًا.
استعدت ساذجة للذهاب، فحاول عندليب إبقاءها، إلا أنها حالت دون ذلك.
- ستبحث عني أمي، قالت، وكذلك جدتي وأختي. إذا ما تأخرت، حصل شيء ليس في الحسبان.
صهباء، ويدها بيد جنديها، كانت تركض في نفس الدرب الذي استعارته أمها لما حَبِلت بها: درب الملعونين. مضت أمام الهامات العجوزة، المبعثرة هنا وهناك، الساكنة، كالشواهد الحجرية. عليها أن تستهلك سقوطها، عليها أن تعوم في المِرَّة، عليها أن تقضم الحنظل. توقفت مُوَاجِهَةً الجندي، وكلاهما بقي مسمرًا في معدنٍ مِنَ الصَّمْتِ الثقيل. تقدمت منه خطوة، وهي تخلع ثيابها السوداء قطعةً قطعةً، فما هي فاعلة على وجه التحديد؟ هل هي على وشك التحرر حقًا؟ دفع دينها للخطيئة؟ محو اللطخة المخزية؟ أم لقحها لقح البشر؟ وأي بشر! تعرت، وإذا بها تمثال عاج، الوجه قبيح، والجسد مليح، في غاية الملاحة، فأحست بالمداعبة الدامسة لثديها، وأثقلتها النظرات المسالمة لجندي بصدد الهجوم. أحست بتلك الشرارات السوداء لحب ضائع، وهي تنبجس من أعماق روحها، فاتحةً الطريق للمغامرة...
وثب، وقلبها. دفن وجهها في صدره، وغاص فيها كعلق. مص الندى، ونشق الأعماق. لعق اللهب الداكن، الطرف المر للثدي. التقى دمل اليأس، وفجره. لعق الدمل النتن، عصارة الأيام الذبيحة! استنشق مستقبلاً غامضًا لا تخشاه تلك القامات السوداء المزروعة هنا وهناك. مستقبل غامض. ملتبس. غامض. لا علاقة له بغوامض اللغة. عندئذ، تركتهما العجائز الاثنتا عشرة عاريين أمام هذا المستقبل الغامض، قبل أن تتحقق النبوءة، واختفين، كما أتين، في الفضاء اللانهائي.
تلألأت في عيني ساذجة دموع شفافة، وأرادت تركه، لا الهرب منه. بين الذهاب والبقاء، اختارت البقاء. في فلكها. لكن عندليب سقط على قدميها، وجذبها إليه. التف الجندي الصغير على نفسه في مَهْبِلِ صهباء، ونسي المرأة التي فقدها ليشرب بظمأ قلق الطُمَأنينة من أديمها ودنس النقاوة. تأثر بكل الشهوات غير المشبعة، وتلذذ بملح انتصاره. تأوهت، وهي تفكر أنها تعيش كابوسًا بالأحرى، وأن اللقاء بنفسها ليس هذا. بينا هو يفكر في جسد الجليد المستعر هذا، والذي يصهر فيه شفتيه. أَنَّت... وأَنَّت... أيها البطل، يا بطلي! أنا التي هِيَ ابنةُ اغتصابٍ شاخَ في دمي. ها أنا ذا، فينوس القرن العشرين! بين ذراعيك! مكاني الحقيقي! اشرب من كل الينابيع التي تتفجر فيّ! التهمني! اقضمني كعظمة! اسحقني! فتتني! هكذا تعيد جسدي إليّ، فأحسه، وهو يختلج، وينفتح، قبل أن أنهي هذه الحركة النَّحِسة التي ستحررني من دمامتي المقيتة! وهناك، في المكان الأقدم عهدًا، توسل عندليب إلى العاشقة الصغيرة، وداوم على البكاء عند قدميها. سيفقدها عما قليل، سيفقدها عما قليل إلى الأبد. باختيارها البقاء، اختارت ساذجة العزلة دونما تشاء. لحظة عصيبة، لحظة رهيبة. ستفقده عما قليل إلى الأبد. ستكون العزلة قسمتها ونصيبها. عزلتها مع روحها خاصة. وكيلا تكون أبدًا وحيدة في جسدها، كيلا تكون أبدًا مغطاة بالطين، كيلا تتخبط أبدًا في القذارة، كيلا تحتفظ أبدًا بالمذاق المر، كيلا تبكي أبدًا خلال ليالٍ وليال... أشارت صهباء إلى امرأة محجبة خرجت من وراء الجذوع اليابسة، وتقدمت بخطوات ثابتة، وبيدها حبل. ربطت الحبل حول عنق الجندي، وشدت. صاحت ساذجة: الوداع! وذهبت. راكضة. فجأة، أوقفتها صرخات الجندي المختنقة. رأت أختها، وهي بصدد خنق الرجل، والمرأة الأخرى تقدم لها يد المعونة. في السماء، السحاب في غليان... إلا أنه قاوم كعقرب، دافع عن نفسه كتنين. لم يكن يريد الموت، ليس هكذا على الأقل، لم يكن يريد اللحاق بخطيبته. بما أنه التقى صهباء، ها هو يحرص على الحياة. نهض الجندي على حين غفلة، ومن حولهم، غدا الليل يمامة، والحجر قربهم عقابًا. حاول التخلص من الحبل، وهو يبذل جهدًا أخيرًا، وهو يقوم بآخر محاولة للبقاء على قيد الحياة، وسقط ساكنًا دون حراك. وصلت فرقة عسكرية، فقفزت ساذجة أمام أفرادها، كيلا يُسترعى انتباههم إلى ما يحصل. استنطقوها، ثم تركوها تذهب. لما عادت إلى مكان الجريمة، لم تجد أحدًا. اختفت الجثة، وكذلك المرأتان.
عند عودتها إلى البيت، وجدت ساذجة أختها البكر وكذلك تلك المرأة الغريبة بانتظارها قرب النول.
- هذا نحن، قالت صهباء لتطمئنها. هذه وفاء، ابنة إيمان.
- آه! هذه وفاء، قالت ساذجة باستغراب.
خلعت وفاء حجابها، وقبّلت ساذجة، وروح ساذجة يحاصرها ما شاهدته. كيف تخلصتا من الجثة؟ ولماذا هذه الجريمة؟ لماذا الآن؟ لماذا وفاء؟ لماذا صهباء؟ تكلمت وفاء بصراحة موضحةً أنها كانت تريد أن تقوم بشيء من أجل الفرنسيات منذ زمن طويل، لذكرى أبيها، مِقدام، وليغفرن لجدها ما كان قد فعله فيهن. كل هذا بعيد، ومع ذلك... وبما أن صهباء كانت بحاجة إلى عون، فلم تتردد.
- دبرتِ الخُطّة أنتِ، يا صهباء؟ سألت ساذجة.
- لم أعد أحتمل، كان عليّ أن أفعل شيئَا، أجابت صهباء.
- ما أنت إلا غبية!
- أنت تخطئين، يا ساذجة.
- حمقاء! سيجدون الجثة، وسيمزقونك إرْبًا!
- لن يجدوها، الجثة هنا، في حجرتك.
سارعت ساذجة بالذهاب إلى حجرتها، فوجدت الجندي ممددًا على سريرها، الحبل حول عنقه، وهو يبدو عليه النوم. تعقدت الأمور تعقدًا كبيرًا لا يزعج مع ذلك صهباء على الإطلاق، وها هي تلقي على عاتق أختها مسئولية كل شيء، فندمت ساذجة على صد نفسها عن رجلها. الآن وقد أوقعتها صهباء في أحابيل حادث لن يجلب لها إلا جسيم المتاعب، فكرت أنها كانت على خطأ، وأنه كان من الأفضل الذهاب معه. عندما خرجت من الحجرة، وجدت صهباء وحدها.
- راحت، وفاء، قالت صهباء.
- ولماذا فعلتِ هذا؟ قولي لي، لماذا؟ مع كل المخاطر التي على وشك الوقوع، ألا تفكرين؟
- انظري إليّ جيدًا، يا ساذجة!
- ماذا؟
- لقد تبدلت، لم أعد دميمة كما كنت من قبل.
- حمقاء! أين سنخفي جنديك في الوقت الحاضر؟
فجأة، استقام الجندي خلفهما، وهو يصرخ، ويفك الحبل، ويرميه أعنف رمي قبل أن ينهار، ويغيب عن الوعي. سارعت صهباء برفعه على ركبتيها، وطلبت من أختها إحضار ما تعالج به حَرْقَ عنقه. منذ قليل، كانت تريد قتله، والآن ها هي تريد إسعافه. ليس خوفًا من إلقاء القبض عليها، فصهباء لم تعد تخشى الأضاليا. أمسكت رأسه كحبيب، ونظفت عنقه، وهي تبكي. شخص يبكي هكذا ما هو إلا عاشق. عاشقة هي. وجهٌ طفليٌّ كهذا الوجه لا بد للمرء من أن يقع فيه عاشقًا. كيف جرؤت؟ كيف استطاعت القيام بفعل كهذا؟ لقد تم تجنب الأسوأ، من حسن الحظ!
- يتنفس، قالت صهباء، وهي تبتسم وتواصل البكاء، يحيا!
لم تقل ساذجة شيئًا، كانت تنظر إلى أختها، وهي تُعنى بضحيتها باكيةً، ولم تقل شيئًا. عاشقة هي، هذا ما يُحَسُّ، هذا ما يُرى. مع ذلك، حبٌ غريبٌ هو. لا يمكن المرء أن يحب جلاده إلا إذا ما تحول إلى ضحية. هكذا تنصهر العواطف، هكذا تنصاع. على الأقل طالما يغلق عينيه. يَقِظًا، يمكنه أن يكون خَطِرًا، هذا الجندي الصغير.
- حاذري، يا صهباء، منه إذا ما استيقظ، من الممكن أن يغدو شيطانًا هذا الملاك.
- لا تقلقي، يا أختي الصغيرة، أنا خطيبته، قال لي.
لم تقل ساذجة شيئًا: أن تحاول قتل أحدهم، فعل كهذا يدفع إلى توبيخ نفسك، على الرغم من كل شيء، تشويش أفكارك...

- والآن، قال غواص الشيخ، مصائرٌ ثلاثة تصير، مصائرٌ هي في حقيقتها واحدُ المصير. مصير زينب ومصيرا ابنتيها. ستذهب ثلاثتهن سعيًا وراء السعادة لأجل بعثها على هذه الأرض، إلا أن دروبهن ستتغاير، وأبدًا لن تتقاطع. وكذلك ستتغاير وسائلهن، أمانيهن. ستستعد ثلاثتهن للتضحية بأنفسهن أيًا كان الثمن، فإلهة الخصب أمرت، وهن ما عليهن سوى السمع والطاعة! ساذجة، الأكثر شبابًا، الأكثر جمالاً، عليها الإنجاب مني. بفضل سني وحكمتي، سأفضي بها إلى الإنسان فيها، إلى خلود صنعها ومن صنعها إلى صنع الأرض الذي فقدته بعد النار الكبيرة. صهباء، الأكثر دمامة، ستواصل الإنجاب مع الجندي الوديع لِغَلِّ الشر بالشر في صالح الخير، ومن يقول الخير يقول الأرض الخضراء وازدهار الحياة. ستتحقق نبوءة عقلاء شيوخ الجبل في نصفها، وفي نصفها الثاني عندما تأخذ أمهما الطريق إلى البحر الكبير لتلد من جديد. ستجهل كل ما ينتظرها، نعم، النبوءة! نعم، الطفل الخائن! نعم، الحلم الجديد، المختنق، ككل حلم جديد! سيكون في حريتها ما وراء السور ضياعها، وستسقط، واحسرتاه، ضحية مصيرها، دون أن تعلم، ودون أن تستطيع فعل شيء.

قالت زينب لأمها:
- سأذهب هناك حيث تنمو الشجرة التي تشبه التنين ذا الرؤوس السبعة، وببلسم أوراقها سأطلي جراحي، فتبرأ.
رأتها العجوز عاقدة العزم على الذهاب، فابنتها تكابد الأوجاع. ستتركها تذهب، قالت العجوز لنفسها، لتتنفس بعض الشيء، لتتحرر من هذا المعتقل الكبير الذي هو الحياة وراء السور. ستشعر زينب بالحرية، وستبرأ في روحها وجسدها، وربما أعادت الذراع المنقذة معها. وبينا هي تفكر في نبوءة عقلاء شيوخ الجبل، فكت أمها سن الذئب من عنقها، وأعطتها إياها:
- ستسمح لك هذه بِعَضّ الفواكه الفِجَّة وقضم القشور، وإذا ما ضعت في عالم لا يعرفك ولا تعرفينه، ستدلك على الطريق كحيوان وفيّ، هذا على الأقل ما قالته لي ساحرة في سالف الزمان. وعلى أي حال، خذي حذرك من الذئاب، يا ابنتي، لا تقتربي منها، لا تتكلمي معها، لا تثقي أبدًا بها.
ربطت زينب السن حول عنقها، فازداد الضباب كثافة. ليس كل شيء على ما يرام! لكنها قررت الرحيل، الركض من وراء فكرة كاذبة، القيام بآخر محاولة. لم يكن المنفذ الذي تركه غواص الشيخ في السور غيرَ بابٍ إلى الما-وراء، هناك حيث الحرية حرة والحماية حامية.

- ومن الناحية الأخرى للجبال، تابع غواص الشيخ، ستكون الشمس الدافئة، أشجار البرتقال، الطيور الخضراء، وأشجار الإجّاص! سيكون الهواء النقي! ستسير مع الوديان التي ستسير معها، أو التي ستطير معها كما لو كانت لها أجنحة، وستشير إليها الأشجار بأصابعها، أو تخفق كالأشرعة، ومن جذوعها، سيصنع النمل الأسرّة أو السفن. ستدور الشمس دورتين، ولن يكون الليل سوى إشارة سريعة. ثم، ستصل قرب الماء، وتظن، في البداية، أنه ماء البحر الكبير، إلا أنه ماء حلو. عند ذلك، ستعرف أنها ضلت، وستطلب إلى سن الذئب دون جدوى أن تدلها على الطريق، ولكن هذه المرة، سيحل ليل دامس محل النهار، ويواصل دورته ببطء. سيخيفها الليل، ستخيفها الأمواج، وستعتبر النجوم السوداء المتراقصة على الهضبة أطفالاً، وعندما تصل فوق، ستكتشف أنها حيوانات متوحشة ذات شعر أصهب. ستصيح، فيهرع إليها أمير أجمل من بدر، أقوى من ظبي، أسرع من سهم. ولولا النجوم السوداء، لقتل الحيوانات المتوحشة ذات الشعر الأصهب والأطفال!
سيكون الليل دامسًا، فيقودهما ضوء عينيهما ليجلسا تحت شجرة نخيل سامقة. سيأخذها بين ذراعيه، وستأخذه بين ذراعيها. سيعانقها، وستعانقه. سيطلب إليها أن تعطيه شيئًا يكون عهدًا، ويحفظه منها عُرْبون الوفاء، وستعطيه التميمة التي أعطتها أمها إياها. سيشكان في حقيقة لا يرقى إليها الشك، وسينام كل منهما بين ذراعي الآخر، عاريًا، إلى جانب بندقية.
في الصباح، ستبدو لها حقيقة ما كانت عليه الليلة التي عاشتها، أجمل ليلة عاشتها، أقصر الليالي، أترعها حدبًا وتحنانًا، عندما ستكتشف أن الرجل الذي نامت بين ذراعيه، عارية، كحية في جوف تفاحة، لم يكن آخر غير ولدها، باسل! ستتركه لحلمه الملعون، وستذهب راكضة دون أن تدري إلى أين. سيتبعها ذئب، سيكلمها، سيأخذها بالقوة بين ذراعيه، وسيقوم بفعل العشق معها. لن تستحم في النهر المقدس، وبصحبة الذئاب ستتيه تسعة شهور.

قالت ساذجة لغواص الشيخ:
- ذهبت أمي ولم تعد، ذهب حبيبي ولم يعد! أنا لا أخ لي ولا أب! أنت، الحكيم، كن عائلتي! أنت، الشيخ، كن حياتي! كي أعيد لهذه الأرض الحياة أطول ما تكون عليه!
حاول الشيخ أن يثنيها عما تريد:
- اذهبي، أنت كذلك، ولا تعودي!
- لقد اتخذت قراري.
- ستكونين عبئًا.
- عليّ أن أفعل فعلتي معك.
- لن تفلتي من مطاردةِ ولدٍ غيرِ مخلص، ولن أكون لك مخلصًا.
سحب من غليونه نفسًا مديدًا، ثم نهض، وهو يفكر أن ما تطلبه منه ساذجة مستحيل، وما تريده من العبث أكثر عبثًا، وراح بقربته يضرب حجرًا. يضرب، يضرب، يضرب...
- أين الماء؟ استشاط. أين المعجزة التي طال انتظارها؟
تمددت أمامه، ورفعت ثوبها حتى وَرِكيها. من الضروري، لأجل الأرض، من اللازم. من اللازم تجربة كل شيء، مع احتمال أن تكون هالكًا من الهالكين. فتحت ساقيها، وأمرته بنبرة لا نقاش فيها:
- اضرب بعصاك، وفجر مني اثني عشر نبعًا!

- إذن، تابع غواص الشيخ، ستسمرانني هاتان الفخذان المصبوبتان، المبدَعتان، في مكاني عقربًا عض نفسه دون أن يشاء، ولن أقول شيئًا، لن أتحرك قيد أُنملة. وفي اللحظة التي ستجذبني فيها إليها، ستسقط دمعة من عيني على خدها: سأكون عاجزًا عن إنجاز فعل إخصاب الحياة! لكني لن أختار الموت، مع أنني لم أقدر على جلب الماء، أنا، ابن الماء، فأنا ملتزم بإحضار الخصوبة للأجساد، وستكون هناك أضحية، سيكون الثور أضحية.
ستصل العجائز إلى مكان يقال عنه مملكة الثور، يعيش الثور فيها بكل حرية منذ غابر الأزمان. لم يصطده أحد لما كانت الأرض خصبة، ولم يفكر أحد في اصطياده خلال كل هذه السنين العجاف. سيسمعنه، وهو يزلزل الأرض تحت حوافره، فتهرب بعضهن، وتبقى بعضهن بسكين في اليد أو حجر، وسينتظرن اللحظة الحاسمة، الحاملة لإشارة. سيأخذ الثور بالحراك، فيهتز الليل على قرنيه، ويتلألأ السكين، ويدور الحجر. وكجبل ينهار، سيسقط الثورُ القربانُ، دون حياة. سَتَنْضَحُنِي العجائز بدمه لتعيد إليّ رجولتي، وسأجامع ساذجة. سيتفجر بركان من الجمر، وستصرخ من اللذة والألم. وبعد جماع ثان، ستسقط حبلى. سَأُوَرِّثُهَا الحكمة والمعرفة وكل ما هو إنساني فيّ، وسأموت. سيدفنونني هناك حيث وُلدت، في نهر الشهوة. من الماء جئت، وإلى الماء سأعود.
أما صهباء، فستذهب إلى لقاء جنديها السلميّ، والشمس لن تختفي بعد على جناحي صقرها. ستطغى رائحة المشمش المحاصر، وستبدو السماء زاخرة بالبنفسج. سيقومون بفعل العشق للمرة الثانية، والعجائز يراقبنهما حتى النهاية. بعد ذلك، سيقيدن الدميمة بالسلاسل، وهي عارية كلها، ويلبسن الجندي لباس النساء، بثديين، وجديلتين، وفستان أبيض يجر على الأرض. سيأمرنه بحمل صهباء حتى معبد مهجور، على مقربة من جدتها، وستقترب جدتها منها بشفرة، وتختنها. والحال هذه، حتى التأكد من وقوعها حبلى كأختها الصغرى، أرملةُ القَدَرِ هذه لن تتوق إلى ذكر ولن تضاجع الشيطان في شارع الأقحوان.

بصحبة عدد آخر من النساء، ذهبت العجوز لاستقبال زينب. كان الضباب كثيفًا كما كان عليه يوم رحيلها، منذ شهور تسعة. أول ما عبرت السور، رأين بطنها الضخم. إذن فهي حبلى من ذئب، مسكينتي زينب، كما تنبأ شيوخ الجبل العقلاء، قالت العجوز لنفسها، وهي ترزح تحت ثقل كل ألم الإنسانية. يا لتعاستنا! رمت زينب العجائز واحدةً بعدَ واحدةٍ بنظرة مليئة بالحقد، دون أن تحيي أيةَ واحدةٍ منهن، ومضت، خاضعة، خانعة، كمن يرزح تحت عبء الإثبات. بقيت العجائز هناك، وهن ينظرن إليها، دون أن يبذلن أقل حركة. لم تول المعنى المجازي اهتمامًا كبيرًا، وتركتهن بعيدًا من ورائها.

- سَيَؤُونُ بعد ذلك أوان الولادة، تابع غواص الشيخ، ستطلق زينب صرخة مروعة، ولن يكون هناك قمر في هذه الليلة، والضباب سيكون سميكًا. ستُحضر العجوز الرمل بدل الماء، وفجأة، ستكتشف ابنتها مشنوقة على غصن ملعون، وساذجة الحبلى واقفة أمامها، بينا قدما أمها تتأرجحان على ارتفاع عينيها. ستجري الولادة وسط دموع العاشقة الصغيرة، من صُلْبِ اللاشيئية: ستُدخل العجوز يدها بين ساقي المشنوقة وتسحب الصبي الأول، ثم الصبي الثاني، وكلاهما سيكون على صورة صهباء، الدميمة، وعلى رؤيتهما، لن يكون للعجائز سوى سكب دموعهن، لأنهما، عندما سيصبحان في سن الرجال، أحدهما سيحب الأعداء والآخر سيبغضهم. ولكن كيف سيعرفانهما لفرط ما يشبه المحب للأعداء الكاره لهم شبه التمساح للعَظاية؟ لم يقل عقلاء شيوخ الجبل كل شيء، وستزرع النبوءة الشك في الصدور.

زلقت الخطوات. خطوات سوداء. هامات سوداء. مائة امرأة وامرأة في ثياب الحداد. ثيابهن ثياب كل يوم حقًا، ولكن ليست ليوم كهذا. تقدم النعش الموكب... وهذا الغناء المأتمي:

أنتِ مُتِّ
كلنا سنموت يومًا
لا باقِيَ غير الله...

نحيب مُرّ مثقل بالحزن، إلا أنه مثلج، شجيّ. نحيب ساذجة. صهباء حبلى، والعجوز كقطعة من الخشب يابسة. اتجه الموكب الأسود إلى المقبرة... فجأة، قهقهت صهباء بفم الشيطان، وكأنها ترى في الموكب موكب زفاف. أدارت العجائز بوجوههن إليها، وحططن عليها نظراتهن الفاحصة، وجباههن عابسة. رأت رؤوسهن، وهي تقفز على الأرض، وتغدو أقنعة دامية، فتتضاعف قهقهاتها، وتتنامى مع الصدى.

- في حكاية الموت والحب، تابع غواص الشيخ، الليل والنهار، ولادتان جديدتان ستكونان. صهباء، الابنة المشوهة، المصوغة من ضلع اللعنة، وأختها، ساذجة، المصوغة من ضلع الرحمة، ستضع كل منهما صبيًا بسماوي جمالِ عَمِّهِ، من ارتكب ما لا يُرْتَكب مع أمه دون أن يعلم، ولكنه سيعلم في يوم من الأيام.
بانتظار هذا اليوم المُقَدَّر، سيكون الميلادان في اللحظة نفسها، من غير جهد الصغرى ولا ألمها، ولكن مع أوجاع قيصرية للكبرى، ستضطرها إلى اللجوء خلال سبع ليال إلى ذراعي جنديها الوديع قبل عودتها. عندما سترى أن ابنها ليس على صورتها، ستعلن أنه ليس ابنها، فتفتح العجوز فم الطفل، وتنفخ فيه، لتقول لا حليب من امرأة حليبه حتى تنبت أسنانه. سيكون بين الصبيين الدميمين والصبيين الجميلين وريثٌ، هو من ستختاره. سيقر تصرفها عقلاء شيوخ الجبل، وستعكف على نفسها بانتظار عودة منقذها.

مضت السنون، وتعاقبت الأيام والليالي، وآوت لياليُ من ليالٍ الموتَ والحبَّ كلَّ مساء قبل أن تَمّحي أمام مِشعل الصباح. ارتقبت العجوز، وقد أعوزها الحب، أن تستعيد، هي أيضًا، حقوق الموت. حتى الموت العادي، على عكس ما توقع غواص الشيخ. بدأ الزمن يثقل عليها، أحسته في جسدها، وهو يبني الأعشاش، طُيَيْرًا لِسَقاوةٍ، شرسًا مذ كان، يتغذى منها بتمزيق لحمها أبدًا دون أن يكبر. أحست بمنقاره ينقبها، وكان هذا، منذ اليوم الذي جرهن فيه قدرهن الثلاثيّ، قدرهن الرهيب، الثمن الذي كان على زينب وساذجة وصهباء دفعه للزمن كي تعود إلى الأرض خضرتها، كما كانت دومًا. غير أن كل شيء كان يتوقف على ماء السماء، على ما يحوي السحاب من عطاء ادعى الحاكم ملكه. كل شيء كان يتوقف على إرادة هذا المنقذ، هذا الباسل، الذي تأخر كثيرًا، والذي عليه جلب الريح والمطر، والإجابة إلى الأماني، كل الأماني، كل هذه الأماني الغالية، حتى تشبع كل الطيور الكاسرة على سطح الأرض. إلى أن كان اليوم الذي هبت فيه...

...العاصفة. جاءت بالريح، والريح جاءت بها، ووصل الحفيد مع أول هبيب. لم تهب الريح منذ سنين وسنين، فالسنون لم يعد الناس يعدونها، حتى أنهم نسوا كيف يعدون. وقرع الطبول ذاك الذي يُسمع من بعيد، كان يأتي من أبعد مكان في الكون. قرعٌ بعيدٌ، بعيدٌ جدًا، كهزيم الرعد، بعيدٌ، عميقٌ. كان لباسل وجه مبرنز، موسوم بالاندفاع والاحتدام، وعينان مضطرمتان بالآمال والشهوات. وكان لديه هدف واضح، هدفُ مقاتلٍ انتظرَ طويلاً، تألم كثيرًا. يتألم المرء عندما لا يدري ما يفعل بحريته، وتتحول الأحلام إلى كوابيس. مشى طويلاً... ليتحاشى كل أعدائه، كان عليه أن يضرب في الطرقات، أن يعبر الوديان، أن يتسلق الجبال، وها هو هنا، أخيرًا هنا! إنها الريح التي جاء بها، حملته حتى هنا، من الشرق إلى الغرب، حملته في حناياها.
توقف باسل عند ملتقى طرق، وبدت له المقاطعة غير ما كانت عليه. كانت المقاطعة كامدة اللون كما كانت عليه دومًا كالهواء، كالأشجار، كالناس، ككل شيء هنا في الصباح، إلا أنه رآها، وقد تبدلت في مجلاها. كانت نظرته. النظرة التي تتبدل ترى الأشياء بطريقة مختلفة، وهذا ما باستطاعته تبديل مظاهر الحياة. كانت المقاطعة بالأحرى حَفِيَّة: ينحني النمل انحناءه لملك، تظلل الجذوع تظللها لأمير. أحس بالأرض ملساء تحت قدميه، ولاحظ مجاملة العجائز له. عرف بعضهن، وابتسم لنفسه. عندما كان صغيرًا، كن يعطينه تفاحة أو برتقالة خِفْيَةً، خوفًا من أن يطلب الأطفال الآخرون ما يعطينه. في ذلك الوقت، كانت برتقالة أو تفاحة من بستان الحاكم تساوي وزنها ذهبًا. كان يأكل بِلَذّة، وكان يضحك. كانت العجائز يبتسمن، لتلك الضحكات، ليتذكرن ضحكة بعيدة، ليرين أنفسهن طفلات. نسي باسل كيف الذهاب عند جدته، إذن كانت مسألة ذاكرة، كل هذا التبدل، لا مسألة نظرة. ربما الاثنتان. يمكن للنظرة إيقاظ الذاكرة، فهي السلك الناقل للذكريات. ومع ذلك، نسي باسل كيف يفضي إلى ساحة المعدمين بالرصاص. اقترب من التمثال الأسود هناك، لكن عجوزًا ثانية بدت على الربوة، وأشارت إليه بالقدوم. كانت، هي الأخرى، منحوتة في الصخر. أنعمت كلتاهما النظر إليه، والحواجب جمدتها السنون التي لم يعد الناس يعدونها. صعد المنحدر و، عندما أراد استفسار الحجارة، لاحظ على السفح الآخر ألف عجوز أو أكثر، وهن يقفن ساكنات بانتظاره...
أخيرًا، دخل باسل قريته. مضى بأشباح راحت تحرك الشفاه، وكأنها، وهي تراه، تعود إلى الحياة لتستدرك الوقت الضائع. مضى تحت النظرات الحجرية، وفكر أنه يعود أخيرًا، بعد أن أجّل طويلاً عودته، أنه يصل أخيرًا: فليتقدم إذن، وليكن ما يريد...
عندما وصل إلى مستوى العجوز الأخيرة، رآها تمد ذراعها لتدله على الطريق المؤدية إلى بيت جدته. توقف قليلاً في ساحة المعدمين بالرصاص، ونظر إلى مقهى الأقاقيا. تأمل شارع الأقحوان، وعاد يبتسم. كان الذهاب عند الفرنسيات له حلمًا، تلك النساء اللاتي يلقين بأنفسهن عاريات بين أذرع عشاقهن، واللاتي يقبلن أجسادهم من كل مكان يعرينه! الحلم الذي كان يتسلط على مراهقته، والذي بقي هنا، في مكان ما من رأسه. على الرغم من ذلك، واصل طريقه إلى جدته متهيبًا، فهو يستفظع الماضي: كيفها بعد كل هذه السنين من الغياب؟ من تشبه؟ فجأة، تحرق شوقًا إلى رؤيتها، لا لشيء إلا ليعرف إذا ما بقيت كما كانت، وإذا ما قعد خبزها لذيذًا كما كان دومًا.
وهي تجلس قرب الموقد، انتفضت العجوز لما رأته. نهضت، وخفت إليه، ثم توقفت بعد اندفاع، وجمدت منه على بعد خطوتين. فجأة، مضت في عينيها من الوَجْد عاصفة، واضطرمت كالماضي: استعادت ألوانها الندية في ما مضى، رقتها، بساطتها. أخيرًا، ألقت بنفسها باتجاهه، وتناولته من كتفيه. باسل... باسلي... هل هذا أنت حقًا؟ مر طائر في سمائها، حبة قمح في منقاره. إنه هو. اقتربت بيديها الكهلتين من وجهه، ومرت أصابعها بشعره، وفي أغوار ذكراها يموج بحر من الذهب تحت النسيم.
ابتسم الحفيد، وهو يرى هذا الجسد الناحل والمحطم، وقد عاد إلى الحياة، لأنه عاد، ولأنه كان هنا، أمامها، قد انتعش من جديد. بدأت حياتها أو يكاد، ومع ذلك، عاشت عدة أجيال. لقد تبدلت، جدته، لكن رائحتها رائحة ذلك الخبز الذي كم كان يشتهيه. استسلم لها جسدًا وروحًا، وتحت أصابعها، ارتعش كزمج يعود إلى أمواج طفولته، تحت أصابعِهَا الملتهبةِ طيبة. وجفناه يختلجان بغرابة، كخفق الأمواج، أمواج طفولته التي تستقبله، هو، الزمج بلا جناحين. أما عنها، فقد كانت الجناح الذي يعوزه، وكانت تُحَلِّقُ.
- هذا أنا!
لم تزهق من اكتشافه واكتشافه، بعينيها أولاً، ثم باقترابها منه بيديها لتلمسه: كانت تريد التأكد من أنه هنا. هذا أنا! هذا أنا! لقد أفنت نفسها ريبةً خلال سنوات وسنوات، لهذا. في الوقت الحاضر، كانت تريد التأكد كليًا. في الأخير، استعادت هدوءها، كمن تكبب في عش سعادة تجعله مشعًا.
- انتظرتك! همهمت.
- ها أنا أعود! همهم.
- أخيرًا!
- نعم، أخيرًا!
انتظرته طوال الوقت، ليل نهار، خلال نومها، انتظرته... انتظرته طوال هذا الليل الطويل الذي كانته حياتها منذ الليلة الأخرى. كانت تقول لنفسها: سيأتي عما قليل، حفيدي الصغير. سيأتي عما قليل. سيكون عما قليل بيننا، ليهتم بأمري.
- قل، يا باسل، يا طفلي، هل عدت حقًا؟ هل حقًا عدت، يا حبيبي؟ قل لي إنك عدت حقًا.
- أنا عدت حقًا.
- لماذا تأخرت كثيرًا؟
- يحصل دومًا في الغربة ما يعيق، مانع، إزعاج، طارئ.
- هل هذا أنت حقًا؟ جميلي! قويي! هل هذا حقًا أنت، يا حفيدي؟ هل هذا حقًا أنت، يا أميري؟ لقد أصبحت ولدًا بهيًا!
- كنت أفكر فيك كل الوقت.
- وأنا أيضًا كنت أفكر فيك كل الوقت، فكرت في وقتك.
أمسكها من كتفيها الواهنتين، وشدها بقوة كبيرة، فتفتحت من جديد، وأزهرت ابتسامتها. امتلأ أنفه برائحة خبزها الساخن، وشيء آخر لم يميزه بعد.
- لم تزل أسنانك قوية!
- هذا كل ما بقي لي.
- يا لجدتي المسكينة! لكم كبرت!
- نعم، لقد كبرت كثيرًا! تعال!
أمسكته من يده، وسحبته قرب الموقد. أرادت أن تنزع له ثياب سفره قرب النار، كيلا يبرد. وتلك الرائحة الزكية التي تملأ رأسه، والتي لا يصل إلى تحديدها، كل ذلك الشذا. كانت ثيابه مغطاة بالغبار، فأرادت تنظيفها. رفض حفيدها، وهو ينظر إلى النار، ويفكر أن تلك الرائحة الطيبة، تلك الرائحة الزكية واللذيذة، تتصاعد من الجمر المضطرم لجدته.
- لم تزل لديك نار؟
- حطباتي الأخيرة! اجلس!
وضعت على الكرسي وسادة دمقسية.
- ارتح، يا صغيري. كنتَ بعيدًا؟
- كنتُ بعيدًا! بعيدًا جدًا!
- هل أنت تعب؟
- سأرتاح!
- هل أنت جائع؟
- لا!
- بعد كل هذه الجهود؟
- معدتي خاوية، لكني لا أشعر بالجوع. أريد فقط كأس ماء.
ذهبت إلى القربة في الحال، وملأت نصف كأس بما تبقى فيها. القطرات الأخيرة التي شربها، بروية. بارتواء. أخذ الوقت الكافي ليتذوق ماء الزمن الغابر، ليتركه يسيل في حلقه. ثم وضع الكأس، مفتننًا بالسعادة التي أمده إياها ماءٌ اشتاق إليه كثيرًا.
قالت العجوز فجأة:
- لقد انتحرت أمك، حصل ذلك منذ عدة سنوات. كانت حبلى بتوأمين استطعتُ إنقاذهما بفارق قليل من الزمن. هما من البشاعة إلى درجة حتى الشفقة يوهن عزمها!
تأوهت. كانت تعي ما تخلصت من عبءٍ يثقل لها الكتفين. في البداية، استمع إليها حفيدها دون أن يبدي أقل حركة: لقد انتحرت أمه. ظن أنه يسمع إحدى تلك الحكايات التي لدى جدته سرها، ثم، أدرك أن أمه قد انتحرت بالفعل. لقد ماتت أمه، ولن تكون هنا للعشاء هذا المساء. لماذا أقدمت على الموت؟ لم تكن تعرف جدته تمامًا. قالت إنها لا تعرف، إنها تعتقد أن أمه كانت تعيسة، تعيسة جدًا، إنها تفكر أن ابنتها فضلت الموت بعد عودتها من مدينة الخطايا الألف، لأنها ارتكبت خطيئة. لم تتكلم عن الوحي، ولا عن النبوءة. تذكرت تلك اللحظة التي غاصت فيها بيدها في جسدها بحثًا عن التوأمين، عن الصغيرين اللذين كانا يعومان في مائع دبق، اللذين كانا يزلقان، اللذين كانا لا يريدان الخروج. وكان عليها أن تكشط شيئًا، فانبثق مائع أصفر وأحمر، مزيج مقزز، أعطاها الرغبة في القيء، في بصق أحشائها. شعرت بالقرف، بالقرف من نفسها ومن حياتها، لما فجأة قرعت صرخات في الأجواء، وكل واحد من التوأمين جاء بدوره إلى الحياة. وهذا السؤال المحاصر للروح: لماذا؟ لماذا؟ لماذا، يا جدتي؟ قولي لي لماذا انتحرت أمي. أعادت قائلة إنها لا تعرف.
- قبل هذا، تابعت، قتلوا أخاك، عتريس. ما عدا صهباء وساذجة، اللتين ما زالتا على قيد الحياة، أخواتك الأخريات اختفين. ربما مُتن. لم يكن لهن عشاق، وكن عذراوات، أنا الضامنة لما أقول. ربما قُتلن. أما أخوك، فهم أعدموه بالرصاص في الساحة العامة. هو، أعرف لماذا، لأنه حاول هدم السور. حسرة على شبابه! كان جميلاً وقويًا بمثل قوتك وجمالك.
كان يفكر في أمه دومًا، لماذا انتحرت؟ لماذا لم تنتظره؟ وأخواته اللاتي اختفين كأشياء بدون قيمة، وأخوه الذي قُتل بدون سبب، لأنه حاول خرق سورٍ كان يخنقه. لماذا؟ أراد الصراخ: لماذا؟ لماذا كل هذه المذابح، كل هذه التضحيات؟ ولكن من هنا لن يسمعه العالم، وعلى أي حال، حتى من هناك لن يسعى العالم إلى سماعه. هذا العالم، هذا المتواطئ مع الأضاليا، هذا العابد للجثث التي فحمتها الشمس! لماذا... داوم الحفيد على الصمت، وثنية قاسية تبرم فمه:
- والحقل؟
- لفظه الحاكم بعد أن انتهى عطاؤه، هو حقل عجوز الآن كجدتك.
وللحديث عن شيء آخر غير كهولتها:
- صهباء، أختك الكبرى، لم تزل كما كانت على عهدك بها: دميمة وغريبة. وهي، على الرغم من ذلك، أنجبت صبيًا جميلاً، أجمل من إله! أما ساذجة، أختك الصغرى، فهي يومًا عن يوم تزداد جمالاً، وهي يومًا عن يوم تزداد حكمة، كالمرحوم زوجها، غواص الشيخ. هل تذكر غواص الجميل؟ اليوم هو غواص الشيخ. هي أيضًا أعطتك ابن أخت جميلاً جدًا، وهي تكرس نفسها للأرض، لهذا خشيتي عليها كبيرة من أن يقع لها مكروه. طبعًا ترعاني على طريقتها بنسج الصوف لي، لكن لها من السلوك غريبه أحيانًا، كزينب، أمها، رغم انفتاح روحها الذي ورثته عن زوجها – رحمه الله!
ثم بعد ذلك:
- بالنسبة لأبيك، أنت تعرف حكاية موته.
و، بانفعال:
- كان فلاحًا جريئًا ورجلاً مستقيمًا، الاستقامة نفسها! فلتكن الجنة إلى الأبد مثواه!
رأى المسكين أباه: خبأ كيسين من القمح، وفي منتصف الليل، جاء جنود الحاكم يطرقون عليه الباب، احتجزوه، والمطر يصب بغزارة، وأركبوه في عربة تجرها أربعة خيول، وقبل أن يبتعدوا به، قال لهم: لا تقلقوا، سأعود مع الشروق! ولم يعد أبدًا، لم يعد طائر السنونو، لم يروا الربيع أبدًا؟
- أذكر تلك الليلة، قال باسل، كان المطر يصب بغزارة، وذهب في عربة للمحكوم عليهم تجرها أربعة خيول.
- صَلِّ من أجله!
كان يحب صغيره باسل أكثر من كل الآخرين، كان يحبه كثيرًا... علمه امتطاء الخيل، البذر، الحصاد. علمه كذلك كيف يطرق الحديد، وصنعا معًا العجلات، عجلات كبيرة للعربة الصغيرة التي كانوا يمتلكونها. كان يعتبر جميلة كأمه، وأحبته جميلة من كل قلبها. وبما أنهم قتلوا ولدها الوحيد، قالت جميلة لنفسها إن الله عوضها عنه به، وغدا رجلاً يرفض الذل.
- مكتوب على الجبين! زفرت العجوز. وأنت، يا ابن ابنتي؟ احك لي أخبارك، يا صغيري!
- ماذا تريدين أن أحكي لك، يا جدتي؟
- كل شيء! مشتاقة أنا لسماع أخبارك... وأخبار الناس الذين هم هناك... ما وراء السور، ما وراء الجبال. هل هم أشقياء مثلنا؟ هل هم أحرار كما يقال؟ أغنياء؟ كيف أرضهم؟ سماؤهم؟ زرقاء في الصيف ورماد في الشتاء، أم دومًا زرقاء، أبدًا زرقاء، كما هي سماؤنا، حتى عشية عودتك؟ إنهم أهلنا.
لم يأت ليسرد القصص، إلا أن من وقته يبقى الكثير، حتى المساء. كان له المساء لم يزل بعيدًا، بعيدًا جدًا، حتى، طالما قل صبره للانتهاء من المهمة التي كُلف بها. طبعًا، كان يفكر أن يحدثها عن بعض الأشياء، لأنها طلبت منه ذلك، ولأنها، مذ وصوله، لم تتوقف عن الكلام، لم تمتنع عن سرد كل هذه الحكايات الحزينة، لحاجتها إلى التحرر منها والتخفيف عنها. سيقول لها القليل من الأشياء، لأنه لو حكى عنها كلها لما انتهى. إضافة إلى شوق الكلمات إلى الكلمات، ليس من أجل هذا هو هنا، ليسرد القصص، أو لينقل الأقوال. هو هنا، لفعلٍ سيغيرُ حياتَهُ، سيغيرُ الحياة.
- في أوطانهم، الناس هناك حالهم كحال الناس هنا!
لم تكن تتوقع هذا.
- يا رب، رحمتك! وأنا التي كانت تقول...
- في الواقع، عشت طوال الوقت قرب النهر الكبير، نهر الأمل والأماني الألف، أنا، ومحارب، حفيد غواص الجميل، وقلة ممن كانوا معنا. كانوا يسموننا الرجال-الطيور، وكان الله ينظر إلينا، يرشد خطواتنا.
انسجمت تعابير وجهها مع كلماته، بلا تنافر في الأصوات، ولا اختلاج في الأمارات.
- في الصباح، كنا نركض ميلاً أو ميلين. بينما كنت أركض، كان الهواء النديّ النقيّ يخترق رئتيّ، قطرات الندى تغمر وجهي، وعبير السوسن يفعم أنفي. وأنا أشق الفضاء، كان لدي انطباع وكأني أدخل في سُمْكِ النداوة والنقاء. قبل الوصول إلى الهدف، كنت أحس بجسدي وقد نتح، وهمي وقد نضح، وأكون خفيفًا كريشة. عند عودتنا، لم أكن أفكر في أي شيء كان، كما كان حالي عندما كنت بينكم: كانت تنحصر أفكاري في سلاحي، وكنت نقيًا كالهواء، كالماء. بقدر ما كنت أحس بنوع من الفرح دافعه مثل هذه التأملات، وبقدر ما كان يسمح لي هذا بالإفلات من وجع البعاد، أستطيع القول إن حياتي هناك وهنا، الآن، وخلال اللحظات القادمة، خير تبرير يمكنني إعطاءه لرحيلي من عندكم. أما عن سعادتي، فلم أزل أبحث عنها. كنت أظنني واجدها بين أذرع الفرنسيات، حلم يقظة من أحلام الشباب. عما قليل، سأجد ما هو أثمن. ربما السعادة تحت اسم آخر. شيء بحثت عنه طويلاً.
سحب التميمة، التي لم تلاحظها العجوز بعد، من تحت القميص و، منشغل البال، جعل يعبث بها بين أصابعه. لم يزل يبحث عن سعادته، قالت العجوز لنفسها. تعاسة من يواصل البحث عن السعادة أكثر إرهاقًا من تعاسة من توقف منذ زمن طويل عن أن يكون سعيدًا. ليسه بعد سعيدًا، حفيدي. تنهدت، وتنهدت، ثم، بشفة حزينة:
- أما زلت تبحث، يا ولدي؟ أما زلت تبحث عن سعادتك؟
- ربما سأجد، بعد قليل، ما بحثت عنه طويلاً، لتصبح حياتي هناك، وهنا الآن، وخلال الدقائق القادمة، الجواب الحقيقي لهجري لكم. لكني... لكني تخلصت من أشياء كثيرة، فككت كل عقد الماضي الذي يربطني بها، هذا الماضي الجهنمي الذي عشته معكم. حتى الماضي الآخر، البعيد، الفردوسي، ماضي جدي، ماضي جد جدي، والذي لن يعود أبدًا كما كان عليه. ماضينا، أنا لا أنكره، لا أنكره على الإطلاق، لأن من لا ماضي له لا مستقبل له. تحررت فقط من ضغطه النفسي عليّ، الأخلاقي واللاأخلاقي، لأتقدم. أنا ابن عصري وزماني، يكفي أن تريني، وأنا أصوّب، وأنا أصيب.
- سيف، جدك، كان مسالمًا كخروف، لم يكن له شيء من أفكارك، لكنه كان سعيدًا. أنت، لا، أنت لست سعيدًا، يا حفيدي الصغير، أنت لم تزل تبحث عن السعادة.
فرش باسل أصابعه فوق النار، وبصوت واثق:
- السعادة، سأجدها عما قليل، كما أقول لك، يا ستي. المهم أنني لم أشعر بأي خطر، في أية لحظة، خلال مسيرتي، رغم كل أولئك الأعداء الذين يترصدون لي. إنه شعور واحد واثق بما يفعل، لا يعتمد إلا على نفسه.
- أنت لم تزل تبحث عن سعادتك، يا حفيدي الصغير، وبشكل مفارق، سيبحث الخطر عنك، سيجدك عما قليل، يا طفلي. سيكون لك كل خطر العالم. انتبه إلى نفسك، يا صغيري!
إلا أن عينيه تأخذان بالالتماع التماعًا حادًا و، سعيًا إلى النظر بوضوح إلى نفسه، يصرح:
- كلما أحدق الخطر بي أراني كما يجب عليّ أن أراني.
- سيجدك عما قليل، الخطر، إلى درجة لا ترى فيها نفسك. سيحاصرونك، سيطلقون النار عليك من كل الجهات، سيقتلونك.
- لا تخافي عليّ، يا جدتي! حسبت حسابًا لكل شيء، عندما يريد المرء شيئًا، فلا حاجة إلى الخوف عليه...
وعلى حين غِرة، لاحت التميمة على ألسنة النار، وهي تقهقه، فمادت الأرض تحت قدمي العجوز: تكهن عقلاء شيوخ الجبل بذئبٍ سينام مع ابنتها... فأشارت إلى التميمة:
- لهذا الحرز حكاية أريد سماعها من فمك... أو، أقول لك، لا... لا تقل شيئًا، يا طفلي، لا تقل شيئًا. لا أريد سماع أي شيء. يا للتعاسة! آه! يا للتعاسة!
اقترب بسن الذئب من عينيه ضاحكًا:
- لا تفزعي، يا جدتي الطيبة، فلا شيء من جسيم الخطر. ببساطة، هذا وعد لن أخلفه.
- قل بالأحرى هذا وعيد!
ابتهلت، وابتهلت. ابتهلت، ثم قالت مرتعدة:
- الق بالتميمة في النار قبل أن تلقي بك فيها!
اختطفتها منه، ورمتها في اللهب، فغضب أشد غضب و، لتهدئته، أمسكت يده، ووضعتها على صدرها.
- لا تغضب، يا حفيدي، يا حبيبي! سأشرح لك.
لم تقل له الحقيقة، لتجتنب دمًا آخر غير دمها، ولأنه لم يزل يبحث عن سعادته. آه! يا للتعاسة! يا للتعاسة! سينجو أخواه اللذان هما في الوقت نفسه ابناه من لعنتهما برماد هذه التميمة، أحدهما سيكون له مخلصًا والثاني لا، إلا أنه لن يختار لا الواحد ولا الآخر، سيختار ابني أختيه، الأول سيأتي بالأقحوان، والثاني بالأقاقيا، ولن يكون تعيسًا أبدًا. هذا أفضل له! ستكون الفترة المشئومة التي تكهن بها شيوخ الجبل العقلاء قصيرة، وستنأى التعاسة إلى الأبد. سيجد السعادة أخيرًا، حفيدها، صغيرها. لهذا السبب، عليه ألا يعرف الحقيقة أبدًا، وقطعت العجوز على نفسها عهدًا: لن أكون أبدًا السبب في تعاسته، عليّ أن أحمل كل شيء، بما أنني سأموت عما قليل.
سقط المطر مدرارًا، أمطرت كما لم تمطر من قبل، وكأن السماوات السبع تصب كل مطرها. بحار من المطر سقطت لتسقي مليارات حبوب القمح المنتظرة منذ سنوات طويلة، لتملأ نهر الشهوة بكل شهوات البشرية، ولتواصل الحياة سيرها، إلى الأبد. ابتسمت العجوز لحفيدها، للمطر، ابتسمت للأرض الطافية بالمتع. كان يشبه زوجها، كان يشبه سيفًا. أمسكت يده. كانت ترغب في الغناء. رغبة مفاجأة أشبعها المطر المشتهى. عيونك أحلى من نبعات المَيّ... ابتسم لها حفيدها. بقيا هكذا ينظران إلى المطر كل النهار، ثم سقط الليل. تراقص اللهب على وجهيهما، فأشعلت القنديل. بدا أن المطر قد توقف عن السقوط. سمعاه يدق دقًا خفيفًا على السقف.
- سأقول لك شيئًا، قالت العجوز، ولكن إياك أن تعيده على سماع أحد.
اقتربت منه، حضنت كفه في كفيها، ووضعتها على قلبها.
- قلبك يدق بحدة، قال دون أن تبدو عليه الدهشة.
- مذ عدت... يشتعل الشوق فيّ، وكأني أستقبل عاشقًا.
ثم تراجعت، وهي بانفعال تردد:
- يا حفيدي! آه! يا حفيدي! يا صغيري!
وذرفت دموعها بغزارة، وقهقهت بهوس:
- ماذا جرى لك؟
- دم صباي يتفجر في عروقي.
- ألهذا تبكين؟ ألهذا تضحكين؟
- لماذا لا أبكي، لماذا لا أضحك، وأنا ذاهبة إلى الموت بعد قليل؟
سكت قليلاً، ثم قال، كما لو كان يفحص نقطة ما بعد فعله القادم:
- أنا أيضًا لدي انطباع بأنني ذاهب إلى الموت... ولكن دون ضحك أو بكاء.
- لا تقل هذا، صاحت، ابصقه من فمك!
- هذا لا يعني أن موتي قريب، أوضح. الحق أني انتظر لحظة كهذه منذ زمن طويل.
- أن تشعر بموتك؟
- بعد كل هذا المطر، أشعر بالخطر من حولي. أضرم الموت حتى أكبر المخاطر، أيقظ كل خطر يحيق بي.
- هذا الخطر الذي يبحث عنك أيضًا.
- نعم، أيضًا. أيضًا وأيضًا، قال بدون أي قلق، وعلى العكس، بهيئة سعيدة.
- وتجرؤ على أن تكون سعيدًا؟
- سبق وقلتُ لك، يا ستي، كلما أحدق الخطر بي أراني كما يجب عليّ أن أراني، ويكون لدي انطباع بكوني حرًا.
أخذت تردد بخفيف الغضب: "حرية! حرية!...". إذا ما كان هذا ثمن الخطر، قالت لنفسها، فمرحى بكل أخطار العالم. صاحت وفي عينيها الروع من ظمأ أحرق الروابي وشقق شفتيها... كرزها، كالتعسة زينب، انتحر! لكن الحقول المحترقة سترتوي، قالت لنفسها، ظمأها أقل بعد كل هذا المطر، بعد كل هذا الأمل! لم يكن باستطاعتها الانفصال عن ماضيها الرهيب، هذا الماضي اليابس كالحطب، والذي حتى أمس، كان حاضرها. الحقول الجرداء جففت دمها، ومات لحمها... بالطبع، بالطبع. من الآن فصاعدًا، ستعود إلى الحقول ليونة جسدي لما كنت في السادسة عشرة، قالت لنفسها، ليونة جميلة، رقتها، أناقتها، نعومتها، وستلبس حللها الخضراء، وستضع على رأسها إكليلاً! أصبحت نسيًا منسيًا الأشجار اليابسة التي قصفتها، وجذورها التي نبتت في مرارتها، كلها أصبحت نسيًا منسيًا... في قلبي، قالت لنفسها، سيعود الياسمين الذابل إلى الإزهار، كما كانت عليه ياسمين، شباب روحي الخالد، سيتفجر النبع، وعند غياب المطر، سيسقي الأشجار، وستورق الأغصان في كل فصول السنة!... سيستحمون في موجةِ شررِ الياسمين الأزرق! سيعود كل شيء إلى ما كان عليه من قبل، وسنتقدم كلنا! لن يكون الحاكم المرعب هنا، حتى ولو كانت له قوة شيطان باطش كسيف مدمى، حتى ولو كان سرمديًا كسجن!
- سنفجر النبع، وسنسقي الشجر، وستورق الأغصان من جديد، وسنموج في عاصفة من الياسمين الأبيض، وسيعود كل شيء كما كان... سنقتل الحاكم، وسنعطي لكل واحد بندقية لهدم السجون، قال الحفيد.
- لكنك ستبني غيرها إذا ما تبدلت، قالت العجوز، فلا تتبدل، ولا تبن غيرها!
- لن أتبدل، وأنا، منذ قرنين، قلبٌ مضروبٌ بسهم، الأزرق رمزي، والمستقبل تحت حراستي. كان الماضي السعيد مستقبلنا، وسيكون في الخرائب. في الوقت الحاضر، مستقبلنا الحاضر.
- وماذا تنتظر؟ لماذا تطيل؟ لماذا تماطل؟ ماذا تنتظر، يا طفلي؟
- أن أنتهي أولاً مع شيء واحد، عندما أنجزه، تجري الأمور مجراها.
نهضت، وذهبت إلى الخزانة. فتحت جرارًا، وأخرجت فستان عرسها المصنوع في مصر، المرصع بآلاف الحجارة الكريمة. مدته إليه، وثغرها يفترّ:
- احتفظت به لعروسك.
تناول الفستان بيديه، وتأمل رسومه المطرزة الخاطفة للبصر. رفعه أمام عينيه ليبسطه، وتلك المداحات اللاتي يمدحن: ستكونين الأسعد! ستأتين بالأولاد! لن يماثلك أحد، يا جميلة... وتلك الضربات على الطبول. تقدم من جدته، ومد إليها ثوب الزفاف لترتديه.
- وهذا العِقْد، خذه... هو أيضًا لها.
العِقْدُ الذي أهدتها إياه أمها باسم كل نساء البلد... رأتهن، ابتسمت لهن. ابتسمت لأمها، لزهرة التي تضعه لها حول عنقها. عِقْد من كل الألوان، من كل الحجارة الكريمة. أخذه من يديها، وأكثر ما شده اليَشْبُ الأحمرُ فيه.
- إني أقدمه لكِ، قال لها.
غير أن صوته ارتعش، فكل هذا، كل ما قدمت له وكل ما احتفظت لعروسه القادمة خلال كل تلك السنوات، ها هو ذا في الوقت الحاضر، هو من يقدمه لها. وقف أمام النافذة، فخلعت العجوز ثيابها السوداء لترتدي ثياب الزفاف. وفي الأخير، سمعها تقول:
- ها أنا ذا، وعلى شفتيها يطفو وهم ابتسامة.
تأمل خيال موعودته: الوجه وجه جدته، لكن الخيال خيال عروسه. داعبت بأطراف أصابعها، حجارةَ العِقْد التي ترشق أشعة العيد، مع انعكاسات لهب الموقد. اشتعلت النار فيها، وراحت تنشر الأشعة في الحجرة، في البيت، وأكثر، وأبعد.
- أنت جميلة، يا جدتي!
- هل تسخر من جدتك؟ قل الحقيقة، يا ولدي، هل تسخر مني؟
- أنت جميلة! جميلة جدًا!
اقترب منها ببطء، وهو قربها، لم تبتسم. أضاعت كل شيء: جمالها وشبابها، طاقتها. لكن هذا الثوب الذي بقدر عمر أمه بقي فتيًا وفاتنًا، وكأنه آتٍ لتوه من سوق الأعراس. سيقول البعض، الحياة ليست ثوبًا، إلا أنها ستفضل أن تكون ثوبًا على أن تغدو عجوزًا كما هي عليه اليوم، ذابلة، مُخَرَّبَة. كم كانت تعسة!
- كم أنت شقية، يا ستي! همس الحفيد.
جذبته من يده، وهي ترجو:
- لا أريد أن ترثيني! هل تسمع، يا باسل، يا ولدي، لا أريد أن ترثي جدتك!
- أنا لا أرثيك، يا ستي، وإنما أستفظع الماضي!
- الماضي؟ يا له من ماضٍ! ثم، ماذا يا ترى تنتظر؟ لماذا لا تنتقم الآن؟
وهي لا تتوقف عن جذبه.
- لماذا لا تنتقم أحلى الانتقام على التو؟
وهو لا يمنعها من جذبه.
- فيما بعد، همهم.
فتحت جرارًا آخر، وأخرجت خنجرًا مدته إليه:
- افعل! قالت وهي ترتعش, فلتفعل، يا ولدي! لماذا لا تفعل في الحال؟
بقي قليلاً يتأمل النصل الحاد للخنجر، وعلى شفرته تنجرح الظلال: ...ظلالها، والكلمات، كلماتها. احتك الماضي بالنصل، ليس الماضي الذي يعرفه، ولا الماضي الآخر، الماضي الذي عاشته، ولكن ماضي ظلها، ماضٍ عمره أكثر من ثلاثة آلاف عام، وثلاث قطرات دم أحمر تساقطت في ذاكرته. قلبه الملتهب التهب من الغبطة، وترك الخنجر يدفأ في قبضته. لم يزل لديه قليل من الوقت، قليل القليل، ثم... كانت هناك بعض الأشياء التي من واجبه القيام بها قبل ذلك، هذا مثلا... حمل بأطراف أصابعه ثياب الجدة السوداء، ورماها في النار. وما هي سوى بضع لحظات حتى شخرت النار، وفي ثكنات الجيش النار نفسها، وقد دقت، بالسخط نفسه، بالشره نفسه. وهذه الصرخات المُرَوَّعَة:
- النار! النار!
- الجحيم!
- ماء!
- ارشقوا النار بالماء!
لَوَّحَ الجنود بالدلاء، ودلاء أخرى، ودلاء أخرى.
بلا جدوى.
دمرت النار المعسكر.
تتتالى الأيام ولا تتشابه! بهذه المناسبة، النادرة في تاريخ النار، صعدت الملائكة لتتمتع برؤية المحترقين، وكل نفس تغدو لهبًا يحكي مع لهب، عما فعله في سابق حياته. في الجحيم، كانت الحياة لهبًا يجامع لهبًا، والعذاب لا يدوم أكثر من وزن أفعالنا، ثقيلة أم خفيفة. مع كل الفظائع التي ارتكبها الجنود، لم يتوقفوا عن عذابهم، وَضَيَّعَ صراخُهُم عقلَ سُرْيَةٍ من الطيور بلا عقل، فجاءت تسأل المعذبين عما ارتكبوا من معاصٍ. كانت القائمة طويلة. وبدورها، تحولت إلى شرر، وهلكت.
قال الحفيد لجدته وهو يتأمل النار:
- النار تأكل كل شيء! أحب النار على الرغم من شراستها، وأنا إذا ما نظرت إليها، رأيت فيها أماني من كل نوع، يعجز التعس الشقي عن تحقيقها. النار هي الحرب والأمل!
- أمل غواص الجمل سيتحقق في الأخير، كان يريد هزيمة النار بالنار، كي يدمر الخُيَلاءَ في الإنسان، وكل ما ليس إنسانيًا، كي يجد نفسه على درب الأُخُوّة. أُحس في أعماقي بموجة من الحرارة، و...
- لكن النار، هنا، لنا، قبل كل شيء، الحرية.
صَمَتَ. هذه الحرية، حريته، كانت غالية جدًا! ثمن النار، الجمر! حرية محرقة... مضت لحظة: سألته عما يريد أن يفعل أيضًا.
- أن أفتح النافذة.
تقدم من النافذة، ودفع درفتيها. اخترقت الحجرة هبة هواء، فانتعشت النار، وطار شعر العجوز. كالحمام الأبيض.
- هناك قنينة عطر في الصندوق، قالت.
فتح الصندوق، وأخرج القنينة. رش السرير، فتأرجحت الحجرة بين ذراعي ربيع جريء. يا إلهي! كأن الربيع قد عاد! وبينا كان يواصل نشر العطر، خرج من الصندوق أخواه اللذان هما في الوقت ذاته ابناه، وعنهما تند رائحة الراتِنْج. المعنى الخفيّ، وهي التي عزمت على إخفاء كل شيء عنه؟
- سيكون ربيعك رمادًا، يا أخانا وأبانا! قالا بصوت واحد، ولن تطلق زهرتك الشذا!
رفعت العجوز أصابعها الخشبية، وسارعت بغلق فمهما، وقد جننها اعتراف تحاشت الإدلاء به حتى تلك الساعة. أمرتهما بالعودة إلى الصندوق، هناك حيث جنتهما ونارهما، إلا أن الولدين الملعونين رفضا، وأتيا يشدان والدهما من ذراعه.
- أنت أخونا وأبونا في آن، تابعا، نحن الثلاثة، أنت ونحن، من أمنا، ونحن الاثنان، منك. منك ومن ذئب. نحن ثمرة جماع مزدوج، وقع على هضبة، قرب النهر الكبير، نحن العهد الخؤون!
تزلزلت الأرض، بينا زعقت العجائز الاثنتا عشرة:
- قل لنا إن ما فعلته لاصق بك إلى الأبد! اعتقدتَ أن إلهًا يقود خطواتك، ومن هذا الاعتقاد استمددت الثقة بالمجيء إلينا، ثم خَلَّيْتَ كل شيء، وما اعتمدت إلا على نفسك. الآنَ، أنت لا تعرف من أنت، لا تراك في الأفعال التي فعلت. غير أنك تتمنى لو تقدر على إنكار أحدها، فعل تريد الهرب منه، وفي نفسك شيء يعذبك، شيء يشبه البطولة، ويتجاوز كل سلطة بشرية. آه! كم تتمنى لو تخترع ألمًا آخر، حركة مجنونة تبهرنا كلنا.
- هاتان العينان اللتان لم تحسنا إنذاري، قال الحفيد لجدته، أعطني الآن الخنجر كي أفقأهما، فلا أرى كيف الآخرون يرونني.
- بالأحرى كي تفقأ عيني هذين الرجيمين إلى يوم الدين! ردت العجوز.
- هذان الرجيمان هما لحمي، هما دمي، إنها هذه العائلة اللعينة التي أريد أن أضحي بها قربانًا على حجارة العُقوق والخداع. ويقال عنها مقدسة، الأسرة، ويقال عنها سماوية، الأرض! أنا لا أجد أسوأ منهما.
- لم تأت لتفعل إلا ما يمليه عليك قدرك أن تفعل، وحتى اللحظة، ما هذه إلا أمور ثانوية.
- كل هذه الجرائم الفظيعة وتقولين ثانوية! صرخ مُرَوَّعًا. أي أبله كنتُ! لم يكن الصباح أبدًا وإياي، لطختني قطرات الندى، وكانت بالأحرى رائحة روث البهائم ما شممت! وأنا كنت أركض وكأن جسدَ بَغِيٍّ من شارع الأقحوان تركض في قدميّ، شارع جهنم، وقبل وصولي إلى آخر الطريق، كنتُ أحس بنفسي ثقيلاً ثقل الحديد الذي كبلت به نفسي. عشت وقتًا أسيرًا، ولم أر سوى الصحراء ما وراء الحجر!
- انتزعتَ منها الخنجر، غير أنها منعتك من فقء عينيك كما فعل من قبلك ملك مغضوب عليه، وعادت تأخذه منك، خنجر العدل واللاعدل هذا. ضحك ابناك اللذان هما في الوقت ذاته أخواك، فهما لا يعرفان أن أمك لم تكن إلا ابنة آدم، وأنك لم تكن إلا ابن حواء، وأنكما، أنتما الاثنان، لم تكونا إلا ذئبين مُدَجَّنين، وأن ما وقع عليه أن يقع! اتركهما إذن من ورائك، ستتكلف بهما النبوءة! عد إلى نشر العطر، وتعال لتكمل في الأصل ما عزمت عليه.
أجبرت العجوز الصبيين الملعونين على العودة إلى الصندوق، واقتربت من حفيدها، وهي سعيدة وتعيسة في الوقت نفسه الذي ترى فيه امحاء ابتسامتها عن شفتيها. عاد إلى نشر العطر، وأعلن بنبرة حاسمة:
- ستتحررين عما قليل، يا جدتي! وقبل أن يقيدني ولداي، سأكون عما قليل حرًا!
بدأت تختلج من جديد و، بلهجة متيمة:
- لهذا كنت بانتظارك طوال الوقت، وكلما فكرت أنك آت، شع أسفل جلدي شكل غريب من أمل غريب!
- يا لغرابة الأمل!
- ويا لغرابة الحرية!
- انصتي، قال، يقظًا، انصتي جيدًا، انشري أذنيك معي!
أنصتت.
- هناك خطوات في الخارج، قالت، مضطربة.
- الخطر هناك. هذه المرة، أنا أستأهله، هذا الخطر. يجني المرء ما يبذرُ! ها أنا أرى أخيرًا حقيقتي الحقيقية.
حدقت في خنجر العدل واللاعدل بعينيها المضطربتين، وقالت له:
- عجل، يا صغيري! انته بسرعة! حقيقتك، حقيقتك الحقيقية، أنا!
تجاهل باسل سلاح الحياة والموت، وسمع نفسه يقول، مشفقًا:
- لقد عانيتِ طويلاً، يا جدتي الطيبة!
- سأرتاح عما قليل، أنت من سيأتيني بالراحة، أليس كذلك؟ ستقوم بما يجب، أنا على يقين، لطرد التعب من جسدي المسكين.
- لا تحقدي عليّ!
- لا أحقد عليك! أترى... أستقبلك في ثوب العروس!
- هو أولاً من أجلك، ومن أجل...
- هو أولاً من أجلي! هو أولاً من أجل ستك الطيبة، هو أولاً من أجل ستك المسكينة...
مددها على السرير.
- سأحكي لك حكاية، هل تسمعينني؟ سأحكي لك حكاية وقعت لي عندما كنت هناك قرب النهر الكبير... كنت أنتظر السماح لي بالحضور إلى هنا، قربك، لأراك، لأمَسَّك، لأضمك، لأشمك. كان الحر شديدًا جدًا، ولاستعجالي أمر القائد، غفت عيني. جئتِني عجوزًا كالزمان، غِرَّةً كورود الصباح. أخذتك بين ذراعيّ، وبكيت. مسحت العجوز التي كنتِها دموعي، والغِرَّة، الجميلة، الساحرة، الفاتنة التي كنتِها قبلتني من فمي. كل الأحلام التي حُلِمَت مذ وُجِدَ الوجود غدت حُلمًا واحدًا، حُلمي. كان حُلمي قُبلتَكِ، جنتي كونَكِ... لما فجأة سمعت صراخًا. كنتِ أنت، العجوز، التي تدفع الشابة في اللهب، وأنت تصرخين صراخًا شديدًا، والأخرى تضحك... كانت تضحك، تضحك، بينا تلتهمها النار. ثم انفجرتِ باكية، لم تكوني تجرؤين على قذف نفسك في الجحيم بمحض إرادتك، لم يكن غيري من يستطيع ذلك. عندما صحوت، قلت لنفسي: جدتي المسكينة في حاجة ماسة إليّ. يجب عليّ الذهاب، يجب الاستجابة لانتظارها. للأسف، كل رفاقي قُتلوا، محارب، حفيد غواص الجميل، أولهم. لهذا تأخر مجيئي حتى اليوم.
سكت، ليتركها تبكي قليلاً، قبل أن يضيف:
- ابكيه، يا جدتي، لو لم يزل جده على قيد الحياة لبكاه. كان شجاعًا، محارب!
سمعها تردد بصوت منخفض "جميلة... جميلة..."، منخفض جدًا، لا يُسمع أو يكاد، وهي تواصل البكاء. جميلة... جميلة...
- قضيتِ وقتًا طويلاً بانتظاري، يا جدتي المسكينة!
- طويلاً... طويلاً...
- تعذبتِ طويلاً!
- ...
- سترتاحين عما قليل.
- لن يكون الأمر سهلاً.
- عما قليل، لن تتعذبي أكثر مما تعذبت.
- ستواجه صعوبات، صعوبات كثيرة، يا طفلي.
- هذه القضية المنحوسة، حكاية أمي وابنيّ اللذين هما أيضًا ابناها، قنبلة زمنية، أعرف. سأتركهما مؤقتًا من ورائي، في صندوقك. فيما يخصك، سيمضي كل شيء كما كان مقدرًا.
- ستواجه صعوبات أخرى غير التي تركتها من ورائك، ستواجه صعوبات في صندوق الحياة!
- لا تقلقي من أجلي! الصعوبات، اعتدتها.
- عليك واجبات تقوم بها، واجبات كثيرة، وستواجه صعوبات كثيرة.
- قلت لك لا تشغلي بالك من أجلي. اعتدت الركض في الصباح الخائن، وعلى الهضبة الغادرة، وتحت الشجرة الخادعة... مع الظل اللاوفيّ، والحجر الماكر، والنهر المداجي! لم يبق لي إلا الصبر ووشم المصير!
- مصيرك، هو هذه الصعوبات التي عليك مواجهتها، كثير من الصعوبات. عليك مواجهة هذه الصعوبات بصبر فلاح!
- وصبر عامل!
- يا قلبي!
وهو يواصل ترداد:
- صبر عامل... صبر عامل... صبر شاعر!
- صبر أم!
- صبر أم، صبر جدة!
- أمك ستبقى أمك، مهما كانت "الغلطة" التي ارتكبتها، وهي، حيث هي الآن، تدعو لك، مثلي أنا عما قليل، يا قلبي!
أمه أيضًا، تعذبت أقسى عذاب، ولم تعرف لا الفرح ولا الراحة. شقت أشد شقاء. السعادة التي ظنت سعادتها كانت مرة، مريرة. كانت قصيرة. كانت حلوة لكنها مرة. كانت الحلاوة المرة للهالكين. ستنتهي المرارة في حلاوة الروح، وليكن واثقًا من نفسه، المؤمن بالإنسان، العابد للشعر. فليغفر، نعم، ولكن، لن ينسى. فليبدأ كل شيء من جديد، نعم، ولكن، لن يتقهقر. شيء آخر. فليفتح عينيه واسعًا، فليكن عادلاً، فليحب الفقراء. عندئذ، سيكون مقام العادلين على الأرض. فليعمل خيرًا للكل، لفقرائنا، ولفقرائهم، نعم، من هم لدى البرابرة، لكل الفقراء، لفقراء العالم أجمع. فليعمل خيرًا لكل الأمهات، لكل الأقحوان، لكل الأقاقيا. هكذا تُجزى روح غواص الجميل، بين أذرع الشهوة، ويُجرى لابن صهباء المثل الأعلى الذي وُلِدَ من أجله. وليكن قويًا.
- خذ، ها أنا أعهد به إليك، هذا الخنجر الكريم، قالت العجوز دون تردد.
- خير خنجر!...
- خذه، ودعني ألمس ذراعك، يا قلبي! ستكون آخر رغبة لي، رغبتي الأخيرة.
مرت على أديمه أصابع خشبية، وبين أصابعه يتفتح الخنجر الكريم.
فليكن قويًا كي تكون حكمة العالم أقوى، ويكون عقله دومًا عاقلاً بقدر هواه. فليكن عاشقًا، فليكن حارًا، فليكن كريمًا. ستنظر إليه جدته الصغيرة، ستنظر إليه من فوق. ستدعو له، وستحسب خطواته. سيكون وفاؤها هي الوفاء للأرض، لنهر الشهوة، لساحة المعدمين بالرصاص. وفاؤها وغرامها. وفاؤها وتفانيها وترفعها وتعلقها وعطاؤها. عطاؤها.
- ستكون وفيًا للأرض، آه، يا ولدي؟ آه، يا صغيري؟
- سأكون وفيًا للأرض، قال وهو ينحني فوقها.
- هل تحبها قويًا كما أحبك؟
- أحبها قويًا كما تحبينني، أحبها قويًا جدًا كما أحبك!
- ستجد أدوات الحقل هنا، في المكان الخرافيّ! قالت وهي تشير إلى الصندوق. اجلخها، ولمعها، فهي صدئة من قلة الاستعمال.
- سأفعل، أجاب وهو ينحني دومًا فوقها.
- هذا العِقْد...
لكنه دفع الخنجر في بطنها، وتقطع العِقْدُ بين أصابعه و، كالمطر الملون، تساقطت الأحجار الكريمة على الأرض. ألقت عينا الجدة، العجوز، المتفجرتان بالرعب، الذعر في قلبه. لم يدم ذلك أكثر من هُنَيْهَة، ثم فجأة، أحس بنفسه فردًا آخر: بلا عوائق، بلا أغلال. كان حرًا، حرًا أخيرًا. فتنفس. طويلاً. عميقًا. عندما نهض، كانت حبة من اليَشْبِ تضيء على معصمه. وفي كل مكان، في كل زاوية، آلاف الأضواء المتلألئة، الخاطفة للبصر: آلاف العجائز المستلقية على الصخور، وهن يغلقن أعينهن، ويبقين هناك، دون ما حراك.
- هذه المرة، في المستودع، لأن ما يقع لا يقع أبدًا في نفس المكان، اثنا عشر فرخًا جديدًا تزقزق مُنْشِدةً نشيدًا للحياة، وأمها تراقبها بقلبٍ متيقظٍ يجعلُهَا تخفقُ جناحيها. هو، ها هو ينهي أولَ مهمةٍ لَهُ: الأصعب والأكثر خطورة. وها وهو يلتفت حواليه، ويكتشف خيالات كثيرة، خيالات لا تعد ولا تحصى تحاصره. صورته المتكررة، المنعكسة إلى ما لا نهاية عن كل شيء: ثوبه ملطخ بالدم، يداه ملطختان بالدم، أنفاسه ملطخة بالدم، ضوءُهُ ملطخ بالدم، ليْلُهُ ملطخ بالدم. وسماء عينيه تخلبها البروق... سيفتح الباب عما قليل، وسينطلق حتى تخوم الليل، صارخًا بأربعة أقطار العالم، في نقاء الصباح: "لست القاتل! لست القاتل!"


الكتابة الأولى الجزائر/باريس 22/3/1971
الكتابة الثانية باريس الجمعة 13/5/1988
الكتابة الثالثة بالفرنسية باريس نوفمبر 2003
الكتابة الرابعة باريس الثلاثاء 4/11/2014
















تحليل العجوز

بقلم الدكتور دانيال ريج
مستعرب اختصاصي علم الدلالات في جامعة السوربون الجديدة والمدرسة العليا للمعلمين – باريس


إنه حقًا كتاب مثالي، لأسباب مختلفة، منها أنه يجمع بين الصفات التي تتوفر عادة للآثار الفنية الصحيحة: المشاهد الحادة، الحوافز البسيطة، الشخصيات المتعقدة، الأوصاف الحارة، وكل هذا بحركة عمل واحد في مكان واحد وزمان واحد.
رواية هي؟ بلا شك! بل مأساة! مأساة كلاسيكية لكثافتها، رومانسية لفيض غزارتها، رمزية لشاعريتها... بل هي ملحمة.
كتاب مثالي حقًا لكل ذلك، ولكن عندما ألفظ هذه الكلمات أشعر بأني لا أعبر، حقيقة، عن اللَّذة التي أحسستها عند قراءتي "العجوز". هذه اللَّذة التي هي، في آن واحد، لَذتان: لَذة داخلية يثيرها التذوق الفني المحض، ولَذة ثانية، ثانوية المستوى، أثارها التذوق العقلاني. نعم! ما أريد أن أقوله: لقد أحسست لَذَّةً ثم تحققتها لا فيما سببها فحسب، لا في أصلها الداخلي لي، أو الخارجي عني: أي المضمون وما أثاره عندي فحسب، بل في آلية هذا المضمون التي كنت أشاهدها في عملها كما لو كنت شيطانًا من شياطين الكاتب... لقد أحسست بهذه اللَّذة كما أحس بنفس اللَّذة كلما أعاين لوحة ممتازة أو أستمع إلى قصيدة أو قطعة موسيقية مثيرة، أحسستها وكأنها تتفتح لإيقاع في أعماقي، أو كأني أناغمها على إيقاعها... وفي الوقت نفسه، كنت أرى نظام القصة الأساسي، وأرى نبض حياتها رؤية الطبيب الراديولوجي صميمَ الأجسام. هذا ما كان يزيدني تلذذًا، وهذا ما أريد الآن أن أعيده.
إنه نص عويص ولا يغمزك، أنت المتوغل في قراءته، لا يغمزك الكاتب بإشارة لفظية أو معنوية حتى يريحك من الضيق – إن لم يكن القلق – الذي يخيم عليك، إذ لا شيء هناك يحدث كما تتوقعه بادئ ذي بدء، فعليك أن تتقدم وحدك، في حيزية ليس فيها أي تساهل، ثم، رويدًا، رويدًا، يصدر من أعماق حساسيتك عالم أسود تتحرك فيه أشباح غامضة، وتحل الأشياء أمكنة ولا كأمكنتها العادية، عالم لا يشغل فيه الحيز أي مكان. كليدوسكوب؟ ( أو صندوق الدنيا، كما قال المازني في روايته الشهيرة ) كليدوسكوب؟ ربما! غير أن كل صورة من الصور التي تتكون أمام عينيك لا تحل محل سابقتها، ولكنها تنطبع فوقها. ربما إذن! غير أن هذه الصور التي أتيح لنا أن نراها، أو على الأصح، أن نستكشفها، ليست كالصور التي تبدو في الأنبوبة، والتي تتكون من مادة متنوعة الأشكال والألوان. هي ذات أشكال، حقًا، ولكن دون أشكال، ذات ألوان، ولكن دون ألوان. "فالأشياء لا تمييز بينها، ولها لون الغابة المحترقة"، وكأنها تتموج في مادة رسب فيها الزمان. هاءنذا أقترب، قليلاً قليلاً، من التعبير عما أحسسته عند بداية قراءتي: فالحيز هنا، أي مجموع أمكنة الرواية، خيالية كانت أو واقعية، الحيز الذي يجب أن نسميه حيزًا والذي يدور فيه مدار الرواية، هو الزمان نفسه.
ما هو الموضوع إذن؟ هناك عجوز تتقدم خطوة خطوة في حدود حيز، و... ولكن هيهات! هاءنذا أزل قبل أن أرفع قدمي! فلأعد! هناك... عجوز... تتقدم... خطوة... خطوة... داخل مادة وكأنها تتكون وراء خطواتها. الزمان؟ إذا ارتسم، طبعًا، الزمان في الحيز ( اللهم إلا إذا كان العكس... ). إن العجوز تخطو خطواتٍ ثلاثًا، فتبعث بخطواتها الثلاث هذه روح الحياة، روح حياة متعثلجة، في حيز مائع.
فلنر الأشياء من قريب:
1 – تنتقل العجوز في حيزية ندركها كحيزية أشبعها الزمان، لسبب أنها انقسمت إلى نقطتين، بينهما علاقة زمانية ستنقلب إلى علاقة حيزية تصل وقتين من الزمان. النقطتان هما: "هنا" أي المكان الذي تكون العجوز فيه الآن، و "هناك" أي المكان الذي كانت فيه منذ لحظة. على أساس هذه البنية الحيزمانية تبتني الرواية.
2 – عندما تلتفت العجوز، فيما هو الآن، أي بعدما كان قبله، نحو مكان كانت فيه، فالواقع أنها تلتفت نحو ما كانت عليه في ما هو قبل الآن، أي قبل ما سيكون بعده. هذه هي، فيما أعتقد، النقطة التي يرتكز عليها الانقلاب: عند التفاتها إلى مكان كانت هي جزءًا منه من حيث لا ترى العجوز نفسها فيه، وبالتالي لا تراه إلا بالنسبة إلى زمانها الداخلي.
3 – من المستحيل على أي كائن حي أو جامد أن يكون هنا وهناك في آن واحد، لذا قدر على العجوز الحضور في حيز يصاحبها أين ما ذهبت، يلاصقها أيًا ما فعلت، وتتعاقب الأمكنة فيه من السابق إلى اللاحق ومن الحالي إلى التالي، تعاقبًا زمانيًا داخليًا لها. إنها، العجوز، لم تعد تكون في المكان السابق، إذ فيه "لا شيء، لم تر شيئًا" إلا ذكرى ما كان منذ زمان، كما ليس لها القدرة على أن تصل إلى المكان التالي، إذ "إنها العجوز"، التي لم يبق لها إلا أيام ( أو ساعات ) معدودة: " رفعت قدمها من أجل خطوة جديدة، إلا أنها أحست بنفسها منهوكة، كالخيط البالي، يموت الخفق فيها، على وشك الانحلال"، فمستقبلها لا وجود له، إذ أنه سيصدر من الحاضر، وماضيها لم يعد شيئًا واقعيًا إلا في زمانها الداخلي. إن وجودها يشابه وجود التماثيل التي ينصبها الناس، لأنهم بها يخلقون ذكرياتهم على صورة ما كانوا عليه، ويسدون عبث الحقيقة، كما بها يحسبون الزمان السائل نحو ما لا معرفة عنه لأحد، في حدود مكان اعتاده الكل.
أما العجوز فهي، كالتمثال، صورة للحيز الذي تدور فيه أحداث الرواية: "وجهها حفرته الريح والدموع، خريطة ممزقة قطّعتها التجاعيد طولاً وعرضًا، شعرها عشب يابس جف تحت الشمس، وجسدها ما كان إلا غصنًا مكسورًا، معقوفًا." فالمكان، هنا، محدود، تنتقل فيه – أي تنتقل فيها هي نفسها – في تلال وجهها المحفور، وترتكز على شجرتها اليابسة المكسورة... أما الزمان ماضيًا كان أو مستقبلاً، فهو على صورة المكان: محفور ومكسور ومحبوس لا أمل فيه. غير أن العجوز هي، من جهة أخرى، الشكل العكسي للتمثال: فزمانها الواقعي حالي فوري وكأنه لا زماني، إذ أن حده هو الحين الحاضر بين ما كان وما سيكون، ولأن الحيز الذي تعيش فيه العجوز ذو وجود ثابت خاص في ذكراها: "كنا نعيش سعداء! كنا نبذر الذهب! وبيدها تخيلت نفسها، وهي تداعب محيطًا من القمح المتموج في الظلام"، وليست حدوده حدود ما تراه هي واقعيًا، كيف ونظرها ضعيف حتى أن "الأشياء تبدو لها سوداء، وكلها متشابهة"، وبالتالي إذن يتحدى زمانها الداخلي الحدود الواقعية الحيزية إلى زمان متموج بين هنا وهناك، وبين الماضي والمستقبل، وكأنه مكانها المعتاد المفضل.
الآن، وقد أثبتنا أن الحيز والزمان متقابلان، ولاحظنا آلية التحول من مدلول حيزي إلى مدلول زماني، الآن، يمكننا أن ننظر إلى جزئيات المجالات المعنوية التي لاحت لنا كلياتها، فتتصنف طبقة الحيز، في سياق النص، صنفين: صنف يعيش فيه أشخاصنا حاليًا ونسميه "هنا"، وصنف يعيش فيه الأشخاص من خلال ذكرياتهم أو أحلامهم، أي لا حاليًا، ونسميه "هناك".
ونجد نفس الصنفين داخل طبقة الزمان: صنف "الآن"، أي الزمان الحالي الذي يعيشه الأشخاص هنا، وصنف "الآنذاك"، أي الزمان غير الحالي الذي لا يعيشه الأشخاص إلا في أمانيهم أو ذكرياتهم، أي هناك. وهكذا نصل إلى بنية الرواية الحيزمانية التي تتمفصل عناصرها حسب ما يلي:

حيز: هنا ضد هناك
زمان: الآن ضد آنذاك
حيز ضد زمان
هنا ضد هناك )ضد( الآن ضد آذاك

1 – رأينا، فيما سبق، أن العجوز تعيش داخل هذه البنية، أو بعبارة أخرى وهي أصح، أن هذه البنية تعيش داخل العجوز، وتفضي إلى المظهر بواسطتها. فلنقل باختصار إن العجوز ظرف البنية الحيزمانية.
2 – البنية تجمع، كما هو معروف، بين طرفين تصلهما علاقتان، علاقة التضاد وعلاقة التواصل.
2 – 1 – إن الحيز والزمان متضادان بالنسبة إلى بعض سمات معنمية (كلمة اشتققناها من "معنى" و "ميم" اللاحقة على وزن الاصطلاحات اللغوية التي يجري استعمالها على أقلام اللغويين والمحللين للآثار الأدبية المعاصرين). لقد صغت هذه الكلمة –وهاءنذا أستسمح الصفائيين العرب منها- لأنه، في علم اللغة، ليس معنم ج معانم Sème كمعنى ج معان Sens، يدل المعنم على أصغر الوحدات المعنوية، وتشاكل منزلته من التحليل المعنوي منزلة صوتم ج صواتم Phonème (بالنسبة إلى صوت ج أصوات Son من التحليل الصواتي Analyse phonologique).
2 – 2 – إن الطبقتين حيز ضد زمان، إذن، متضادتان كما هما في الوقت نفسه، متواصلتان ببعض سمات معنمية أخرى.
3 – هذا فيما يتعلق بالتحليل الصيغي Paradigmatique، أي، عندما نريد أن نرتب معطيات التحليل السياقي Syntagmatique، ونصنفها. أما فيما يخص التحليل السياقي هذا، فقد رأينا، فيما سبق، كيف تعالج الطبقتان على يد المؤلف عند بداية الرواية. ويمكننا إذن أن نضع تقابلية جديدة متعلقة بالأولى وداخلية لها:
هنا : الآن :: هناك : آنذاك
نقرأها: يكون "هنا" بالنسبة إلى "الآن"، كما يكون "هناك" بالنسبة إلى "آنذاك".
عند هذه النقطة، يجدر بنا أن نباشر بتحليل الصيغ التي لقيناها حتى الآن:
1 – صيغة "هنا الآن": وهي الحيزمان الأدنى = ما دون السور.
1 – 1 – رؤية أفقية: القرية المحكومة:
- "نظرت إليكم من أعلى، وشاهدتكم في الليل نيام، وفي النهار عبيد."
- الأرض الجافة، الحقل الميت، العشب اليابس، المحراث المكسور... "هو حقل عجوز الآن كجدتك."
- العتمة والليل الدامس والبرد: "لهذا خيم علينا هذا الليل الطويل".
1 – 2 – رؤية عمودية: عالم الحاكم:
- القهر والاغتصاب والقتل والاحتلال... "لقد احتلوا القرية، وحرثوا على ظهورنا، جاءت مواسم فيها الخير، لم تكن مواسمنا."
- الذل والخدمة بلا أجرة: "يحلبك كالبقرة... أحرقنا باطلاً نحن الآتين له بالنار."
2 – صيغة "هناك آنذاك": وهي الحيزمان الآخر: ما وراء السور، إما ما قبل بنائه أو ما بعد هدمه.
2 – 1 – رؤية أفقية: العالم قبل:
- "كانت أرضنا خضراء فيها نبع وعيون... حتى انتهت كل المواسم."
- نفس القرية قبل تسلط الحاكم عليها.
- نفس الدار وفيها الزوج والأطفال.
- نفس الحقل حين كانت تموج فيه السنابل كالبحر.
- الشمس في السماء "شمس الماضي".
2 – 2 – رؤية عمودية: العالم بعد:
2 – 2 – 1 – العالم الذي سيرجع فيه كل شيء كما كان: "ستعود إلى الحقول ليونة جسدي (العجوز) لما كنت في السادسة عشرة... سنفجر النبع، وسنسقي الشجر، وستورق الأغصان من جديد، وسنموج في عاصفة من الياسمين الأبيض، وسيعود كل شيء كما كان."
2 – 2 – 2 – العالم الذي ستأتي منه المعجزة: "تقضي نهارها، وهي تبتهل... وهي طوال الوقت تنتظر أن تأتيها معجزة."
"كنت هناك على جبل قاف... استطعت الصعود حتى القمة... تحديت شيخوختي، وصعدت."
"أنا أقتل الشيخوخة في هذه الأرض... هكذا أصنع حياتي، من هنا تأتي المعجزة..."
"أنا مشتاقة لسماع أخبارك وأخبار الناس الذين هم هناك ما وراء السور."

ملاحظات

1 – لقد أتيت بأمثلة عديدة، وقد يراها القارئ أكثر عددًا من اللازم، لأدعم ما قدمته من برهنة، وأبدي أني ما ابتدعت صيغي هذه حسب أحكام مسبقة، وإنما سقت إليها من خلال سياق النص.
2 – يجب أن أبين تمييزًا آخرَ أدخلته في الصيغ بين الرؤية الأفقية والرؤية العمودية.
في صيغة "هنا" تدل الرؤية الأفقية على ما أراه، أنا القارئ، من حياة القرية الحالية وكأنها تنتشر أمامي – فهي الرؤية التي لا يمكنني أن أميز فيها بين ما يتعلق بالحيز وما يتعلق بالزمان - أما الرؤية العمودية، فهي تدل على كل ما تُدْخِلُ فيما أراه أفقيًا بين العجوز ومصيرها، أي كل ما يتعلق بالحاكم الذي هو عنصر هذه الحياة الحالية الواقعية والخيالية منذ أجيال، رغم أنه يظهر كغريب عنها.
في صيغة "هناك" تدل الرؤية الأفقية على ما أراه بخيال العجائز وأحلامهن عندما يعشن حياتهن مرة أخرى. أما الرؤية العمودية، فهي تدل على شيئين: مستقبل ترجع فيه الحياة إلى سيلها العادي، أي مستقبل يكون مجرد رجوع إلى الماضي، وذلك مستحيل كما سنراه. ثم شيء آخر: مستقبل سيبنيه الحفيد الذي هو ليس عنصرًا من الحياة الحالية، ولكن كأنه داخل عليها، عشير لها، رغم أنه هجرها منذ سنين.
3 – مما يلاحظ، أن صيغة "هنا الآن" وصيغة "هناك آنذاك" متناسبتان متعاكستان مثنى مثنى. ويجدر القول أيضًا، إن العجوز هي النقطة المحورية التي يدور حولها هذا التناسب وهذا التعاكس.

دور العجوز

لنا أن نمعن النظر في دور العجوز: إنها إحدى عجائز القرية، هذه القرية التي – يجب أن نلاحظه - لا يوجد فيها إلا (أو يكاد) نساء، وخصوصًا الشيخات منهن، وهي أيضًا تُحيي في ذكرياتها قطعًا من حياتها الماضية، مما يمكننا أن نعتبرها كناية عن القرية، جملةً، في حالتيها الحاضرة والماضية. إنها، من جهة، تنضم إلى الحياة الواقعية التي يعيشها مجتمع العجائز، كما تنضم، من جهة أخرى، إلى حياتها الخيالية التي لها وظيفة خاصة: تعويضية، بالنسبة إلى الأفراد، أمام الشيخوخة والموت، وتعويضية كذلك، بالنسبة إلى المجتمع، أمام القهر والعجز. كهذه العجائز، أو أحسن منهن، تهرب هذه الأم – كدت أقول هذه الأمة - الشقية، العاجزة، المهجورة، المقهورة التي يحكمها حاكم مغتصب، ظالم، مصاص، قاتل، تهرب هذه الأم إلى ماض أكثر اخضرارًا ورطوبة وسخونة ونضورًا. غير أنها أكثر حكمة من أخواتها، لأنها "العاقلة. المجربة. المتبصرة. الأكثر استنارة. لأنها من بينِ كلِّ العجائزِ الأكبرُ عمرًا. وكذلك توقيرًا لما فعلته أو جرؤت على فعله وديدنها الحكمة." ولأنها أقوى منهن – أو تظهر لهن الأقوى -: لا تقتصر إذن على استحضار ماض ميت، بل تصبو إلى مستقبل زاهر قد يحيا إذا تمت له بعض الشروط. وهي تعرف أن الأشياء لن تعود، حقيقةً، كما كانت، لأن الوقت فاتها.
لقد قلنا إن العجوز كناية عن القرية، وهي في نفس الوقت استعارة. استعارة لضعف أمة وأحلام أمة ضعيفة: لحاضرها الشقي وماضيها العاجز عن أن يحميها، وإن كان مجيدًا، استعارة كذلك للتبشير بمستقبلِ "عاملٍ صابرٍ".
والآن يجب أن نتساءل كيف يمكنها أن تساعد، وهي العجوز، في إنجاز عالم جديد، عالم "هناك آنذاك"، بحيث لا يكون هذا العالم عالمًا خياليًا، آتيًا من الماضي، راجعًا إلى ما كان عليه، عاجزًا، كعالم الشيخوخة نفسه، على أن يتحدى حدوده الخاصة؟ كيف يمكنها ذلك، وهي يستحيل لها اجتياز السور من هنا إلى هناك، كما يستحيل لأي كائن اجتياز حاجز الحين الحاضر للمرور من الآن إلى المستقبل وإلى الماضي؟
قد يكون الجواب في المحاولات التي أجرتها الابنة لقتل الموت والشيخوخة، ومحاولات الشيخ الذي تحدى شيخوخته وصعد الجبل، فبقتل الموت إذن، تتحرر الحياة من حكم الوقت الذي يمضي. إن الشاعر أفنان القاسم يعثر في كل ذلك على الحل الخرافي الذي أتت به الأديان كلها لحل مشكلة الموت والحياة منذ أوائل الإنسانية، إذ ليس هناك حل إلا بذبح الموت – الموت الكامل التجريدي – بين الجنة والنار كما جاء في الحديث النبوي، وبه يفضي الإنسان إلى منزلة أبدية.
أما العجوز، فهي ليست أكثر من ظرف، أي لا تجتاز بنفسها من هنا إلى هناك، ومن الآن إلى آنذاك، ولكن تُمَكّن القرية، بل الأمة، من الاجتياز، وهي تنجح إذن فيما أخفقت فيه ابنتها التي ظنت أنه يكفيها أن تشنق نفسها لتأتي المعجزة، وطنت أنه يمكنها أن تعيد إلى "هنا" حيز الماضي (الذي أعطى للحاكم كل ما استطاع إعطاءه) وإلى "الآن" أن يعيد "آنذاك" (الذي انتهت فيه كل المواسم)، فأرادت أن "تسقي أرضًا جافة بالجفاف"... إنه "الجنون"!
وفيما يخص العجوز، الحكيمة، تنبأت لحكمتها بأنه ليس "هناك آنذاك" إلا آتيًا من المستقبل، وأن موتها سيكون، حقًا، نصرًا على الموت، ذبحًا له، إذ قال الشيخ: "اذبحي ذبيحة ووزعيها على الفقراء"، ومن أين لها بذبيحة تذبحها؟ إذن، ستكون هي الذبيحة، إذ لا يبقى لديها إلا جسدها تضحي به. وقال لها الشيخ: "اخرجي من ثوبك الأسود، واحرقي كل آثاره"، ومن أين لها بثياب أخرى تكتسيها؟ لقد احتفظت بثوب عرسها الأبيض (الأبيض سيكون أحمر، لون الدم والنار)، ستلبسه آنذاك، وتنتظر أن يؤون لها الآن. هي مستعدة لأن يُحرق لها ثوبها الأسود كناية عن الحياة الماضية، ولأن يُذبح لها جسدها المجدد، استعارة لزفاف عروس شابة، وتضحية لحياة مقبلة ستنبثق من حناياها: "ابتسمت لنفسها وقالت يا له من ملاك رضيّ من سيأتيني! وراحت تحلم باللحظة التي سيأتيها فيها، إنه موت طيب من أجل امرأة طيبة قست عليها الحياة."
غير أنها عجوز عاجزة "لم تعد ذراعها ملكها"... "أين أيادي الأمس، سواعد الأمس، عضلات الأمس؟ الأمس لم يعد لها، صار للحاكم."
من اللازم أن تعود أيادي الأمس وسواعده وعضلاته لقتل الحاكم، لقتل الآن؟

دور الحفيد

أريد قبل أن أذهب إلى أبعد، أن ألخص بعض معطيات التحليل التي توصلنا إليها.
من المعروف أن كل رواية هي رواية التحول الذي يقع في بنيتها القصصية الأساسية. إذن، موضوع رواية العجوز هو رواية تحول بنيتها التي عرفناها كعلاقة التضاد الواصلة بين: هنا الآن... ضد ...هناك آنذاك. يعني وجودُ هذه العلاقة أن طرفيها موضوعان معًا في نفس الموضع ونفس الوقت (سبق لنا وقلنا إن العجوز هي الظرف الذي يظهر فيه تضاد يؤسس بنية الرواية الحيزمانية: فهي إذن من نوع آخر نسميه طرفًا مركبًا).
وعلى هذا الأساس نقول: إذا أثبتنا أحد الطرفين أثبتنا، بالضرورة، الآخر، وبالعكس، إذا سلبنا أحد الطرفين سلبنا، بالضرورة، الآخر.
لذلك أخفقت ابنة العجوز: لأنها أرادت أن تسلب "هنا الآن" وتثبت "هناك آنذاك" في عملية واحدة ودون وسيط: فسلبت العلاقة كلها، وماتت عبثًا!
المشكلة، بالنسبة إلى دلالة تحويل البنية القصصية، هي أن يثبت أحد الطرفين – أن يسلب الآخر - دون أن تقطع العلاقة بينهما. يفترض ذلك حضور طرف وسيط، هو العامل في التحويل، حتى يمكنه أن:
1 – يسلب الطرف الأول، وهو "هنا الآن".
2 – يجيز إثبات الطرف الثاني في حقيقته الكاملة، وهو "هناك آنذاك".
هذا الوسيط هو الحفيد: لقد هجر القرية وأهلها منذ سنين ثم عاش هناك، وراء السور، يتقوى ويتدرب لقتل الحاكم المتسلط هنا، ولبناء عهد جديد: "فهو يستفظع الماضي"، والآن يصيب الهدف: "ربما سأجد، بعد قليل، ما بحثت عنه طويلاً، لتصبح حياتي هناك، وهنا الآن، وخلال الدقائق القادمة، الجواب الحقيقي لهجري لكم."
لديه، إذن، الميزات كلها التي ستمكنه من عملية التحويل: إنه ليس غريبًا عن "هنا" تمام الغرابة، إنما هو نقيضه في شبابه وقوته وتجربته... كما أنه يشخص حياة أخرى (وآخرة) هي التي توجد وراء السور.

ملاحظات

1 – يلعب الحاكم دورًا معاكسًا لدور الحفيد: لقد احتل القرية، بيد أن الحفيد يريد أن يحررها. لقد بنى السور ليمنع الهجرة من هنا إلى هناك، بيد أن الحفيد هجر القرية، وها هو يرجع إليها. لقد سلب في الماضي كل ما ملكه أهل القرية، وأثبت حال الآن، بيد أن الحفيد يريد أن يفجر العيون ويسقي الشجر ويثبت حال "آنذاك".
2 – إن الشيخ، الذي نراه كطرف محايد، شخص يأتي من الماضي، ولم يعد جزءًا منه، وينبئ بالمستقبل دون أن يكون بعد جزءًا منه. لقد استطاع في الماضي أن يقتل حارسًا للحاكم، ولكن أدى فعله إلى احتلال القرية حتى اليوم – وقد استطاع أيضًا أن يشعل كومة أعواد (ولكن بقي النهار باردًا)، وكذلك استطاع أن يتحدى شيخوخته، ولكن لم يكن هذا العمل إلا عملاً فرديًا، كما تكون النار التي يحملها معه (في غليونه) نارًا فردية، ليس فيها للآخرين طاقة التنوير ولا التسخين. إنه ينبئ بعهد تسيل فيه الأشياء في سيل جديد، إذ كانت تظهر "فوق رأسه سحابة صغيرة كالقطن لا تلبث أن تَمَّحي"، سحابة صغيرة تنبئ ببوادر "عاصفة" جديدة ستأتي بالحفيد عند آخر الرواية، لذلك، يظهر دور الشيخ كتعاكس لدور العجوز، إذ ستتحول البنية الأساسية فيها (العجوز) من خلالها. أما الشيخ الذي يصاحبه "الماء" و "النار"، فهو خارج البنية، لا قدرة له في التحويل.

عملية السلب

لقد رأينا أن لكل من الحاكم والحفيد دورًا متعاكسًا، ولكن لدى كليهما نفس الأداة لتحقيق دورهما، أي النار، النار في كل ظواهرها اللغوية:
1 – الحقيقية، وهي النار المضطرمة، المتأججة بلهبها وزمجرتها ولونها ووهجها.
2 – البلاغية، مجازًا كانت وهي الموقد والجمر والحطبات والطلقات النارية، أو كناية وهي البندقية أو غليون الشيخ وشمسه (وإن كانت باهتة) ونهاره (وإن كان باردًا) والدفء، أو استعارة وهي دماء الصبا التي تتفجر في عروق العجوز، والشوق الذي يشتعل فيها، وهي الحرب والقوة، الأمل والحرية.
النار، إذن، أداة تميت وتحيي حسبما تكون على يد هذا أو ذاك، وسنرى فيما يلي أن لها نفس الوظيفة في نظامنا التجريدي البنيوي.
إنها، النار، في آلية التحول الدلالي، أداة السلب على يد الحفيد كما كانت على يد الحاكم. لقد أمكن هذا الأخير أن يحرق القرية ويخضعها لسلطانه، لأنه كان له التصرف بالنار، وأمكنه ذلك أن يسلب، لنفسه، النبع الوحيد الذي يوجد هناك، فأصبح صاحب الجنة، "جنة الحاكم" (وليست هذه إلا عكس الجنة المعروفة، إذ تشابه الجحيم أكثر منها الفردوس)، جنة يمتص فيها بقايا اللبن الذي ما زال في القرية. إذن، مكنته النار من أن يصبح بعدها صاحب الماء.
أما الحفيد، فهو منبثق من رطوبة الصباح "... كان الهواء النديّ النقيّ يخترق رئتيّ، قطرات الندى تغمر وجهي، وعطر السوسن يفعم أنفي. وأنا أشق الفضاء، كان لدي انطباع وكأني أدخل في سُمْكِ النداوة والنقاء. قبل الوصول إلى الهدف، يكون جسدي قد نتح، وهمي قد نضح، وأكون خفيفًا كريشة." كالريشة التي تحملها الريح عندما تهب: "... العاصفة. جاءت بالريح، والريح جاءت بها، ووصل الحفيد مع أول هبيب." كأنه الحباء النافع الذي يصب ليبعث في الأرض الجافة حياة جديدة، والذي يتنبأ به: " سنفجر النبع، وسنسقي الشجر، وسنموج في عاصفة من الياسمين الأبيض."
يظهر الحفيد، إذن، كصاحب الماء، ثم يصبح صاحب النار، مجازيًا في البداية: "سنقتل الحاكم، وسنعطي لكل واحد بندقية لهدم السجون"، ومن ثم حقيقيًا: "حمل بأطراف أصابعه ثياب الجدة السوداء، ورماها في النار. وما هي سوى بضع لحظات حتى شخرت النار، وفي ثكنات الجيش النار نفسها، وقد دقت، بالسخط نفسه، بالشره نفسه. وهذه الصرخات المُرَوَّعَة: النار! النار! الجحيم! ماء! ارشقوا النار بالماء! لَوَّحَ الجنود بالدلاء، ودلاء أخرى، ودلاء أخرى. بلا جدوى. دمرت النار المعسكر." إذا أردنا أن نلخص رأينا في وظيفة النار كما تظهر في الرواية، قلنا إن لها وظيفة ترمي إلى إضرام المرأة بالحريق، وذلك من ناحيتين:
الأولى، وهي كناية: يشعل الحاكم في الخارج نارًا تحيط بالمرأة، وفي ذات الوقت تثير دخانًا يتغلغل فيها: فتحترق قطع منها، كموسمها وولدها وزوجها، كناية عنها. كما تصبح فيما بعد، أرضها وحياتها جافتين، كناية عنها كذلك، كيف لا وهي ممصوصة اللبن، مسفوحة الدم، مسفوكة الدمع، وكأن حياتها تتبخر رويدًا رويدًا؟ الحق أنها تتقدد، هنا، على يد الحاكم، كلحم الذبيحة.
الثانية، وهي استعارة: يشعل الحفيد داخل العجوز نارًا تسيل فيها ثم تفيض عنها، فتلتهب المرأة، استعارةً، في عروقها ولون ثوبها الجديد، ثم تتأجج في كل مكان، كيف لا ودماء عرسها تتلألأ، هناك، وكأن القطرات الياقوتية التي انفجرت منها على يد الحفيد، أصبحت عيونًا اشتعلت فيها حياة جديدة؟
أما فيما يتعلق بالشيخ الذي هو الوجه المحايد (لصاحب النار)، فيمكننا أن نقول إن ناره نوعان: نار أشعلها كالحاكم، في الخارج، ليبعث، كالحفيد، حياة جديدة في نهار بارد، ونار أشعلها في غليونه، نار انتشرت من الداخل إلى الخارج كنار الحفيد، وظيفتها أن تثير دخانًا كنار الحاكم التي تتغلغل من الخارج إلى الداخل.
هكذا انعكس الدوران، وتمت المرحلة الأولى لمهمة الحفيد، وهي أن يهدم عالم الحاكم ليبني مكانه عالمًا جديدًا.
لقد حقق الحفيد هدم عالم الحاكم بواسطة نار أضرمها في الثوب الأسود الذي يرمز إلى أن العجوز كانت المظلومة المقهورة، والذي هو كناية عن ثكنات الحاكم السوداء، هذه الثكنات التي ترمز إلى أن الحاكم كان الظالم، القاهر، فبالنار هُدمت، كما قد بُنيت بواسطتها.
هذا ما سميناه بالمرحلة السلبية أو العملية السلبية، والتي هي ضرورية، لأنها تعد لوصول المرحلة التالية: الإثبات في قالبنا البنيوي الذي أريد أن أعرضه عرضًا موجزًا، لتكون الأشياء واضحة.
نفذ الطرف الوسيط ( = الحفيد ) عملية السلب، كما سنرى أنه منفذ عملية الإثبات ( ولذلك سميناه وسيطًا ) لأنه:
1 – يدخل في علاقات تناقضية كطرف مناقض لآخر، وهو في روايتنا "هنا الآن".
نقول فيما يخص العلاقة التناقضية الواصلة بين طرفين، إنها: إذا وضعنا فيها أحد الطرفين، سلبنا الآخر، والعكس.
2 – يدخل في علاقة تضمينية كطرف مضمن لطرف آخر، وهو في الرواية "هناك آنذاك".
نقول فيما يخص العلاقة التضمينية الواصلة بين طرفين، إنها نتيجة للعملية السابقة، بحيث أننا إذا وضعنا الطرف الذي نفذ عملية السلب لأحد طرفي العلاقة التضاددية الأولى، لأثبتنا بالتالي الطرف الآخر في نفس العلاقة.

الصورة البيانية

م = طرف مركب = معنى أو معنم
مَ = طرف محايد = لا هذا ولا ذاك لا م1 ولا م2
م1م2 = الطرفان المتضادان
م1 َ = م2 َ

ملاحظة:
1 – الهدف إثبات م2 في العلاقة م1--------م2
2 – لذلك من الضروري أن يسلب م1 داخل علاقة أخرى هي م1_________م1 َ
3 – م1 َ..............م2 بمعنى أن م1 َ يتضمن م2 ويثبت في الآن ذاته م2

عملية الإثبات

بقي للحفيد أن ينجز العملية الثانية من المهمة التي جاء لها من هناك، إنها عملية الإثبات. لما سلب الحاكم العجوز حياتها الزوجية الأمومية بقذف موت دموي على زوجها وأطفالها، لما ألزم عليها حياة سوداء ليلاء تشابه الموت أكثر منها الحياة، فإن الحفيد أثار حياتها العرسية الجديدة في انحنائه فوقها: إنه يثبت عند دفعه النصل في بطنها نسلاً سيتلألأ في كل مكان وسينشد الحياة.
قتل العجوز، إذن، هو قلب الضرورة (لأن الموت لا ينجو منه أحد) إلى اختيار مطلق، إذ ما كان فصلاً جعله وصلاً. إن موت العجوز لموت معطر، موت ملون، موت شاف، وهو في الحقيقة انبعاث. وقتلها، حفلة الزواج لعروس جديدة انفجرت دماء صباها، ماء حياتها، على سريرها المطهر، حين أنفذها حياة الملاك الرضي، حياة الفارس الذي جاء ممتطيًا جناحي الريح، ليخطف عاشقته إلى حيز آخر. ليس هو قاتلاً، ليس هو قاتلاً لأم شقية إنما هو عريس أصبح أبًا... لأمة نقية.

ملاحظة ختامية

علاقة: المؤلف/"العجوز"، كان بإمكاني أن أقول في موضوع هذه العلاقة أشياء كثيرة لولا أني رأيت أن كل ما يتعلق بها:
1 – يرجع إلى ميداني التحليل النفساني والتحليل الاجتماعي اللذين يساعدان على فهم الآثار الأدبية دون أن يكونا، لهذا، من العناصر الأساسية لتحليلها، كما جرى عليه النقد الأدبي التقليدي حتى الآن.
2 – يجب قراءة آثار المؤلف أفنان القاسم، ليباشر، عن طريق علمي، تحليلها النفساني. لقد نشر الكاتب حتى صدور الطبعة الثانية "للعجوز" العديد من الروايات والمسرحيات والقصص منها "الأعشاش المهدومة"، مجموعة تدل على عالم معنوي ثري، قوي.






























العجوز، ملكت العقول والقلوب، في الزمن الذي كان فيه الظفر لشبابها، والمجد لجمالها، وكان الكل، أحياء وأشياء، ينعم في الرخاء وعدم الاكتراث. ثم جاء زمن... زمن الحياة، زمن الضَّرَّاء، ومن كانت جميلة الجميلات، تحت ضربات قدر مشئوم، لم تعد غير هذه العجوز، المحكوم عليها بالتجوال في قلب الخراب، بانتظار - هي المسكونة بالآمال والأحلام – معجزة الإتيان بمن يستطيع إعادة إحياء الأيام السعيدة، والكل من حولها، يبقى، في الوَهْنِ، في الانتظار نفسه، وعيون الكل تدور نحو العظمة الماضية، تحت أمل عودتها، بينما العجزُ هو عجزُ عدم القدرة على انتزاع الحلم من رأس الواحد والآخر، وانتزاع الواحد والآخر من الحلم... إنها هي التي ستقرر في الأخير، وستقود الحركة التي بها تستطيعُ القوى الجديدة القادرة على إخصاب الحصادات القادمة التحررَ أخيرًا، حركة أجلى من الشمس، وسطور الرواية الأخيرة تترك للأمل مَنْفِذًا إلى أطواء النفس...

هذه هي الحكمة التي يقترحها أفنان القاسم في "العجوز"، رواية موقعة على نغمات الحكاية تارة والفاجعة الإغريقية تارة، وتقول لعنة شعب، كطفلٍ مدللٍ كثيرًا، يواصل ترك نفسه، كل نفسه، لهدهدة سرابات غبطة اكتملت، وولى زمانها، فهل سيعرف كيف ينهض من خدره ليرى ما يواجهه من تهديدات الحاضر، ويأخذ بيده بناء مستقبله؟










* أفنان القاسم من مواليد يافا 1944 عائلته من برقة قضاء نابلس له أكثر من ستين عملاً بين رواية ومجموعة قصصية ومسرحية ومجموعة شعرية ودراسة أدبية أو سياسية تم نشر معظمها في عواصم العالم العربي وتُرجم منها اثنان وثلاثون كتابًا إلى الفرنسية والإنجليزية والإسبانية والروسية والعبرية، دكتور دولة ودكتور حلقة ثالثة من جامعة السوربون ودكتور فخري من جامعة برلين، أستاذ متقاعد عمل سابقًا في جامعة السوربون ومعهد العلوم السياسية في باريس والمدرسة المركزية الفرنسية وجامعة مراكش وجامعة الزيتونة في عمان والجامعة الأردنية، تُدرّس بعض أعماله في إفريقيا السوداء وفي الكيبيك وفي إسبانيا وفي فرنسا...