عين العرب كوباني


سعود قبيلات
الحوار المتمدن - العدد: 4608 - 2014 / 10 / 19 - 09:45
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     


-
يسمِّيها العرب «عين العرب»، ويسمِّيها الأكراد «كوباني». عين العرب أم كوباني، ليس مهمّاً؛ فكلاهما اسم لمدينة بطلة شامخة. مدينة قاتل رجالها ونساؤها، طوال شهر، ببسالة نادرة، مع أنَّه لا سند لهم، ومع أنَّ ميزان القوى كان راجحاً لعدوِّهم، ومع أنَّ الذبح بصورة همجيَّة كان هو المصير المعدّ لهم.
وفي هذه المعركة المحتدمة في كوباني، لا يدور الصراع مِنْ أجل السيطرة على الأرض فقط؛ بل أيضاً مِنْ أجل سيطرة واحد مِنْ نمطين حضاريين شديدي التناقض على حساب الآخر.
ويمكن اختزال هذا الصراع الحضاريّ، والرمز إليه، في حالة «عين العرب» خصوصاً، بالموقف من المرأة ودورها؛ فمقابل احتقار التكفيريين الفعليّ للمرأة، وامتهانهم كرامتها، وحطِّهم مِنْ إنسانيَّتها، وتعاملهم معها باعتبارها ناقصة عقلٍ ودين، وحصرهم دورها في الإشباع الغريزيّ الجنسيّ للرجل.. الرجل الذي لا تعادل منه، ضمناً، سوى المنطقة الواقعة بين أعلى ركبّته وأسفل سرّته (هذه المنطقة هي عورة الرجل لدى التكفيريين – كما هو معروف – مقابل اعتبارهم المرأة كلّها عورة) – نجد أنَّ المرأة في حزب «الاتّحاد الديمقراطيّ الكرديّ» اليساريّ، في سوريَّة، هي صنو الرجل، ورفيقة سلاحه ودربه، كما أنَّها كاملة الأهليَّة والحقوق والواجبات. ولهذا، أي بفضل تفوّقهم الحضاريّ ورفعة قيمهم الإنسانيَّة، صمد المقاتلون الأكراد السوريون البواسل الذين تقودهم امرأة*، والذين تمثِّل النساء ثلاثين بالمائة مِنْ تعدادهم.
ولقد قاتل شُبّان وفتيات «عين العرب» «كوباني»، طوال هذه المدَّة، ليس دفاعاً عن مدينتهم فقط؛ بل أيضاً عن شرفهم وكرامتهم وقيمهم الإنسانيَّة النبيلة. وإذا كان معنى الشرف والكرامة، بالنسبة للتكفيريين، ينحصر، ضمناً، بالمنطقة الواقعة بين ساقي كلٍّ منهم، فإنَّه، لدى مقاتلي عين العرب، قيمة معنويَّة سامية، تتجاوز ذواتهم وأجسادهم لتعبِّر عن شرف وكرامة شعبهم ووطنهم وأمّتهم، وعن شرف وكرامة الإنسان بوجهٍ عامّ، وعن قيم التقدّم والتحضّر. لذلك، يجب أنْ تكون «عين العرب» وأبناؤها وبناتها البواسل في بؤبؤ عين العرب والكرد، معاً، بل وكلّ الشرفاء في كلّ مكان.
ولأنَّهم قاتلوا بكلّ هذه الشجاعة وبكلّ هذا الإخلاص والتفاني، دفاعاً عن وطنهم وعن قيمهم، فقد وجد أبناء عين العرب أنفسهم في مواجهةٍ مفتوحة مع كلّ لصوص ومجرمي المنطقة والعالم. ولا بدَّ أنَّ لسان حال أولئك اللصوص والمجرمين يقول الآن: مِنْ أين طلع لنا هؤلاء المقاتلون الشرسون الذين لم نحسب لهم حساباً، لينتهي الأمر بأنْ تقطع مدينة صغيرة، كهذه، لم يكن يسمع بها أحد، طريقنا وتربك مخطَّطاتنا ومشاريعنا؟!
وهكذا، فـ«التحالف الدوليّ» الذي يسمِّيه أصحابه «التحالف الدوليّ ضدّ الإرهاب»، وقف يتفرّج لمدّة غير قصيرة نسبيّاً على يوميَّات القتل المعلن في كوباني، رغم أنَّه جاء إلى المنطقة وحشد صفوفه بدعوى مواجهة الإرهاب وحماية سكّان المنطقة منه، ليخرج على العالم في النهاية بعذرٍ اقبح مِنْ ذنب؛ فيقول إنَّه ليس مِنْ ضمن خططه حماية «عين العرب» من المجزرة البشعة التي تنتظرها، وإنَّ خططه أشمل مِنْ ذلك وأكبر بكثير، متناسياً أنَّه حين دعته قبل مدّة وجيزة مدينة كرديَّة أخرى (أربيل) لإنقاذها مِنْ هجوم «داعش» لم يتأخَّر عن ذلك ولم يتردَّد؛ وذلك لأنَّ الإقطاع الحاكم في أربيل إنَّما هو خادم صغير في سلك المصالح الإمبرياليَّة والصهيونيَّة في المنطقة، وقد أباح أرضه وبلده للجواسيس الأميركان و«الإسرائيليين» ليقيموا فيها أوكاراً عديدة ومهمّة لهم. أمّا كوباني فهي مدينة حرّة، وهي لأهلها الأكراد السوريين، ومحرّمة على الأعداء بكلّ أصنافهم.
ومِنْ ناحيةٍ أخرى، وضع أردوغان دبَّاباته على الجهة المقابلة من الحدود، ووقف يترقّب سقوط عين العرب (كوبانيّ) لحظةٍ بلحظة، ويسدّ الطرق أمام المتطوّعين الأكراد الذين هبّوا لنجدتها من الجانب التركيّ، وراح يتحدّث عن المناطق العازلة في الجانب السوريّ، ويطرح الشروط بشأن العلاقة بين المواطنين السوريين من الأكراد وبين بلدهم، ويحدّد ملامح النظام الذي يريده لسوريَّة.. الخ. فقد أثار هجوم «داعش» على «عين العرب» شهيَّته للخلاص مِنْ هذه البقعة الثوريَّة الكرديَّة الصلبة الواقعة على حدود بلاده؛ كما أنَّه أنعش أطماعه الاستعماريَّة العثمانيَّة وأحقاده الشوفينيَّة الدفينة. جاهلاً بأنَّ شعوبنا وأمّتنا لم تنسَ أنَّ القرون الأربعة التي مرَّتْ عليها تحت نير الاستعمار التركيّ (العثمانيّ) كانت أسوأ مراحل تاريخها؛ فحتَّى ما سُمِّي بعصور الانحطاط في التاريخ العربيّ لم يكن مطلقاً بسوء العهد العثمانيّ. ولا يقتصر هذا الأثر السلبيّ المدمّر على البلاد العربيَّة وحدها؛ بل يتعدَّاها إلى جميع الشعوب والبلدان التي رزحتْ تحت نير الاستعمار العثمانيّ؛ حيث أنَّها لم تتمكَّن حتَّى هذه اللحظة مِنْ تجاوز آثاره السلبيَّة واستئناف مسيرتها الحضاريَّة بالشكل المطلوب والطبيعيّ. على سبيل المثال، قارنوا بين بلدان أوروبّا الشرقيَّة التي استعمرها العثمانيّون وبين نظيرتها التي لم يتمكّنوا من استعمارها.
المهمّ، راهن الطرف الآخر، كلّه، على سقوط عين العرب (كوبانيّ)، وتمنّوا سقوطها تحت نير «داعش» اليوم قبل الغد. ولقد بدا هذا واضحاً مِنْ مواقفهم وتصريحاتهم حتَّى الأمس القريب؛ فبينما كان المقاتلون الأكراد يتحدّثون عن عزمهم على مواصلة القتال والصمود حتَّى آخر رمقٍ مِنْ آخر امرأة ورجل منهم، كان وزير الدفاع الأميركيّ، تشاك هيغل، الذي زعمتْ بلاده أنَّها حشدتْ قوّاتها وقوّات حلفائها وأتباعها لمقاتلة «داعش»، يتعمّد الحديث عن عين العرب (كوبانيّ) كوضعٍ ميؤوسٍ منه. إذ راح يصف الوضع هناك بأنه «خطير جدا». ولم يكن كلامه هذا مجرّد تحليلٍ أو تقدير موقف موضوعيّ؛ بل كان تعبيراً عن أملٍ وتمنٍّ. ولقد ذكَّرني الجزء اللاحق مِنْ تصريحه (هيغل)، بشخصيَّة الطبيب الكومبارس في بعض المسلسلات المصريَّة الرديئة، الذي لا يفعل شيئاً في العادة سوى النطق بتلك العبارة النمطيَّة البليدة ما إنْ يفزع إليه أهل المريض وهو خارج مِنْ غرفة العمليَّات، فيقول لهم بنبرةٍ دراماتيكيَّة تافهة: إحنا عملنا اللي علينا والباقي على الله! كانت هذه العبارة بلسان تشاك هيغل هي: «نفعل ما في وسعنا مِنْ خلال ضرباتنا الجويَّة للمساعدة في صدّ تنظيم داعش. في حقيقة الأمر أحرز بعض التقدم في تلك المنطقة.. إنها مشكلة صعبة للغاية». ثمَّ أكَّد – لا فُضَّ فوه – أنَّ «المعركة ضد "داعش" عمليَّة طويلة الأمد». كان ينقصه أنْ يقول: «ما ليش نِفس!» ثم يستدير بحركة مسرحيَّة مفتعلة، ويقول وهو مكسور الخاطر: «حا أطلع أغيَّر هدومي!».
لسوء حظّ تشاك هيغل (وسوء حظّ أردوغان زميله في حلف الأطلسيّ الذي طال وقوفه على التلّة المقابلة من الحدود مترقّباً سقوط كوبانيّ) فقد تمكَّن المقاتلون الأكراد، بعَدَدهم القليل وعُدَدهم المحدودة، في اليوم التالي فقط لتصريحات هيغل المثبِّطة المشؤومة، مِنْ صدّ هجوم قوّات «داعش» وإخراجها مِنْ العديد مِنْ أحياء عين العرب البطلة.
عين العرب (كوبانيّ) قصَّة بطولة أسطوريَّة، وعنوانٌ لانتصار الحضارة على التخلّف، والقيم الإنسانيَّة والمبادئ النبيلة على النوازع الظلاميَّة البدائيَّة.
تُرى، هل تعرف تلك الثلّة البطلة، من المقاتلات والمقاتلين الأكراد، ما هو حجم الأمثولة البطوليَّة التي سطَّروها، وما هو مردودها ومغزاها؟
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ــــــــــ
*يجدر بنا هنا أنْ نذكر اسم هذه القائدة البطلة، الذي أصبح يتردّد كثيراً في الفضاء الإعلاميّ، ونقدِّم نبذة موجزة عنها: إنَّها ميسا عبدو، تبلغ من العمر 40 عاماً، وتُعرف باسمها الحركيّ «نارين عفرين». وعفرين هو اسم بلدتها في شمال سوريَّة. وميسا، بحسب ما يذكر رفاقها ومعارفها «مثقَّفة وذكيَّة، وتتميَّز بهدوئها». كما «أنها قدوة في الأخلاق والطيبة رغم قساوة الحياة العسكريَّة، وهي تتفهَّم نفسيَّة مقاتليها وتناقشهم في مشاكلهم بشكل مباشر».