المسألة الفلولية


خليل كلفت
الحوار المتمدن - العدد: 4631 - 2014 / 11 / 12 - 01:03
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان     


المقصود بالفلول، قياسا على فلول الجيش المنهزم، بقايا الفئات الطبقية العليا الوثيقة الارتباط بنظام منهزم، أىْ الإدارة العليا والقيادات العليا السابقة فى كل المجالات. ولا مناص من العمل على إقصاء قسم كبير منهم ظلوا يشكلون عصابة حقيقية مرتبطة بمبارك وبمن سبقوه، وقد صار هؤلاء الأخيرون( فلول من سبقوا مبارك) خارج الحسابات لأنهم رحلوا ليدرسوا چيولوچيا الأرض المقدَّسة.
هؤلاء الفلول هم "ماكينة" الفساد السياسى والمالى المتمثلة فى عصابات الاستبداد والفساد والإفساد فى عهد مبارك؛ ولا بد من محاكمتهم معه جنبا إلى جنب. وبدلا من الاكتفاء بفخامة إطلاق اسم محاكمة القرن على محاكمة هزلية بشأن القشور، تفترض المحاكمة الحقيقية لمبارك وعصابته وفلوله محاكمته على سياسات الدولة طوال ثلاثة عقود من حكمه، وهى السياسات التى هبطت بالشعب إلى درك البؤس وفجَّرت ثورته.
وإذا كان قد جرى إخفاء وتشويه وحرق وفرم الأدلة الجنائية للمحاكمة الهزلية، فإن المحاكمة المطلوبة لا تحتاج إلى أدلة جنائية قابلة للفرم بل تتمثل فى محاكمة مبارك وعصابته على سياسات وبرامج وممارسات نظامه وعلاقاته الخارجية المشبوهة؛ وهذه الأدلة الدامغة جاهزة فى مصر والعالم كله. وكان المجلس الأعلى للقوات المسلحة بقيادة المشير طنطاوى هو المسئول عن تصميم محاكمة مبارك وعصابته وزبانيته، وعليه الآن أن يصحِّح خطأه التاريخى المعلَّق على رقبته كمجلس، مهما تغير أعضاؤه.
ومن الفلول مسئولون كبار فى الدولة والحزب السياسى ورجال أعمال؛ وتختلف طريقة التعامل معهم بشدة عنها مع الحلقة "العصابية" العليا من الفلول. ولا شك فى أن "عصابة مبارك" اعتمدت على دائرة متزايدة الاتساع من الفلول، فهؤلاء ليسوا إذن خارج دائرة الفساد المالى والإدارى والسياسى.
وبالطبع فإن من العبث، مثلا، عزل أعضاء الحزب الوطنى بالجملة، مهما كانت استفادة كثيرين منهم بعضويته. ولا يمكن الحديث عن استبعاد كل رجال الإدارة المدنية والعسكرية ورجال الأعمال من معادلة الحكم الجديد. ويرتبط هذا بأشياء كثيرة.
فهناك أولا قاعدة أننا نبنى الجديد بأنقاض القديم. ولا تستطيع حتى ثورة اشتراكية إقصاء كل النخبة التى تتألف من إداريِّى ومثقفى وعسكريِّى العهد البائد عن الدولة الاشتراكية. لماذا؟ لأن خبرة الإدارة المدنية والعسكرية عندهم وليست عند غيرهم.
كما أن أىّ نظام جديد لا يمكن أن يدخل فى مواجهة شاملة دفعة واحدة مع الجميع وهى مواجهة بل حرب لا مناص منها عند إقصائهم وإحلالهم بالجملة.
وفى ثورة شعبية مثل ثورتنا لا تنتقل سلطة الدولة إلى الطبقات الشعبية بل تبقى فى أيدى الطبقة الرأسمالية التى تدَّعى أنها هى الثورة رغم أن الثورة انفجرت ضدها. وتتعارض أهداف السلطة الجديدة مع الأهداف الحقيقية والوهمية لقوى الثورة. وليس أمام ثورة تصل فى غفلة من الزمن إلى سلطة الدولة فى بلد رأسمالى تابع سوى خياريْن: البقاء على ثوريتها إلى أن تسحقها الثورة المضادة المحلية والعالمية، أو القيام بخدمة مصالح الرأسمالية التابعة.
وتأتى إلى السلطة بالطبع دماءٌ جديدة فتجرى فى عروقه وتحتل الصدارة. ولا ضمانة جاهزة لاستفادة النظام الجديد من دروس الثورة التى اتضحت الآن أسبابها وعواملها فى ظل حكم خليط من فلول مبارك والدماء الجديدة فى كل السلطات الاندماجية.
ومن مصلحة الحكم الجديد أن يستدعى دروس الثورة وأن يعمل على تطبيقها تفاديا للفشل بكل ما يجرُّه الفشل. غير أن الوعى بأبعاد مشكلتنا غائب عن الحكم الجديد وعن قوى الثورة وعن الشعب كله. وهذا أمر فى غاية الخطورة. لأن دروس الثورة لا تتمثل فى مجرد تحقيق أهدافها المعلنة المعروفة، رغم تواضعها الشديد، كما أن اقتصادنا لا ينتج ثروة حقيقية يمكن إعادة توزيعها أصلا.
وتتمثل المشكلة الكبرى فى أنه لا مستقبل لمصر إنْ عجزت عن بناء صناعة حديثة مترابطة الحلقات تنتقل ثمارها إلى التعليم والبحث العلمى والزراعة والسياحة والتعدين ومختلف فروع الإنتاج والخدمات فى سبيل التحول إلى بلد متقدم ومستقل، ولا سبيل حتى إلى خلق ثروة بشرية نتباهى بامتلاكها، مع أن الثروة البشرية لا تعنى ملايين العاطلين، بل تعنى عمالة تدربت فى الممارسة العملية التراكمية لاقتصاد صناعى متقدم.
ولن يكون من المستحيل أن يبدأ الحكم الجديد فى بناء صناعة حديثة. وحتى النمور الآسيوية الأصلية، كوريا الجنوبية، وتايوان، وهونج كونج، وسنغافورة، كانت بلدانا ديكتاتورية وعميلة ونجحت مع هذا فى التحول إلى بلدان صناعية. ورغم جبال التحديات سيكون علينا أن نحاول ما يشبه المستحيل لأن البديل مفزع، حيث لن يكون أمامنا سوى التراجع التاريخى فى اتجاه الانهيار الشامل، هذا المصير الذى صار واضحا الآن بعد أكثر من قرن من الغفلة.
وأمامنا بالطبع عقبات أبرزها الحروب الإسلامية بالوكالة فى مصر والمنطقة والعالم. كما تشكل المدرسة التى طوّرها فلول السادات ومبارك، أىْ المدرسة الفكرية والإدارية والاقتصادية للرأسمالية المصرية، عقبة حقيقية.
غير أن العقبة الإستراتيچية الكبرى تتمثل فى السياسة الإستراتيچية العدوانية للولايات المتحدة وأوروپا وإسرائيل الرامية إلى الحيلولة دون أىّ تقدم صناعى تحققه مصر.