العجوز الحلقة الثانية والعِشرون


أفنان القاسم
الحوار المتمدن - العدد: 4619 - 2014 / 10 / 30 - 12:43
المحور: الادب والفن     


وهي تدخل بيت البغاء، نظرت صهباء إلى الزبائن، كانوا قليلين على غير عادتهم هذا المساء، وفكرت في أختها الصغيرة، ساذجة تقبل حبيبها الآن، تستسلم للمداعبات، تتغنى بالحب، وفي رأسها، قررت كل شيء. سترى هذه الليلة اختفاء دمامة وجهها. سيتحطم الشر. سيخلص جسدها من كل خطاياه. ستستعيد هويتها الحقيقية. ستكون فكرة الخير. الحق. كل الزهور ما عدا الأقحوان. كل الطيور ما عدا الحمام. ستكون خير الفكرة، كريم الآيات. كان من اللازم فعل ما عليها فعله منذ زمن طويل، ولم تزل تتردد. أمرتها القوادة بالصعود، فاستدارت صهباء: جندي! ابتسم أمام دمامتها. كان شابًا. كان جميلاً. لو لم يكن لباسه العسكري لقال الرائي تلميذًا في الثانوية. داوم على الابتسام، ودعاها إلى الصعود أمامه. كان واحدًا عن حق، السبب في دمامتها، وهي، كان يلزمها واحدٌ عن حق، لمحو كل شيء، لتدمير كل شيء. لكنها صعدت، فالنظرة الصاعقة للقوادة كانت تكفي. في الحجرة، كانت النافذة مفتوحة. إذا ما جاء الليل... عندليب. وما يدريها؟ ربما ليسه. كان عندليب بصدد عناق ساذجة، بصدد ترداد "أحبك... أحبك..." آلاف المرات، دون أن يكل. كان بصدد قتل روحه. وهو يتعرى، بان للجندي جسدُ امرأة، أملسٌ ورخو، إزميلٌ انزلق على منحدر السوء.
- لماذا اخترتني، أنا؟ سألت صهباء فجأة. لست أجمل ما في البيت.
- أنت تشبهينها، أجاب الجندي.
- من؟
- خطيبتي.
- خطيبتك.
- أنت تشبهين خطيبتي.
- أنا أشبه خطيبتك.
- اليوم تكون قد ماتت منذ سنة.
- أعد ارتداء ثيابك، أمرت صهباء جازمةً، إحياء لذكرى خطيبتك، سأقضي الليلة معك، فقط معك، ولكن ليس هنا.
- المكان خانق هنا.
- ككل مكان.
- على الخصوص هنا.
- كما تقول.
كان هو أيضًا يطارد نفسه، يبحث عن نفسه، يبحث عما فقده في يوم مضى، عمن فقده، وهي من وجد، صهباء. كان يتمنى أن يجد الأخرى، أن يجد نفسه. كان يتمنى مثلها أن يستعيد جماله، وكانت تأمل أن تستعيد الأخرى التي فيها، هو، بمضاجعتها، هي، بقتله.
عاد الجندي يرتدي ثيابه، فذهبت صهباء بيديها إلى ثديه، وبشفتيها إلى بطنه.
- ماذا قلت لي؟ سأل الجندي.
- كيف ماتت؟ سألت صهباء.
- هكذا.
- قتيلة؟
- لا.
- كيف؟
- موتٌ طبيعيٌّ.
- لا يوجد.
- الموت شيء غير طبيعيّ لمن يعرف الموت أعرف.
- إذن لا تقل موتًا طبيعيًا.
- طبيعيٌّ غيرُ طبيعيّ.
- وهل كانت حقًا تشبهني؟
- كانت تشبهك.
- هل كانت دميمة مثلي؟
- أنت لست دميمة.
- أنا الدميمة لست دميمة!
- أنت لست دميمة.
- وكل هذه الدمامة؟
- أنت لست دميمة.
غضبت، أعطته ظهرها.
- أنا لا أجدك دميمة.
- كفى، نبرت، انْهِ ارتداء ثيابك.
- ربما لستِ جميلة ولكنك لستِ دميمة.
- قلت كفى، عادت تنبر.
- المسألة كيف أراك.
- طبيعيٌّ غيرُ طبيعيّ، تهكمت.
- تمامًا، فالأشياء كيف نراها.
- وهذا، كيف تراه؟ نبرت، وهي تبدي ثديًا مدمرًا لجماله.
- كما أرى وجهك أراه.
- وهذا كيف تراه؟ عادت تنبر، وهي تبدي بطنًا مدمرًا لجماله.
- كما أرى وجهك أراه.
- وهذه كيف تراها؟ تلعثمت، وهي تبدي فخذًا مدمرةً لجمالها.
- كما أرى وجهك أراها.
بكت صهباء بغزارة، فاقترب الجندي منها، وضمها بكل تحنان الأرض راجيًا:
- لا تبكي، يا حبيبتي! ستتلفين عينيك! كم مرةً قلت لك ألا تبكي؟ كم مرةً أفهمتك أن البكاء لا ينفع لشيء؟ كم مرةً شرحت لك أن للبحار عيونًا كعيوننا، وأن لا جدوى من البكاء، وكل هذه البحار التي تبكي علينا؟ أنا هنا، وسأبقى هنا، قربك. عديني بألا تبكي، عدي حبيبك! أحب عينيك، أحب شفتيك، أحب ثدييك، أحب فخذيك، أحب كل جسدك، أحبك كلك، يا هدية الحياة لي!


يتبع الحلقة الثالثة والعِشرون