العجوز الحلقة الرابعة


أفنان القاسم
الحوار المتمدن - العدد: 4599 - 2014 / 10 / 10 - 12:40
المحور: الادب والفن     

أقيمت المآدب في ساحة الجمال، وامتدت حتى أبعد الحدائق، لاستيعاب كل المدعوين. جلس أبو جميلة بأبهة في وسط طاولة ضخمة، وهو يرتدي عباءة بيضاء خِيطت بماء الذهب، وجاء رؤساء القرى واحدًا واحدًا ليقبلوا يده قبل أن يأخذوا مكانًا إلى جانبه، وبعضهم سقط على قدميه، لا بدافع الخضوع وإنما بدافع رضى الفَخورينَ بكونهم من رعايا هذا السيد العظيم. كانوا يرونه على صورة جبل يخترق السحاب، وفي أفكارهم، كانوا يرتقون إلى مستواه، وكانوا يحتقرون العالم، فيمتلكون كلهم الشرف شرفه والجلال جلاله، ويتقاسمون كلهم هذه النعم الطيبة للنفس الإنسانية المسماة عظمة مجد كبرياء لا الخطل في الكلام. وهو محاط بهالة هذا السمو الأميري ظهر سيف، مرفوعًا على أكتاف أصدقائه ومع صراخهم: يوم عيدك، أحلى الأيام، أحلى الأيام للأحلى... فلتنعم! وفي قلب هذا الجلال الملكي ذهبوا بالعريس حتى عتبة منزل العروس، بينا كانت أجراس الكنيسة الصغيرة تقرع، مع أن سيفًا وجميلة لم يكونا مسيحيين. ذبحوا جَذَعًا عند قدم العاشقين السعيدين في اللحظة التي خرج فيها سيف بجميلة من بيتها، ليتم فعل الإخصاب في أحسن الشروط، ولإزالة الشر عن طريق الوليد الذكر المرتجى. أخذ الزوجان الرضيان مكانًا قرب نافورة سحرية، وعندئذ بدأ طعام العرس بالحليب والعسل، لينتهي طعام العرس بالحليب والعسل، حتى ولو مع الخروف المشوي شَرِبَ المدعوون ماء الحياة ومع المقلوبة ماء الجرار. كانت الصواني الضخمة للأرز المرشوق باللوز المقلي والصنوبر المقلي مفروشة على الموائد، في وسط كل منها ثور محشي بالخرفان والخرفان محشية بالدجاج والدجاج محشي بالكلاوي والخصاوي والأكباد، وكانت صواني ضخمة أخرى للحم والخضار تغري العداوة بين الأسنان: فاصولياء خضراء، كرنب، كوسا، قرع، باذنجان... وغيرها، ثم غيرها. وكل أنواع الخبز: شعير بالحليب، سميد بالزيت، سميد بالخميرة، بالبندق، بالتمر، بالزبيب. خبز باللحم. ثم الكعك. كثير من الكعك! كثير من الحلويات! بالجوز، باللوز، بالشوكولاطة، بالعسل، وباللوز، وباللوز، وباللوز، كل اللوز!... وتلك الزغاريد التي لا تنقطع، التي لا تتوقف، وذلك الغناء الذي يعطي انطباع صورة في الأذهان وفي الأذهان ذكرى ما كان لما يكون لغناءٍ ينبثق من حلوق الرخام، وتلك الألعاب التي تقفز الخيول فيها قفزَ جِنٍ لا تعرف الكلل ولا تعرف الملل، وتلك الطلقات النارية، وتلك السيوف الفضية، وتلك الموسيقى الغجرية، وذلك الرقص البدويّ. كان المدعوون يرقصون بين طبق وطبق، وكانوا يضحكون، وكانوا يترامون في نهر الشهوة، وحبُّهُم للأشياءِ يُعْمي ويُصِمّ... حتى سقوط الليل سقوطَ من أسقطهم من حق. اشتعلت قناديل الزيت، وتواصل الأكل، وتواصل الشرب، وهم في ذلك ما فعلوا غير أن يلتزموا حدود القانون. أكل المدعوون كل ما طاب لهم، فاختلط الحلو بالمالح، وشرب المدعوون كل ما عُرض عليهم، فتنوعت الروحية مما شربوا والغازية. ورقص المدعوون أيضًا وأيضًا، وضحكوا أيضًا وأيضًا، وتراموا في نهر الشهوة أيضًا وأيضًا، لا للتطهيرِ وإنما لإيقاظِ كلِّ الشهواتِ التي تنام في جوف الماء. أَعْضَلَ الداءُ الدواءَ، فغادر موكب العروسين بالعروسين إلى عش العروسين، ومع ذلك واصل المدعوون الاحتفال بليلة العروسين الأولى حتى مطلع الفجر، فمن الغبطة والرفاهية تقام السلطة الغاشمة على باقي الأحاسيس، ولا ذنب لعدم التبصر في شيء. لم ينتبه أحد إلى العواء القادم من الجبال المجاورة، ولم يلق أحد أقل نظرة على النقاط اللامعة في الكهوف.


يتبع الحلقة الخامسة