ياسين الحافظ وعبالله العروي


ياسين الحاج صالح
الحوار المتمدن - العدد: 4622 - 2014 / 11 / 2 - 19:44
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي     

ياسين الحافظ الذي مزج بين كونه مثقفا طليعيا رفيع المستوى في أيامه وبين انخراطه المباشر في النضال السياسي هو الذي جعل عبدالله العروي مقروءا ومعروفا على نطاق واسع نسبيا في سورية ولبنان. لكن المفكر المغربي الذي قرأناه من ترجمات كان أكثر من غير راض عنها لم يكد يذكر ياسين الحافظ في أعماله الفكرية. هذا مستغرب. يفترض المرء أن المُنظِّر الذي زكى "الماركسية الموضوعية" دليلا يسهِّل على المثقف والمناضل السياسي و"المجتمع العربي" استيعاب الليبرالية دون المرور بمرحلة ليبرالية، يجد في مثقف مرموق صافي الذهن مثل ياسين الحافظ ماركسيّه الموضوعي المناسب، هو الذي لم يضرب مثالا واحدا على هذا الماركسي الموضوعي.
العروي قلما يكون مقنعا حين يتكلم على أن تاريخانيته وماركسيته الموضوعية تشدان عزائم الثوريين، فكيف يسكت حين يجد مثالا مقنعا: ثوري حقيقي متقدم على مجايليه في المشرق (مثلما العروي ذاته متقدم على مجايليه)؟ وكيف تفوت منظرا سياسيا تجربة عملية مهمة، ناجزة بصورة ما بفعل الوفاة المبكرة لصاحبها، بينما هو، المنظر، في عزّه؟ لا نستطيع مواصلة الكلام على "الماركسية الموضوعية" وعلى "التاريخانية" كدعوتان نظريتان مستبقليتان، بينما لدينا جهد سياسي عملي يستهدي بأفكار ممثلهما النظري، أليس كذلك؟ لم يكتب المفكر المغربي مقالا يراجع فيه دعواه على ضوء تجربة ياسين الحافظ، أو يجد في تجربة المثقف والمناضل السوري سندا لأفكاره.
كيف نفهم الأمر؟ في رأيي أن هناك سوء تفاهم مزدوج وراء هذا الواقع المستغرب. ليس لأن ياسين الحافظ ذلك "الماركسي الموضوعي" الذي لا يرضيه، مثلما لم ترضه ترجمات مشرقية لكتبه، تجاهل العروي تجربته، بل لأن العروي، وهذا غير خاف في "الإيديولوجية العربية المعاصرة"، كان يزدري ماركسيه الموضوعي، بينما هو يزكيه. "الماركسي الموضوعي" داعية ومعبئ، يمكن تقبله والتسامح معه، لكن خالقه بالذات لا يحترمه. وهو، أعني "الماركسي الموضوعي"، يلخص ويكثف و"ينقل الوعي" ممن يملكون النظرية ويحيطون بمسار التاريخ إلى من لديهم الحافز للخروج من تقليديتهم. السمة الجوهرية لماركسي عبدالله العروي الموضوعي أنه، خلافا لعبدالله العروي نفسه، غير مبدع، إنه وكيل و"مخلوق"، "إنتلجنسي"، وإن لم يكن تقليديا غارقا في تقليديته.
ياسين الحافظ ليس كذلك. ليس داعية ولا "مخلوقا"، ولا وكيلا لدعوة سابقة على عمله. كان مثقفا شجاعا فكريا، منفتح التفكير على التجربة المتغيرة إلى قدر كان فضيحة لمجايليه الموالين لماركسية نصية جامدة. ومعلوم أنه نال من ذلك اتهامات بالعمالة للسي آي أيه من البكداشية السورية التي كان يكن لها أعظم احتقار. ووجد صنف من اليسار السوري مناسبا أن يطلق عليه لقب "مستر يس"، في إيحاء أبله بارتباط ما بشيء أميركي أو بريطاني.
لكن سوء التفاهم مزدوج، كما سبقت الإشارة. العروي وجد ماركسيا نقديا غير تقليدي، دون أن يكون مخلوقه الموضوعي، فلم يتعرف عليه؛ والحافظ تأثر كثيرا بتاريخانية العروي إلى درجة تشارف الخروج من السياسة. كيف ذلك؟
يولي العروي في أسس تفكره الأولوية لمحور التاريخ على محور المجتمع، وللتحليل التاريخي على التحليل الاجتماعي. هذا مترتب على نقطة انطلاقه الأساسية، "التأخر التاريخي"، الذي من المعلوم أنه، خلافا للتخلف، يحيل إلى أبعاد ثقافية وسياسية أكثر منها اقتصادية. لكن إنكار استقلالية الحاضر، على ما يفعل العروي، ويتأثر به ياسين الحافظ، يؤدي حتما إلى إنكار استقلالية السياسة، واستحالة السياسة العملية تاليا. نقد ياسين الحافظ للسياسوية في "التجربة التاريخية الفيتنامية" لا يحيل إلى دفاع عن استقلال السياسة بمفهوم موسع لحقلها يشمل، لِنقل، قضايا الإيديويولوجية والدين والتشريع وعلاقات الجنسين، لا يحيل أيضا إلى تحديد اقتصادي ميكانيكي للسياسة كان الرجل انتقده بشدة في مجمل عمله، واصفا إياه بحق بالاقتصادوية. نقده للسياسوية يحيل بالأحرى إلى عمق هو الوعي (وإن محمولا على "المجتمع") وحداثة الوعي وتاريخانيته ولا تقليديته.
اليوم نسمي هذا الطرح بالثقافوية، وبعد أكثر من ثلاثة عقود ونصف من وفاة ياسين الحافظ أظهرت الثقافوية العلمانية انحيازات يمينية ونخبوبة متعالية على عموم السكان، بينما هي تجد نفسها في بيتها في الطوابق العليا من المجتمع أو قريبا منها. بعض تلامذة الحافظ يجسدون "التجربة" المناسبة في هذا الشأن. في زمنه، كان هذا الطرح يوسع مساحة ما يمكن وما ينبغي التفكير فيه في مواجهة نزعة اقتصادية طقسية، لكن ما كان مهرطقا يومها، وياسين الحافظ وصف صوته بأنه كان هرطوقيا ويتيما بين تقليديي الفكر القومي العربي في وقت مبكر من سيتنات القرن العشرين، لم يعد كذلك بحال. انقلب إلى أرثوذكسية تجتر الكلام نفسه، وإن هنأت نفسها على "الهرطقة".
الحاضر الذي تقوم التاريخانية على إنكاره هو المجتمع، السكان والطبقات والطوائف والأجيال والهويات الجنسية والأرياف والمدن والضواحي...، وهو الجغرافية والديمغرافية والاقتصاد والسياسة والسوسيولوجيا (التي يزدريها العروي) والجغرافية السياسية، و...التاريخ. يجري إنكار هذا كله لمصلحة تصور خطي للتاريخ، مختزل إلى تاريخانية. لكن التاريخانية (أو التاريخوية) من التاريخ مثل الاقتصادوية من الاقتصاد والسياسوية من السياسية والثقافوية من الثقافة: تحويل التاريخ إلى مبدأ تفسيري كلي، الأمر الذي يمتنع مع اعتبار التاريخ تاريخا، ويوجب رد التاريخ إلى "المقصد" أو "الغاية" السارية فيه: تحقق الحرية على طريقة هيغل، أو ملكوت الإنسانية في الشيوعية الأخيرة على طريقة ماركس، أو نهضة آخر هذه الأمة بما نهض به أولها، في تاريخانية مقلوبة على طريقة السلفيين الإسلاميين.
لكن، لم لا يكون العروي نفسه "تجربتنا" في الحكم على التاريخانية بعد ياسين حافظ؟ الرجل لا يزال يزكي التاريخانية على ما قال في "السنة والإصلاح" قبل سنوات قليلة. لكن اقترح أن لا نصدقه في ذلك. في تاريخانيته اليوم تاريخ أكثر بكثير مما كان فيها في الكتابات التي تأثر بها ياسين الحافظ. تاريخانيته اليوم ليست آلية تفسير اختزالية مثل الاقتصادوية، بل هي إحاطة واسعة جدا بالتاريخ، ابتعدت أكثر وأكثر عن أن تكون إيديولوجية ملهمة للعمل السياسي، على ما يظهر في "مفهوم التاريخ".
على ما يظهر أيضا "من ديوان السياسة". حال الرجل المنشغل بتفاصيل الاجتماع المعاصر في بلده (وليس في العالم العربي ككل) يُكذّب مقاله، على ما قال هو نفسه عن ابن حزم في "مفهوم العقل". ما يشكل استمرارا لتاريخانية العروي الباكرة هو الثقافوية اليوم، وليس مفاهيمه الخمسة، وما بعدها. الثقافوية آلية تفسير مثالية منهجيا، ويمنية سياسيا واجتماعيا، في كل حال.
لو بقي ياسين الحافظ حيا، وهذا ممكن جدا فهو من مواليد 1930، أكان سيكون ثقافويا؟ لا نملك أجابة موثوقة. لكن أميل إلى الرد بالنفي. في الثقافوية سياسة نخبوية ومحافظة، أستبعد أن ديمقراطيا نزيها، وذي حس سياسي ثاقب، مثل ياسين الحافظ، يمكن أن يقع فيها. في الثقافوية أيضا انكفاء عن معاينة الواقع المتغير لمصلحة التأملات الانطباعية والمجردة، وهو ما يتناقض مع ميل متمرد حقيقي مثل ياسين الحافظ. في الثقافوية أخيرا نزع تشاؤمي مجاهد، وياسين الحافظ كان أثر انخراطا في العمل وأقرب إلى ما هو متحرك وحي في مجتمعه من أن تغريه دعاوى الانقراض، أوالأسف الميلودرامي على عالم يأفل.