-الربيع العربي- بميزان -التجربة العملية-!


جواد البشيتي
الحوار المتمدن - العدد: 4629 - 2014 / 11 / 10 - 02:38
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

هل أنتَ مع "الربيع العربي (و"ثوراته")"؟
عن هذا السؤال، لا يُجَاب، على وجه العموم، إلاَّ بـ "نَعَم"، أو "لا"؛ لكن ينبغي للمُجيب، أو يُفْتَرَض فيه، أنْ "يُعَلِّل"، بعد ذلك، إجابته، مُجيباً عن سؤال ثانٍ هو: لماذا يَقِفُ مع (أو ضِدَّ) ما سُمِّي "الربيع العربي"؟
وحتى يتعزَّز "المنطق"، الذي ينطوي عليه هذا "الحوار"، لا بدَّ (أوَّلاً، وقَبْل كل شيء) من أنْ يتواضَع (ويَتَّفِق) السائل والمجيب على تعريف الموضوع مدار الحوار، فإنَّ إجابة سؤال "ماذا نعني بهذا المصطلح (أيْ "الربيع العربي")؟" تبقى هي نفسها مدار خلاف.
من جهتي، أَفْهَم "الربيع العربي" على أنَّه ظاهرة "النُّزول العفوي (على وجه العموم) لمئات الآلاف، وللملايين، من العامَّة من العرب، ومن الشباب على وجه الخصوص، للشارع (مع ما يعنيه هذا النَّزول مِنْ كَسْرٍ لحاجز الخوف) من أجل القضاء على عهد طويل من الاستبداد السياسي والفساد والإقصاء والتهميش والذل والهوان والإفقار والانتهاك لأبْسَط حقوق الإنسان والمواطِن"؛ وبما يُوافِق هذا الفهم، ولا يتعدَّاه، وَقَفْتُ، وأَقِف، مع "الربيع العربي"، الذي غُدِرَ به، وشُوِّه، وأُفْسِد، وخُرِّبَ، حتى بات يُنْظَر إليه الآن على أنَّه كارثة تاريخية كبرى حلَّت بالعرب، أُمَّةً، وشعوباً، ودُوَلاً، ومجتمعات.
أقول هذا ضارباً صَفْحاً عن "المُنَظِّمين"، و"المُخطِّطين"، و"راسمي الخرائط الجديدة"، و"المُوَجِّهين (والمُسَيِّرين)" عن بُعْدٍ، أو عن قُرْبٍ، وعن "ذوي الصلات المشبوهة (وأهدافهم الخفية)"، و"الانتهازيين"، و"المنتهزين"، و"المُسْتَثْمرين"، و"المُسْتَغلين"، و"راكبي الموجة"، و"المتصيِّدين"، و"المُتَّجِرين"، و"الوكلاء"، وعن سعي السَّاعين من قوى إقليمية ودولية متنافسة، أو متصارِعَة، لتسيير الرياح بما تشتهي سفنهم، وعن "المؤامرات الخارجية" و"أدواتها الداخلية"، وعن نشاط أجهزة الاستخبارات التابعة لقوى إقليمية ودولية لا مصلحة لها أبداً في أنْ يبقى "الربيع" ربيعاً؛ فـ "الجوهري (والأساسي)" مِنَ الأمْر كله هو تلك "العفوية الشعبية الثورية الملايينية" التي قالت، إذْ سَنَحَت لها الفرصة، كلمتها في الحُكَّام المُسْتَبِدِّين الفاسدين، وعَبَّرت، في طريقة ثورية، عَمَّا تتطلَّع إليه، وتريده، وإنْ افْتَقَدَت قيادة سياسية ثورية منظَّمَة تُمثِّل في صِدْق هذا الحِراك الشعبي العفوي، دافِعاً ومَطْلَبَاً وغايةً، كمثل افتقاد الناس البدر في الليلة الظلماء.
ومع ذلك، لا مفاضَلَة أبداً بين الحُكَّام الفاسدين والمُسْتَبِدِّين وبين "الأشرار الجُدُد"، الذين عاثوا فساداً في "الربيع العربي"؛ بَلْ حَرْبٌ واحدةٌ متزامنةٌ على هؤلاء وأولئك؛ وفي هذه الحرب لا فَصْل، ولا انفصال، بين الوجوه الثلاثة (حكومات الاستبداد والفساد، وإسرائيل، والقوى الإقليمية والدولية التي تناصِب "الربيع العربي" العداء الظاهِر أو المستتر) للعدو الواحد نفسه.
بَعْدَ، وبسبب، "الحصاد المُر" لـ "الربيع العربي"، وفي سورية ومصر وليبيا واليمن، يتساءلون قائلين: هل الثورات هي الطريق الفضلى للتغيير في الدول العربية؟
هذا سؤالٌ إجابته الضَّمْنية هي "كلاَّ، ليست الطريق (أو ليست الطريق الفضلى)"؛ وهُمْ يَعْنُون بـ "الثورات" إطاحة نُظُم حُكْم الاستبداد والفساد.. من طريق التَّمَرُّد الشعبي الثوري، ونُزول الشعب إلى الشارع، والاستمرار في الضغط الشعبي الثوري حتى سقوط هذه النُّظُم، التي عَرَفَت كيف تُقْنِع شعوبها باستحالة "الإصلاح (السياسي والديمقراطي والاقتصادي..)" في وجودها.
"الربيع العربي" لم يتمخَّض عَمَّا تمخَّض به حتى الآن من "شرور"؛ لأنَّه كان "ثورة"؛ بل لأنَّه كان "ثورة ناقِصَة غير مُكْتَمِلَة"؛ فلو استوفى شروط "الثورة الحقيقية الكاملة (المُكْتَمِلَة في استمرارها)" لأَثْبَتَ أنْ لا طريق إلى التغيير إلاَّ "الثورات". إنَّ ما نراه الآن (أو حتى الآن) من فَشَلٍ وإخفاقٍ يجب أنْ يُفْهَم على أنَّه الدليل على "غياب، أو نقص، الثورة"، لا على "انتفاء الحاجة إلى الثورة"؛ ولقد عجزت شعوبنا عن إصلاح ما أفسده حُكَّامها.
إنَّهم (ولمصلحة لهم في مناصبته العداء) يَنْظرون إلى "الربيع العربي" على أنَّه "السبب" لِمَا حلَّ بالعرب من كوارث؛ وكان ينبغي لهم (لو أرادوا الانحياز إلى الحقيقة وإنْ تبادَلَت العداء مع مصلحتهم) أنْ يَنْظروا إليه على أنَّ "النتيجة" المترتبة حتماً على وجود نُظُم حُكْمٍ عصية على "الإصلاح"، ولا يمكن تغييرها إلاَّ بطرائق واساليب ثورية؛ فالثورات ليست خيار الشعوب؛ وإنَّ استعصاء التغيير سِلْماً هو ما يَضطَّر الشعوب إلى الثورة.
كلفة الثورة السورية (ومنها تَحَوُّل نصف الشعب السوري إلى نازجين في داخل بلادهم، أو لاجئين في البلاد المجاوِرَة) كانت باهظة؛ فهل يبقى من أهمية لهذه الثورة، ولمَطْلَب الحرية، بحسب هذا المعيار (معيار "الكلفة")؟
"الخيار"، على ما تأكَّد وثبت في تجربة ثورات "الربيع العربي"، كان بين "بقاء الدكتاتورية (والاستبداد)" وبين "انهيار الدولة وشيوع الفوضى"؛ فأيَّهما أفضل (لو فاضلنا بين هذه الأمْرَيْن، أو الشَّرَّيْن) بقاء نُظُم الحكم الدكتاتورية أو الثورة عليها (مع عاقبتيها: انهيار الدولة وشيوع الفوضى)؟ ألا ينبغي لنا أنْ نأخذ بـ "القاعدة الفقهية" التي تَدْعونا إلى الأخذ بأخَفِّ الضررين؟
إنَّها أسئلة المثقفين المؤيدين لحكومات الاستبداد العربية؛ والغاية الكامنة فيها هي أنْ ينفثوا في روع الشعوب العربية الثائرة أنَّ لا بديل من الدكتاتورية والاستبداد إلاَّ انهيار الدولة وشيوع الفوضى وانفجار الحروب الأهلية (من طائفية وعرقية) وتَعاظُم الجماعات التكفيرية إذا ما اتُّخِذَت الثورة طريقاً إلى التغيير. وهؤلاء يَضْرِبون صفحاً عن الحقيقة التي لا ريب فيها وهي أن نُظُم الحكم الاستبدادية هي المسؤولة في المقام الأوَّل عمَّا حلَّ بنا من كوارث؛ فهي صارعت من أجل البقاء بما يُلْحِق بشعوبها ومجتمعاتها الكوارث؛ وكأنَّ الحاكم المُسْتَبِد يقول لشعبه: إمَّا بقائي وإمَّا فناؤكم!
كما ضربوا صفحاً عن حقيقة أنَّ الشعوب التي تتنازل عن حريتها من أجل الأمن (والاستقرار) لا تستحق لا الحرية ولا الأمن (والاستقرار).
شعوبنا فقيرة، تحتاج إلى الأمن والاستقرار في سعيها إلى تحصيل لقمة العيش؛ وخيارها المنطقي والواقعي، من ثمَّ، ليس الحرية السياسية وإنَّما تَحَرُّرها من الفقر وشروره.
القائلون بهذه الفكرة، وهُمْ أيضاً من مُبرِّري بقاء الحكومات المُسْتَبِدَّة، ينسون، أو يتناسون، أنَّ الفقراء هُمْ الأشد احتياجاً إلى الحرية السياسية؛ لأنْ لا صَوْت لهم يُسْمَع إلاَّ بالصحافة الحرة، والتنظيم الحر، والانتخاب الحر لممثِّليهم السياسيين.
لقد نَفَذَ أعداء "الربيع العربي"، في الداخل والخارج، من ثغرة "غياب القيادة السياسية الثورية المُنَظَّمَة"، فعاثوا فيه فساداً، مُسْتَبْدِلين الفوضى والصراع الطائفي والقَتْل والتَّقْتيل والدَّمار والميلشيات والجماعات التَّكفيرية.. بالثورة وأزهار الحرية والديمقراطية التي أرادت لها شعوبنا أنْ تتفتَّح.