رسالة تونس: لله درّ النهضة كم تتقن التلاعب


امال قرامي
الحوار المتمدن - العدد: 4596 - 2014 / 10 / 7 - 14:03
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المغرب العربي     


لا يزال راشد الغنوشى يردّد فى أكثر من لقاء تلفزى أو حوار صحفى بالداخل أو بالخارج أن لا سبيل إلى إنجاح التجربة التونسية إلا باعتماد التوافق. فالأنموذج التونسى، حسب رأيه، تأسّس على التوافق، والوفاق، وضمان الوحدة الوطنية، والتعايش بين جميع أطياف المجتمع التونسى. وفى هذا السياق يلحّ الغنوشى على أهميّة اختيار رئيس بالتوافق بين جميع الأحزاب حتى يتمّ إنقاذ البلاد من «الحرب الأهليّة».

وبالرغم من الانتقادات التى وجّهت إلى حزب النهضة بشأن فرض خيار الرئيس التوافقى فإنّ رئيس الحزب لا يملّ ولا يكلّ محاولا فى كلّ مرّة إقناع اللاعبين السياسيين بمحاسن هذا التوجّه واعدا بتشكيل حكومة إئتلاف وطنى يشترك فها الجميع دون إقصاء. وما من شكّ فى أنّ هذا المقترح يستحضر أشكال إدارة الحكم فى العصور الإسلامية، فالنخب هى التى تدبّر وما على العوام إلاّ الاتباع، ويعتمد منطق الغنيمة إذ تتحوّل تونس إلى «كعكة» يتسابق الجميع من أجل التهام أكبر جزء وترك الفتات للآخرين. ونظرا إلى أنّ موازين القوى أثبتت وجود حزبين قويّين: حزب نداء تونس وحزب النهضة فإنّ الغنوشى يقترح على الباجى قائد السبسى أن يستجيب لعرضه: «منّا حكم ومنكم حكم» ولنختر الرئيس القادم بالتوافق.


إنّ تأكيد حزب النهضة على أهميّة التوافق له دلالات متعدّدة منها: التخوّف من تعدّد الأصوات السياسية التى تمتلك تصوّرات متنوعة لإدارة الحكم، وكما هو معلوم فإنّ الاختلاف قد يؤدى إلى الخلاف الذى قد يتحوّل بدوره إلى «فتنة»، وبناء على ذلك فإنّ التحكّم فى المشهد السياسى لن يكون إلاّ بالتفاوض بين الأحزاب الكبرى، والتوصّل إلى التوافق، ومعنى هذا أنّ ثنائية الأغلبية/الأقلية، والتخوّف من التعدّد لا يزالان يسيطران على فهوم قيادى حزب النهضة.

ثم إن آلية التوافق هى الورقة التى يعتمدها حزب النهضة فى التسويق لنجاحه فى المرحلة الانتقالية. يكفى أن نتتبّع الخطاب الذى يقدّمه سياسيو النهضة فى المحافل الدولية لندرك أنّ التوافق صار المصطلح الأكثر تداولا على ألسنتهم فهو العصا السحرية التى حقّقت النصر، والخلاص، ويتناسى قياديو النهضة أنّ آلية التوافق التى اعتمدت فى كتابة الدستور استطاعت أن تحسم الجدل حول عدّة قضايا ولكنّ التوافق ظلّ شكليّا ووظيفيّا وغير معبّر عن قناعة راسخة، أى أنّه توافق هشّ.


ومن بين أسباب الإلحاح على اعتماد آلية التوافق الرغبة فى لجم المعارضة. فبعد التوافق حول مرشّح، وحكومة وطنية يشارك فيها الجميع لا مجال للحديث عن أحزاب معارضة قويّة، ولا مجتمع مدنى يقف بالمرصاد للسياسات التى لا تتلاءم مع استحقاقات الثورة. إنّها تجربة حكم «سلمية» بلا احتجاجات..

وبما أنّ اللغة مؤسسة ثقافية بالغة الأهمية فإنّ توشية الخطاب النهضوى بعبارات التوافق، والوفاق، والرئيس التوافقى.. توحى للغرّ بأنّ الحزب سيعيد «العروة الوثقى» وسيؤسس الأمة المنسجمة التى يتعايش فيها الجميع، والحزب إذ يلحّ على ذلك يريد تطهير ذاكرة التونسيين من وقع سياسة التقسيم (الأغلبية، الصفر فاصل، الإسلاميون/العلمانيون، أنصار الهويّة/ الفرانكفونيون) التى اختارها حزب النهضة عندما نجح فى الانتخابات الفارطة، والتى أفضت إلى اتساع رقعة الاستقطاب. بيد أن اجترار كلمات التوافق، الوفاق.. لن تؤدى إلى النسيان: نسيان تجربة حكم النهضة والفرقة، وسياسة التفريق وتقسيم المجتمع إلى معسكرين، وهو ما أدى إلى خروج الترويكا من الحكم.


وعلاوة على ما سبق أثبتت تجربة الترويكا صعوبة حصول التوافق بين أحزاب لا تتبنّى نفس المشروع ولا تملك نفس التصوّرات بشأن الحريات والحقوق فأنى لمن آثر الاستحواذ على الحكم والسيطرة على مفاصل الدولة أن يدعى اليوم أنه رسول المحبة وضامن الوحدة الوطنية؟

ونظرا إلى تعوّد حزب النهضة على الاتكّال على تجارب الآخرين و«سرقة» مجهودهم (حملة الانتخابات انتحلت طريقة حملة أردوغان، واعتمدت صورا دون إذن) فإنّ السطو على التوافق، والوفاق، واستبدال شرعية الانتخابات بشرعية توافقية وغيرها من المصطلحات التى اعتمدتها المعارضة بات أمرا واضحا هدفه إظهار الحزب فى صورة الحزب الجامع، المسامح الكريم الذى يعفو عن التجمعيين، والمفسدين، أمّا خصومه فإنّه يرسم لهم صورة العدّو، المنتقم، الجبّار، الدكتاتور..

لم يستطع حزب النهضة القيام بمراجعات جوهرية تخبر عن قبول مفاهيم جديدة فى الحكم تقوم على التعددية الفعليّة، والشفافية والحوكمة، والمساءلة والمحاسبة.. بقيت الأيديولوجيا ذاتها وما تغيّر هو تسربل القيادات فى أثواب جديدة قد تبهر الغرب، خاصّة الولايات المتحدة الأمريكية «العرّاب»، ولكنّها لن تنطلى على من درس واستقصى، فليست الخبر كالمعاينة.