العجوز الحلقة الثانية


أفنان القاسم
الحوار المتمدن - العدد: 4596 - 2014 / 10 / 7 - 15:20
المحور: الادب والفن     

وجاء الحب يطرق بابها بقوة، بقوةٍ جِدّ قوية، لما كانت جميلة تقوم بنزهة في الحقول، بصحبة من يصحبنها في كل غَدَواتها وَرَوَحاتها. فاجأها الظمأ، وكان من اللازم أن تتسلق الصخور للشرب من ماء شلال يبعد عنها بعد الزرقاء عن الغبراء، ولم يكن باستطاعتها ذلك حتى بمساعدة تلك النساء الرخصات العود اللواتي كن يصحبنها ويُطَمِّنَّ خواطرها. لم تفلح في الصعود، فانفجرت بالضحك، وارتمت من الضحك متراخيةً على الأرض. في تلك اللحظة بالذات، ظهر شاب تراه جميلة لأول مرة. حملها حتى الشلال، وسقاها من باطن يده. كان اسمه سيفًا، وكان جميلاً وشديدًا، إلا أنه أبعد ما يكون عن كونه ثريًا أو ابنًا لمولى. كان ينتمي إلى تلك الجذوع من الفلاحين الذين كان العمل قِسمتهم والنزاهة نصيبهم. ابنًا وحيدًا. فَقَدَ أباه وأمه في السنة التي ماتت فيها فرس جميلة، وانهارَ الركامُ المُزْنِيُّ مع الحصون الزرقاء في مملكة السماء. لم يستطيعا التسلط على ميولهما، فأخذ التعسين مرضٌ لا اسم ولا وجه له في عدة أيام، ثلاثة أيام بالتدقيق. كيف أصابهما المرض؟ هذا المرض الخطير الغريب كان من المستحيل تصوره في فردوسهم الأرضي. لم يكن من الممكن الاعتقاد بالمرض مرضًا، ومرضًا مهلكًا، فقال الناس إنه جاء من مكان آخر. وعندما يقول الناس من مكان آخر، يعني الناس من وراء الجبال. والحق يقال إن أبوي سيف عبرا جبل قاف، أعلى الجبال، ليبيعا حصادهما بأفضل الأثمان، إلا أن هذا لم يكن سبب وفاتهم. بيد أن سيفًا عندما ذهب لطلب يد جميلة، حكى لأبيها عن خطأ أمه وأبيه في الكسب مكسب الخاسر خارج المقاطعة، فمع حسيبها يجب التعامل. دار الأمر على الشاب العاشق بعد أن جعل الأب القويّ منه ذريعة لرفضه زوجًا لابنته، فالكيفية التي تسير بها الأشياء كما يرى الأشياء لم تكن تخفى على أحد. ستتزوج جميلة من ابن زعيم، ثريّ مثله وإلا فلا، عندئذ يحق عليها أن تبقى في البيت. لا شيء ينقصها، جميلة! كان لأم الفتاة الرأي نفسه، غير أن سيفًا، غير ما توقعه أحد على الإطلاق، وبرضى جميلة، حضر في ليلة سوداء بسواد اللآلئ الإمبراطورية لقطع الجبال معها، والاستقرار قرب النهر الكبير نهائيًا. لم يكونا خائفين من المرض، ولا من أي شيء آخر. وَلَوْلَمْ تبدل جميلة رأيها في اللحظة الأخيرة، وتتصرف بروية، لكانت قد ارتكبت أكبر خطأ في حياتها. طلبت من سيف أن يقودها إلى بيته، فيمضي كل شيء إلى حاله. والحالة هذه، حسب الأعراف والتقاليد، المرأة التي تجتاز بقدمها عتبة أعزب بدون موافقة الأهل هي "حلاله"، بكلام آخر زوجته. ونتائج هذا الفعل؟ الشر كل الشر في احتمالها. سيسيل الدم ربما، وسيكون الموت مصير الإنسان في الموت. ادعت جميلة أن باستطاعتها حل كل شيء مع أمها، وحلت كل شيء مع أمها... بصعوبة من يمارس شعائر دين غيره. كانت أمها لا تبادلها أفكارها، كانت تريد لها زواجًا أشبه بزواجها، بلا حب، زواجًا "يسويه" رجال الأسرتين ما بينهم، فهي لم تر زوجها لأول مرة إلا ليلة العرس. هكذا كان يا ما كان في قديم الزمان، زمنها، زمن لا يُمَسّ إلا ممن مَسَّهُ الشيطان. الأزمان تتبدل، قالت جميلة، العقليات، العلاقات بين الناس، بين النحلات، بين الرمال والموجات، حتى نظرات فتاة عاشقة للورد. كل شيء يتبدل. لم تكن أمها ترى من كل هذا إلا الظاهر. يبدو كل شيء قد تبدل، وفي الواقع، مصير النساء، النساء خاصة، يبقى، وسيبقى دومًا نفس المصير، كريشة في مهب الريح، ريشة من حديد الأعراف والتقاليد. غير أن ابنتها كانت وحيدتها، طفلتها، صغيرتها التي دللتها كما لم تدلل أُم من الأمهات، زَهْوَها وخُيَلاءَها، وهي لهذا فعلت كل ما بوسعها للحيلولة دون وقوع أسوأ مما وقع. أبوها وعابدها بالقدر ذاته تَرَدَّدَ، كان في أسوأ حالاته، فجميلة كانت صغيرته هو أيضًا، خطيئته التي لم يرتكبها أبدًا، أمرها لا يخطر ببال، ومهما زادت الحالة خطورة، إلا أنه لم يتوقع أن تغادر البيت هكذا مع القادم الأول. كان من الصعب عليه أن يفهم إحساسها، قرارها، اختيارها. بالنسبة له، أكثر ما أغضبه، بين أبيها والغريب، أن تختار الغريب! ولكنه استسلم في الأخير، وليقطع الطريق بسرعة على اغتباط المرائين وإشاعات المجانين التي انتشرت في القرى الاثنتي عشرة وحتى ما وراء الجبال، حتى وصلت البحر الكبير، قطع على نفسه وعدًا بإقامة أكبر عرس عرفته المنطقة مذ وجدت في العالم هذه المنطقة وحتى أبد الدهور. كان عرس ابنته، وحيدته، عرس جميلة، جميلة التي له، جميلته، وتم كل شيء كما وعد.


يتبع الحلقة الثالثة