العجوز الحلقة التاسعة عشرة


أفنان القاسم
الحوار المتمدن - العدد: 4616 - 2014 / 10 / 27 - 15:32
المحور: الادب والفن     


كانت زينب وأمها هناك، كشبحين مهجورين في ساحة المعدمين بالرصاص. غير بعيد عنهما، كانت العجائز الاثنتا عشرة يسهرن في مقهى الأقاقيا، ويتحدثن بصوت منخفض. كان هناك أيضًا ثلاثة قرويين، وهم يتهامسون بأقصى حذر، ويعبسون، ثم يستغرقون في صمت طويل، ولم يتأخروا عن ترك المقهى. سارعت ساذجة بقطع الساحة، وهي لعجلتها لم تلاحظ وجود أمها وجدتها. كان حبيبها ينتظرها، وهي لم تكن تفكر إلا في هذا، في اللقاء والقبلات والمداعبات. كان من العادة أن يناديها، ثم يذهب إلى مكان قصيّ قرب السور، لتلحق به بعيدًا عن الأنظار، فهو كان "غريبًا" عن المقاطعة، ولم يكن الناس يستمرئون رؤية الغريب. كانوا على خطأ، فعندليب كان شخصًا قويم السلوك، بشمائل كل سكان الساحل: عنيفًا ولطيفًا في آن. كان عنيفًا مع الأعداء، ولطيفًا مع الأصدقاء.
لمحتها أمها وأوقفتها:
- إلى أين أنت ذاهبة على مثل هذه الساعة؟
تقدمت ساذجة منها وقبلتها:
- سأعود خلال لحظة، يا أمي.
- تخرجين في هذا الليل؟ في هذا الجحيم من البرد والألم؟
- لن أتأخر، أعدك.
اقتربت جدتها بقدم متعثرة، فقبلت ساذجة يدها، إلا أنها بقيت حطبًا. الناس لا يقولون أشياء مُطْرِيَة عن بنت تخرج في الليل وحدها، أبدًا! آه! لو توقف الأمر عند هذر الناس... ولكن باستطاعة أي شخص الاعتداء على أية فتاة في أي مكان. عندما كان للعجوز عمرها، لم تكن تجرؤ على الخروج وحدها، حتى في عز النهار. كان هناك من يرافقها دومًا. وبعد لقائها الأول عند الشلال مع سيف، لم تستطع خلال شهور الاختلاء مرة واحدة بالرجل الذي حجزت له قلبها. وسيفها المسكين لم تسنح له فرصة الاقتراب منها ليكلمها، كان يكتفي بالنظر إليها من بعيد، وبالابتسام لها!
- عودي إلى البيت بسرعة، يا ساذجة، قبل أن يعتدي أحدهم عليك! أمرت العجوز.
- ولكن، يا جدتي التي أعبد، أنا كبيرة بالقدر الذي يجعلني قادرة على الدفاع عن نفسي.
- إذن كوني حذرة ولا تكلمي أحدًا.
- أتكلم مع من أريد، ليس أي واحد، ولكن مع من أريد. أنا حذرة، يا جدتي المعبودة، فلا تقلقي من أجلي!
- في عالم البؤس والتعاسة، فتاة في مثل سنها عليها أن تحذر من أقل نسمة، فمَنْ حَذِرَ سَلِمَ، قالت العجوز ذات أمارات الحجر.
- دومًا ما كانت تخرج جميلة بصحبة من يصحبها... ومع ذلك، كان الناس قديمًا طيبين، وكانت عيونهم مفتوحة، ففتح الله عليهم، قالت العجوز ذات مخالب الصقر.
- اليوم، الناس الأوادم، اقتلعت عيونهم، وأوباش الناس في كل مكان، فأخذوا كل شيء بِوَبَرِهِ، قالت العجوز ذات دموع الملح.
العجائز معًا:
- حاذرت جميلة خلال كل شبابها، وستحاذر خلال كل شيخوختها.
زينب:
- أنا أيضًا أحاذر، أنتبه، وخاصة في هذه الأيام.
كل العجائز:
- على الرغم من سنها، تنتبه، زينب. لها، ليست المسألة مسألة سن. لا غير أنها تخشى البربرية المختبئة في الإنسان، والتي ذاقت منها المر في كل أعمارها.
- أطلب منك أن تعودي أدراجك، يا ساذجة، قالت زينب لابنتها. لن ينقذك حسن طالعك، هذه الليلة.
- سأنتبه، يا أمي، وأحاذر، ولن يحصل لي شيء، أقسم لك.
أطلقت العجوز زفرة: كانت البنات طائعات في زمنها، في زمن زينب. زينب. الغالية على قلبها زينب. تداوم على الطاعة. حتى أنها تحب الطاعة. البنات في زمنها وفي زمن ابنتها كن يعبدن الطاعة. لم يكن يكرهن الخضوع. إن لم يطعن لم يكن يشعرن بكونهن بنات. إن لم يتركن أنفسهن نهبًا للتوبيخ، وفي بعض الأحيان لسوء المعاملة، لم يكن يشعرن بكونهن يعشن.
- لا تكره الخضوع، زينب، لكنها تعاند أحيانًا، تركب رأسها لحظةً واحدةًً ثم تستسلم، وتغدو بنعومة أنثى الحَمَل: ابنتها ساذجة استثناء. استثناء، ساذجة. أما الأخرى، الفظيعة، فلن تخضع إلا ميتة!
في تلك اللحظة، استدارت العجائز الثلاث نحو قامة صهباء، الواقفة قربهن منذ عدة لحظات. لا يُسْر يستعجلها، ولا عُسْر يستبطئها. راحت تروح وتجيء كالشبح، وكأنها تعبر الجدران.
- هل هو شبح الشيطان أم تمثال قادم من جهنم؟ تساءلت العجوز.
- هذه ابنتي البكر، قالت زينب، هذه صهباء.
زلقت صهباء صوبهما بخفة، لمستهما، قرصتهما، ابتسمت لهما بغرابة، فسألتها أمها بقسوة:
- أذاهبة أنت إلى لقاء الشيطان؟!
كانت تعرف إلى أين تذهب، ابنتها الكبرى: عند الفرنسيات. لم تكن زينب تجرؤ على قول إلى الماخور، فمن العار قول "ماخور". وبالنسبة لها، كان هذا المكان الملعون يثير لديها ذكريات رهيبة. على حين غفلة، ألقت صهباء بنفسها عليها، وزرعت أظافرها في وجهها، فنشبت معركة بين الأم والابنة، بين قطتين وحشيتين... توصل من كان هناك، في الأخير، إلى اقتلاع الأم من براثن ابنتها. هذا ما يحصل بين كائنين فوق العادة، ويكرهان بعضهما، فوق ذلك! غمست زينب إصبعًا في دم صهباء، ورسمت دوائر في محاولة منها لطرد الشيطان المحلق فوق ساحة المعدمين بالرصاص، والمختلط بأرواح الشهداء.
- يا مجرمة! نعقت الأم، يا غرابة!
ولتثير غبار الليل، أخذت صهباء شارع الأقحوان، واختفت في زُرْقَتِهِ.


يتبع الحلقة العِشرون