الثقافة ومستقبل مصر


خليل كلفت
الحوار المتمدن - العدد: 4624 - 2014 / 11 / 4 - 07:38
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان     


بين المراوحة فى المكان والتقدم إلى الأمام يقع ظل ثقيل. فالمراوحة فى المكان تعنى المزيد من التراجع التاريخى فى اتجاه صراع مجرد البقاء! أما التقدم إلى الأمام فإنه يشترط شروطا لا مناص من الوفاء بها. فهل من حقنا أن نحلم، قبل فوات الوقت، بتحقيق ما لم ننجح فى تحقيقه فى الماضى؟
طبعا من حقنا، غير أن الحلم الذى لا يرتبط ارتباطا وثيقا بدينامية ذاتية فى الواقع الفعلى ضارّ للغاية، وليس مفيدا مطلقا. فأحلام اليقظة "المانيلوڤية" (من اسم المالك العقارى مانيلوڤ فى رواية نيكولاى جوجول: "الأرواح الميتة") لا تشحذ الهمم بل تهبط بها إلى أسفل سافلين. وهذا مرض متوطن فى مصر كما فى العالم الثالث كله، ولكنْ لماذا؟ لا شك فى أن مصر أم الدنيا وأصل الحضارة. غير أن من الصعب أن نتطلع إلى أن تعود مصر لتغدو أمَّ الدنيا من جديد؛ بل يكفى أن ننهض من كبوتنا ونخرج من مأزقنا التاريخى.
ويعتقد أعداء ثورة 25 يناير، بكل موجاتها الصغيرة والكبيرة، أن تلك الثورة هى سبب الكبوة وسبب المأزق. ولكنْ لكى نعرف السبب الحقيقى وراء ما نحن فيه ينبغى أن نفكر فى الأسباب التى أدت إلى تفجُّر الثورة أصلًا، بدلا من أن نكتفى بالحديث عن نتائجها، وعن نتائجها السلبية بالذات دون نتائجها الإيجابية. ولكن إجاباتهم جاهزة: المؤامرة الخارجية تقف وراء ثورة يناير. وتتواصل الأسئلة: كيف استطاعت المؤامرة أن تنجح كل هذا النجاح الأسطورى إذا لم تكن هشاشة بنيتنا الاجتماعية والثقافية هى سرّ نجاحها بافتراض وجودها أصلا؟
وهنا مربط الفرس! هشاشتنا الناتجة عن تبعيتنا هى مربط الفرس! فلماذا لم نتحرر من التبعية الاستعمارية إلى الآن؟ ولماذا وقعنا فى التبعية الاستعمارية أصلا؟
وبالطبع فإن الأيام دُوَل. وبوصول أوروپا الغربية إلى الرأسمالية والإمپريالية، سيطرت علينا الإمپراطوريتان البريطانية والفرنسية، فى مجرى سيطرتهما على العالم كله. ولا داعى لبحث أسباب تأخُّرنا أو تراجُعنا التاريخى الشامل، فى زمن الفتوحات الاستعمارية، ولا لبحث أسباب تقدُّم أوروپا الغربية؟ وبالطبع فإنه يمكن بحث الأسباب والنتائج فيما يتعلق بكل ظاهرة اجتماعية-اقتصادية، ولكننا نكتفى هنا بالإشارة إلى أن تقدُّم أو تراجُع الحضارات المادية والروحية بصورة غير متساوية لا يسير على خط مستقيم فلا مناص من أن يتقدم المتأخر، أو أن يتراجع المتقدِّم، فى هذا الزمن أو ذاك.
وقد سيطر الفاتحون الأقوياء على ضحايا فتوحاتهم الضعفاء. وتبعيتنا بالتالى هى مربط الفرس وبيت القصيد! ولا شك فى أن التبعية الاقتصادية هى أُمُّ كلّ التبعيات الأخرى، وأن التحرُّر منها هو أساس كل تحرُّر آخر، فكيف نتحرر من التبعية؟
وفى أدبيات ما بعد الثورة صرنا نتحدث عن أن التحرُّر من الدولة الدينية الإخوانية لن يكون بالحل الأمنى فقط فلا بد من القضاء على متلازمة الفقر والجهل والمرض والاستغلال والاستبداد والفساد، ولا بد من تحقيق العدالة الاجتماعية وكل شعارات الثورة: عيش، حرية، عدالة اجتماعية، كرامة إنسانية، فى مجرى تحقيق الشعار العام للثورة: الشعب يريد إسقاط النظام.
وبالطبع فإن النظام هو صانع هذه المتلازمة وخالقها، بل هو هذه المتلازمة ذاتها. ومعنى هذا أن إسقاط النظام يعنى إسقاط هذه المتلازمة، ودون هذا، بالطبع، جبال من التحديات!
فهل يعنى هذا أن التحرُّر من كابوس الدولة الدينية الإخوانية صار من رابع المستحيلات؟ غير أن شروط التحرُّر من التبعية هى ذاتها شروط التحرُّر من الدولة الدينية الإخوانية أو الداعشية، فلا فرق. والمتلازمة التى تحدثنا عنها باعتبارها النظام ذاته هى البيئة الحاضنة للإسلام السياسى، جنين الدولة الدينية، وبالتالى يمثل النظام أو المتلازمة، فلا فرق، مرتعا خصبا لأصوليات جماعات الإسلام السياسى.
ولا أمل مع الاقتصار على الحل الأمنى. وكان عبد الناصر قد اقتصر عليه، فى غياب حلّ العدالة الاجتماعية أو ضآلته. وفى غياب كل إمكانية للنضال الفكرى ضد الأيديولوچيا السياسية الإخوانية حيث تم إرسال القوى الوحيدة المؤهلة فكريًّا لهزيمة الفكر الإخوانى؛ أعنى المثقفين الشيوعيين والتنويريين والليبراليين، إلى السجون والمعتقلات.
ثم فتح السادات الباب واسعا أمام هذه الجماعات الأصولية الإرهابية، واستعان بها، من موقع رئيس الجمهورية ويا للهول!، فى محاربة الشيوعيين والناصريين فى الجامعات، على حين تركهم نظام مبارك يتغلغلون فى الحياة السياسية والاقتصادية والنقابية مع تطوير قدراتهم "العسكرية"؛ فى اتجاه ثورة إسلامية على الطريقة الإيرانية كان من أهم إنجازات ثورة يناير أنها قطعت عليها الطريق.
والحقيقة أن مختلف عناصر وجوانب الحل الشامل للتحرُّر من الإخوان والتبعية فى آنٍ معا مترابطة ومتشابكة ومتبادلة التأثير بحيث لا يكفى عنصر منها دون باقى العناصر لتحقيق الغاية الصعبة المرجوَّة. بل إنه لا سبيل إلى تحقيق عنصر منها دون تحقيق كل العناصر الأخرى؛ فهل يمكن مثلا أن يكون الدحض الفكرى بديلا عن اجتثاث متلازمة البؤس المادى والروحى بكل جوانبها من الجذور؟ ولكنْ هل يمكن القضاء على هذه المتلازمة، وهى المرتع الخصب لانتشار الفكر الإخوانى انتشار النار فى الهشيم، دون ثورة صناعية كبرى تحقق الثروة والتقدُّم فى الزراعة والتعليم والدخل القومى، وتسمح بمستويات من العدالة الاجتماعية بكل آثارها الاجتماعية والثقافية؛ كطريق لا بديل له إلى التحرُّر من التبعية الاستعمارية؟
وعلينا نحن المثقفين أن نخوض بلا هوادة معركة فكرية كبرى ضد الأيديولوچيا الدينية السياسية، وكذلك ضد الثقافة الرجعية التى تفرضها علينا التبعية الاستعمارية. ومن البديهى أن هذه المعركة مستحيلة دون توسيع وتطوير الحرية المنتزعة بفضل ثورة يناير.
ونحن هنا إزاء جبال من التحديات على طريق السير إلى الأمام غير أنه ليس أمامنا سوى هذا المسار الإجبارى؛ لأن البديل، والعياذ بالله، هو الهلاك!
26 أكتوبر 2014