عندما يتحدَّث السيسي عن مصر المُهَدَّدة في وجودها!


جواد البشيتي
الحوار المتمدن - العدد: 4616 - 2014 / 10 / 27 - 14:19
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     


إنَّ أحداً من الموضوعيين في فَهْم طبيعة حُكْم السيسي لا يُمْكنه إنكار أنَّ هذا الحُكْم هو ثمرة اغتصاب (عسكري) للسلطة، وأنَّ "شعبيته" زائفة، مُصْطَنَعَة، مغشوشة، وأنَّه لا يستطيع البقاء والاستمرار من غير أنْ يَجْعَل مصر عُرْضَة لمخاطِر جَمَّة، الكامِن منها أكثر من الظاهر، على عِظَم الظاهر؛ لكنَّ هذا لا يعني، ويجب ألاَّ نَجْعَلَه يعني، أنَّ جماعة "الإخوان المسلمين" هي التي لها من الوزن الشعبي ما يكسبها صفة مُمَثِّل الشعب، أو مُمثِّله الرئيس.
في شمال سيناء، وقُرْب مدينة العريش، قُتِل نحو 30 جندياً مصرياً، معظمهم ذهب ضحية هجوم انتحاري. لن نُقَلِّل من شأن هذا الحادث؛ لكن ألا يحقُّ لنا أنْ نتساءل عن الحيثيات التي جَعَلَت السيسي مُبْدِياً كل هذا الذي أبداه من غضب، وهو يُحَدِّث الشعب (مُحاطاً بكبار القادة العسكريين) عمَّا ينطوي عليه الهجوم (الانتحاري) من تهديد لوجود مصر نفسها، وعن "المؤامرة الكبرى" التي تستهدف تعريض وجود مصر للخطر، وكَسْر إرادة جيشها وشعبها، وعن "الدَّعْم الخارجي" الذي تلقَّاه المهاجِمون؟!
لأسباب يعرفها السيسي (وكثير من المصريين وغير المصريين) لكنَّه لا يجرؤ على إعلانها والاعتراف بها، جَعَل هذه "الحبَّة" في حجم "قُبَّة"؛ فمقتل نحو 30 جندياً مصرياً (وفي شمال سيناء) يجعل وجود مصر نفسها في خطر!
وكان ممكناً ألاَّ يتمادى السيسي في هذا "التضخيم" لو سُئِل عمَّا كان سيحلُّ بمصر لو لم يشن حملته الأمنية والعسكرية على "الإرهابيين" في شمال سيناء؛ فهو، وفي الخطاب نفسه، قال السيسي: "إنَّ جهود مكافحة الإرهاب (في سيناء) أسفرت عن قَتْل مئات الإرهابيين في الأشهر الأخيرة.. ولو لم يتدخَّل الجيش لتحوَّلت منطقة سيناء إلى كتلة إرهاب وتطرُّف".
وإنَّها، على ما نَسْتَنْتِج من ذلك، لـ "ضريبة نجاح ضئيلة" أنْ يُقْتَل نحو 30 جندياً مصرياً؛ فهل كان السيسي يتوقَّع أنْ تُحْرِز حملته هذا "النَّجاح الأمني العظيم"، إلا وهو الحيلولة دون تحوُّل سيناء إلى "كتلة من الإرهاب والتَّطرُّف"، من غير أنْ يتكبَّد جيشه هذا النَّزْر اليسير نسبياً من الخسائر في الأرواح؟!
السيسي كان يريد شيئين متناقضين في آن؛ فهو أراد تضخيم الحادث بما يُمَكِّنه من أنْ ينفث في روع المصريين أنَّ وجود مصر نفسه بات في خطر، وينبغي لهم جميعاً، من ثمَّ، أنْ يتكتلوا ويتِّحِدوا تحت قيادته حتى يَعْبُر بهم، وبمصر، هذا البحر من المخاطِر، وأنْ يَكُفُّوا عن مطالبته بأشياء فَقَدَت كثيراً من أهميتها الآن حيث لا صوت يجب أنْ يعلو صوت المعركة لدرء المخاطر عن وجود مصر، وحيث ينبغي للشعب أنْ يُفَضِّل الأمن على الحرية (ولقمة العيش) إذا ما سَوَّلَت له نفسه المفاضَلة بين الأمن والحرية؛ كما أراد، في الوقت نفسه، ألاَّ يُنْظَر إلى الحادث على أنَّه دليلٌ قوي على فشل حملته الأمنية والعسكرية في سيناء، فحدَّث المصريين عمَّا كان سيَحْدُث لو لم تكن هذه الحملة؛ لقد سعى في إخافتهم من أمْرَيْن هما من توقُّعاته (اللاواقعية)!
سيناء كانت للسيسي قصة فشل أمني يَضْرِب جذوره عميقاً في فشله في التأسيس لعلاقة جيدة وسوية بين أهلها وبين المركز في القاهرة؛ وسائر مصر كان له قصة فشل سياسي وديمقراطي واقتصادي؛ ولَمَّا تمخَّض جَبَل وعوده وتعهداته وولد فأراً، شرع يُصَوِّر كل معارَضة لحكمه (أكانت مقبولة أم غير مقبولة، من وجهة نظرنا) على أنَّها مَصْدَر تهديد لوجود مصر وجيشها وشعبها، و"مؤامرة كبرى"، وأدوات في أيدي قوى خارجية؛ وكأنَّ السيسي هو مصر، ومصر هي السيسي!
ومع اشتداد الحاجة لديه إلى مزيد من الاستبداد والقمع، لم يبقَ في جعبة السيسي من حلول إلاَّ ذاك الذي حذَّر منه نابليون قائلاً: "إنَّك تستطيع فِعْل كل شيء بالحراب عدا الجلوس عليها"؛ ولقد قرَّر السيسي المضي قُدُماً في "نهجه الأمني" في شمال سيناء، مهيِّئاً المصريين لتقبُّل فكرة إخلاء الشريط الحدودي مع قطاع غزة من سكَّانه.
ولو كان السيسي حريصاً حقَّاً على الأمن القومي لمصر لسعى في تغيير الحال الاستراتيجية لشبه جزيرة سيناء؛ فهذا الجزء الكبير من إقليم الدولة المصرية ما زال في حالٍ استراتيجيةٍ يتأكَّد فيها في استمرار أنَّ مصالح الأمن القومي الإسرائيلي لا مصالح الأمن القومي المصري هي التي تُخْدَم على خير وجه في شبه الجزيرة المصرية!