العجوز الحلقة السابعة


أفنان القاسم
الحوار المتمدن - العدد: 4602 - 2014 / 10 / 13 - 12:43
المحور: الادب والفن     


تنفست الصُّعَداء لتقول كم غدت صعبة اللحظات التي عاشتها منذ، منذ... كل شيء يختلط، ويذهب حُلُمُها ذهاب الزمان على مر الأيام. الشهور تمر والأعوام والقرون، وهي هَهُنا، ترى الزمان يمضي في أحلامها. خطت خطواتٍ ثلاثًا. بطيئة، ثقيلة. والتفتت. إلى حيث كانت منذ لحظة: لا شيء، لم تر شيئًا.
إنها العجوز.
وجهها حفرته الريح والدموع، خريطة ممزقة قطّعتها التجاعيد طولاً وعرضًا، شعرها عشب يابس جف تحت الشمس، وجسدها ما كان إلا غصنًا مكسورًا، معقوفًا.
رفعت قدمها من أجل خطوة جديدة، إلا أنها أحست بنفسها كالخيط البالي، على وشك الانحلال. فت في ساعدها وجع قديم، يا للتعاسة! تعاسة الأزمان، تعاسة الأحياء، تعاسة الأنام! تعاسة التعاسات، وكل التعاسات التي جرؤ الإنسان على ابتداعها مذ كانت الأزمان.
أحست في ساقيها بخفق الحياة، وهو يخبو رويدًا رويدًا، فهل تستطيع الصعود فوق، حتى الربوة؟ فتحت عينيها على سعتهما، وجفناها يرمشان. أدارت وجهها نحو الشمس. الشمس! تشققت شفتاها لابتسامة، وتقوس حاجباها الكثان. بقيت ذراعها في حركتها دون حراك، فذراعها لم تعد ملكها. تلك الشمس التي أرادت السلام عليها لم تعد شمسها، لم تعد تسطع لها. شمسها، شمس الماضي الخائن، انطفأت، ولم يعد من حق لها إلا في الليل الدامس، فلا هي آية من الآيات، ولا هي ضوء وماء، والقمر الذكر حل محلها حاملاً عصا من آس الجنة صانعًا أسى الكواكب السبعة، وفي نهاية كل عام كان القتل له هدية الزواج، فأمسكت بالرماد تذروه مع موعد الحرث الذي مضى، وانكفأت على أعقابها في ضوئه الدموي تسعى، فلا يسعى الظل معها ولا الضوء، وجعلت لها الظلامَ لباسًا. بعد الآن، رمادٌ وغبارٌ كلُّ شيء. كلُّ شيءٍ غدا حجرًا. هل هو خطأها؟ كل الأخطاء التي ارتكبها غيرها؟ غير أنها لم تكن تشاء ما لم تشأ. التقطت الرماد في يدها، لكنه لم يعد اليوم الأول للصوم، وقد مضى فصل الحراثة. زلق الرماد بين أصابعها، وحملته الريح بعيدًا.
هُنَيْهَة. ثم تحركت. خطوتان. عيناها محدقتان. فمها مُرّ.
زفرت. مرة أخرى. يا إلهي! في الحاضر، وهي وحيدة مع الله، دارت حول نفسها، ذاهلة: لم يكن قصدها. بقيت ذراعها في حركتها دون حراك: ذراعها ثقيلة. ذاك الثقل الساحق لكتفيها يضاعف ألمها، ألم قديم يسري فيها رويدًا رويدًا، ويترك في فمها مذاقًا مرًا. لمحت الأخرى، الضحوكة. لمحت جميلة. لم تُعَلِّمْهَا أمها أبدًا ما المرارة، ما الحزن، ما المِرَّة؟ فقط الحلاوة والغبطة. لهذا ترى "الأخرى" وتقول لنفسها لا، لن تعرف الأخرى ما الألم. ارتكزت على شجرة يابسة، قصفت عرقًا، وأخذها التفكير. لن تعرف الأخرى أبدًا ما الألم. ألمها كمرض الروح، يحيلها مُرَّة. أمها، أمها التي لها، خدعتها. دون أن تعلم. كانت سذاجة الكبار في ذلك الوقت، في تلك الغضراء من العيش، ولكنها خدعتها. فجأة، رأت نفسها – رأت بالأحرى الأخرى- وهي تبكي في ثوبها الممزق بيدين ملوثتين بالدم: سقطت من شجرة التوت. ثم نظرت إلى يديها، ونادت أمها.
عادت العجوز بهذه الذكرى الملطخة من حيث جاءت لما فجأة سقط عليها صوت سقوط الصاعقة:
- أيتها العجوز!
صوتٌ آتٍ من الحجارة:
- أيتها العجوز! أيتها العجوز!
كأنه ينبثق من غائر أحشائها.
نظرت حولها: لا أحد. الحجارة تنادي. حياتها مصنوعة من حجارة ودموع وضربات أظافر. نظرت حولها. الحجارة تنظر إليها بدورها، وتتفادى النظر إلى الحجارة، فتظهر عجوز أخرى، وكأنها تخرج من الصخر. لم تكن زهرة. زهرة ماتت منذ سنين. هذه تدعى العجوز ذات أمارات الحجر. تجاهلتها تمامًا، تلك العجوز التي حب الفضول ديدنها في كل مرة تكون في حضرتها. كباقي عجائز القرية. للهرب من نظرتها الفاحصة، سارعت بالدخول إلى الحظيرة. كانت طريقة العجائز في الهرب من بعضهن البعض، شيء لا طائل فيه، وكان رُهاب الاحتجاز أقل وطأة عليهن وللعجوز بيت الروح، فترتاح في العتمة، ربما بدافع نظرها الضعيف، فالأشياء لا تمييز بينها، ولها لون الغابة المحترقة. لكل أشياء الحياة نفس هذا المظهر الغامض، حتى في الضوء. لو لم تزل أمها على قيد الحياة لقالت لها: كفى هذيانًا، يا جميلة! وحذار من اللاأمل! حذار من اللاأمل؟ حقًا؟ ولكني لست "الأخرى"! أنا الدميمة، بعد كل ما عشت!
مست العجوز جناحي الدجاجة مسًا خفيفًا، كانت تحضن بيضها، فاطمأنت إلى اليد التي تعرفها. جلست إلى جانبها، بقدر ما قدرت عليه، على بقايا نقالة مقلوبة، ولم تعد ترى نفسها طفلة. لم تعد ترى أمها، كانت ترى نفسها هي أُمًا، وترى أطفالها، أطفالها الغالين على قلبها. عندئذ، كلمت الدجاجة، وهي تأخذ مكانًا قربها. ستصبحين أُمًا، أيتها الصغيرة، قالت لها، وسيجثم أفراخك تحت أرياشك، سيعرف كل واحد منهم كيف يناديك باسمك متى جاع، وستكونين سعيدة لما يأكلون شُبعتهم.
ولكن كيف هذا؟ تساءلت العجوز الأخرى ذات أمارات الحجر. ليس من الممكن! ليس من المعقول هذه الأمنية الغبية بينا نحن نكابد ما نكابد من أشياء رهيبة! يجب تقويم أفكارها، بدونِ قلبِ غريزةِ الأمومةِ لديها، غريزة بقيت سليمة رغم العمر، ولها يجب قول ما يجب قوله: إن هذا إحساس كل أُم منذ ميلاد العالم، ما قالته منذ قليل. إلا أن تعاسة الأم دومًا ما كانت أكبر تعاسة لما ينقص الغذاء، وسعادة الأم دومًا ما كانت أكبر سعادة لما يكون هناك فم تم ملئه. هناك دومًا فم من الواجب ملئه! هناك دومًا هذه المعركة: أن نعيش لنتوالد وأن نتوالد لنعيش، وستكون دومًا في فم كل عجوز، تركت كل الحياة وراءها أو يكاد، هذه الذريعة السهلة: الأُم التي تريد إطعام صغارها لهي قادرة على زعزعة الجبال.
وإذا ما الجبالُ قاومت؟
سنصب عندئذ دمها في الفم الصغير، فللوالدين اللذين جاءا به إلى الوجود، الطفل أغلى من كل غال. غالٍ هو أولاً، ثم هو وعد القصور والعلالي!
فجأة، سُحرت العجوز الأخرى بسحر الوعد: القصور والعلالي ! حسنًا ما قالت، جدة الدجاج! هذه المرة قالت ما هو حسن! كل شيء بدأ هكذا لكل الأمهات ما عداها، لأنها تختلف عن الأخريات. أتنسى من هي؟ أتنسى عيد اللآلئ وكل الأعياد التي احتُفل بها أروع ما يكون الاحتفال إكرامًا لها؟ أتنسى يوم عرسها؟ لم تكن العجوز ذات أمارات الحجر بعدُ مولودة إلا أن أمها في حياتها لم تتوقف عن الحديث عنه. كانت الحياة عيدًا لها، لهم، ثم انقلب كل شيء، غرق كل شيء كقارب مثقل بالأحلام. ليس لأن سيفًا لم يكن ثريًا، كان الثراء يكمن في زرع الأرض، في بذر الذهب، ولكن خاصةً في حب بعضهم البعض، فالحب المبدأ الحي للأحاسيس، وهم لهذا كانوا يعيشون سعداء على الرغم من كل شيء، وأبدًا هم كانوا يتظاهرون بالسعادة. كانت لجميلة بناتها، وكانت تنتظر –فلنقل كانت تتمنى- مولدًا لصبيّ.
أطلقت العجوز ذات أمارات الحجر زفرة، زفرة هائلة. كنا نعيش سعداء! كنا نبذر الذهب! وبيدها تخيلت نفسها، وهي تداعب محيطًا من القمح المتموج في الظلام، فغنت طافحة بالفخر والاعتزاز:

أيها الغالي! يا الغالي على قلبي
تعال بقلبك إلى قلبي
فأرى العالم قربي

ابتسمت لنفسها، بينا لمست العجوز بيضة تحت الدجاجة كانت ساخنة. ارتعشت للحرارة الحريرية، فقالت لها: في جوفها ينمو نسلك، وعما قريب سيفتح نسلك إلى الوجود طريقًا شائكًا... كما لو كانت حياة أحد أطفالها. بيضتك لقحتها الريح، وبعثت بالنَّفَس الخالق فيها، فالزمان سيكون ولدك، والنار ستكون ابنتك، وستُسمى الجبال بأسماء بناتك وأولادك.
شائكًا! تجرؤ على قول "شائكًا"؟ إنه خطأ الحياة إذا ما كنا وُلدنا فقراء وتعساء، إلا أن للولد كل حظوظ النجاح –هذا ما كانت تعتقد، جميلة، بكل جهلها العالِم، الارتقاء بأسرتها إذا ما كانت على الدرجة السفلى للسلم، أو حمايتها من تقلبات الزمن إذا ما كانت على درجته العليا.
هذا ما كانت تفكر فيه الابنة الوحيدة، المخلوقة الضعيفة في عالم المخبولين. وهذا ما كانت تفكر فيه كل مرة تقع فيها حبلى، وحتى الآن في كل مرة تريد فيها أُم أن تصنع طفلاً بلا غبطة، فزمن الغبطة غدا بعيدًا. جفت كل متعة مذ جف نهر الشهوة، ولها كل شيء انتهى مع ميلاد ولدها. على الأقل، قليلاً بعد مجيئه إلى الوجود. نعم، كل شيء توقف. هذا الحدث السعيد كان يحمل تعاسةً مِنَ المتعذرِ ترميمها، فسمى الناس اليوم الذي وقع فيه: يوم القبر. كان من اللازم فعل شيء. ورغم ذلك كلمها الناس. حذرها الناس يوم وُلِد غواص الجميل في الماء المبارك لزواجها ليلوثه، ويهدد نسلها. كان من اللازم منع الشر من وقوعه، كان من اللازم فعل شيء، كان من اللازم التفكير في هذا. لم يكن من الممكن التفكير في موتِ طفلٍ في مهده، وُلِدَ لتوه. ومع ذلك.

أيها الغالي! يا الغالي على قلبي
تعال بذراعك إلى ذراعي
فينأى الموت عني

ومع ذلك، وُلِدَ الموت مع البراءة ليحيا، ويبقى دون أن يكون بالاستطاعة أبدًا التخلص منه. اعتاد الناس على حضوره المضني حتى الزهق، ولما لم يبق غير الزهق للزهقان، كان الهرب إلى صورة فكرة ذكرى، وأحيانًا إلى نّذْر أمنية شهوة. في غياب كل أمل، يكون هذا النَّذْر مُلْحِفًا، هذه الأمنية مخادعة، هذه الشهوة خانقة.
في البداية، كانت ترى وزوجها في مولد ابنهما كل سعادة الدنيا التي كانا يرميان إلى صونها. ولما كان لهما هذا الصبي المنتظر، الحق لم يكونا ثريين كما كانا في عهد والدي جميلة، وإنما في بحبوحة من العيش. باعت جميلة لآلئها الإمبراطورية لتكبير الحقل وبناء بيت من الحجر بدلاً من كوخ سيف. ولتدوم هذه البحبوحة، لتحميهم، لتدافع عنهم، ولِمَ لا لتعيدهم على رأس مقاطعة كبيرة، ولكن فيما عدا بعض الاستثناءات ليصبحوا أثرياء، أثرياء جدًا كما كانوا قبل وفاة أبي جميلة وأمها، أراداه، صغيرهما، حبلهما السُّرِّيّ. غير أنهما لم يكونا يعلمان أن سعادتهما سيُضَحّى بها، وسيدفعان ثمنها باهظًا.


يتبع الحلقة الثامنة