موسى وجولييت النص الكامل نسخة مزيدة ومنقحة


أفنان القاسم
الحوار المتمدن - العدد: 4586 - 2014 / 9 / 27 - 19:20
المحور: الادب والفن     

الأعمال الكاملة
الأعمال الروائية (12)


د. أفنان القاسم


موسى وجولييت
الحكاية التراجيدية لحب ملعون


رواية


نسخة مزيدة ومنقحة

الطبعة الأولى دار قرطبة الدار البيضاء 1991
الطبعة الثانية دار آرام عمان 1994













































إلى روميو




































الفصل الأول

خطا موسى على رمل يافا خطواته الأولى بعد غياب طال كثيرا، ونظر حوله في الليل من غير دهشة، فالأشياء أخذت أشكالاً أخرى وأسماءً غير تلك الأسماء التي عرفها، لما كان طفلاً غِرّا، ولكنها بقيت ذاتها. ولما مَثَلَ بين يدي بيته الذي كان عمرًا رائحًا وحديقة، وغدا عمرًا غاديًا والحديقة أضحت رصيفا، قال هي المعاني ذاتها في السر وفي العلانية، فلا الأسرار حصن، ولا الأنوار صقر النفوس إليها، وما كان الدخولُ إلا ليجعله يسعى سعي الكوكب من وراء الفكرة السابقة، فلعله يكشف عن بعضٍ منها، أو لعله يكتشف بعضًا منها غامضا، ويقول مما جاء فيها. واستعاد، وهو يقف أمام بيته القديم، حكاياتٍ جرت، فما رأى فيه إلاها، ومن غيره ما رأى فيها عالمه الغابر: تمثالٌ سقط على قدميه، وحمامٌ مات، وشجرُ برتقالٍ حَبِل بثمرِ خشخاش، وبابٌ خلفيٌّ كانوا يخرجون منه إلى البحر، وجدوهُ ذاتَ يومٍ محطما، فقالوا إنها الريح الغضوبة، أو إنهم ربما، بعضُ لصوصٍ أخطأوا المكان، فما أطاروا سيفا، وما اغتصبوا قبلة.
راح موسى يتبع من وراء موسى لما كان طفلاً سقيمًا بين ذراعي أمه وأخته البكر، وهما تركضان به تحت تنانير القمر الذليل. كانتا تريدان له الشفاء، بعد أن أعجز الأطباء شفاؤه، على يدي يهوديّ نِطاسيّ أنقذه من الموت في ذلك الزمن البعيد، فوجد نفسه في شمالي تل أبيب، وهو يدب في طريق ساكن كأنه الطريق الأول على الأرض، الطريق الأوحد نحو الموت، أسودٌ الموتُ أو أخضرُ أو أحمرُ، أَوَ لم يعرف أن الموت مِخلب وحرير؟ لقد عرف الطريق، بدايته، ولم يعرف نهايته. أراد التوغل فيه نحو التوقع واحتمالات المصير، فوصلته موسيقى مفاجئة، وانتبه إلى أضواء تجرفها العتمة، لم ير فيها غيرَ مراكبٍ آيبة. عقد العزم، واقترب منها ليصنع موعده معها، ليعقد أول العلاقة. كان بيتًا يرقص، ويضحك، ويغني، والبحر منه على مَقْرُبة، وكانت الأضواء تنطوي أمام زحف الليل الصامت أشرعة، وخيالات الأشجار لا تهتز متواترة. مضى به ثلاثة شبان وامرأة، الشبان يخفون وجوههم تحت الأقنعة، والمرأة تطلق في الليلِ نَفْسَها على سَجِيَّتِها. رأى يدها، وهي تمتد إلى قناع رفيقها بحثًا عن شفتيه، وتلقي به على الرصيفِ تاركةً إلى ممثل آخر. وبعد أن ذهبوا ضاجين صاخبين في سيارة كانت واقفة، تقدم موسى من القناع، ونقله بيد راجفة. تأمله بإمعان ودقة، قبل أن يجعل منه وجهه إلى الحفلة. وفي الحفلة، كان الشبان مُقَنَّعين والشابات بلا أقنعة، الشابات أُرْفِيَّات، والشبان يأخذونهن بين أذرعهم مثلما تتطلبُ الرقصة، الشابات قُمْرِيَّات، وكأن الحياة تبدأ من صدورهن، ومن بطونهن، وتجري في حركة خصورهن، وسيقانهن، لترتقي الهضاب إلى بركان المتعة. فأين متعته مما هم فيه؟ لم يكن له ماء النيل أبًا، لا ولا جولييت أختا. كان قدرها، وكانت قدره. قدرتهما الفردية. على قدر الإنسان. اقترب منها، ليقترن بها، وراح يراقصها. جولييت هي التي يريد بكل ما فيها: شعرها القصير الشَّعِث وعيناها المتمردتان، بشرتها القمحية الحارقة وكتفاها اللوزيتان، نجمتها الماسية البارقة وأخواها المتناحران. انتفض ثدي جولييت، وهي تبحث من تحت قناعه عن معالمه، فلم تكتشف سوى لون البحر في عينيه، والذي كان أزرق نقيا. اقترب بها إلى قلبه، فسمع دقات قلبها، وسمعت دقات قلب البحر الذي غدا لونه في عينيه أزرق عتيا. شد كل منهما بقلبه على قلب الآخر، وغابا عن صيحات الراقصين بُرْهَةً غيابَ الروحِ في الجسد والجسد في الروح لما تشتهي كالجسدِ الروح. وكان الطارئ أن انطفأت الأضواء، فأتى بها إلى بعضها المتمرد، وعاد يمعن النظر في محاسنها الحسنى، فهذه جولييت هي التي يريد، هكذا قال لها بجسده وقناعه. وها هي ذي جولييت قد أجابت بجسدها ووجهها أن موسى هو الذي تريد، والذي لا تريد أن يكون أقوى من إرادة الصخور أو غير جوهر عاقد العزم، أن يكون إرادته، وأن يكون جوهره الفرد، فهل يكون إرادته وجوهره سيفًا نافعا؟ وهل يكون للمعاني فيها غير ما هي عليه وللمعاني أيضًا إرادتها وجوهر الشهوة؟ كان لا يقطع الطريق إلى الأشياء إلا ليصل إليها، أَوَ لم يصل إلى موجةٍ أم قافلة؟ الوصول هو غايته، هو النهايةُ وهو النهايةُ والبداية، الموت أو الحياة أو القيامة.
أحس بأصابعها على قناعه، فاقترب من شفتيها بشفتيه. وعلى مقربة منهما كان يوسُفُ، أخو جولييت الجنديّ، يتابع المشهد الأصليّ، ويسمع موسى، وهو يقول لها: إني اخترتك من بين كل النساء لتكوني لي زوجة وفية، ولتأتيني بأبناء أصنع منهم أمة تجعل مني أباها الأوحد، فأنا الطفل الذي لم يعرف له أبا، وقد كانت أمي من زاهداتِ مسجدٍ غدا هيكلاً بعدما ولدتني في عكا وربتني في يافا وهجرتني على أبواب اللد والرملة. أراد يوسُفُ أن يذهب إليه بسلاحه، فيطلق في رأسه طلقة واحدة، ويرديه قتيلا، لكنه تردد في اللحظة التي تبدت له في سيمائه، لما عادت الأضواء تضيء، ملامحُ بطلٍ ضائعٍ في التاريخ، وقال لن تكون مهمتي سهلة، وعلى الخصوص عندما لاحظ تعلق جولييت به كل ذاك التعلق. راح يراقب عينيها الوالهتين، ويرتعد من الحنق والغيظ إن لم يكن الذعر، إلا أنه عزم على التريث في قتل هذا العربيِّ الذي ليس ككلِّ عربيٍّ غيرِ حميدِ المحتِدِ، والذي له في الوقت ذاته أمائر الملوك الضالين، فحيره الأمر، وأعجزه التنفيذ.








الفصل الثاني

الإرادة تتعدى الحدود إلى الإرادة، ولا يقف دونها شيء، بعدما تستطيع، عندما تصل إليها. وها هما، موسى وجولييت، يعودان إلى الرقص من جديد طائرًا وسمكة. القلب على القلب لا أدفأ ولا أروع، والبسمة على ثغر جولييت تسطع، ولحظة الغرام تبدو نهاية تاريخ طويل، شجرة ذات جذور، وامتدادات في الجهات الأربع. حتى أن يوسُفَ الذي لا يكف عن مراقبتهما لم يكن غريبًا عنها، كان جزءًا من تلك اللحظة: نظرته الفاحصة، العقدة بين حاجبيه، فكرته هو عن الحب وعن الحرب، والأهم من هذا كله، ذراع موسى حول خاصرة جولييت، هذه الذراع من الممكن أن تكون مأساته.
رآهما يتسللان إلى الخارج، إلى قلب الليل النابض، وموسى كان سعيدا، لم يكن الماضي، كان الماضي والحاضر. وكانت جولييت تنظر إلى عينيه بلا قناع، إلى وجهه، وإلى شفتيه، وتلمس بشفتيها شفتيه، وموسى يقول لها:
- نحن نبتعد عن المعجزة.
وجولييت تقول له:
- نحن نقترب من المعجزة.
ويهتف موسى بها:
- لأن حبنا إعجاز الإرادة، فلا هو كبش من معدن، ولا هو صقر من صلصال.
وتهتف جولييت به:
- لم أنتظرك قبل سن البلوغ، لكن طفولتي كانت تعرف فيك رجلي إلى أن كان لقاؤنا.
ويؤكد موسى لها:
- غيرنا أعد لقاءنا في الكتب وفي الضمائر وفي الأفكار.
وتؤكد جولييت له:
- غيرنا، نعم، غيرنا.
يسكت موسى قليلا، ثم يضيف بغضبٍ يحاول ألا يكون قويا:
- غيرنا قاتل من أجل ذلك ومات.
قبل أن تضع جولييت خدها على قلبه، وتهمس همسًا زكيا:
- أخاف من الموت الذي يجيء بنا إلى نفسينا.
- أما أنا، فأخاف من الموت الذي له جدار يمنع روحي من عناق روحك، ويفصل جسدينا.
- أحس بالموت يترصد لنا.
- علينا أن نقاومه، نعم، علينا، فلا نموت إلا إذا أراد لنا الحب أن نموت، وفي سبيله ألا نحيا. ماذا يهم الموت، وهو موت أكيد لا جحيم بعده، وحبنا نعيم الدنيا؟
- لن يكون حبنا لأعدائنا غير كره وأنانية.
- حب موسى وجولييت!
- حب موسى وجولييت، نعم، حب موسى وجولييت!
- أنت يكفيك حبي، وأنا يكفيني حبك، وسنكون لأعدائنا حبًا وتفانيا، في اللحظة التي يخرون فيها لحبنا سجدا.
- وإذا ما فشلنا؟
- للحب إرادة البراكين الثائرة.
- كم أنا خائفة عليكَ عليَّ! أخاف عليك وعليّ خوف قبرة تركها زوجها وحيدة في الشتاء.
- أما أنا، فأخاف عليكِ عليَّ من خوفك عليَّ عليكِ كيلا نكون وهم أنفسنا.
- هل نحن وهم غيرنا؟
- علينا أن نكون حقيقة أنفسنا.
- في الظلام؟ في عباءة الليل التي تلف جسد البحر؟
- يكفينا الضوء في حركة الموج.
سحبها من يدها إلى البحر، والبحر يطلق الأضواء والصرخات. خلعت جولييت ملابسها، وألقت بنفسها عارية في ضوء الموج. هتفت بموسى أن يأتيها، موسى الذي اختارته زوجًا وفيا، فأتاها ريحًا عطوفا، على مركب ممزق الشراع. ومن الطرف الآخر للرمل، شاهد يوسُفُ، أخو جولييت الجنديّ، كيف اتحد الجسدان العاصيان. وبعد انفصال لم يدم طويلا، رأى يوسُفُ غرلة موسى، وهي تنبت في دغلٍ أسودَ العشبِ فِضِّيِّهِ لانعكاس مرايا الموج عليه، فقال هذا ابن بحر، وما هو سوى واحد من كائناته الكثيرة. ورأى في سُوحِ أختِهِ المفتوحةِ على وغاه وِزْرَ عارٍ لن يمحوه الدم بيسر، وعلى الخصوص أن يوسف رمزُ قوةٍ وتميزٍ بين حيتانٍ خانته جولييت بها. انفتحت أبواب السماء على مصاريعها، فتوجه يوسف إلى النجوم، وموسى إلى الذي يتجلى فيها.









الفصل الثالث

حقيقته أن يكون جنديًا كُتب له الظفر، هو اقتحامه للعالم، وهو الحظ السماويّ. ميلاده استمرار وديمومة، وهو طاعة غيره له، أَوَ لم ينته عهد العقاب؟ عقاب الآخرين على يده منته عليهم، وفي العقاب جزاء التوبة، ونعيم السيف، وانتصار الموت في اللحظة التي يصبح فيها الضد وعكسه، وفي الامتداد اللاطبيعي للأشياء، أَوَ لم نقل ارتكاسا؟ حياته أوسع من أفق مفتوح، وأعمق من بحر متلاطم، ولكنه دومًا يصل، وهو لا يصل إلا ليذهب بالعالم إلى سعادته. على رماح الحرب، نعم، إذا ما لزم الأمر. وهذا موسى ومعه جولييت يغتسلان في ماء البحر، ويتحدان، بعد أن نفذا من الدائرة. كيف يعيدهما الجنديّ إلى قوة الحصار؟ كيف يكوّن من حبهما حبه لسلاحه؟ كيف يعيد صياغة الدائرة والدوران الخالد؟
راح يوسُفُ يجري مثل زوبعة في سيناء ليخبر ياكوفَ أباه: يا للكارثة! يا للكارثة! جولييت تريد موسى وموسى يريد جولييت، وقد ألقى كل منهما بجسده في البحر عاريا. يا للكارثة! يا للكارثة! أي حب سيبقى له؟ وأي حلم سيتشبث به؟ وهذا أبوه بينه وبين أخته كالتمثال جاثم، وهذا موسى يأخذ منه حبه المستبد.
كان ياكوف، أبوه، يتوجه إلى نوري بهذه الكلمات، وهو يربض بظله المهدد الواعد، ونوري يرمي النظر إليه بعين الصاغر الطائع:
- أنا أعتبرك مثل ولدي، يا نوري، انتزعتك من "شكونات هاتيكفا" قبل أن يقتل والديك البائسين قدرهما البائس.
- نِعْمَ ما فعلت، يا أبي ياكوف!
- نَعَمْ، أنا أعتبرك مثل ولدي يوسُفَ، أصغركم الذي أكثر من أحبه فيكم.
- وأنا فخور بذلك، يا أبي ياكوف!
- لهذا عليك أن تسهر جيدًا على مصالح أبيك ياكوف، يا نوري. أنت تعرف المسألة، إن لم تسهر على مصالح أبيك ياكوف، ذهب كل شيء هباءً منثورا، كل هذا الصرح سينهدم إن لم تسهر على مصالح أبيك ياكوف، يا نوري.
- أقدم عنقي في سبيلك، يا أبي ياكوف العزيز!
- ستقدم عنقك في سبيلي إذا ما جرى واجب، ولكني أريدك الآن أن تفتح عينيك واسعًا مثل بوم لا تعرف النوم، وضبع لا تظلم عيناه، وثاكل أنفقت كل الدمع. أريدك أن تفتح عينيك واسعًا، وتسهر جيدًا على مصالحي، فمصالحي هي مصالحك، وأنا الذي رباك على يديه مثلما ربى يوسُفَ وجولييت. أريد أن أبقى ملكًا للحوم في أسواق تل أبيب، وإذا ما عصى أمري أحد، استعمل قبضتك الحديد، وأنت تفتح عينيك واسعًا على الدنيا.
- سيتدخل الضابط أفنيري.
- أنت لن يخيفك الضابط أفنيري.
- أنا لن يخيفني الضابط أفنيري، يا أبي ياكوف.
- أنت لن يخيفك أحد.
- أنا لن يخيفني أحد، يا أبي ياكوف.
- أنت لن يخيفك شيء.
- أنا لن يخيفني...
نبه نوري ياكوفَ أباه إلى وجود يوسُفَ المنتظر خلف الباب المزجج، لكن ياكوف سأل نوري:
- وماذا بشأن ما تدفعه نوادي الليل لنا؟
- الكل يدفع ما عدا نادي أدريانا، سالومون يماطل، يقول إن النادي لا يمشي كالسابق.
- إذا كان النادي لا يمشي كالسابق، فهذا شأنه. قل لسالومون أريد العمولة، وإلا رفعت عنه حمايتي، قل له إنه إنذاري الأخير.
- سأقول له، لكنه لن يسمع لي.
- ستقول له إنه إنذاري الأخير، يا رب موسى! وإذا لم يسمع لك، خلعت التاج عن رأسي، هذا الرأس الكبير!
- سأقول له، لكنه لن يمتثل، ولن يرتدع.
- إن كان الأمر أمرا، رأى قيصر في رعيته شرا.
خفض نوري رأسه سمعًا وطاعة، ثم تحرك، وفتح الباب المزجج ليوسُفَ الذي دخل باضطرابٍ وعجلة، وهو يقول لياكوف أبيه:
- إنه أمر جولييت، يا أبتِ.
فتراخى أبوه ياكوف في مقعده الجلديّ، وقال ببرود كثير:
- ما لك وما لها جولييت، يا يوسُفُ؟ قلت لك مائة ألف مرة ألا تهتم إلا بنفسك إذا ما تعلق الأمر بجولييت طالما بقيت حيا، أن تكون جنديًا مثاليا، وهناك، على الحدود. أن تكون على الحدود سلاحًا وبين الحدود سلاحًا وعصا.
صاح يوسُفُ بياكوف أبيه:
- أتحبني هناك وتكرهني هنا؟ فليكن! اكرهني هنا، وتعال ننقذ جولييت من حب جولييت.
- هنا أم هناك، أبدًا لم أكره في حياتي يوسُفَ الذي أكثر من أحب في الوجود.
- تقوله، يا أبتِ، ولكني لا أشعر بِهِ.
- ككل جاحد للجميل.
حدق ياكوف، أبوه، في وجهه، وسأله بتأنٍ:
- ما هو أمرها جولييت؟
ألقى يوسُفُ نظرة حاقدة على ظل أبيه الرهيب، وأخرى مترددة على نوري الراضخ في ظله، فعنفه أبوه أشد عنف:
- لا تطلب مني أن أصرف نوري، إنه بمثابة أخيك! وكم من مرة طلبت إليك أن تعتبره أخًا أكبر لك، في السراء يكون لك وفي الضراء يكون لك.
سارع يوسُفُ إلى القول:
- بل على العكس، أريده أن يسمع ما سأقوله لك من حكاية لن تسعده هو أيضا، وجولييت طرف أساسي في حبكتها.
راح كلاهما يفحصه بنظرةِ القَلِقِ المتحيرِ لأسئلة يثيرها عزيز يروعه أمره، وبعد أن تركهما يوسُفُ ينتظران زمنًا فاقم لديهما من قلقٍ وحيرةٍ نطق:
- جولييت تحب عربيًا، لا هو من عربنا، ولا هو من عربهم، في ملامح وجهه بطولة أمير مضطهد.
وراح بدوره يفحصهما بنظرة المنتظر المنقب عن ردود الفعل لديهما، وفي صدره بعض سعادة مباغتة، فقد كان رد فعل أبيه المنعكس عن ملامح وجهه يتباين فيه الذعر والحنق، وهو يبذل جهدًا ضائعًا لإخفاء أثر تلك الطعنة في القلب، والتي تزلزل له الكِيان، فكأن يوسُفَ قد قطع من كبد يعقوب النبيّ قطعةً أخذ يلوكها بتلذذ. أما عن نوري الذي باعه ذات مرة للقافلة، فها هو يهدي نفسه للشيطان، ويحفز النفس على إعادة الصفقة بشكل آخر يكون موسى محورها، فيقتله على حجر أو، على الأقل، يتيهه في الصحراء أربعين عامًا بعد أربعين عام... رآه يتحول إلى ثعبان من القلز مفترس، وكبد أبيه إلى قرن ثور مقدس.











الفصل الرابع

نزل الخبر على ياكوف نزول الصاعقة. هو ملك اللحوم والنوادي! ملك الذين يقع عليهم اختياره، وصاحب الأمر لدى الضباط الكبار. جولييت وقع اختيارها على موسى، وموسى وقع اختياره على جولييت، وأبو يوسُفَ، ياكوف، لم يأخذ برأيه أحد. هل الهوى كالقدر متى هوى؟ كالسيف القاطع؟ كنار الشرائع؟ وهو؟ أين مكانه؟ أين مكانته؟ هو القدر والهوى، وهو السيف والنار، وجولييت ابنته. يحب يوسُفَ أكثر منها، يحب يوسُفَ أكثر من نفسه أحيانا، إلا أن جولييت تبقى مدللته. كيف يصنعُها، فتصنعُ هكذا عاره؟ سينتصرُ الموتُ وَحَسْبُ، وإلا مات قلبه. سيجتاح مشروعها، ويدمره. وهي، على أي حال، لن تفضل عليه عدوه، فلا يجتاح هذا البائس مملكته، وإلا اجتاح نفسها، ودمرها. البحر واسع، والبحر عميق، وحبه لها سيدمرها قبل أن يدمره حبها لموسى. أَوَ لم تكن عودة إله البحر إلى قهره؟ هو فِرعون زمانه! أَوَ لم تكن عودة المقهور إلى قوته بعد أن حولته القوة إلى ملك للنوادي واللحوم؟ ما هو سوى احتمالٍ مِنِ احتمالاتِ التصورِ المستحيل. لا يمكن ذلك إلا في الاستطاعة. هو الاستحالة. القدر الماضي صوب غايته. هو الأعلى. وحب جولييت لن يجعله ممكنا. لن يعيده إلى ما كان عليه تائها. فليقرر، وليكن صاحب القرار الحتميّ.
قال ياكوف لنوري:
- ستتزوج منها أنت، يا نوري، هي التي برأها الله من ضلعك.
نبر يوسُفُ ممتعضا:
- نوري يتزوج من جولييت! نوري الذي انتزعتَهُ كجرذٍ أجربَ من "شكونات هاتيكفا" قبل أن يقتل البؤس أبويه اليمنيين، وأنقذتَهُ من مصير مظلم، تهبه مصير أختي المشرق؟
هتف ياكوف مستنكرا:
- أتتنكر لأصلك الآن من جذر أمك؟
ردد يوسُفُ متألما:
- أمي، أمي... أين أمي التي تركتني وماتت لما كنت طفلاً صغيرا؟ لماذا أجرَمَتْ في حقي؟ أتكونُ ماتت أم قُتلت؟
صاح ياكوف محتدا:
- لا تعدنا إلى الشك في موتها، فهي لم تمت قتلا، وهي إن ماتت قتلا، فإني من دمها لبريء!
وبدوره صاح يوسُفُ محتدا:
- جميعنا بريء وجميعنا غير بريء!
أزاغ ياكوف النظر عنه، فأضاف يوسُفُ، والحلم كان له معذبا:
- لقد تمنيتُ لجولييت زوجًا ضابطًا سويديّ المحتِدِ أو بولونيَّهُ أشقرَ جميلاً يسعدها ويحميها.
ونبر يوسُفُ من جديد:
- لن توافق جولييت على نوري الكريه، لن توافق، ولن أوافق، حتى وإن كان زواجُهَا منه نُبوءةَ عرافٍ مِصريّ لا يكذب أبدا.
ونبر ياكوف، أبوه، بدوره:
- ستوافق جولييت إن كانت إرادتي. أما أنت، إن لم توافق، فلن أبكيك في شيخوختي.
ويوسف يستشيط غضبا:
- لن أوافق! لن توافق! لن تقبل! سأكون بجانبها كمن أُغريَ بالقتال كيلا تقبل!
وأخذ يذرف بين ذراعي أبيه مر الدمع، ويطلب إليه متهدجا:
- لا تُكرهها على الزواج من نوري الكريه، يا أبتِ، فتكونُ بَلِيَّةٌ جديدة.
تدخل نوري، وهو يبكي، هو الآخر، وقال متهدج الصوت:
- إن يوسُفَ يكرهني، يا أبي ياكوف، منذ البداية، وهذا ما يفسر موقفه.
ولولا أن ياكوف كان يسمعه ويراه لقال الصوت صوت يوسف والفم فم نوري.
احتج يوسُفُ:
- أنا لا أكره نوري، أنا أحب جولييت.
قال نوري مؤكدا:
- إن يوسُفَ يكرهني ويكره ألا أكره جولييت، يا أبي ياكوف، أنا الحذاء لقدمها!
فسأله يوسُفُ:
- وهل جولييت تحبك، يا نوري؟ أنا تحبني جولييت لأني الجميل، ولأني المفسر الأمين، ولأني الذي انتصر مرتين، فمن أنت، يا نوري، قل بالله عليك، لتحبك الأميرة؟
أجاب نوري:
- إن إرادة أبيك لهي كل شيء! أما أنت، فكن المنتصر ما شاء لك، وكن الجميل ما شاء لك، وفسر ما استطعت كل هذه الكوابيس، فسيخرج عليك أبناء شياطين لن تقدر عليهم. والآن، إن إرادة أبيك لهي كل شيء علينا!
- ولكني أخو جولييت، وأنا جنديّ، لي رب لم أغضبه ولم يغضبني في القتال، ولي إرادتي في أمر يخص أختي هو أمر مصير.
أعاد نوري كالمدمدم لآية مقدسة:
- إن إرادة أبيك لهي كل شيء علينا!
لحظتئذٍ، توجه ياكوف إلى ابنه يوسُفَ ليسمع ويخضع:
- أما أنت، فعليك أن تعود إلى سلاحك والعصا، ولنذهب أنا ونوري لنخلص جولييت.
لم يصرخ يوسُفُ في البرية: ولكن من ذا الذي سيخلصها غيري بعد أن دفنا الجسد وأفرغنا الخوابي من النبيذ؟ راحت الحدود تنفتح على الحدود من النيل إلى النيل، ويقول الجنديّ للجنديّ هذه هي الأرض التي حررها. أخذت مدن الأرض المحتلة وغزة، أجمل مدن الدنيا، تتساقط في خياله واحدةً واحدة، وفي سهل نابلس الشرقيّ قامت مستعمرة على شكل قفص رمى فيها جولييت ليحميها من أبيها وليمنعها عن أخيها، فثغت جولييت التي كانت جولييت، وغدت حملاً وديعا. قالت إني أريد أن أكون تضحيةً لذاك الراعي الذي أخرج موسى من ثوبه، فأخذها موسى النبيّ، ولطمها على خدها لطمتين أوجعتا كل العمر الباقي لها، وأمرها أن تكون جناح صقر خائر في الشمس. فرض عليها حبًا تراجعت عنه في لحظة ضَعف، ثم راح بها إلى البحر، لما هبط الليل، ليجعل منه جدارًا في وجه يأسها القادم.





















الفصل الخامس

تدفقت ضحكاتهما، والبحر يتدفق بالموج، وانشق الليل، والليل يقاوم الليل، وصارت في الليل نجوم. جرت جولييت في أعقاب نجمها، وجرى موسى في أعقاب جولييت، في الماء وعلى الرمل، آدم وحواء حينَ الولادة. الحب سيد الكون، وعلى الأرض ظلالهما. كانا في كل الأبعاد، ولم تعد الرصاصة هدية الموت إليهما، وغدا الحق علمًا مرفرفا. وجولييت تتحول إلى طرقات ودكاكين وصرخات أطفال ومعاول ومنعطفات وتاريخ ليس الموت ميلاده. إنها الحب الممكن وحب الممكن. أَوَ لم يمكن للمألوف أن يعطي غير متن النجوم مراكبا، الليل ابتعادا، والنهار اقترابا، والليل صبحًا قادما؟ وأمه التي كانت زاهدة مسجد، وصارت عذراء هيكل، ماذا ستقول؟ التماثيل قتلتها، فما ذنب جولييت؟ جولييت الممكن؟ اقترب أكثر من الرمز ليصل إلى عمق المعنى، لتتجلى له الحقيقة وردة. لا يريد أن يحل مسألته بيد تمتد على البحر. يريد أن يحل مسألته مع فِرعون ذاته، فلا يُجري الربُّ البحرَ بريح شرقية شديدة كل الليل، ويجعل البحر يابسة، وينشق الماء. يريد أن يكون هو وفِرعون وجهًا لوجهٍ غيرِ منكسرٍ على طاولة، أو في ساحة وغى إذا ما ركبه عناد المتجبر المشؤوم، وجولييت دربه المرسوم. هل ستبقى جولييت؟ هل ستنبض كالقلب على قلبه مثل أول عناق وآخر قبلة؟ هل ستشعل في جسده الشمس المفقودة على سفح عيبال؟
قال لها:
- أتيت لأرى بيتًا كان لنا في يافا قبل أن أقذف يافا من حلقي نواة وتصير شجرة.
قالت له:
- وهل عرفته؟ البيوت تتشابه في يافا في الصيف وفي الشتاء.
- نعم، عرفته في التشابه وفي الكمون.
- وماذا تبدل فيه؟ أعرف أن زمنه الذي تبدل فيه، فالبيوت مثلنا تشيخ.
- شكله الذي تبدل فيه، فالبيوت إذا ما شاخت أصبحت لها صورنا ولأطفالنا تظل طفلة، لهذا تجدين للبيوت أزمان الحياة.
- وكيف صار شكله لك بعد أن كبرت، بعد أن تركته في هجرته، وذهبت في هجرتك؟
- في حديقته كان شجر، فرأيت أعمدة، وفي ثوبه كان حجر، فرأيت فتقا، وبان ثدي امرأة.
- وماذا تبدل فيه غير كل هذا الفضاء المريع؟
- لا شيء إلا شكله، وقد بقي معناه الذي بقي معناه.
ترامت جولييت بين ذراعي موسى، وجعلته يلفها بهما مثلما يلف قطًا خائفًا أو رغيفًا ساخنًا لا يريده أن يبرد قبل طعام:
- إني خائفة!
- مِمَّ؟ من الثدي أم من الأعمدة؟
- منك.
- لِمَ؟ لمِصر أم لقادش؟
- لحبك.
- أريد أن أحبك لنهنأ.
- ولكنك تكره أخي كرهًا يقتل، وتحتفظ بكرهك لتقتله، أو ليقتلك.
- أكره أخاك في يوسف لا يوسف في أخيك، فانظريني! لست ربًا لجنودِ غيرٍ طالما يبقى الجنديّ لأخيك أداة، وتظل ما بيننا مواجهة قادمة.
بقيت صامتة، وغدت حائرة. لم تعد جولييت الجميلة، لم تعد قلب أخناتون، فابتعدت عنه إلى رع، والبحر يقترب منه بالنيل والأردن موجتين ضحلتين. أرادت أن تقترب منه ببردى ودجلة ضحكةً وكمثرى، فسألت عابسة:
- أأستطيع يومًا أن أصبح بيتك؟
- تستطيعين.
- إذن خذني، ولنحل المسألة.
- تصبحين بيتي عندما آخذك إلى بيتي.
- إذن سأذهب بك، أنا، معي.
- البحر هناك، والموج هناك، والريح المكرهة للمراكب هناك.
- ألم تعد تحب البحر؟
- أحب البحر، ولكن البحر ليس بيتي. كان البحر رحلتي الطويلة بعد أن تجولت في عالمِ دنيا كلِّ الآخرينَ ثلاثةَ آلاف سنة منذ سنة 48.
- إذن سأذهب بي، أنا، معي وحدي.
وراحت تغذ خطاها مبتعدة، فناداها:
- انتظري، جولييت!
وأتاها:
- سأدفئك بذراعي وأنت تقطعين الطريق إليّ.
وبينا هو في الطريق وإياها، وجد موسى ياكوفَ، أباها، ونوري، أخاها، يقطعان عليه الطريق. انتزعا جولييت من الذراع المدفئة، وقذفا موسى في البحر، فقال لن أتخذ من السمك حبيبة، ولن أجعل من الصدف بيتا، ولكني سآخذ من البحر غضبا، ومن الحيتان جسدًا وشعبا. وقال له البحر إني إلهك الذي كان بركانا، ولجرأتك فقط استجبت لك، فخر موسى للبحر ساجدا.

الفصل السادس

ليس البحر موجًا وضوءًا وغراما، البحر حطامٌ وظلامٌ وانتقام. البحر صراع. مراكب تحطمت في البحر، وحيتان انتصرت. البحر امتداد، والبحر تراجع. البحر عودة الراحل إلى الرحيل. فماذا لقي موسى بعد أن فقد جولييت؟ لعنة الحب أو الحب الملعون؟ والبحر ملحٌ وحبرٌ ودم، وقلبُ شراع يرفض التراجع. عالمه أمامه، إلا أنه يبتعد عند اقترابه. صرخ هذه المرة بإرادته، فأصغت إليه الأسماك التي في أعماق البحر بعد أن نهضت من نومها، وتحركت، فتبع موسى آثارها. جولييت ذهبوا بها من هنا. والدرب معتم. والدرب مُحْجِر. والطرق التي ظن أنه يعرفها ها هي تذهب به إلى حيث تشاء.
ولكنه شراع يرفض التراجع. والبحر واسع. والبحر عميق. ولكنه شراع عنيد. جولييت أرادها موسى نقطة الوصول. والتواصل. وأرادها أبوها نقطة الانطلاق إلى السفر الدائم. هي عذابه القريب، ولأبيها عذابه البعيد، فليضع حدًا لعذابه. انتهت الآثار تحت شرفتها، فتسلق الجدار إليها، وسمع أباها بِطِمِّهِ وَرِمِّهِ يهددها:
- سأزوجك من نوري، وإلا جعلته ينتقم لشرفي المهان، فما موسى إلا ادعاء كل الحب وكل القدرة، بينما هو في حقيقته وعدالته خطر الأعداء وجبروتهم، وأنا لهذا جعلتني جبارًا بقسوة الحجر عليك، وما قسوتي عليك إلا من قسوة الحال، يا ابنتي، وحاجتي إلى محفز أوجه به كل هذا البلاء كبركان لا يرحم، فلا أرحم أعدائي الهمجيين المحيطين بي من كل حدب وصوب، وتكون جولييت منارتي.
وجولييت تبتهل لياكوف، أبيها:
- سأكون منارتك في ظل موسى، فلا تزوجني من قدم في عرشك.
تقدم ياكوف، أبوها، منها عنيفًا فظا، ولطمها، وهو يزبد ويرغي:
- إنها إرادتي التي توجب، فلا تعكري اللبن، ولا تجعلي العسل مرًا وزهاقا!
وجولييت تتهدج، وتبكي:
- لا، يا أبت، لن أعكر اللبن، ولن أجعل العسل مرًا وزهاقا، ولن أعصيك، فأنت "الحي في معاط"، أنت المعطيّ!
خمد بركانه، ومن الحجاز راحت تنسحب ضبابة دخان، وتذهب مطمئنة:
- هكذا تكون إرادة أبيك واجبة، بها ستحتمل جولييت كل ضربات القدر فينا بما في ذلك حبها لموسى.
اقترب ياكوف، أبوها، منها، ومسح لها دمعها، ثم نظر في عينيها المخضلتين، وقال لها:
- كم يحبك أبوك، يا جولييت! كم يحبك!
تبدى لها فِرْعَوْنًا طاغيًا تحيطه هالات المجد والهيبة، فسمعت نفسها تقول له:
- وأنا أيضًا أحبك، يا أبت العزيز!
- إذن عليك إرادتي واجبة، كالحياة، كالعمل، كالراحة.
وأمام عودة أمارات التمرد على جبهتها وفي عينيها، أوضح ياكوف، أبوها، الذي عاد يصبح أباها، بعد خروجه من ظلال الصولجان، وفي صوته بعض الرجاء:
- وإلا كانت نهايتي، يا ابنتي، سأصاب بسكتة قلبية، وأموت. أتريدين أن يموت أبوك، يا جولييت؟
- لا أريد، يا أبت، أريد أن تبقى حيا.
- إذن أطيعي إرادته، واجعلينا نفرح. سيبقى عرسك مثالاً يتردد خالدًا على أفواه بني إسرائيل. فلتجعلينا نفرح، يا جولييت، فلتجعلينا نفرح!
قدم لها ياكوف، أبوها، هديته إليها عجلاً ذهبيا، وأعلن أن زواجها من نوري سيكون في نهاية الأسبوع القادم، فدخل عليهما من الشرفة موسى الذي كان يرى كل الذي رأى، ويسمع كل الذي سمع، وبغضب حيوان هائج، انقض على ياكوف، أبيها، وجذبه من خناقه. أراد أن يدق عنقه بعجله الذهبيّ لولا أن جولييت منعته، وخلصت أباها من براثنه، ثم راحت تضرب موسى في قلبه، وتعنفه، فعرف أنها رجعت عن حبه. قال لها ارجعي إليّ ولا تخدعنَّكِ عواطف عابرة، فلم ترجع إليه، بل راحت تبكي، وتنتحب. توتر موسى توترًا شديدا، وصار صقرًا جبارًا يريد الحق والحق لا يريده. ضرب بالعجل الذهبيّ شرفتها إلى أن حطم كل شيء فيها: الأصص والأعمدة والظلال، وجعلها عليها دمارا. وقبل أن يعود من حيث أتى، قال لها: سآمرك بحبي أمرا! أما لأبيها، فقال: ستموت لكل عائلة من شعبك امرأة فيها جولييت ما أن أنهي هذا الكلام، فاسمعي، يا إسرائيل، أنينك، لعلها تصلك نجواي!
وما أن هبط من الشرفةِ المهشمُّ فيها كلُّ شيءٍ كإبريق، وذهب، حتى انتشر الضباب، وهجم الموت، وصعد أنين النفوس يدق أبواب السماء.










الفصل السابع

هي سبب فرحه، وهو سبب تعاستها! كيف باستطاعة إرادة أبيها عليها أن تصبح قدرها؟ كيف باستطاعة مجد أخيها لها أن يصبح الارتقاء في أحضان الإرادة العاجزة عن الإتيان بفرحها؟ في أحضان قوة العجز أمام الفرح ليغدو للفرح معنى التعاسة؟ كلها أسماء وجولييت واحدة منها. أما قلب جولييت، فهو القلب القالب للتوازن رأسًا على عقب. قلبها العاشق أو الخاضع. وموسى في القلب نبضها. هو الفرح الذي يريدونه تعاسة. وهي التعاسة التي يريدونها فرحا. والبحر حقيقته عن مقربة: موج وضوء وملح وصيحات موت وحداد وامتداد وتراجع. لم يكن باستطاعتها أن تجعل من نفسها في البحر مركبًا إلى شراعه. العاصفة هي أبوها. وأبوها هو الخلود. في السماء كان أبوها. وعلى الأرض كان أبوها. في السماء كان ملاكا، وعلى الأرض كان ملكًا للحوم والنوادي، وضباط الشرطة الكبار أعوانه. ما العمل إذن أمام مهمة الخروج إلى الموج والميناء بعيدة؟ خرجت جولييت إلى شرفتها بين كل تلك الأشياء المحطمة، فإذا به يقف في جوفها مثل حوت أسود ظامئ، وإذا بها تترامى بين ذراعيه مثل مركب في الموج الصاخب:
- أيها الحبيب! أيها الحبيب! أنت لم تذهب، أيها الحبيب! لم يُذهبك حبك!
- بل ذهبت إلى غضب جعلته شديدا، وأعادتني إليك المآتم.
- أكان عليك أن تذهب، بعد كل ما فعلته بك، إلى رقة الكلام؟ قلبي الذي يحبك ليس قلبي، فلم أعد جولييت، هذه التي أنا هي غيري.
- أنت جولييت! أنت جولييت! لماذا جولييت غير جولييت، وأنا موسى غير موسى، لما أكون عنها بعيدا؟ كم هذه القلوب، قلوب البشر، تتبدل! ونحنُ، لِمَ لا نحب بعقولنا؟
- أريد أن أحبك بقلبي، بعقلي، بكِياني، أريد أن أحبك بناري، ببردي، بمآتم أهلي. أريد أن أمحو الفروق بين الصور لما أحبك، فلا يصبح لها إلا معنى واحد، وتصبح كل الصور صورة واحدة لحبك. والآن عليك أن تذهب إلى بيتك، سيعود أبي ومعه نوري القويّ، ولربما استعان بيوسُفَ عليك. اذهب الآن إلى بيتك.
- أريد أن آخذك إلى بيتي.
دفنت وجهها في صدره، وذرفت دمعها، وموسى يقول لها:
- تعالي معي فقط، تعالي معي إلى حيث نصون الصورة في جحيم الصور، تلك التي ستغدو صورًا عنا لها كل معاني الفرح في دنيا الأحزان.
- سيقتلونك.
- لن يقتلوني.
- اذهب وحدك لئلا أحرجك. اذهب وحدك لئلا أجرحك.
- سأدافع عن نفسي.
- اذهب وحدك لئلا أضعفك. اذهب وحدك لئلا أكربك.
- سأذهب وحدي معك إليّ، هناك حيث جولييت لن تغدو جرحًا ولا إحراجا، كربًا أو إضعافا، ففي هذه الجولييت التي أحب عائشة، ونحن شيء آخر، واحدٌ نحن في التشابه منذ آدم.
- سيبقى أبي قدري.
- قدرك هو أنت، أيتها الحبيبة!
- ما تقوله متعذر التحقيق وجميل.
- حققي خطوتك الأولى.
- هاءَنَذا أترامى بين ذراعيك، وأذرف الدمع، أيها الحبيب!
- لستِ عاجزةً وأنت معي... تعالي.
- لا أستطيع.
- سأساعدك. ستساعدنا قوانين المحبين.
- لن تستطيع ديانة آتون شيئًا في بلدنا.
- لا تتركيني وحدي مع الله.
- لن أتركك وحدك بأفكاري.
- إذن تحكمين عليّ بالشقاء الأبديّ.
- لا تنس أنني فرحهم.
- فرحهم وتعاستك.
- لا تنس أنني تعاستك.
- تعاستي وفرحك.
- أيها الحبيب! أيها الحبيب التعيس!
وراحت النجمات من حولهما تزهر وردًا أسود، والبحر لا يتوقف عن التقدم والتراجع بعد أن تراجع الموت عن أهلها لأجل دمعها. وصلهما وقع خطوات تقترب، فتقدمت جولييت من الباب لتفتحه، وهي تطلب من موسى الذهاب بعجلة، فذهب على أن يرجع. شك في صفته محررا، ولما صار وحده في الليل مع الله، رفع رأسه إلى السماء، وجدَّفَ.




الفصل الثامن

هو أخوها، عِرقها من عِرقه، ونبضها من نبضه، فكيف يسلمها إلى نوري؟ نوري السفاح. نوري الأحمق. نوري الدجال. نوري قاطع الطريق. نوري حد السيف، ونهر الدم، وأطنان اللحم. نوري الشيكات المبتزة. نوري الأداة. نوري مِخلب أبيه الأمضى! كيف باستطاعته أن يسلم إلى نوري جولييت؟ أخته التي يتمناها لضابط أشقر وجميل. لرجل ذي هيبة وصولة. ليد تعرف طريقها إلى الرصاصة والقدرة. أخته التي يودها لرجل يهابه الجميع. لحلم في التوراة ممكن. حلم هائل. لتتحقق كل أحلامه.
اقترب يوسُفُ منها، وفي خياله تتساقط مدن الأرض المحتلة واحدةً واحدةً وجدائل غزة، وقال لها، وهو يجلس قربها:
- جولييتُ أحبك، يا أختي!
- يوسُفُ أحبك، يا أخي!
قبلها من جبينها، وراح بإمعان يتأملها، ثم مسح بأصابعه على وجنتها دمعها، وسألها:
- أتبكين، جولييت؟ أتتلفين أجمل عينين؟ من أي ذنب تذرفان، عيناك، إن لم يكن ذنبنا؟
أجابت جولييت يوسُفَ، أخاها:
- لا أريد الزواج من نوري.
- إذن لا تتزوجي منه.
- وإرادة أبيك؟
نهض يوسُفُ دون أن يملك صبرا، ولهج بنبرة شقية:
- هذه الإرادة جعلتني جنديًا مثاليا، وأنا، لهذا، ما أفعله ليس إلا في صالحها.
استعاد هدوءه طالبًا إليها من جديد:
- لا تتزوجي من نوري الكريه.
- ولكن أباك عازم على هذا الزواج.
- وأنا عازم على عدمه.
- سيغضب أبوك منا.
- سيغضب في البداية، وسيرضى في النهاية.
- أنت لست القدرة التي كنتَ، فلا سنابل هنا سمينة وأخرى هزيلة، ولا بقرات مثل هذه أو تلك. ماذا سنفعل بغضبٍ لن يعود علينا إلا بالدمع؟
عادت مدن الأرض المحتلة تتساقط في خياله واحدةً واحدةً وجدائل غزة وفساتين غزة، فأعطاها الجواب:
- سأجعلك تهربين تمامًا مثلما أنت في الخرافة تهربين.
- إلى أين أهرب وكل الطرق تؤدي إلى أبيك؟
- إلى أرضنا المحررة، إلى كهف مقدس أو حجر تمرد منذ قديم أيامنا. سأهربك في التاريخ، وأنقلك على ظهر ضبع رباه بدوي كريم.
رفضت جولييت ما اقترحه يوسُفُ، أخوها:
- والحال هذه، أفضل الزواج من نوري، أفضل الزواج من داتان.
- سأنقذك. سأسعدك. سأفي بوعدي لأمنا.
- لن ينقذني الجنديّ. لن ينقذني يهوشع. لن تنقذني تماثيل موشيه دايان.
- أجننتِ، جولييت؟ أجنت المرأة الوحيدة التي بقيت لي؟
لكنها ألحت:
- أفضل الزواج من نوري.
أرغى يوسُفُ قبل أن يذهب وأزبد:
- لقد جننك حبك للآخر، إلا أنني لن أسمح له. سأبعث به إلى غزة أو إلى أريحا، هناك يوجد بيته وهناك يوجد قبره، في مخيمٍ للاجئين أو في حقلٍ للموز. سأذبحه، لو يلزم، على مَذْبَحٍ لمعبد.
ضرب الباب من ورائه، وجولييت من ورائه لم تكن جولييت، أو أن جولييت كانت جولييت، فكيف تدري؟ لو كانت عائشة في مكانها، فهل ستدري؟ لو كانت إيمّا في مكانها، فهل ستدري؟ لو كانت حبيبة المجنون في مكانها، فهل ستدري؟ في لحظة من اللحظات نذوب ذوب دمعة على خد جولييت، قطرة ندى على خد حبة عنب، قبلة على خد الرمل، تطول اللحظة أو تقصر، تصبح بعمر شعب من الشعوب أو بعمر قمر صغير إلا ما ندر. وكل شيء بيد موسى المحركة للكواكب والأقمار، موسى الموسى العربيّ أو العبريّ أو المِصريّ الأثيم أو ثلاثتهم معا. خرج حوت من البحر، وعام في دمعة جولييت، بعد أن ظن الدمعة بحرا.








الفصل التاسع

إرادة غير ممكنة في عالم ممكن حب جولييت العظيم. خطر المخاطرة. روح المخاطرة. المخاطرة بالحياة. الجرح الخطير. يدمرها الجنديّ في أخيها والملك في أبيها، وتعود جولييت إلى البكاء والنحيب. تنظر إلى النجمات، وتشاهد كيف تبكي هي الأخرى، وتنثر وردها الأسود. ويصلها صوت البحر الغاضب لأنه لا يصلها مركبًا بشراعه. هي تريد، ولكنهم هم يريدون أيضا. هم القوة المجبولة بالإرادة، وهي الإرادة المجبولة بالحب. لهذا ستتراجع جولييت. وموسى يريدها أن تقطع المسافة التي ما بينهما إليه. هو أيضًا إرادته المجبولة بالحب. كيف باستطاعة موسى أن يصل إلى عصاه، فيلقيها بين أقدامهم ثعابين مفترسة أو يفجر من تحتها الينابيع دماء؟ كيف باستطاعة موسى أن يفتح لها البحر إلى الشاطئ الآخر؟ هناك سترسو، ثم تسير إلى الشجر. كيف باستطاعة موسى أن يدلف إلى نبوة لا تقتل نبيها؟ أيجدها بها؟ عليه أن يجدها. هكذا ينقذها. هكذا تنقذه.
سمعت حركته، وهو يتسلق الجدار إليها، فخرجت إلى الشرفة المحطمة بأشيائها المفتوحة للموت وللريح، واستقبلته مرة أخرى بذراعيها المفتوحتين على سعتهما:
- كان عليك أن تذهب، أيها الحبيب!
- كان عليّ أن أجيء، أيتها الحبيبة!
- سيقتلونك إذا ما وجدوك، ويقولون عنك لصًا من اللصوص أو فدائيًا تائها.
- أقبل أن يقتلوني لأجلك. سأكون فديتك لشعبك.
- لا تكن فديتي لشعبي، فأنا لست شعبك.
- لن أجعلهم يقتلونني لأجلهم، وستكونين شعبي من الطيور الحرة.
سكت، وهو يرزح تحت ثقل الخطايا، ثم طلب إليها:
- ماذا كان يريد، يوسُفُ أخوك، بعد كل ما أخذ؟
أدخلته إلى حجرتها، وابتعد السؤال إلى التأمل. هو في حجرتها. موسى وجولييت معًا في حجرةٍ قربَ سريرٍ وثير. لا تسل لِمَ. هذه هي كل المسألة. وإذا به يهتف مفتونا:
- ما أدفأ حجرتك، يا جولييت! ما ألذها! ما أروعها!
- هذا لأنك معي! هذا لأنك حبيبي!
- هذا لأنك، أنت، حبيبتي!
راح يجس وسادتها، ويتأمل نفسه في مرآتها، ويصبو إلى عناقها، فاختطف منها قبلة لأنها لم تشأ ضمًا لقلقٍ وحيرة. كانت الحيرة أمها والقلق أباها، وكان موسى قد اشتهاها، فجمعها في حضنه مشتاقا، وفك ثوبها، وسعى بفمه إلى ثديها.
قالت له جولييت، وقد وجدت في وضعه مناسبة لتبقيه:
- يا موسى، ابق معي، لِمَ لا تبقى معي في حجرتي إلى الأبد؟
أذهبت عنه الشوق بغتة، وصار لحلمتها طعم المرضعة على فمه، فتراجع، وهو يسألها:
- أأبقى معك في إرادة أبيك القويّ وأخيك الغالب؟
- سنوصد الباب علينا.
وأوصدته عليهما.
- وإذا ما اقتحماه؟
- جعلتهما يقتلانني معك. هكذا أقبل أن أكون بيتك.
- ولكني لا أتمنى موتَكِ.
- وأنا أيضًا لا أتمنى موتَكَ.
- لنذهب إذن إلى بيتي الذي شجره شجر وحجره نار وجنة.
انعطفت جولييت نحو نفسها، وقالت بحزن امرأة أرملة:
- أنت تمامًا مثل أخي، تطلب مني ما لا أقدر عليه. جولييت أنا، وأنتم كما صنع شكسبير بها فاعلون.
- ولكني سأحميك.
- أخي كذلك يستطيع حمايتي.
- ماذا كان يريد منك غير زرع الخوف فيك والريبة؟
- أن يهربني معه. أن يذهبني في التاريخ. أن يصيرني للضباع الطيبة مليكة.
- وماذا كان جوابك غير ما اعتدنا عليه؟
- كان جوابي غير ما ستعتاد عليه، يا حبيبي: أفضل الزواج من نوري!
- وهل هذا جوابك الغريب لي أنا كذلك؟
- هذا جوابي، فهل لي من خيار؟
انعطف موسى نحو نفسه مثل نخلة انكسرت لثقلِ حجرٍ بناه في الأهرام، واستبد به غضبٌ جعله شراعًا ممزقًا في قبضة رياح الجيزة، فلم يتمالك نفسه عن الصياح:
- ظننت أن باستطاعتهم جعلنا حقيقتنا في لحظةٍ تصل فيها الفاجعة إلى أقصى الفاجعة. نعم، لا بد من معجزة.
رفعت جولييت رأسها، ونظرت إليه:
- الآن تتكلم عن معجزة؟
- اعتقدت أن حبنا كان الوصول، الخطوة الأخيرة.
- لم يكن الخطوة الأخيرة.
- ولم يكن الخطوة الأولى، وإنما مرآة القلوب الصلفة.
أتاها بكل صلفه، وامتطاها عنوة، وهي تصرخ، وتضرب، وهو يطلق، ويشتم: أنت جولييت الجريمة الأولى، الثدي المستبد، والفخذ المبتزة! هذا حقد كل الجحيم أنحره على بطنك، وهذا وهم كل الشياطين أهرقه على سرتك، وهذا رماد كل أبطال الأضرحة أذره على فرجك! أنت جولييت، أين أنت؟ ثم نهض الجبار عنها، وراح يحطم كل شيء في حجرتها، سريرها ومرآتها ومرحاضها، وراح في عصاب يصرخ من هناك، أن تعالوا لتشربوا من جولييت بولاً منفرا، وتطعموا من جولييت غائطًا مقززا، فجولييت تبول وتغوط مثلما تحب وتعشق، أن تعالوا إلى عالمها الواطئ، أن تعالوا إلى شِقٍّ في جدارها السامق، أن اضربوا عليه رؤوس عصيكم المختونة، وأن تتفجروا.
طُرِقَ الباب، وجولييت لا تتوقف عن البكاء والرجاء: ابق، لا تذهب، اذبحني، ولكن لا تذهب! أما عنه، فقد صعد إلى الجبل المقدس عيبال ليتأمل في حاله وحال الدنيا معه، بينا مكثت على مقربة منه ثلاثة ضباعٍ لا تستطيع النطق بين يديه، وتستطيع الندب عليه.




















الفصل العاشر

حمامة تنهض بدلال شرس، وتعانق العالم مثل علبة كبريت. كانت صورة التحدي، أسطورة العودة بعد ألفي سنة. ويرجم نفسه في رأسه دون توقف، ثم يتعب، ويظهر أنيقًا في محافل تل أبيب. ولكنه عاجز عن التصديق، هو، ياكوفُ، أبو العزيزة جولييتَ، عاجز الآن عن تصديق ما رآه في حلمه الأخير. صورة أخرى للتحدي. صورةُ نبيٍّ عملاق، ويوسُفُ، ابنُهُ، تحت نعله، وبعد أن ناولته السماء سكينًا ذبحه.
فسر ذلك بقوة الإرادة، والحكمة، والتضحية، وفسر ذلك بعزم الابن على منع زواج الابنة، فتذبحه الأبوة على الرغم من أنه أكثر من يحب قلبه. تخدر ياكوف، أبو العزيزة جولييت، سعادةً للتفسير الأول، وتعاسةً للتفسير الثاني، فكيف يمكن ليوسُفَ تحدي أبيه حتى ذبحه بيد أبيه؟ ذاك الجنديّ العاق! نادى ياكوف، أبو يوسُفَ الجنديّ، نوريَ، ابنَ التبني، وقال له بنبرة فيها عليه عظيم التمني:
- ذبحت ابني يوسُفَ في سبيلك، يا نوري، أترى مدى حبي لك؟ حب عميق من غابر العصور أحمله بين أضلعي.
ذُهل نوري الذي سأل ياكوفَ، أباه:
- ذبحت يوسُفَ، آه، يا أبي ياكوف! أذبحته بيديك هاتين وكل هذا في سبيلي؟
أطلق ياكوف، أبوه، ضحكة ساخرة، وأوضح:
- كان ذلك في حُلْمٍ.
ارتاح نوري، وياكوف، أبوه، يضيف:
- لأنه يعارض زواجك من جولييت، فكان الحُلْمُ أقوى من الحقيقة!
مال ياكوف، أبوه، باتجاهه، وقال محددًا النظر في عينيه المكحلتين بكحل عدن:
- هذا عقابي لكل من يقف في طريق زواجك الذي أريد.
هبت في عيني نوري ريح سبأ، فسجد بين يدي أبيه، ياكوف، وابتهل:
- لنلغ هذا الزواج، يا أبي ياكوف، لنلغه، فما حلمك الرهيب إلا أول إنذار لصعوبات لا تحمد عقباها.
- أية صعوبات هي صعوباتك؟
- سلوكك، ذَبْحُ يوسُفَ، آه! يا أبي ياكوف، ينبئ بسوء العاقبة. كيف استطعته؟
ارتعش جفنا ياكوف، أبيه، هنيهةً، الوقت الذي كان فيه تراجعٌ وتفكير، ثم قال بصوت رخيم:
- ولكنه لم يكن إلا حُلْما.
تخلص من أحاسيس الخوف، وقال مصمما:
- سأزوجك جولييت على الرغم من كل شيء، يا نوري، ولتصعد على عرشي بعد وفاتي.
تساقط نوري في أقرب مقعد، وراح كالجرو يلهث، وياكوف، أبوه، يضيف:
- سأزوجك جولييت، يا نوري، سأزوجك جولييت، ولتطبق على رؤوسهم الدنيا!
استراح ياكوف، أبوه، في مِقعده الجلديّ، واتجه بنظره إلى الليل الدامس المتسلل من الستائر. طلب إليه طلبا، واشترط عليه شرطا:
- على أن تقتل سالامون.
خارت قوى نوري:
- أن أقتل سالامون! مدة إنذارنا له لم تنته بعد. حتى ولو انتهت مدة الإنذار، فلم يخطر ببالي أن يصل الأمر إلى القتل.
ألح ياكوف، أبوه، بقوةٍ، وأصرّ:
- أريدك أن تقتل سالامون، يا نوري. أنا ذبحت لأجلك يوسُفَ، وأنت لا تريد أن تذبح لأجلي سالامون؟ إذا قتلت سالامون صار نادي أدريانا ملكي.
حاول نوري عاجزًا فهم منطق أبيه دون أن يصل إلى ذلك، فأوضح ياكوف، أبوه، ليدفعه إلى تنفيذ أمره:
- اشتريت أسهم غريميه مقابل دمه. أفهمت الآن؟ اقتل سالامون، يا نوري، وخذ جولييت لك زوجة.
في تلك اللحظة، صار لنوري رأس خنزير وجسد بشر، فأمره ياكوف، أبوه، أن ينهض، وألا يكون مثل مخدوميه من عرب المناطق أهوج، خارجًا على القانون، أخرق، أن يكون بالأحرى معترفًا به شرعيًا في الجريمة ومُجَلاً لدى الأوباش. وقال إنّ ما صار إليه من قوة وعظمة لا لشيء إلا لأنه يفرض على الآخرين من عرب ويهود ما يريده بسوطه، أما لو كان ضعيفًا لبقي مسحوقًا تدوسه الأقدام، فسأله نوري:
- لِمَ البشرُ جبارون؟
ولكن ياكوف، أباه، قال إنهم أهانوه طوال العمر، والآن، فلينتقم، وليتذوق طعم الانتقام.








الفصل الحادي عشر

الرصاص يصنع حقلاً للزهر في خياله. هل يستطيع؟ الحب يصنع حقلاً للحجارة في خياله. وحبه يصبح الحجر والهدف. الطلقة الأولى والأخيرة. وحبه يصبح الحجر والزهرة. ولكن هل يستطيع؟ راحت الإرادة تدفعه إلى قوة الحجر، فقوة الحب، وقوة الزهرة. خطا في الليل مبتعدا، وفي الحديقة عناقيد العتمة ناضجة. التفت موسى إليها، كانت جولييت تقف كتمثال ساخن أسفل النجوم، وكانت تبكي. ذهب إليها، ورشف بشفتيه دمعها، مرًا كان دمعها ومعطرا. ماذا يقول لها؟ إن ميلادهما كان انتظارا؟ إن قلبه يموت الآن لينهض بعد مائة سنة؟ إن حب قلبه لهو الشوكة في قلبها؟ شوكة تنغرس في الرغبة والدم؟ ماذا يقول لها؟ ليقف حبنا الآن على أن نتحابب غدا؟ اليوم هو ليل أبيك وغدًا نهارنا؟ الليل إرادة القوي والنهار إرادة العاجز، ولأني أحبك، عليّ أن أقلب الوضع؟ هذا الليل ليل الحب أيضًا والاحتضان، فكيف عرفتك لولاه؟ هذا الليل ليل الانطلاق والنوم إلى جانبك عاريا. هذا الليل ليل سهر المحبين ورحيق قبلة على قدمك. آه، ما أجمل سوادك، يا ليل! ما أروع ظلامك! ما أحقر النهار من نافذة كوخ محطم أو قصر عظيم على حد سواء في اللحظة التي أحبك فيها في الليل وأفقدك على عربة أبولون! فهل يستطيع؟ ماذا يقول موسى لجولييت وحبه يغدو الليل والنهار؟ الحجر والهدف؟ أَوَ لم يغدُ بعيمها؟ وإذا ما ارتكب خطأً، فهل يستطيع قتلها؟
قال لها:
- اذهبي، جولييت! سيأتون في أعقابك كالجبابرة المهووسين، ولن يمنعهم في أمرهم معك أن تكوني جولييت، ابنتهم، سيُكرهونك على الخضوع بعنف العصا.
شدته جولييت إليها بكل قواها، وقالت له:
- فليأتوا، لن يمنعوا لقائي الأخير وإياك.
- كفى! إني أودعك أخير الوداع.
ابتعد موسى عن جولييت خطوتين، وتمثالها الساخن يغدو باردًا كالشتاء الفائت مرتين، فنادته:
- أيا موسى، انتظر!
فانتظر لتترامى في أحضانه مرة أخرى، ولتسأله سؤالها المحير في أمره:
- أأنت غاضب مني؟
- أنا غاضب مني، فلم يبق لي أحد لأغضب منه.
- ماذا ستفعل؟ ماذا ستكون؟
- عليّ أن أفعل أشياء كثيرة، وأكون في عيبال غارًا ورجولة، لتأتي الطفولة.
- أما أنا، فلا أستطيع أن أفعل إلا شيئًا واحدًا فقط، أن أحبك!
قرصها من ذقنها، وقال مدللها:
- عليكِ أن تبقي الطفلة التي هي أنت.
- وأنا بين ذراعي الآخر سأفكر فيك، سأفكر فيك كل لحظة. سأعد النجوم، وأفكر فيك، وسأبكي. وإذا ما لم يبق لعينيّ دمعٌ من أجل البكاء، فسيبكي قلبي، هكذا يرتوي حبي لك.
- لا تعذبي نفسك كثيرا. اسقي طفولتك لتظل ما بعد صورتها التي تسعى إرادتهم إلى محوها، إلا إذا ما كان كل هذا سوى وهم، ومجيئي إليك سوى خداع. نعم، لا بد أن نولد كبارا، ثم تأتي الطفولة فيما بعد، لتسعى إلى حيث ما لا تتحقق. أما إذا ما كنت تصرين على تعذيب نفسك لحبي، فعذبيها قليلا.
- كيف لا أعذب نفسي كثيرا، وأنت بعيد عني؟
ومن جديد، ابتعد موسى عن جولييت خطوتين، فسارعت لتسأله:
- هل ستعود إليّ؟
فوعدها موسى:
- سأعود إليك، آه! يا طفلة قلبي، فلا تكبري. اتركيهم يشيخون وحدهم كصورهم على واجهات البيوت.
- متى ستعود إليّ؟
- متى يتحول النهار إلى قوة في وجه أبيك، متى يغدو أبوك طفلا.
أخذت جولييت تبكي: الكلمات التي قالها حبيبها كلمات عقل ليس عاقلا. رأت نهرَ دمٍ يلطمُ له الروح، ويتنبأُ بالموت الذي سيشيعه. وصلتهما من جهةٍ يتساقط فيها الليل أكثر ما يكون خطواتٌ تخبط خبط عشواء وجه الأرض، وتهتز لها الأشجار فرقا، فصاح موسى بجولييت منبها:
- ها هم يأتون في أعقابك، جولييت!
ولكنها حثته على الهرب بأقصى سرعة:
- انفد بجلدك، أنت، ولا تخش عليّ شيئا، انفد بجلدك إلى جريمتك المؤجلة.
رأى يوسُفُ، أخوها، موسى، وهو يركض، ورآه، وهو يتسلق سور الحديقة، فلحق به، وأفرغ عليه سلاحه، وكأنه بفعل كهذا يريد النفاذ إلى أطواء النفس.







الفصل الثاني عشر

بالرصاصة فقط أخلصك منه، أخلصك من نفسك، وأجعلك زهرة! قاومته جولييت، ثم خذلتها قواها، وانتهى بها الأمر إلى الاستسلامِ، عاجزةً، بين ذراعي أخيها. ذرفت الدمع. دمعها المر المعطر. هذا ما يسحر أخاها: دمعها المر المعطر! وانمساخ التمثال بين ذراعيه. في الحلم التلموديّ الذي عليه أن يصبح حقيقة واقعة، محيط الدم يتحول إلى قطرة، وسلاحه إلى ثعبانٍ أليفٍ بإرادة الحاوي. يهبط رب الجنود على الأرض، ويجعل من الليل رداءه، ومن النجوم عقده، ويتقدم من يوسُفَ مهيبا، فيسقط يوسُفُ على قدميه، ويقبلهما مبتهلا: اجعلني غريبًا عن جولييت كي أجعل منها زوجتي! فلا يستجيب رب الجنود له، وتتحول الأمنية إلى غضبٍ أبديّ. ينسى رب الجنود رداءه على الأرض، ولا ينسى عقده، لهذا كان الظلام دامسًا في إسرائيل.
هب يوسُفُ بأخته غاضبا:
- حبك هو عقابك، أيتها اللعينة، وأنا، لهذا، سأنتقم لنفسي من حبك، بإنزالٍ في إحدى القرى العربية، أجمع السكان، وأعصب عيونهم، ولي كلهم عند ذلك يغدون موسى. سأزجهم في سجن من سجوننا الكثيرة، الأكثر راحة من كل سجون العرب، فأبعده عنك، وأبعدهم عن علمٍ يرفرف فوق مئذنة أو على سلك كهرباء جناحًا قتيلا.
سقطت جولييت على قدميه، وتوسلت:
- أرجوك، يا أخي الحليم! انتقم لنفسك مني، ودع حبي يسير إلى نهايته.
صفعها، فانبجس الدم من أنفها. كان يريد التعبير عن شيء آخر غير الانتقام. راحت مدن الأرض المحتلة تتساقط في خياله واحدةً واحدةً وفتيات غزة، وعلى منظر دم جولييت، قهقه يوسُفُ، ثم أشفق عليها، ومسح الدم عن وجهها. ضمها بقوة إلى صدره، ورجاها:
- سامحيني! اغفري لي!
قبلها من جبينها، وهي، هي تقف تاجَ زهرةٍ منكسرة، وهو، هو يحيطها بذراعيهِ قوانينَ هيكلية لدولة. قال لها:
- كنت آتيك بخبر سار لما وقعت على عشيقك هنا، هل أصابك الجنون، يا جولييت؟ تفضلين عربيًا قوميًا على نوري الكريه؟ تفضلين عربوشًا كريهًا، يا جولييت، عليّ؟ إذن ما الفائدة؟
أجابت جولييت الفانية:
- أنا لا أفضل أحدا.
قفز يوسُفُ من الفرح بين يدي أخته، وهتف:
- هكذا تكونين مفضلتي، يا جولييت!
جمجمت جولييت اليائسة:
- ولكني سأتزوج من نوري.
ظنت أنه سيتوقف عن الضحك، فإذا به يعلن:
- نوري في السجن الآن، نوري يرزح تحت ثقل خطاياه.
تعجبت جولييت الذاهلة:
- ماذا؟! نوري في السجن؟! نورٌ يغربُ ونورٌ يشرقُ، والليل ينشقُّ، وما ظننته شعرًا لهو الخبز الحقيقي للحياة!!
- ارتكب جريمة، فألقوا القبض عليه، ورموه في سجن من سجوننا الكثيرة، الأكثر راحة من كل سجون الدنيا.
وجولييت عاجزة عن استيعاب النبأ، لم تزل تسأل يوسُفَ، أخاها، الذي بدا أنه لا يفسر حُلمًا عابرا:
- ماذا؟! ماذا تقول؟! ماذا يعني ما يقول يوسُفُ العزيزُ من وراء ما قال؟!
طمأنها يوسُفُ:
- لقد عدتِ حرة كالماضي، يا جولييت، لقد عدت إلى أخيك، وشاء القدر أن يكسر إرادة أبيك الجبار.
استخف بها الفرح، فغار من كل هذا الاغتباط، لأنه لم يكن لخبرٍ نقله، ولم يكن لأجله هو، الأخ بين أخوة كانوا أبطالاً وملوكًا وحتى آلهة، فهل يباح حبه المحرم؟ بهذا الفرح تتخلى عنه. لِمَ إذن كل هذا النفور بينا كل الخطر زال؟ نهشه الشك، فترك الشكُّ يوسُفَ البدائيّ في الحضارة ليعود إلى نفسه البدائية، فمن نفسه خرجت جولييت، وجاءت في إثر موسى الذئب الوديع ذئبةً وديعة، فلبس يوسُفُ جسدَ احتمالِ التشوهِ عن غيرِ علمٍ منه.











الفصل الثالث عشر

راحت جولييت تجري على إثر موسى، ، وهي تترك من ورائها أعمدة المصابيح. الشارع طويل، والنجوم معتمة، والحوت في كل الزوايا جثة منشرحة. هو ذهب من هنا، وهي تتبع خطواته، والبحر يموج بحمى، والليل حرير عات. توقفت جولييت لاهثة، وحدقت في ظله البعيد. ستذهب إليه، وتعيده إلى ذراعيها، ثم تذهب إلى البحر. في ذَماء الموج ستتحد به، ثم تترك نفسها مركبا. أَوَ لم تعد حرة؟ عقبتها كانت نوري، وزالت عقبتها. موسى الدقات. القلب الخافق. القلب الدافق. القلب الدافق والخافق. الحلم عندما يخرج من البحر، والبحر عندما يجعل من البحر عناقا. موسى الجميل. موسى الجمال. موسى الشهوات. الجسد المخلوق. الجسد الخالق. الجسد الخالق والمخلوق. طريقة في العيش من الطبيعةِ منبثقة، والطبيعةُ المُحُدَثَةُ ثقافة.
كان على نوري أن يرتكب جريمته لتجد جولييت حريتها! أشجتها الفكرة، ولكنها لم تتراجع عن مطاردة ظله البعيد. والظل لا يبقى أبدًا بعيدا. وجولييت تريد أن تقترب منه إلى اقترابه منها. هكذا سيمّحي فيها شبح الجريمة. وتتنفس. هكذا تتنفس ملء رئتيها هواه، هواء البحر المالح، وتبتعد فورًا عن القوة. تخلص من الشبح المطاردها، وتنسى أنها ابنة لملك اللحوم والنوادي. تخلص من إرادته العليا. من اشتعال السيف. تخلص من إرادته الدنيا. من أطنان اللحم المذبوح. وتقترب من إرادتها الصغرى. من ظمأها إلى سلطة تتوله بها. هل تجدها في ظله المبتعد؟ كانت تجري صوب "رامات هاشارون"، وتتعثر. تجري، وتتعثر. تجري، وتتعثر. موجة صوب الرمل.
نادته على أبواب تل أبيب:
- أيا موسى!
فالتفت إليها دون أن ينتظر رؤيتها:
- أنت جولييت؟
- أنا جولييت!
ضم أحدهما الآخر بقوة وشوق، وهما يبتسمان لبعضهما، والبحر امتداد وامتداد، والليل أفلاك وأثداء. طلب إليها بلهفةِ من وفر على نفسه قطعَ المسافةِ إليها في الدماء والضوضاء:
- أنت إذن تأتين معي إلى بيتي، جولييت؟
ووضع إصبعين على شفتيها:
- لا تقولي لي شيئًا آخر.
وقالت شيئًا آخر:
- نوري في السجن، أترى بأي خبر سار آتيك؟ أنا حرة من جديد، فلتسعد، أيها الحبيب!
رقصت به قافزةً ضاحكة، وشدت نفسها من جديد إلى صدره. قبلته من قلبه، وقبلته، وقلبه يخفق بقوة، إلى أن أحست بذراعيه تتركانها.
- أنت إذن لا تأتين معي إلى بيتي، جولييت!
- سنذهب إلى البحر، وأخدمك حورية.
- آه، يا صغيرتي! ستتعذبين سمكةً في مِشواة!
- سنذهب إلى فراشي، وأرضيك خائنةً لعهد الزوجية.
- آه، يا طفلتي! ستهلكين فرخًا يحاول الصعود على شجرة في الصحراء!
- سنذهب إلى نجمة، وأضيئك فكرة.
- آه، يا غرامي القادم! ستكونين على الشفاه حكاية حزينة تسحر الناس على الرغم من كل الاغتمام!
- ذهب نوري من طريقنا، ذهب نوري عن طريقنا.
- وما الذي تغير في هذا، وأنا لم أقتل بعد، ولم أغلب، ولم أقهر؟
- لقد عدت حرة لأكون لك عبدة.
- أنتِ بقيت أنتِ: جولييت، وأنا بقيت أنا: موسى، فلم أقتل أبا، ولم أبذر ولدا.
انعطفت جولييت نحو نفسها متسائلة متحيرة خائرة خائفة:
- ما هو قصدك، يا حبيبي؟
نظر موسى إلى الليل الذي فيها، وقال لها:
- اسألي الليل يقل لك إني لست أباك ولا زوجك، وما أنا إلا حبيب عابر، فلا تقبلي خبرًا كاذبا، ولا تضعي يدك مع المنافق لتكون شاهد ظلم. لا تتبعي الكثيرين إلى فعل الشر، ولا تجيبي في دعوى مائلة وراء الكثيرين للتحريف، ولا تحابي مع المسكين في دعواه. إذا صادفتِ ثور عدوك أو حماره شاردًا تردينه إليه. إذا رأيت حمار مبغضك واقعًا تحت حمله وعدلت عن حله فلا بد أن تحلي معه. لا تحرفي حق فقيرك في دعواه. ابتعدي عن كلام الكذب، ولا تقتلي البريء والبار، لأني لا أبرر المذنب. ولا تأخذي رشوة، لأن الرشوة تعمي المبصرين، وتعوج كلام الأبرار. ولا تضايقي الغريب، فإنكم عارفون نفس الغريب، لأنكم كنتم غرباء في مصر.





الفصل الرابع عشر

لولاه لما كان الانتصار، أيها الجنرال! سلطتك هو، وحربك كانت سِكِّينَهُ إلى القلوب. السكين والسكينة. اسأل شعبَ هاتيكفا الجاعِلُهُ يقف من ورائكَ ياكوفُ، أبو يوسُفَ وجولييتَ ونوري بالتبني. أولاده الثلاثة هم له كلُّ شيء. أما هو، فهو أنت وهم والحرب، أيها الجنرال! والحرب هي البحر. بحرٌ غاضبٌ يجرِفُهُم، يُخْضِعُهُم لَكَ، فأنت المنتصرُ، وعليهم الركوع على قدميك. وتعودُ إليهِ. ليجعل من المنهزمين منتصرين. وليجعل منك العملاق الخارج من البحر. والبحرُ مع عبورِهِ يجرفُ كلَّ شيء.
هكذا هو وأنت، أيها الجنرال! هو ياكوفُ، أبو الشعب الطائع، وأنت الرصاصة المنتصرة. مجد الأزقة الفقيرة، مجد النهاية دون نهاية. ياكوفُ، أبو الشعب الطائع، يُنحت في قدميك وريدًا يتفجر بالحياة. هكذا هو وأنت، أيها الجنرال! الإرادة المتحدة، التلمود والخطأ، ملك اللحوم والجنرال، الخبز والحرب، النفط وتركيع العرب، القبر والدولار، الغد وبعد الغد، الأصابع واليد، حركة الأصابع والأصابع. هكذا هو وأنت، أيها الجنرال! توأمان يوحدهما الدم، وشعب هاتيكفا الطائع. أَوَ لم يبق إلى الأبد طائعا؟ لم يشأ الكلام عن الذين ضحوا وملوا، عن الذين في أغلبيتهم ضحوا بدمهم في سبيل الأقلية، عن الذين تعبوا لخدمة مصالح البورصة، وعن أولئك الذين من نيويورك بأحزانهم يتداولون، بأوهامهم يتلاعبون. كانوا بالعشرات، بعشرات العشرات، ولم تكن المناسبة للحديث عن كل هذا، فأسدل الستار على صورتهم التي ستغدو صفراء بعد بضع سنين.
لم يُجْهِدْ ياكوف، أبوهم، نفسَهُ ليصل إلى موافقة الجنرال:
- سنطلق سراح نوري، أيها السيد ياكوف، فلا نفتقد ذنوب أبنائنا فينا.
انشقت شفتا ياكوف، أبي نوري بالتبني، عن ابتسامةٍ راضية، وسأل الجنرال:
- وماذا سنفعل بالضابط أفنيري؟
- سننقله أو نعطيه إجازة.
- في إجازة دائمة لو أمكن.
تنحنح الجنرال، فأضاف ياكوف، أبو نوري بالتبني، خلسةً:
- إنه ضابط واقعي جدًا...
- أرى ذلك.
- ليس لديه أي طموح.
- يحصل ألا يكون كل ضباطنا وجنودنا ملائكة.
- يحصل أو لا يحصل؟ إنه السؤال.
ازمهرت عيناه، ثم أضاف وهو يُحْدِدُ بصره إلى عيني الجنرال:
- أما أنت، يا جنرالي، فأنت ملاكي المفضل!
وضع حزمة من النقود على مكتبه، ونهض. عند الباب، التفت إليه، وقال:
- سأزوج ابنتي جولييت، يا جنرالي.
- يا له من سعيد الحظ، زوجها!
- سأزوجها نوري.
تفاجأ الجنرال:
- ولكنّ نوريَ ليس ملاكا.
- سأصنعه ملاكًا على شاكلتك، أيها الجنرال، فالملائكة أنواع، بعضهم منا، وبعضهم علينا، وفي كلتا الحالتين عليهم أن يكونوا لنا، حتى أولئك الذين يجرؤون على وضعِ حجرِ أساسِ الهيكل في المسجد الأقصى هم لنا، هم سيُخضعون غيرهم، ونحن سنخضعهم، هم وغيرهم، فما المناطق إلا ملكنا. اسأل ولدي يوسُفَ يقل لك ما المناطق إلا جزء من إسرائيلنا، ولن نتخلى أبدًا عنها. أما عن هؤلاء الصراصير الذين تقودهم منظمة الإرهابيين التي أشاء لها أن تكون أو لا تكون وكما تشاء الظروف: لصالحي أو لغير صالحي، فلن يكون هناك سلام معهم، وسيلحقهم المزيد من الآلام. لهذا السبب، قل لهم أن يقعدوا كالأطفال عاقلين أحسن لهم، فلا نطردهم، ولا نقتلهم، وسنحل مسائلهم ككل الليبراليين المتحضرين ما بيننا.
ابتعد السيد ياكوف عن الباب، وكأنه عدل عن الذهاب، دنا من الجنرال، وأضاف:
- أنت أول من أدعو إلى عرس جولييت، فهلا شرفتني بالموافقة؟
انفعل الجنرال:
- كل الشرف لي!
- أتمنى أن يتم نقل الضابط أفنيري أو إجازته المفتوحة في أقرب وقت، وذلك قبل اليوم السابع ابتداء من اليوم.
- كن مطمئنًا، يا سيد ياكوف، وإن كان اطمئناني أقل بخصوص صراصير القطاع والضفة. إنهم صراصيرُ ريحٍ صرصرٍ من عجينةٍ أخرى، صراصيرٌ تعض وتهجم وتهدد!
صرخ السيد ياكوف في وجه الجنرال صرخة مدوية زعزعت كِيانه:
- هؤلاء الخوافون لا حاجة لهم باستقلالٍ لن يبحثوا عنه، وهم إن بحثوا تعبوا بعد بضعة أيام، وصمتوا لنعالنا طوال الحياة، وإلى الأبد، لأن مملكتنا أبدية. أتذكر محاولاتنا مع بدوهم الخرعين وضباعهم الجشعة؟
- أذكر وأذكر.
- هم ليسوا بأحسن من بدوهم. دعنا منهم، فسيتعبون، ويتبعون. سنحكي في أمرهم في فرصة جِد قريبة، بخصوصِ مشاريعٍ تُربحنا تكون لنا هناك، فأصنَعُ إحسانًا إلى أُلوفٍ من مُحِبِّيّ. اليوم، فلننظف بيتنا هنا من أمثال ضابط اسمه أفنيري أو قائد اسمه بيليد أو ولد مزعج اسمه عموس عوز وآخر اسمه عموس كنعان.
- كن مطمئنًا، يا سيد ياكوف، لن يبقى في بيتنا إلا أبناء مارس الطيبون.
- وفيما يخص النوادي التي أحميها، إذا كانت هناك مباغتات للشرطة، فلا تتردد عن إبلاغي.
هتف الجنرال بحماس:
- لن أتردد بالطبع عن إبلاغك.
- شكرًا لك، أيها الجنرال!
أعطاه ظهره، وهو عازمٌ، هذه المرة، على المغادرة، وصفق الباب من ورائه.





















الفصل الخامس عشر

هو تنفيذ الإرادة. الرصاصة القاتلة والأمر المسموع. نوري الطاعة والإذعان. وحد السيف. نوري الإشارة. وترضخ روما بعد أن يغسل ساقيها بالدم. تبتعد جولييت عن وصوله إليها. كيف من الممكن أن يأخذ منها ما يعطيه أبوها في اللحظة التي تمنعه فيها الإرادة عن غير تنفيذ ما تريد؟ انتهى بنوري الأمر في التعفن خلف القضبان. في السجن. في العقاب الأعظم. أنهته الإرادة دون أن تشاء، وغدت تراجعًا أمام الحياة. يتذكر نوري كيف أعطته تلك الإرادة الحياة. كيف تعهد ياكوف، أبوه بالتبني، بتربيته بعد أن وجد أبواه الشيخان نفسيهما في عرض الطريق دون مأوى. مدير الكيبوتس اللئيم طردهم لما استوت عظامهم. عملاقٌ بين عمالقة. جالوت اليهوديّ! تأوه نوري. لو كان له عمل وقتذاك. ولكنه كان صغيرا. كان نوري نحلة هزيلة في خلية جائعة، وكان الموت يترصد لأبويه، فقال الليكود هم العرب، وراح نوري يحلم بالحرب لأول مرة. كي ينسى. كان يُهان في اليمن، وكان يُهان في أرض العسل واللبن. فهل ينسى؟ وبين الوضعين تُظهر له الفروقُ كلَّ ما لم يكن متوقعا، فيطلق آهة حسرة على بيتهم المبنيِّ من حجرٍ في صنعاء، ويتذكر كيف رماهم المعراخ في الأرض الماحلة أو على الأرصفة ليلحسوا الغبار عن نعال الجميلين من الأشكناز، فلحسوا غبارهم، وجمعوا قذاراتهم. هم، لهذا السبب، جاؤوا بهم، وليحوّلوا الأرض الجرداء إلى خضراء، مثلما سبق لعربٍ أن حولوا مثلها من غيرِ كلِّ تلك الأراضي الخصبة التي كانت. الصدفة وحدها هي التي لعبت دورا، فأي مخلوقٍ في نفس الوضع يفعل ما فعلنا. ولقد فعلنا بجهدٍ وشقاء، لكن موسى أيضًا وذويه قد فعلوا بجهدٍ وشقاءٍ من قبلنا، قبل أن نأتيها من آخر الدنيا جنةً، وإلا كيف يكون وعدٌ بأرضٍ تشقها أنهار العسل واللبن، ويسقط علينا من سمائها المن والسلوى، ومن بساتينها نقطف القات والكمثرى؟ أم أننا كنا واهمين وكفى؟ ومثلما لم يغيرِ المعراخُ من وضعه شيئًا كبيرًا لم يغيرِ الليكودُ أيضًا من وضعه شيئًا كبيرا. أَهي لعنة اليهود أم لعنة اليهود بالساسة؟ صب جام غضبه على العرب، وما لبث أن رأى في بعضهم أصدقاءً كانوا له في اليمن، وتبدى له ذلك البعض في وجوهٍ رآها في القدس وفي نابلس وفي غزة. أقر عقله على أن بعضًا من هؤلاء بشرٌ أشرارٌ وبعضًا بشرٌ أخيارٌ مقابل الذين يقولون عنهم أشرارًا كلهم، وهو لهذا قال بإعادة المناطق أو بعضها مقابل الذين يقولون عنها أرضنا التي حررنا، وليبقوا أطفالاً مسالمين أحسن لهم، فنسالمهم تحت أمرنا. ثم جاءهم نوري بقلب اليهوديّ الساذج المحب، فقال في اللحظة التي قالوا فيها إنّا لا يسيئنا العيش معهم شرط ألا يقذفونا بالحجارة، وألا يحتموا بالعجلات المحترقة. إنّا لا نضرب ولا نغلب، ولكن إذا ضربنا أفنينا!
إلا أنه لم يصبح جنديًا مثاليا. جعل ياكوف منه حُلمًا عاديا، وترك الحرب لابنه يوسُفَ حُلمًا عاديًا ولا عاديّا. أيحلم في كل هذا الوضع المنذر بالخطر؟ أتتساقط مدن الأرض المحتلة على نعليه واحدةً واحدةً وحوريات غزة؟ ألم يقل ليوسُفَ طفلٌ من أطفالهم العنيدين غير المسالمين لتذهب إلى بيتك، فماذا هنا أنت بفاعل؟ لتذهب إلى أمك كيلا تصير مومسًا أو أختك سكينًا بيدِ جزارٍ جاهل! ولما كبر نوري قليلا، وراح ليكرم أمه وأباه، كان رجلُ الحكومةِ الدميمُ يطردهما من بيتهما الحقير إلى عرض الطريق، وأجرى الحجز على البؤس عنوة. جرى نوري صوبهما بكل ما أوتي من قوة، وإله شعب هاتيكفا ينظر إليه من فوق، ويبتسم، بينا كانت سيارة جيش أمريكية مهووسة، في طريقها إلى قبر إبراهيم الخليل، أسرع منه إليهما، فوصل إليهما، وهما جثتان وشجرتان من زمن المسيح مجتثتان. بكى نوري وقتذاك، وأتته الفتاة روبيكا لتمسح له الدمع، فطردها شر طردة. لم يكن يريدها أن تصبح أمه. لم يكن يريده أن يكون عيسو. وعندما ذهبت روبيكا مع يوسُفَ نادها نوري كفكرةٍ يرمي إلى التعبير عنها بإطناب. كانت قد ذهبت، ولم يكن المعراخُ آنذاك يؤجج لهيب الذكرى ضد العرب ومع الحرب، ففيه الذين ذاقوا ويلاتها، وفيه الذين يريدون سلاما. فأين سلام نفسك، يا نوري؟ بقوة الإرادة كان غائبا، وكبر نوري كما أراد له ياكوف أن يكبر.
أين تراها تكون، روبيكا، تلك الفتاة السمراء ذات البراءة الشرسة؟ كان يفضلها على جولييت. وهو لم يزجرها مرةً إلا لتأتيه، فلا تأتيه، وتذهب مع يوسُفَ. أين تراها تكون، روبيكا، الآنَ؟ جَسَّ نوري القضبان، وتنهد. فكر في لحظةِ أملٍ لو خرج من السجن لذهب إليها. ليراها. لن يزجرها هذه المرة. فقط ليراها. ومن جديد، عاد يسقط في اليأس. حَدَسَ حبل المشنقة في الساحة المظلمة، والليل ينتشر رهيبا، والليل يخفق شراعًا للموت، ولم يستطع إطلاق صرخته المعلنة عن القاتل. انطوى على نفسه، وهمهم منسحقًا مندحرًا منكسرا: لا، يا أبي ياكوف! رحمةً بمن جعلته ابنك! لا، يا أبي الطيب! ولم ينتبه إلى السجان إلا بعد بضع زمان ظلاً منحرفًا في قلب الزنزانة، فنهض فزعا، والسجان يطمئنه:
- لقد أُطلق سراحك، أيها اللعين!
- قل لي شيئًا آخر غير ما يقوله ظلُّكَ في يأس الأرواح الضائعة.
- جاء أمرٌ بإخلاء سبيلك، فاذهب، وكن تائبًا بين التائبين!
ابتسم نوري، ثم لبسه الشحوب، ولم يصل إلى تَرْكِ فرحِهِ يتفجرُ فرحا. كان غضب الأسرى العرب أقوى من إطلاق سراحه، فقد وصلته بعض الصرخات، ورأى بعض المضربين عن الطعام، يقوم بينهم ظل موسى ولا يقعد، فخشي الظل، وخاف. ومن الساحة، جاء جنودٌ يجرون، ثم على الأرضِ خرَّ الجنود، لأنهم عرفوا في الظلِّ قاضيَهُم.





الفصل السادس عشر

أقفل ياكوفُ، أبو يوسُفَ وجولييتَ ونوري بالتمني، على بعض العمال العرب أحد مستودعات اللحم، وغمغم منفوخًا بالرضى. هو البحر. الامتداد. والعمال العرب أرخص وأنفع. هم على قلبه أغلى، وهو يعرف كيف يخفيهم عن إذن العمل هؤلاء البلهاء. الحكومة في جيبه، وهو يلعب على الحكومة. وأصبحت حكاية جولييت وموسى حكاية التوازن بينه وبين الحكومة بانتظارِ أن يُطْلَقَ سراحُ نوري. مضى ياكوفُ، أبو الكلِّ، بأطنان اللحم المتراكم. كانت الديدان تزحف في الدم وعلى الشرائح، فابتسم القوي ياكوف. كيف لا يبتسم، هو، ملك اللحوم؟ سيطعم الأفواه. بقوة المال صانع آماله. بقوة المال القويّ. بقوة القويّ الأقوى. بالقوة بكل بساطة. وهؤلاء هم الصراصير العرب الذين يقفل عليهم الباب كالدواب الذبيح. فهو لحم على لحم، شرائح على شرائح، وأنهار الدم تفيض. هؤلاء هم الصراصير العرب الجوعى!
في حلبة ملوك إسرائيل كلهم سواسية. هكذا العبيد. يا لسعادة قلب الملك! ويا لصولته وهيبته وجبروته! هكذا تأخذ الإرادة معناها الأسمى. إلا أن جولييت تقلب التوازن، والديدان الزاحفة في اللحم الباحث عن مجد الأفواه الجوعى تحيد نحو الهدف التعيس، فتزداد سعادة. وبالمقابل، رأى موسى فيها حاجةً إلى العيش وشرطًا للمحتل، فسوّغ لها أمرًا كان محظورا، وجعل بينها فرقًا وبين عربٍ أخرى قذرة الآباء والبنين، فمن بين العرب هناك أيضًا يهوذا. كانوا فلسطينيين بالصدفة، وكانت الصدفة سيدتهم قبل أن يصبح ياكوف سيدهم. نظر ياكوف في أخلاق بعضهم، فوجدهم قذرين في أخلاقهم: جشعين منافقين وخوافين! ونظر في أشكال بعضهم، فوجدهم قذرين في أشكالهم: وجوههم متجعدة هاماتهم مستضعفة وكلماتهم واطية! يبصقون في الطريق وعلى الوطن، وخميس العهد لهم ذَوْبُ الخراء. قال عن أسماء، ابنة عم موسى، إن أسماءَ شيءٌ آخرُ غيرُهم، لربما كانت أمها ككل القذرين الآخرين، أما أسماء، فهي شيء آخر. أسماء شيء كريم. يعرف ياكوف هذا، ويتجاهله. لا يريد أن يرى في أهل موسى إلا الصورة التي تسعده وترضيه.
ترك القوي ياكوف سوق تل أبيب، والليل أنشوطة مدماة. رفع رأسه إلى نجمة تائهة، وحاول الإمساك بها دون أن يفلح. قطع شارع أللنبي الضيق، ووصل إلى ساحة أللنبي الواسعة. كانت السيارات قليلة، لا أحد في الساحة على التقريب. وعادت جولييت إلى خياله في ثوب عرسها الأبيض كعادتها طائعة، فابتسم هنيئا. وبينا هو على عتبة نادي أدريانا، دب انفجارٌ هائلٌ قادمٌ من السوق، فهرع إلى النار ليراها، وهي تلتهم مستودعه. كان يعرف. هم غريموه. ها هو دم سالومون يشتعل. دقت النار أبواب السماء، وجاء رجال الشرطة وجنود الجيش. اكتشفوا جثث العمال العرب لهبا، فذهب القوي ياكوف إلى مكتب الجنرال، وقال:
- سنقول إنها عملية فدائية.
اضطرب الجنرال أو، أن ظله الذي اضطرب:
- ولكنها ليست عملية فدائية.
ألح القوي ياكوف:
- سنقول إنها عملية فدائية.
وصمت، ثم أضاف موضحا:
- إنها الوسيلة الوحيدة لإقفال ملف لا نريد فتحه، وسيصدق الناس.
- أتظن ذلك؟ أتظن أنهم سيصدقون؟
أطلق ياكوف، أبو الناس، ضحكة رنانة، وقال:
- الناسُ هنا ملائكةٌ يصدقون كل شيء!
- والموتى؟
- أي موتى؟ هؤلاء العرب لم يكن لديهم إذنٌ بالعمل. لا أحد منهم مسجل في دفاتركم. هؤلاء عمال من عندنا، وهي عملية فدائية، وعلى الحكومة أن تقوم بعملية ردع بالمقابل، تلقن فيها درسًا للإرهابيين لا يُنسى، فترفع من شعبيتها، ويكون حدب الرب عليها. هل أكذب، يا جنرالي؟ في سبيل أرض إسرائيل مسموحٌ الكذب. نحن نعمل على أساس كذبة كبيرة، وهؤلاء الملائكة الطيبون الشرفاء هم أدواتها، بعضهم جاهز لتقديم روحه عن طيب خاطر، باسم هذه الكذبة الكبيرة، وبعضهم الآخر نجبره إجبارا، فكذبتنا مطلقة، حلت محل كل الحقيقة. هل توجد حقيقة أخرى غيرها؟ لا توجد هناك سوى حقيقة ناقصة علينا جعلها كاملة، فلا يغب عن بالك أن أرض إسرائيل لشعب إسرائيل، مهما كانت اللغة، لغة الجنرالات أو لغة المتعهدين.
قال الجنرال مفكرا:
- ولكن... التوراة تشدد على القيمة العليا لحياة الإنسان، فَيُدْرِكُ الثمرُ ما لا يُدْرَكُ سِرُّه ولا يُدْرِكُ المرءُ ما يُدْرِكُ!
فصحح القوي ياكوف:
- لحياةِ الإنسانِ اليهوديِّ أولاً وقبل كل شيء، أيها الجنرالُ الإنسانيّ!
وبعد أن تنحنح وتفحفح، أردف:
- هي إذن عملية فدائية، وهؤلاء لم يتخلوا عن الإرهاب، وها نحن نحذر العالم الحر ليعرف أنه شتان بين أقوالهم المخادعة وأفعالهم الدموية، فيعود العالم الحر إلى حظيرتنا، ويبقى ذبيحة خطايانا السابقة واللاحقة.
وبعد أن تشخشر وتبخبر، انتظر القوي ياكوف عند الباب قليلا، ثم قال للجنرال:
- لا تنس وعدك بحضور حفل زواج ابنتي جولييت، أيها الجنرال!
- لن أنسى.
- إلى اللقاء إذن، أيها الجنرال!
وصفق الباب من ورائه.
في اليوم الثامن، دعا موسى هارون وبنيه وشيوخ إسرائيل، وقال لهارون خذ لك عجلاً ابنَ بقرٍ لذبيحةِ خطيةٍ وكبشًا لِمُحْرِقَةٍ صحيحين، وقدمهما أمام الرب. وَكَلَّمَ بني إسرائيل قائلاً خذوا تيسًا من المعز لذبحِهِ خطيةً وعجلاً وخروفًا حوليين صحيحين لِمُحْرَقَةٍ وثورًا وكبشًا لذبيحةٍ سلامةً للذبح أمام الرب وَتَقْدِمَةً ملتوتةً بزيت، لأن الرب اليوم يتراءى لكم. فأخذوا ما أمر به موسى إلى قُدَّامِ خيمةِ الاجتماع، وتقدمَ كلَّ الجمع، ووقفوا أمام الرب. فقال موسى هذا ما أمر به الرب، تعملونه فيتراءى لكم مجد الرب. ثم قال موسى لهارون تَقَدَّمْ إلى المذبح، واعمل ذبيحةَ خَطِيَّتِكَ ومُحُرَقَتِكَ، وكَفِّرْ عن نفسك وعن الشعب، واعمل قربان الشعب، وكَفِّرْ عنه كما أمر الرب. فتقدم هارون إلى المذبح، وذبح عجل الخطية الذي له.



















الفصل السابع عشر

سيذهب إلى روبيكا والليل دامس. سيذهب إليها أول الناس، فيرى إذا ما كانت تحبه. روبيكا ذات البراءة الشرسة. روبيكا ذات الشراسة البريئة. روبيكا السمراء. روبيكا الميساء. روبيكا الغيداء. روبيكا ذات العين العسلية. سيرميها على صدره، ويرفعها من ذقنها، ويضع شفتيه على شفتيها، ويهبط إلى ثدييها، ثم يموت. صاح بأعلى صوته: روبيكا، روبيكا، آه، يا روبيكا! واندفع يجري في أزقة شكونات هاتيكفا الرطبة، حتى وصل إلى بيتها، وبعنفٍ طرق بابها:
- هذا أنا، روبيكا، فافتحي لي بسرعة!
فتحت روبيكا له باتئاد، وهي تثني رأسها بلامبالاة. راح يحدق في ثدييها تحت قميص نومها، فغطتهما بيديها، وسألت بنبرة باردة ليس فيها من الشوق مما توقع شيئا:
- ماذا تريد؟
قال نوري مضيعا:
- خرجت من السجنِ لتوي، وأتيتك مباشرة لعلك تحبينني كما أتمنى وأحظى بقلبك!
أعطته روبيكا ظهرها دون أن تعيره أدنى اهتمام، وذابت في عتمة بيتها، فصاح نوري بها:
- روبيكا، لماذا تذهبين؟ آتيك قبل كل الناس وتذهبين! روبيكا، أريدك زوجة!
خرج يوسُفُ من العتمة، وحاول طرده، وإذا بنوري يقذفه في عرض الطريق، ويهاجم، بعد ذلك، روبيكا، وروبيكا تبكي، وتتوسل:
- الرحمة! ألا تراني منه حبلى؟ لكنك لا تريد أن تفتح عينيك! اذهب من هنا، أيها المجنون! أنت عيسو المغضوب عليه، أو أنك إسماعيلُ العربيّ!
مسح دمعها، ورجاها ألا تشك في حبه لها، وما لبث أن زجرها، وعاد يضربها، وأمها على مقربة منها تحاول النوم في فراشٍ على حصير، والسعال يمنعها. هل تشك في حبه الآن بعد كل ما فعله لأجلها؟ أتشك في إخلاصه المضنيّ؟ أتشك في حبه العنيف؟ إخلاصه مضنٍ، هذا صحيح، وحبه عنيف، وسيغدو أكثر عنفًا إذا ما رفضته زوجا. سيحطم الدنيا على رأسها ورأس يوسُفَ جنديها المفضل فقط لأنه جنديّ، فبإمكانه أن يكون جنديًا، هو الآخر، ويضاهيه في شجاعته. أن يكون أكثر منه للعسل إخلاصا. أن يقتل كل العرب. أن يذبحهم في عقر دارهم واحدًا واحدا. أن يجعل من دمهم نهرًا جبارًا يُصْعِدُهَا على موجِهِ، وأن يبحر بها إلى جماله وجاهه. فمن ذا الذي سيرث ياكوف غيره، ويقوم على العرش نبيا؟ ومن ذا الذي سيكره الأعداء أكثر منه، ويسطو سطو الحصان كي يحظى بحبها؟ إذا ما أرادت عليه طَرْدَهُم، طَرَدَهُم، سَحْقَهُم، سَحَقَهُم، بالآلاف، وجعل من شعب الصراصير هذا عبيدًا طيبين لها، كلابا. ولم يمتنع نوري عن الصياح هازًا إياها من ذراعها: إني فاعلٌ لأجلك كل شيء، أيًا كان، وسأوقعنا في عقدةِ ذنبٍ تُفاقم فينا العزلة، في الوقت الذي تضاعف فيه من أفعالنا فيهم الشكر والعرفان، فليس باستطاعتنا، في عظيم البلاء، إلا أن نبذل أفضل ما نبذل. فقط انطقي، يا حبي! قولي، يا روبيكا، كلمة واحدة، وسأكون لك ألف مرة أحسن منه!
تخلصت روبيكا منه، ولطمته. قالت إنه أحمق ومجنون، وقالت إنها ستكرهه حتى تموت بعد طولِ عمرٍ يعطيه الله لكرمٍ في حق أمها المريضة. قالت: اذهب إلى عسلك ولبنك! واقترحت عليه القيام بحكم الإعدام فيه، فهو ليس العربيّ الذي اعتقدت، وليس اليهوديّ الذي تحلم به. في الخارج، سقطت على نوري من السماء الصافية صفاء مرآة سوداء أسنانُ صقيعٍ راحت تتكسر على قدميه، وتتفجر، فتنشب عنها نارٌ تحرقُ كل ما له من قليل الدنيا وما في عقله من كثير الجنون... صعدت شمس الصباح مظلمة، فأطبق الليل على النهار وحشًا شرسا، وافترسه مثلَ خروفٍ لذيذِ اللحم، وغدا الظلامُ شديدًا أكثرَ تهويلا.





















الفصل الثامن عشر

سيتزوج من جولييت لينتقم من يوسُفَ أخيه، ثم سيأخذ من أبيه إرادة أبيه، وكل مال الدنيا ماله، وكل ظلال الجنرالات القوية ظلاله. اقترب نوري من الكرسي العظيم، مقيمُ القيامة، وراح يلمسه بشهوانية. أَحَدَّ بصره إلى الصورة المعلقة لياكوف، وقهقه راضيا. هكذا ستركع على قدميه الريح. أما عنه، عن يوسُفَ، فسيبقيه جنديًا مثاليا، حدوةً في نعله، سيبقيه على الحدود سلاحًا وبين الحدود سلاحًا وعصا، سيضرب به فدائيًا هناك وهنا ولدًا شقيا، وبرصاصِهِ الزرعَ في الجهة الأخرى، وعلى الكرمل، يشعل النار في كرمة. سيتزوج من جولييت، ويجعل من روبيكا جاريته. كيف لا يجعلها جاريته وهو سيكون ملكًا للحوم؟ لبقرٍ أو لبشر. سيجعلها جاريته تارةً، وتارةً سيدته، وسيلقي بطفلها في البحر، ليرجع البحر بطفلها. عاد يقهقه، فانفتح الباب، ودخل القويُّ ياكوفُ، أبوه بالتبني:
- أجالسٌ أنت في مكاني، يا نوري، ولم يحن بعد الوقت لجلوسك؟
سقط نوري على قدمي أبيه القوي ياكوف بالتبني، وأراد تقبيلهما:
- آه، يا أبي ياكوف، إني أخطأت، فاغفر لي!
جَسَّ ياكوف رأس نوري بعطف، فعنقه، فكتفه، وقال له:
- في المرة القادمة، سأترك نوري يقبل لياكوف قدميه.
رفعه، وأخطره:
- ولكن حذار من الوقوع في أيدي رجال الشرطة!
- كانوا يجعلون من الظلام مخبأهم، ولم أدر كيف خرجوا عليّ كثعالب مكرت، وأحاطوا بي من كل أوبٍ وفج.
- لم يعد في الوقت الحاضر أي خطر يُذكر والضابط أفنيري قد تم استبعاده.
ابتسم نوري ببراءة، وياكوف، أبوه بالتبني، يضيف:
- وأنا ما زلت عند قراري فيما يخص تزوجك بجولييت.
- أنا خادم قدميك المطيع، يا أبي ياكوف!
- لا أريدها الوقوع في حبائل ذلك العربيّ، فتكون نهاية، وتكون بداية.
- سأذبحه لو تشاء، يا أبي ياكوف.
- ستذبحه لو تتعقد الأمور.
فهل يبحث عنه بين اللاويين من أتباعه الذين انتشروا في الساحات، وهم يهتفون له، فما سمع لهم، وأصدر في حقهم جائر القوانين؟ تذكر كيف قتل منهم في زمن غابر لما كانوا عربًا بعد أن جاءهم كيلا يكون قتيلا، فكيف لا يقتل كيف؟ وكيف لا يشهد زورًا على بعيدٍ كيف؟ سيدفع عنهُ نوري خطاياه، فإلى المحرقةِ سيدفع حطبا، وفي العيونِ سيذر رمادا، وسيكون ما يريد أن يكون. أَوَ لم يكن ياكوف القويّ؟ المتكبر المتعجرف؟ بضعفائه المحتمي؟ وفي لحظةِ ترددٍ تأتيه من وقت إلى آخر، رأى في الليثِ جبنَ كلبٍ يخشى الحملَ ويفزعُهُ قرنُ ظبيٍ عزمَ على الدفاع، ورأى في اللبؤة خِشيةَ امرأةٍ على أطفالها من يمٍ يجرف السهول والجبال، ورأى في النمرِ الممزقِ لعشرة خنازير برية بضربةِ مِخلبٍ هَرَبَ نضناضٍ أمام واحدٍ منها شجاع، وتذكر في أولئك البدو الذين عرفهم أول ما جاء طباع الضباع العطوفة والذئاب الحنونة في اللحظة التي تذكر فيها دموعهم لما كانوا يُقْتَلون، ورأى في بعضهم شيم الرجال لما كانوا يَقْتُلون. ومن جديد، نظر إلى ابنهِ بالتبني، وقال لا أحد ينقذني من ضعفي غيره والعناد وعدم الاعتراف إلا بشرطي والتشبث بضعف غيري من أعدائي والمصائب مما هم فيه وبقوةٍ عظمى يجري اللهاث على قدميها مثل إله أوحد يتركني أفعل كيلا يفعل غير ما يفعل وما يريد. وكانت في سماء تل أبيب بعضُ صقورٍ جاءت بسهامِ حبٍ محطمة، لما رأتها جولييت بكت عليها، وامتنعت عن تناول طعام العشاء مع أبيها.




















الفصل التاسع عشر

عليه أن يهربها، وإلا كيف باستطاعته أن يكون جنديًا مثاليًا وأن يحميها؟ أن يحميها منه ومنهم؟ داخل الحدود كخارجها؟ أن يحميها؟ نعم، أن يحمي جولييت. وسيترك له روبيكا. ليلتهمها. هذا شأنه معها. فليلتهمها. أما جولييت، فهي شأنها معه.
دخل يوسُفُ عليها حجرتها بخيفةٍ وغضب، وطلب إليها أن تجمع حوائجها:
- حوائجك اجمعيها وأشياؤك خذي منها أخفها وأغلاها.
لم تطعه، فأحس بالإهانة:
- لِمَ كل هذا السلوك المذل؟ أطلقوا سراح نوري، أيتها الطفلة الرضيعة، أيتها الزهرة الجروحة!
تأوهت جولييت، وسألت يوسُفَ، لعل يوسُفَ يوسفٌ آخرُ غيرُ يوسُفَ.
- أنا يوسُفُ! أنا يوسُفُ، دومًا يوسُفُ!
- وإلى أين سيأخذني، يوسُفُ؟
- إلى مكانٍ تجدين فيه حريتك.
انعطفت جولييت نحو جولييت، ورددت بحزن:
- حريتي! حريتي! آه، حريتي!
ويوسُفُ يهيب بها:
- فقط تعالي.
- وأينه هذا المكان الذي أجد فيه حريتي؟
فكر يوسُفُ قليلا: في أرضه المحررة هناك موسى، وهو وموسى ذئبان رديئان:
- النقب.
- النقب! أصار يوسُفُ مجنونا؟
- بل عاقلٌ هو أكثر من أي وقت مضى.
- لن أذهب إلى النقب. النقب صحراء! النقب موت! النقب دماء!
- النقب كانت صحراء والآن هي جنة صنعتها سواعد إخوتك!
- النقب بعيدة! النقب ظمأ! النقب اغتراب!
- النقب كانت بعيدة والآن هي أقرب من نفسك إلى نفسك!
- النقب ستدمر جولييت!
- النقب لن تدمر جولييت ومع جولييت يوسُفُ!
فكرت جولييت قليلا: في الأرض المحتلة هناك موسى، في نابلس، في غزة، وهي وموسى طائران بجسد واحد وجناحين:
- خذني إلى الأرض المحتلة.
- عرفت ماذا تقصدين، يا ناكرة الجميل!
وراحت مدن الأرض المحتلة تتساقط في خياله واحدةً واحدةً وأحذية غزة، فجذب جولييت، وهو يلعنها، وقطع قرارا:
- سيأخذُ يوسُفُ جولييتَ إلى حيث يقتضي الواجب!
كان يعتقد أن أباه ينام، ونوري عند روبيكا، والحب في قلب جولييت عصفورٌ يطير في صحراء الظمأ، قبل أن يعرج بها إلى المناطق التي عادت إليه. رأى في نفسه ملاكًا مرسلاً ليحفظها في الطريق، ويجيء بها إلى المكان الذي أعده، فقال لها لا تحترزي مني، واسمعي لصوتي، ولا تتمردي عليه، لأني لا أصفح عن ذنوبك، لأن اسمي فيه، ولكن إن سمعتِ لصوتي، وفعلتِ كل ما أتكلم به، أُعادي أعداءك، وأُضايق مضايقيك، فإني ملاكٌ يسير أمامك، ويجيء بك إلى الآموريين والحثيين والفرزيين والكنعانيين والحويين واليبوسيين، فأبيدهم. لا تسجدي لآلهتهم، لا تعبديها، ولا تعملي كأعمالهم، بل تبيدينهم، وتكسرين أنصابهم: وتعبدون الرب إلهكم، فيبارك خبزك وماءك، وأزيل المرضى من بينكم. لا تكون مسقطة ولا عاقر في أرضك. وأُكمل عدد أيامك، أُرسل هيبتي أمامك، وأُزعج جميع الشعوب الذين تأتين عليهم، وأعطيكِ جميعَ أعدائِكِ مدربين، وأرسل الزنابير، فتطرد الحويين والكنعانيين والحثيين من أمامك. لا أطردهم من أمامك في سنة واحدة لئلا تصير الأرض خربة، فتكثر عليك وحوش البرية. قليلاً قليلاً أطردهم من أمامك إلى أن تثمري، وتملكي الأرض، وأجعل تخومك من بحر سوف إلى بحر فلسطين، ومن البرية إلى النهر، فإني أدفع إلى أيديك سكان الأرض، فتطردينهم من أمامك. لا تقطعي معهم ولا مع آلهتهم عهدا. لا يسكنوا في أرضك لئلا يجعلوك تخطئين إليّ. إذا عبدتِ آلهتهم فإنه يكون لكِ فخّا.
رأت جولييت أن لحبيبها إلهًا واحدًا أحدًا هو إله يوسُفَ ذاته بغير الفم الذي يقول لها مباركا: أهلاً بحبك، يا جولييت، واحذري من قولٍ قديمٍ ربما كان لي، وقلته في حالٍ مضى، واليومَ ينكره زماني، لأنه سيعود عليكِ بالعاقبة. والتقت جولييت في الصحراء أُمًا لجراءٍ أطفالٍ لا تعرف كيف تحميهم من سيوف الشمس، وتظللهم، فرمت عليهم ثوبا، وتركت قربهم خبزًا وماء.





الفصل العِشرون

تجيء في أوانها عودتها إلى ذراعيه حيةً أو ميتة. جولييت تخونه بيوسُفَ، ويوسُفُ يخونه بجولييت، فهل يخونُ السمكُ البحرَ في صراع الموج؟ كيف باستطاعته أن يكون جنديًا مثاليًا لم يشأ أن يكونه؟ كيف باستطاعته أن يكون الابن والغريم؟ هو القويُّ ياكوفُ مُكَوّنُ دمه! آن الأوان لنوري أن يعيدها إلى الذراعين الأبويتين الوادعتين حيةً أو ميتة، ويجعل من يوسُفَ في صحراء النقب دلو سماد. هكذا ينطبق الظل على الجسد، والحقيقة على أفكار اليهوديّ. لا بد من عودةٍ دائمةٍ إلى الإرادة، وإلا ما عرف الرضيع إلى الحلمة طريقه، وما تعذبت السعادة، وما مضت الأيام بهيكله.
كَلّمه ياكوف، أبوه بالتبني، عن مهمةٍ ستكون فيها نكبةٌ سعيدة، وتكون فيها حكمةٌ مقيتة:
- اسمع، يا نوري، جولييت هربت مع يوسُفَ، فأعدها إلى ذراعيّ حيةً أو ميتةً، وسأترك لك مجدي قبل مماتي.
اضطرب نوري:
- آه، يا أبي ياكوف، ها أنت تخصني بعطفك!
- أما ذاك الجنديّ العاق، فاجعل من دمه سمادًا يخصب الصحراء.
فَزِعَ نوري وسُرَّ:
- أن أجعل من دمِ يوسُفَ سمادا؟
- واجبك يوجب.
- سمعًا وطاعةً للواجب!
- والوطن من البحر إلى النهر يناديك.
- سمعًا وطاعةً للوطن!
- والشرفُ إلى الشرفِ يهيب بك.
- سمعًا وطاعةً للشرف!
غشى الغمام بصره لما سقطت عليه فكرةٌ مُبْرِقة:
- وإذا ما طالت الطريق بي أربعين عاما؟
- سأبقى هنا بانتظارك. جولييت الذهاب إلى الشرط الأول، ويوسُفُ الجريمةُ شرعًا وفَرْعا، وأنت العقابُ المشارُ إليه بالبَنان، ودمه العودة إلى شوارد اللغة.
- سأنفذ كل رغباتك، آه! يا أبي ياكوف، وأعود بجولييت حيةً ترزق لتزوجني إياها.
- كل ما تشاء وما تريد.
أراد نوري تقبيل قدميه، فمنعه ياكوف:
- عليك أن تخرج من ذُلِّكَ وقد بدأت مهمة مجدك.
تفاجأ نوري في البداية، وترك فرحه يتفجر في النهاية. رفع عنقه أعلى ما يكون إلى أن أحس على رأسه السماء.
باح ياكوف:
- هكذا أكون بك فخورا.
إلا أن نوري همهم:
- أحس على رأسي السماء.
- الملائكةُ قربَكَ والإله.
- لكني أرتعد مثل جناح.
- إذا نجحت في مهمتك، إذا عدت بجولييت، سجدت على قدميك الملائكة.
- أأصير نبيا؟
- بل إلهًا قويا، وستنفتح أبواب إسرائيل الموصدة كلها من أمامك.
ارتعش نوري من بالغ الفرح، وردد:
- آه، يا أبي ياكوف! آه، يا معلمي!
نظر ياكوف، المعلم، إلى الليل المتسلل من وراء الستائر، وطلب إلى ابنه بالتبني:
- احمل وعدي معك، وأعد إليّ جولييت، إني أنتظرك في "أفيكا".















الفصل الحادي والعِشرون

جولييت يحبك موسى، فلا تجعليه بغض الآخرين. كيف يحررك من البغض؟ كان السؤال، والآنَ يسعى إلى الجواب. هناك في شوارعِ نابُلُسَ سيجد الجواب. سيجد الجواب عند ابنة عمه أسماء. أسماء الشجرة والسلاح الساخن. أسماء الزمن النابض. وسيكون الجواب صعبا. أيحبك أكثر، جولييت؟ كيف تغدو الرصاصةُ ميلادًا والنجمةُ شعرًا وأطفالا؟ أيجعل منك بيته غدا؟ جدارًا على الأقل في بيته الجديد؟ حجرًا في جداره؟ الغد يقترب. في شوارعِ نابُلُسَ سيجد طريقه الحر في فيض الدم، وعند أسماء سيدخل في الغد الواضح. ترك جولييت خلفه ليرجع عما قريب. والأيام طويلة في الإضراب العام. ولكنها تتناوب منه الاقتراب. نظر موسى في الليل بحثًا عن ابتسامتها، فلم يجد ابتسامتها ولا أية ابتسامة. لم يجد الذئبة الحنونة، ووجد قبعاتٍ حربيةً وجزماتِ جنود. لم تكن نابُلُسُ تموت. كانت تقاوم الموتَ امرأةً حبلى رماها الجنود على الأرض، وصعدوا مِنْ بَعْدُ على بطنها لتقذف من بين ساقيها أطفالاً ميتين. ولم يكن لنابُلُسَ ماءٌ في عين، وفي العيون كل ماء الدنيا مالحا، فهل تذرف البنات الدمع على إخوة لهن صغار ذهبوا لينتفضوا جناحين على الظلال؟ ولم يكن لنابُلُسَ ثورٌ ذبيحٌ في سوقها، وفي كل الأسواق كان الدم حلوًا ولذيذا، فهل تشربه الأمهات نخب أطفال لهن كبار ذهبوا لينقشوا إصبعين في الصخور؟ أينتهي الحب، يا جولييت، والكره هنا يبدأ؟ أيبدأ الكره ليؤكد الحب أم ليموت ويختفي إلى الأبد؟ أأقول لك أحبك خائفا؟ ظامئا؟ أأعشقك قتيلا؟ كيف أقول أحبك في زمن نابُلُسَ؟ أأقوله بحجر؟ برصاصة مطاط؟ بعصا حفرها أهلي قبل أن يعملوا إضرابا؟ أأحبك بسكرٍ ليس موجودا؟ بقهوةٍ ممنوعة؟ برغيفٍ مدمى؟ أأحبك على أرض ملعونة مع أناس لك مجانين؟ مع أناس لي مجانين أيضا؟ الجنون القديم الذي كان فينا؟ والضحكة القديمة؟ قتلى مني كثيرون ومنك قليلون؟ قتلى مني ومنك؟ أأكرهك لأنك بريئة؟ ولأن في غرفتك سريرًا وثيرا؟ لما وُلِدْتُ مع الصبحِ، عدت هذا الموسى الذي كان لكم. كان على أسماء أن تستمع إليه أيضا. جولييت وأسماء. كان عليه أن يطرق بابها. طرق بابها، ففتحت عمته زليخة التي فوجئت بقدومه:
- أنت، موسى!
- أنا، موسى.
- لم أكن أتوقع رؤيتك.
- أزوركم كلما تدهورت الأوضاع.
- يا لك من جاحد، يا موسى! وبما أنك هنا، ادخل!
مضى أمام عمته، وهو يسألها:
- أين أسماء؟
وقف أمامها، وتأمل تجاعيد وجهها، وهو ينتظر جوابًا لم تقله بسرعة كما تمنى، فعاد يسألها:
- أين أسماء، يا عمتي زليخة؟
ارتعشت التجاعيد على وجه العمة. أجلسته، وانفجرت مهددة:
- أسماء لم تعد أسماء كأبيك لم يعد أباك!
- ماذا تقولين، يا عمتي زليخة؟ أعرف أسماء حتى ولو لم أعرف أبي، حتى ولو عرفته الضباع، وأنا لم أعرفه.
- عمتك زليخة غاضبة أشد الغضب مذ خرجت أسماء عن طاعتها.
- أسماء تعرف مصلحتها.
- حتى أنت، يا موسى!
وذرفت دمعتين:
- هم يخدعونها.
- "هم" من؟
- من يقولون عن أنفسهم فدائيين.
- ماذا تقولين؟
طنت:
- من أين خرج لنا هؤلاء؟ طلبوا منها ألا تبقى معي والدنيا قيامة، قالوا لها اضربي بسلاحك الظلال التي أخرجوها ليتركوا أطفالنا وحيدين مع الله والحجارة. هؤلاء، أفدائيون هم حقا؟ ومن الفدائي فينا وزوجي – رحمه الله – كان يقاتل مع الثوار في غابر الأيام؟ اسمع، يا موسى! أريدك أن تنصحها.
- أن أنصحها؟
- أن تنصحها. إرادتي تشاء! أريدك أن تعيدها إلى ذراعيّ. أن تضع عقلها في رأسها، بالقدر ذاته الذي كان عقلها في رأسها من قبل. تظن أن باستطاعتها تحرير فلسطين برصاصة، بينا تسبب لأمها الآلام! لا الرصاصة تنفع ولا الحجارة، هذه مثل تلك، وهم لا يفعلون سوى إنفاق العمر سدى، ويضيعون لنا الأشغال!
وأنهت ساخرة:
- أبوها لم يحرر فلسطين ولا أبو أبيها ليحررها حجر أطرش ورصاصة خرساء!
نهض موسى، وهو يقول:
- سأنصحها بالبقاء مع الطير.
اقتربت جولييت من أسماء، واقترب موسى من أطفالٍ كان الجنود يبحثون عنهم في الشقة المجاورة. قالوا قرارَ فِرْعَوْنَ هو بعد حُلْمٍ رَوَّعَه، أن يلقوا القبض على أصغر طفل في كل عائلة ليُقتل فورا، فصغير إخوته غالبًا ما تغدو يده أخطر من أنشوطة. ورأى امرأة تجذب صغيرًا من قدميه، والصغير بين أظافر الجنود يلتصق بأصابعهم لعبةَ مطاطٍ تكاد تتمزق، فأتاهم موسى في جلد أسماء لما تغضب، وانقض عليهم مدمرهم. دب الخلاف بين أهل الطفل لما رأوا جثث الجنود الهامدة، فأخذهم موسى معه شعبًا إلى حاراتِ نابُلُسَ القديمة ليحتموا مِنَ الانتقامِ بماجَرَياتِ الحياةِ بين جدرانها.



























الفصل الثاني والعِشرون

اقتربت جولييت من أسماء أكثر وموسى يتسلق الهضبة المحاذية لنهر الأردن إلى أسماء. الليل امتداد. إلى ما لا نهاية. والأنسام باردة في الليل. تقرص مثل قرص النحل. رفع موسى رأسه ليتابع بناظريه رَجْما، بينما الليل امتدادٌ ومعطف. معطفٌ أسودُ يبسطه على امتداد الكون. سيصل إليها. وسينصحها. هكذا طلبت إليه عمته. سيقول لها سلاحك يسبب لأمك الآلام، ولجواهرها فقدان قيمتها. سيجعلها تبتسم، قرب حجر منعزل، كي ترى جولييت الرجم ذاته في سماء النقب، فتبكي. كي تذكره.
ذَمَّ الجبل:
- أنا موسى، أَخْرِجْ لي أسماءَ من بطنك!
فخرجت أسماء من بطن الجبل، ونطقت أسماء:
- ما الذي أتى بك، يا موسى؟ أمر مهم أم مهمة آمرة؟
تعلقت على كتفه، وقبلته من خده:
- لم أكن أتوقع قدومك.
- كما يبدو، لا أحد يتوقع رؤيتي.
- ولكنك مع هذا تأتي.
- آتي قبل أن آتي بالريح إذا ما أنستك الريح قدومي.
دفعته بتؤدةٍ إلى طرفٍ وعرٍ لطراوة الهواء، وهي تبحث عن العاصف القادم في عينيه. وبدوره، رأى في الضوء الخاطف جمالها الوحشيّ، فصعدت في أصابعه رغبة: أن يداعب شعرها الأشعث.
- أمك تريدك أن تعودي إليها، فلا الرصاصة تنفع حسبها ولا الحجارة حتى ولا القنبلة الذرية.
غضبت أسماء:
- ألهذا أتيت؟
- لا، وإنما لأني أحب جولييت.
حكى لها حكايته: أن جولييت ابنة أحد اليهود القويين، وهو يمنع زواجهما، ولكنه يريد من الفدائيين أن يعقدوا قِرانه بها. اعترف أنه كان من الصعب عليه اعتياد رائحة البحر والحجارة الرطبة، وهو يرمي إلى أن يبني لها بيتًا في جبلِهِ المقدسِ عيبال.
وحكت له حكايتها: أنها حبلى من أحد الفدائيين، وعد بالتزوج منها، ولكن جنودهم قتلوه. اعتادت رائحة العشب والطلقة المحترقة، وهي تنتظر أن تضع وليدها في ظل بندقية. وصل فلاحٌ يلبس لباس الفدائيين، وهو يبتسم بشيء من البلاهة. عرّف موسى بنفسه، ثم لف بذراعه كتفي أسماء.
أوضحت أسماء:
- يريد أن يربي الطفل معي.
ولما علم الفدائي أن موسى يرغب في أن يربي طفلاً مع جولييت، غدا فظا. سب موسى الخائن، البائع، الدميم، وأخذ يغلظ له القول قائلا: إنه سيذبحه ويذبحهم كلهم عن بكرة أبيهم بيديه هاتين، ويريح العالم منهم ومن شرورهم، ستركع يافا القحبة على قدميه، وحيفا القوادة، وكل المدن التي أسكنتهم بين فخذيها كنساء بلا شرف، من جثثهم سيُنهض الجبال، ويجعل منها للصقور طعاما. عصر برتقالة بدم الزغلول في فمه، وهمس في أذن أسماء كلمتين، وموسى يتساءل كيف بإمكانه الهمس صيّاحُ الموتِ والبؤسِ هذا؟
قالت أسماء لابن خالها:
- علينا أن ننام الآن، سنعبر النهر إلى غربه.
لكنه صححها:
- تريدين القول ستواصلان الطريق إلى شرقه.
أوضح الفدائي وقد ذهب عنه الحنق:
- سنعبر نهر الأردن إلى غربه للنوم بين أقدام الإسرائيليين، فهي خير طريقة للحماية منهم، وفي صباح الغد، سنشن عليهم هجومًا داميا.
لم تتأخر أسماء والفدائي عن عبور النهر إلى غربه، وناما غير بعيدين من القوات الإسرائيلية. رأى موسى كيف اتحد الجسدان في ظل صخرة، فغار منه، وجولييت لا تفارق خياله. رأى نفسه، وهو يعانقها في البحر، حتى أنه سمع من ذاك المكان البعيد صوت الموج: انهض إليه، يا موسى، أَمَرَ الموجُ، وادرأ عن شعبك آلامًا تكون عقابَ ذاك الفدائي الغبيّ له! كانت تلك لموسى مناسبة يضع فيها حدًا لغيرته، فقتله بحجر أعزل منذ قرون، وعزم على إعادة أسماء إلى أمها، فبعد كل ما سمع وكل ما رأى، خاف عليها من سذاجتها. كانت الصدمة له صدمتين، فلا هذا طائر حر، ولا تلك رصاصة محررة.








الفصل الثالث والعِشرون

سيفتح له طريق المجد، ويجعله قويا. ألم ينقذه من براثن بؤسه؟ ولن يغدو العقابُ قِصاصا. سيجعله قويا، ويرسّخ قدميه. سيزوجه جولييت، ويذبح من أجله يوسُفَ. سيجعله ملكًا للحوم والنوادي ومالكًا للأراضي. كل السر فيها. في ثوبها الأحمر العاصي. في زرعها الأخضر المتفجر. وفي عطرها اللاسع كالسوط. قوته ستبقى ما بقيت. الحجارة. الصراصير. الحشرات كلها. وسيحصد الملح والقمح.
هتف ياكوف بابنه بالتبني:
- عد بها إليّ، يا نوري، حيةً أو ميتة، وادخل مملكتك فاتحا!
بعد ذلك، ذهب ياكوف، الغاضب على جولييت، ليرى عمة موسى زليخة، الغاضبة على أسماء، وعن ضَحْكَتِها لا يخفي ضَحْكتَهُ، وقد زال الغضبُ في لحظةِ تفاهمٍ واتفاق.
قال ياكوف، وهو يوقّع على ورقة:
- قمتِ بصفقة العمر، أيتها العمة زليخة!
فقالت المرأة العجوز بنبرة فيها الكثير من الخيلاء:
- أرضي لا تقدر بثمن!
اعتدل القوي الغني ياكوف في جلسته، وتجاهل نبرتها. قال لطرف لا يحبه ولا يكرهه، وإنما يريد معه تسويةً على هواه:
- أنتِ الرابحة فينا، أيتها العمة زليخة! إن لم أشترِها أنا، صادرتها الحكومة بحجة أنها مناطق عسكرية.
- أو أحرق زرعها الفدائيون.
- أو نهب حجارتها أبناء الصراصير.
- أو غير ذلك مما ستخترعه لنا أسماء، فمن يعلم؟
تنهد القوي ياكوف، وهو يتذكر حكايتها له عن ابنتها أسماء، وأيدها:
- نعم، هذا صحيح. وفوق هذا، الذهب أنفع لك، أيتها العمة زليخة!
ركضت تجاعيدها ركض أصباغ المهرجين من حول شفتيها، ثم سألت:
- وماذا تنوي أن تفعل بالأرض، يا سيد ياكوف؟ ستبيعها من جديد أم ستبني عليها لك دارا؟
أطلق القوي ياكوف ضحكة مجلجلة قبل أن يقول:
- لا هذا ولا ذاك، أيتها العمة زليخة.
- ولماذا أيها الشيطان اشتريتها؟
- لأهب زوج ابنتي جولييت إياها.
فاجأها:
- أتحبه إلى هذه الدرجة؟
- لا أحبه ولا أكرهه، ولكني أفضله على ابني الذي من لحمي ودمي، بل هو ابني الذي سيرثني، ولما أزل بعد حيا.
- يا لك من غبي!
دفع موسى الباب، ودخل. كان ينقل على كتفيه أسماء، وأسماء تحاول التخلص منه، فضربها على رأسها، ورماها في حِضن أمها جسدًا طيعا. شكرته عمته زليخة، وشكره القوي ياكوف. ظن في نفسه خطأً ارتكبه في حقه لما لم يزوجه جولييت ابنته، فها هو يعيد أسماء، ويضع حدًا لحماقتها. قالت عمة موسى لموسى إن عليها واجب مكافأته، فتهامست وياكوف في أمرٍ كان مفعولا. ولما قالت ليكن عليه شهودُ صدقٍ نادى على بعض عملاء له منا طائعين لأدنى إشارة أهبين لتنفيذ كل ما يشاء القوي ياكوف وما يريد، وأمسكوا موسى من ذراعيه. مزقت زليخة ثوب ابنتها، وجعلتها عاريةً مثلما ولدتها، ثم أزاحت ساقيها، فدفعوه ليأخذها رغمَ الأنفِ على مرأى الجميع. رأى الجميع رجولته المصرة على الخروج من جسده إلى القهر والطاعة، فظن ياكوف مرة ثانية في نفسه خطأً ارتكبه في حقه لما لم يعتبره من عرق الأسياد، فها هو يبدي غرلته التي لأمير، لكنه قال ما هو إلا استثناء.
في تلك اللحظة الرائحة من عمر صحراء النقب، تساقطت من عيني جولييت دمعات ساخنات أحرقت خدها على الرغم من كونها تسير في ظل يوسُفَ أخيها المصمم، وتقوست صدفاتِ ملحٍ لتكونَ توابيتَ عهدٍ للسمكِ المجفف. وكان قد جانَبَها يهوديٌّ آتٍ من النمسا اسمه فريدٌ الفِيَنِّيُّ، وهو ينقل في جعبته لها ثلجًا بماءِ الخزامى معطرًا وقهوةً بالقشطة وأقراصَ حلوى بالشوكولاطة واللوز والقرفة، فشكرت جولييت فريدًا الفِيَنِّيَّ الذي رأى كيف أخذتها منه، ورمتها لوحوش البرية. سألها عن أمرها، فقالت هذا هو أخي يوسُفُ الذي في ظله أتبع، وذاك هو حبيبي موسى الذي جعلوه يفعل في ابنة عمته فعلاً مشينٌا لا يُشفع. قال فريدٌ الفِيَنِّيُّ إذن هذا هو أخوك يوسُفُ الذي فسرتُ أحلامه أحسن تفسير، إني أقول لكِ، يا جولييت، إن هذا هو آخرُ حُلمٍ له وأرهبُ حُلم. أما حبيبك ذاك الذي اسمه موسى، فأنا واحدٌ من أتباعه اللاويين الذين اختارهم، بسبب هذا الاختيار أبدعتُ في علم النفس حقلي وميداني، ولكن لوعي الذات على الخصوص، وأنا لهذا سأذهب إليه بقوة الوعي ومعجزة الذات، فأنقذه مما هو فيه. ولا يأخذنك العجب مما أقول، فما أنا بساحر، إلا أنني أنتقل في دهاليز الوعي انتقالَ فراشةٍ نارية، وقد صارت دهاليز الوجود. أمس مثلاً كنت في الهند، وأول أمس في الكونغو، وأول أول أمس في كولومبيا، وغدًا سأكون في بلاد الأسكانديناف أو بلاد الغال، لأني أذهب في المكان وفي الزمان، وإلا ما جريتُ في الكونِ مجرى الكونيّ.
وبينا كان فريدٌ الفِيَنِّيُّ يقطع إلى موسى القطاع والضفة شاهد عن كثبٍ لعبةَ الإنهاء، إذ بعد أن فشلت العصا لمن عصى والرصاص الكاذب من السلاح الصادق نشأت الإبادة في المزروعات جحيمًا للزمرد، ومحاصرة المدن التي تقول للقرى من مذياعٍ يغني من معتقلٍ لم يصادروا فيه الغناء، وإطلاق الغاز السام لا الغاز المسيل للدموع بعد أن جفت الدموع في جبين غزة، وسقطت على جبينها غرتها، وإغلاق الجامعات المائجات مع ما صنع لها اقتحام حرمها والمساجد والمدارس لسنةٍ ثالثةٍ سيقذفها حوت الزمن من بطنه. سأله أن يُخرج البقرات السبع العجاف، فتقول عن الإعلام الأجنبيّ وأين هو؟ فقال حوت الزمن ما هي إلا حربٌ ضد إعلامٍ فاضحٍ أُنزل صحافيوه من ثلاثمائة وخمسين إلى خمسين ممنوعين من التجوال في مناطق القتال وقصده القتل إلى جانب اعتقال كل الصحافيين من اللاويين الذين أنت منهم ومنهم شعراء لموسى وأدباء ومحامون اعتُقلوا أو أُبعد ستون من طلبة ونقابيين وممثلي أحزاب وكوادر أكاديمية درس بعضهم مثلك في فيينّا، وتأمل بعضهم تماثيلها مثلما تأملت وأعمدة مصابيحها وظلالاً جرمانية قديمة. مضى فريدٌ الفِيَنِّيُّ بواقٍ يبكي على بيتٍ في غصن شجرة زيتون عمرها مائة عام من العزلة اقتلعتها الجرافات الأنيسة. ومضى بمُرْزَةٍ تنفق من الجوع لجرذٍ أو فرخِ سُمَّنٍ كان لها وجبة شهية بعد أن جرى تسميم الخضروات الحادبة عليها وشجيرات عنب تكرهها. ومضى بعد ذلك ببواءٍ لم يعد يعض ثدي فلاحة أو حبة كمثرى بعد أن أحرقوا الأشجار المثمرة. وكانت بنت وردان قد مضى بها وهي تضحك وتضرب بقرونها الطوال في الأرض لشد ما كانت سعيدة، ولما سألها عن غريبِ سلوكٍ لها في كل هذا البلاء قالت لأني في أصلي ابنةٌ من شائكات الزعانف، وبعد كل ما وقع في غير موقعه سأعود إلى البحر. لكن ما أرعب العالم المحلل النفسيّ العبقريّ ما رأى في مخيمات الدهيشة وبلاطة والأمعرى من أوشفتزات جديدة، فها هي ذي تحاصرها الأسلاك الشائكة القائمة القاعدة تسعة أمتار وعلى مداخلها ومخارجها قد قامت المَراقب وقعدت الدوريات. وبينا هو يهجس في وضعٍ كان لأهله جهنم ونهاية، إذا بجنود الموت ذاتهم الذين هرب منهم في الدم والبرد والجليد إلى لُنْدْرَةَ يقتحمون، ويعتقلون، ويزجون الطيور في أنصار الثالث والنقب الثاني والنفحة الأولى والجلمة وسجن الرملة وحبلة الموج لستة شهور بدونِ أيةِ تهمة. فقال لا بد أنها ستمضي من هنا، جولييت، وتبكي بعد أن سقط عليها الخلاف الإعلاميّ بين ياكوف أبيها والجنرال على الثانوي للتضليل، والانتخابات لإثارةِ الدهشةِ من موسى وأهله اللاديمقراطيين، فيا دوستويفسكي الذي قلت "لشد ما أَتْقَنَا الخداع خدعا الله" كن شاهدًا عليهما. وقال فريدٌ الفِيَنِّيُّ هما متفقان على رفض الحق ورفض العَقد إلا كما يريدون العَقد ورفض الدولة. كان قد وصل عند موسى، فرفعه عن أسماء التي قال له عنها ما هي إلا دولتك، فلا يصبك خجلٌ أو عقدة، وأذهبهما معه إلى إيبي ناتان الحبيس مع النحل، وَتَوَّجَهُ ملكًا لكل الأحلام التي رأى فيها ودرسها.




الفصل الرابع والعِشرون

جولييت، موسى يأتيك، فصحراء النقب مثل كل صحراء. رمل وشمس وعرق. والدروب فيها مترامية. ولكنه يأتيك. سيفه بيده. وهو قادم. الحب جنته. وهو لهذا يقطع إلى حبه الجحيم. كيف باستطاعة غير العاشق أن يقطع الجحيم؟ تشتد الحرارة حتى تغدو لا تطاق، فيزفر موسى، إلا أن أسماء تدفعه إلى جولييت. في بطنها فلذة تكبر، هي حياتها، وهو، جولييت حياته. النهارُ في الصحراءِ ضوءُهُ. ولم يتمن هبوط الليل. في الليل تضيع الدروب. وفي الليل تضيع جولييت. يتراءى في مرآة النهار، وتتوازى آثارُ خطواتٍ وآثارُ خطواتِهِ على الرمل، تتقاطع، ثم تنفصل، ولا تلبث أن تتحد. ولما تقدم من صاحبة الخطوات ظانًا أنها جولييت، إلا أنها مثل أسماء حبلى، قالت له:
- أنا روبيكا، وأنا أبحث عن يوسُفَ رجلي.
أجاب:
- أنا موسى، وأنا أبحث عن جولييتَ امرأتي.
رمقت روبيكا سيف موسى بخوف وغضب، ورمت:
- دروبنا لا تلتقي.
نظر موسى إلى بطن روبيكا بخوف وأمل، وقال لنفسه: ها هي ذي حبلى منهم ستضع وليدًا على الرمل ولا تُضيع وليدها! أعطته روبيكا ظهرها، فصاح بها:
- دروبنا لا تلتقي وهدفنا بلى.
لم تأبه روبيكا بكلامه، وفي منتصف الطريق، بين موسى والتلال، التفتت إليه، وهي مليئة دومًا بالخوف والغضب، ثم راحت تجري حتى غيبها الرمل. لم يكن الرمل سرابا. كان الرمل زمنًا وعناء. أَتنسى أمها والسعال؟ أَتنسى أوشفتز الذي نجت أمها من خطره لما أتوها محررين؟ وهذا موسى ماذا يفعل هنا مكبلا؟ كانت أمها قد حكت لها كيف أودعتها صغيرة، راهبات أحد الأديرة ليحفظنها من موتٍ أكيد. تركتها تنجو من عُصَابِ ذوي النفوس المتجبرين، فأشعلت شمعة، وذهبت ترتل مع أطفالٍ آخرينَ في مثل عمرها. أما أمها، فقد دفعت الثمن غاليا، ولم تعرف إلى اليوم كيف من الممكن أن يتحول العذاب إلى نعالٍ تدعس النمل بعد أن تجعل من الناس نملا. ولن تعرف، لأن الميت فيها جعلوه أقوى من أي شيء آخر حي. أتقول لموسى إني أعرف فيك جسدًا كان لأمي أجذما؟ هذا ما قالته روبيكا لروبيكا، ثم ندمت، فأمها قد جنت أقصى عذاب، وهم الذين قالوا لها تعالي إلى صوتٍ كَلَّمَ جان دارك، الذين لم تتعذب لهم إصبعٌ واحدةٌ مرةً واحدةً في حياتهم، وجعلوا من عذاباتها جوهرًا لكل خيالاتهم. خيالات أطول من كل المسلسلات. وتتساقط خيالاتهم في سعيك، يا روبيكا، في الجحيم بحثًا عن يوسُفَ. ولكنك لم تزالي من هذه الخيالات خيالا، فتمسكين بطفلكِ في بطنكِ، وتذهبين للبحث عن أبيه. تريدين أن تجديه لأجل أمك التي قالت في عذاباتها كتبٌ أبكتني. فهل حقًا دموع الآخرين منك عليها بسخونة دموعي، وهذا بلائي في جولييت أعظم بلاء؟ وهذه لعنتي في أسماء أشد لعنة؟ وقالت روبيكا إن ضابطًا في أوشفتز لما درس تقاسيم جمجمة أمها، أخطأ في جنسها، وظنها من عِرق الأسياد، فعرض عليها الشوكولاطة والشوربة باللحم والخبز الأبيض، ورفع عنها الأشغال المتعبة المذلة، إلا أنها رفضتها، وأصرت على القيام مثل غيرها من الأخوات المعتقلات بأقذر الأعمال. وبينما كان الجنود يقذفون فيهن قذاراتهم كل مساء، كن يرمين النظر إلى الأسلاك الشائكة التي تمزق جسد القمر، وإلى المَراقب التي يسلطون الأضواء منها عليهن أثناء العناق الجهنميّ خشيةَ أن تنهضَ أفخاذهن المهددة، وتطيحَ بصرحٍ يقوم في ضباب الجثث المحترقة ماردا. وأتت روبيكا المِرَدَة لا أحد يدري من أين، وطوحتها، فبكت بكاء الضباع المحاصرة، ونادت على أمها.






















الفصل الخامس والعِشرون

الصحراء تلسعه بسوطها، وتلسعه بسوطها، وهو يتقدم على صراط المجد. ستكون جولييت بانتظاره ينبوعا، فتغسل تعبه، ويجعل منها متعته وابتراده. لن يعود نوري الشقيّ، ولن يعود من نفس الطريق، ستكون من البحر عودته. أخيرًا سيركب البحر عائدا. بدأ نوري يلهث وسوط الصحراء يلسع ظهره وعنقه وجبهته وأنفه وفمه. جف البحر، وتحول إلى أمواجٍ من نارٍ ورمل. أَيكونُ الطريقُ السويّ؟ خلفه ياكوفُ القويّ، وأمامه جولييتُ تتبع في ظل يوسُفَ. يحترق الهدف الأخضر، ويحس نوري بالمشي على جمر. هذا هو جريه إلى المجد. لقد كان المجد جمرا. والجنة تحرق لا كما يقال في التوراة. تراءت له روبيكا الحبلى من يوسُفَ. سيرميه في البحر ليعود منه كيفما ستكون عودته. جولييت أم روبيكا؟ اشتعل خياله، فضرب بقدمه الجمر، والشمس تفاحة العقاب. أراد أن تعود روبيكا من حيث أتت، هناك حيث الشباب يظل بعيدًا عن شيخوخةٍ تهددُ بها الشمس، فهي لم تكبر في الظل، ورغم ذلك، قالت بعزم:
- أحب يوسُفَ، وأنا أسعى إلى حمايته منك أيًا كان في ذلك من تهديدٍ لعمري أو لشبابي، لأني معه أتحدى الأيام، وأتحداك.
زجرها نوري:
- أيتها اللعينة، يا روبيكا، عودي من حيث أتيت، واتركيني وحدي مع يوسُفَ!
واصلت روبيكا التقدم بخطى ناوية، فسارع نوري إلى قطع الطريق عليها:
- خذي طريقًا آخر غير طريقي، يا روبيكا، وليعبر كل واحد منا طريقه.
رأى الشراسة في عينيها، وهي تنسحب أمام قوة الحب المحرقة، فجذبها إلى صدره، وتوسل:
- إني أحبك، يا روبيكا، فتعالي! لنذهب من هنا!
لكنها أعرضت عنه:
- اذهب، أنت! سأجد يوسُفَ، وأعيده إلى ذراعيّ.
امتنع نوري عن التوسل والبكاء، وأمطرها بوابلٍ من الأسئلة:
- لماذا لا تحبينني، أنا؟ لماذا لا تختارينني، أنا؟ لماذا لا تَقْبَلينني، أنا؟ لماذا؟ لماذا؟ لماذا؟
مسحت روبيكا العرق عن جبينها، ونظرت بتحدٍ إلى الشمس، ثم قالت:
- لأني أحب يوسُفَ قبل أن يكون رجلي الذي اخترته من بين كل الرجال، والآن هو رجلي الذي سآتي به إلى الوجود منقذًا ومنتقما.
لم ترقه الحدة في صراحتها، فتقدم، وهو على استعداد أن يدفنها حيةً في الشمس والرمل. استطاعت الثعلبة الذكية التي كانتها الهرب من بين يديه، ونوري من ورائها يهدد:
- سأذبح يوسُفَ رجلك، وأصبح مجدك!
أخذت روبيكا تضحك عليه، وهي تعدو من وراء ظلها المنمسخ، وغابت خلف إحدى التلال، بينما راح نوري يدب على الأربع في الصحراء دب الأعمى بعينين مفتوحتين. نعم... لن ترى بعينيك، وهما مفتوحتان، وهما مغلقتان، فتتلمس في الظُّهْرِ كما يتلمس الأعمى في الظلام، ولا تنجح في طُرُقِكَ، بل لا تكون إلا مظلومًا مغضوبًا كل الأيام، وليس لك مُخَلِّص. تخطب امرأةً، ورجل آخر يضطجع معها. تبني بيتًا، ولا تسكن فيه. تغرس كرمًا، ولا تستغله. يُذبح ثورك أمام عينيك، ولا تأكل منه. يُغتصب حمارك من أمام وجهك، ولا يرجع إليك. تُدفع غنمك إلى أعدائك، وليس لك مُخَلِّص. يُسَلَّمُ بَنُوكَ وبناتُكَ لشعبٍ آخرَ، وعيناك تنظران إليهم طوال النهار، فتكلان، وليس في يدك طائلة. ثمر أرضك وكل تعبك يأكله شعب لا تعرفه، فلا تكون إلا مظلومًا ومسحوقًا كل الأيام. وتكون مجنونًا من منظر عينيك الذي تنظر. يضربك الرب بِقَرْحٍ خبيثٍ على الركبتين وعلى الساقين حتى لا تستطيع الشفاء من أسفل قدميك إلى قمة رأسك. يذهب بك الرب وَبِمَلِكِكَ الذي تقيمه عليك إلى أمة لم تعرفها أنت ولا آباؤك، وتعبد هناك آلهةً أخرى من خشب وحجر.


















الفصل السادس والعِشرون

هي تتبع في ظله إلى حيث يشاء، فالصحراء لهبٌ ورمل، تلالٌ ووهاد، وهي لا تعرف الصحراء. كانت جولييت تتبع يوسُفَ في ظله العملاق، ويوسُفُ يفكرُ في أنه هكذا يحميها، ولا يكفُّ عن طرد سياط النار. سيحتمل محلها غضب اللهب، ويجعل من الحرارةِ والرمالِ المِفتاحَ إلى خلاصها. أَليست هي مفضلته، جولييت؟ اتحاد القوة والجمال؟ أَما اعتقد في روبيكا مثلها آية من الآيات ثم أخطأ مع روبيكا الاعتقاد؟ جنرال أشقر وأهوج ما يشاء لها، فالسعادةُ بالإمكانِ جبلها كطينٍ يُنفخ فيه. وتسير جولييت في ظله أمام لهبٍ ينفتح بالتدريج. هناكَ الصحراءُ ممتدةٌ والغضب، وفي عينيها خوف الحب من الهلاك. أَتكون النهاية؟ ومن أين يأتيها موسى؟ موسى يبتعد كلما اقتربت من الشمس جولييت، وتحترقُ الزهرةُ متحولةً إلى جمرة، فرملة، وبعد ذلك، ستهب الريح. لا أحد يعتقها من الريح. حتى ولا دم يوسُفَ المتفجر. ونجمة النهار تبحر في الطرف الآخر من العالم. آه، لو يذكرها موسى، لو يناديها، فتخرج من ظلِّ يوسُفَ إليه، آه، لو يرمي بحجرٍ تتعثر به!
قال لها يوسُفُ منهكًا مختنقًا من الحرارة والتعب:
- سنصل إلى أول كيبوتس عما قريب، فانتظري مني إشارة، وكوني أهبة.
أجابت جولييت مستسلمة:
- لن يكون باستطاعتي السير خارج ظلك، أحترقُ احتراقَ حطبٍ في لهب النقب لهب الآخرة.
- ابقي في ظلي إذن ولا تخطُ قدمك خطوة واحدة خارج حافته.
- ليس باستطاعتي في ظلك الابتعاد أكثر من ظلك، ليس باستطاعتي إلا السير في ظلك، وظلك يَكُفُّهُ اللهبُ والجمر.
- الكدرُ والكرب.
- الضَّوْرُ والضَّوْج.
- الضنكُ والضن.
أعادت جولييت يائسة:
- ليس باستطاعتي الابتعاد في ظلك أكثر من ظلك.
طمأنها:
- لا تخشي شيئًا طالما أنت معي، جولييت. أنا هنا، يوسُفُ، فاجعلي من يوسُفَ شهوةً ولَذَّة، ولا تخشي شيئًا قربه.
- وإذا ما ابتعدت بنا الطريق؟
- سيهبط الليل، ويلفنا بحنانه.
- ماذا تعني؟ في التعب، أنا لا أفهم ما تعنيه.
- في الليل تبرد الصحراء لِنَتَبَرَّدَ، ونرتاح. هم أيضًا يرتاحون في الليل، ولكن لما كنا نعدو كالأشباح في أزقتهم، لم نُرِحْهُم. كنا نُنهضهم، ونبحث بين أصابعهم عن رمل، وفي بطونهم عن ثقوب. انظري في عينيّ، يا جولييت! خَرَجَتْ مدنهم من عينيّ. لم أعد أريدها، وأريدك وحدك.
أمام سكوتها الطويل المحير، قال لها:
- لا تخشي شيئًا، جولييت، وأنت معي، لستُ شبحا، وسيرضخُ لنا أبونا الذي يراقب، ويعاقب، ويحظر، أعرف أنه سيرضخُ، فلا تكدريني، ولا تكربيني، وسيعدل عن قراره بخصوص زواجك.
- هل هو الابن هذا الذي يقول أم الجنديّ؟
- الابن والجنديّ.
زفرت جولييت:
- يا لكَ من وحشيٍّ مثاليّ!
- مثاليّ، نعم، لأجله، لأجلك! لأجل الجميع!
- وماذا عن قراري أنا؟
- ليس لك قرارٌ غيرُ قراري؟
سارعت جولييت الخطى إلى ظلِّ حبيبٍ بعيدٍ تود الاحتماء فيه:
- جولييتُ تحب موسى!
رأى يوسُفُ يوسُفَ ذائبًا في جولييت ذوبان نرجسٍ شبقٍ في بحيرة، وصاح:
- ويوسُفُ يحب جولييت!
واصلت السير إلى موسى الذي لا ترغب إلا في حبها له، فقط حبها له:
- ولكن ليس باستطاعة أخي أن يكون زوجي.
فعزم يوسُفُ:
- سأختار لك واحدا.
- فلأنتحر إذن أفضل بكثير من أن تجد لي زوجا!
- لن تستطيعي.
أكدت جولييت:
- سأنتحر، كما أقول لك، وسترى أنني فاعلة لا بد.
بدوره، أكد يوسُفُ:
- ليس لك من إرادة أخرى غير الحياة.
وأضاف بعد لحظة من الصمت:
- أنت تسيرين في ظلي، هذا الظل سيمنعك ويحميك في آن.
جمجمت جولييت:
- ما أمقته من ظل ظلك، عليه اللعنة!
حاولت الهرب إلى اللهب والجمر، وإذا بها ونوري وجهًا لوجه، فطلبت عونًا من يوسُفَ وحماية. لن يركب الأهوال والأخطار من أجل لا شيء، لن يخوض المعارك من أجل العدم، لن يملأ الكأس إلى سَبَلَتِها من أجل أن يشربها. سدد يوسُفُ مسدسه إلى قلبِ أخيهِ، وقتله.























الفصل السابع والعِشرون

أخوها قاتل أخيها! ولكن ماذا يفيد البكاء والنواح والصحراء جمرٌ وامتداد؟ كان نوري المجد القادم، فانظري جولييت كيف يتحول المجدُ في دمِ القتيلِ إلى وداع؟ في وضعٍ كهذا تفقد فكرة الاقتراب بين جولييتَ ويوسُفَ معناها. كيف استطاعت رغبة الوصول إلى جولييت أن تُترجم هكذا، في الدم؟ هو القاتل دفاعًا عنها. هذا ما صرخ به يوسُفُ. لو لم يقتله لجعل الآخر من دمه نهرا. والصحراء تتلاطم بحرًا على مقربة من نوري. عيناه مفتوحتان على يوسُفَ. يراه بدونِ ألوانٍ ولا أحلام، فهو يصل إليه بدونِ خيال. ترك يوسُفُ الجثة للصقور، وطارد جولييتَ بظله. لكنه لا يربطها بالإبداع. لا يصل وإياها إلى الإعجاز. يدافع عنها ولا يدخل وإياها جنة النقب، فالكيبوتس الأقرب يبتعد عن الظل كلما اقترب الظل منه. سمع يوسُفُ جولييتَ، وهي تبكي من جديد، فأوقفها، ومسح دمعها. لن تقبعَ بما هي فيه، ولن تقرَّ عينُها، ويوسُفُ قد تركَ الدارَ تَنعى من بناها. أراد أن يضغطها على قلبه، فرفضت فاحش الطول، وطلبت إلى فاحش الكذب:
- أعدني إلى أبي، عد إلى صرحه، فألوذ به.
- علينا أن نواصل الطريق.
- قتلتَ غريمك، أيها الشقيّ، فأعدني إلى صرحِ أبي.
- سأقتلُ كلَّ غريمٍ يريد أخذك مني ولدًا كان أم أبا. اتركيها تأتي إليك، روبيكا، فأقتلها، وهي الحبلى مني، لأنك أنتِ كلُّ الذي يعود عليّ.
خر على قدميها متوسلا:
- توقفي عن حب موسى، يا جولييت! أوقفي كل حب آخر غير حبك لي وإلا قتلتني، أيروق لك قتل أخيك؟ لن تستطيعي ذلك إلا بعد أن أصرعه ككل الأبطال الملعونين بطلقة في القلب، فأخلص، وأرتاح قبل أن تخلصي، وترتاحي.
إذا بها تصيح به، وهو حجرُ كُحْل، وتنوح فوق رأسه، وهو حجرُ توتياء:
- نعم، صحيح ما قاله غيرنا فينا: لما يكون لدينا قلبٌ من حجر، فمن السهل أن يكون لنا شكل التمثال! آه، أيتها المعذبة القلب، يا جولييت! ويا أيتها السيئة الحظ، يا روبيكا! كلتانا أخطأت في حب يوسُفَ، ولم يُصِبْ يوسُفُ في حبنا!
وفي اللحظة التي راحت فيها تعدو خارج ظله، استقبلتها ذراعا موسى المفتوحتان على سعتهما:
- ها أنا، جولييت!
- آه، يا موسى!
- ها أنا أتيك.
- أنت.
- نعم، أنا.
- تأتي جولييت بعد فوات الأوان، أأنت الحبيب أم السراب؟
- أنا الحقيقة الساحقة!
امتشق يوسُفُ مسدسه، ونبر في وجه موسى المتوهج من لقاءٍ له في الصحراء كان مصيريا.
- ماذا تفعل هنا، يا موسى، ولا أحد منا يريدك؟
أشار موسى بإصبعه إلى نوري بابًا سريا، وسأل سؤالاً جوهريا:
- هو أيضًا لا يريدني؟
- لو نهض من موته لوقف ضدك إلى جانبي، فأنا وهو مقدودان من أديمٍ واحد، وسيكون شاهدي.
- جولييت إلى جانبك، ومع ذلك، جولييت ليست ضدي.
وقفت جولييت بينهما، ورجتهما ألا تكون عدم الثقة أحسن تربة لزرع الشقاق، ثم انكسرت خَطّا، وانهارت بين سلاحيهما المنتصبين، وكلٌّ منهما في قلبه تغلي إرادة عمياء. بكت جولييت، بينا راحت تنتفض في رأس موسى مدن الأرض المحتلة واحدةً واحدةً وأصابع غزة، فسبقه إلى إسقاء السيف، وخر يوسُفُ على الأرض، ودمه يتحول إلى جمر. لم يكن بوسعه أن يفعل غير ما فعل. لم يفقد شجاعته، ولم يفقد وعيه. كان كمن يفك لغزا. ولما شاهد موسى جولييتَ، وهي تضغط أخاها على قلبها، وتضرب وجهها، وهي تضرب جسدها، وهي تضرب كِيانها، وهي تضرب الكون، تقدم منها خطوة، ثم تراجع خطوة. في تلك اللحظة بالذات، وصلت روبيكا برفقة رجال الشرطة، فعاد موسى يشق طريق العودة عبر الصحراء، فكيف يلقى تابوت العهد ليدفنه؟ وكيف يجعل من قواه الخارقة إرادةً لصحراء النفس؟ كانت قوى ألواحه المحطمة موجودة في مكان آخر، في العشب الأخضر، وكانت تنجو من أقدام الكلاب-الذئاب التي تدعس الحجارة مذعورةً من صورتها في الماء، ولم تكن الإرادة المحفورة في الألواح لتستطيعَ أن تكونَ غيرَ إرادتنا، أنا وأنتَ، بعد أن نَخْلَعَنَا عنا. في طريق العودة إلى مدينة الحجر، أخذ موسى يقتل عشراتٍ من هذه الكائنات التي ليست ذئابًا ولا كلابا، والتي كانت شراستها تخيف من تنفخُ الحياةُ فيهم شراسةً مماثلة. قتلها بالفأس، وجعل من دمها كائناتٍ أخرى على صورته، طيورًا للضوء. دَمَغَهَا بخاتَمِهِ... ريحًا عاصفة.





الفصل الثامن والعِشرون

حبيبُها قاتلُ أخيها! تلتحم البِنَى، فتصبح دما، وتصبح عذابا، ونجمة الغرام تغرق في المساء! أينتهي الحب إذن؟ كيف باستطاعة القلب أن يغدو كفنًا وطائرا؟ كيف باستطاعة جولييتَ أن تختار بين حب موسى ودم يوسُفَ؟ أن تدفع ثمن حبها بدم أخيها؟ وكيف باستطاعة الرياح أن تحيد؟ وجولييت تحترق رغبةً بقدر ما تحترق غضبا، غضبها هي، ورغبتها هي، والدم دم أخيها القتيل. وتحيد الشمس عن صفحة الصحراء المذهبة بالدم، والتي تحترق رغبةً بقدر ما تحترق غضبا، تمامًا كجولييت، وتصبح لها حرارة جسدها الشهيّ، إلا أن جولييت تطفو تحت قوس الشمس، ويجرفها الجوع إلى الرمل. ولكنها تضغط أخاها على قلبها، لتحس بقلبه يخفق مرةً واحدةً قبل أن يشق لها الذاكرة. الماضي هذا الثمن الغالي. هذه اللحظة الشقية. هذا الجسد الشقيّ المتفجر دمًا في الصحراء. هذا الجسد القويّ المدمرتُهُ طعنة. هذا الجسدُ المُطْلِقُ كل حرارته دفعة واحدة، ثم يبردُ الجسدُ، ويصبحُ على قلب الصحراء قطعة ثلج. والحاضر هذا الثمن الغالي. مجد الإرادة الزائلة، فأين هي إرادة ياكوف من إرادة الصحراء؟ والصحراء لا انتهاء. شرسة كلما ابتعدت، عطوفة كلما اقتربت. وجولييت تبكي في العطف. بين ذراعيها حكاية أخيها يوسُفَ، وفي رأسها خطوات حبيبها موسى. خطوات تبتعد في الشراسة. ولا تستطيع جولييت إلا أن تبكي أخاها، فلم يعد جنديًا يطلق النار على الأطفال، ولم تعد له خطأً أخيرا.
انهارت روبيكا على صدره المتوهج دما، وبكت هي الأخرى. ذرفت دموعًا حارقةً بصمت. بعد ذلك، أخذته بين ذراعيها إلى ذراعيها، وضمته كطفلها الذي ستلده يتيما. وفي لحظةِ توسلٍ، نظرت في عيني جولييت، فرأت ظلاً لجنرال. خفضت رأسها بسرعة، وغرقت بنظرتها في الجرح، فهل تنقذ الجرح؟ وهل باستطاعتها إنقاذ الجرح والجنرال ينكأه بأسنان القرش ليعمل جنة مال وأرض ميعاد ومحرقة للذين يُمسخون حطبًا وعاطلين عن العمل في وجه إلغاء السوبسيديا وإغراق السوق بأجنبيّ البضاعة، حُلْمٌ مجنونٌ يكلف المليارات من أجل التمسك بالمناطق ورفع المَراقب؟
سأل جولييتَ رجالُ الشرطةِ عن القاتل، فأجابتهم:
- أنا.
فتعجبوا:
- أنتِ جولييت!
- أنا جولييت.
- قتلتِ أخاك؟
- أراد أن يكون قدري، فإذا بي أكون قدره.
- أنتِ تخفين الحقيقة.
- أتخفّى.
- في الغموض.
- في الوضوح.
وابتسمت، فقالوا:
- الموت في كل مكان.
فقالت:
- لهذا أبتسم.
- الجنون.
- أدفعُ النارَ بشرارها.
وضعوا يديها في السلاسل، وقادوها إلى سجنٍ قرب نابلس. الكليم فيه والضرير، وكلمة الله يُعَبَّرُ عنها بكلمتينِ كيفيتيِ التفسير. هناك، ستسكب دمها لإنقاذ حيتانهم، غير بعيد عن سناجب تنفق، فتلك كانت سنينَ سوداءَ لها ولحيتانٍ ذات حدبة حطت على صدورها وطأة، بعد أن هُدمت مساكنها بأمرٍ عسكريّ، وصارت نسبة ازدياد صغارها في انخفاض. توجت جولييت المولودين منها ملوكًا للبحر، وعرفت فيها واحدًا كان لها خِلاً لِنَدْبَةٍ على ذيلٍ ضربته مرساةُ قاربٍ اسمه "آكل الموج". تأملت جولييت وجه المسيح وجهه، وجهًا أشد حزنًا من وجهها وأقوى خطبا.















الفصل التاسع والعِشرون

اللعنة عليك، يا ثور العقاب! اللعنة عليك، يا خالق الجريمة! اللعنة تصعد إليك من أعماق الأرض! آهٍ منك! لقد فلقت قلبي! والقويُّ ياكوفُ يضرب الثور بالبلطة، ويسدد التهمةَ إلى الثور، والثور يبصق الدمَ، ويجأر. هل يصله بالحياة؟ يوسف مات، وهو يصل الموت بالموت، وينتقم للدم بالدم، والدم ينضح من كل الجهات، ويهدر كالبحر في قبضته. والثور يجأر، ويبصق الدمَ والجِلّةَ والأعضاء. والمارد ياكوف لا يكف عن ضرب الثور بالبلطة، وياكوف يغرق في بحرِ دمِ الحيوان. سيقتحمه اقتحاما، لعله يعيد إليه ولده. سيحتله احتلالا، لعله يحفظ مكانته، سيستوطنه استيطانا، لعله يتفادى النظر إلى خِصائه. تلهث الإرادة، وتتعب، وتتراخى القبضة الدموية، فتلقي الشفرة القاطعة. يدركُ ياكوفُ ما لا يُدْرَكُ سِرُّه، وتأخذ عيناه بالبكاء.
هناك جولييت، في السجن، تنتظر عون الإرادة من غيرِ دمعٍ أو دمٍ بعد أن ذرف ياكوف كل الدمع وأهرق كل الدم. جولييت الطلقة والهدف. الدم والنبع. الخواء والهباء. البلبلة والفوضى. التدمير والتخريب. الإبادة والخراب. السديم والشُّواظ. ضَعْفُ الإرادة والذبذبة. جولييت المراكب. جولييت الحرائق. جولييت حرير دمشق وجسد الكرمل. جولييت الحنان. جولييت الحرام. جولييت شراء الذمم. جولييت وردةُ جنينَ وطولكرم. جولييت مليكة الطير. السيف والعواصف. وعصفت في رأسه الأفكار، فنظر إلى الثور المقطع على مقربة منه جاثما، وزاوجت عيناه العينين المحدقتين في الرعب الطويل. راحت التوراة ترتعد وإنجيل يوحنا والقرآن الكريم، وأعمته أنوار الحروف المقدسة. منذ ألفي عام وثور العقاب يترصد له. منذ ألفي عام. ولكنه حوّله إلى شرائح، وجعل من دمه عبابًا تمخره المراكب. فانهض، ياكوف! ألم تنهض بعد؟ ودومًا ترقد جولييت بين القضبان، رغم أن ثور العقاب هذا كان تضحية لأجلها، لئلا يأخذوها منه كما أخذوا يوسُفَ، كما أخذوا نوريَ، لئلا يأخذوا منه ابنته جولييت، كل من تبقى له في الدنيا.
قال ياكوف، أبو جولييت التي هي كل من تبقى له في الدنيا:
- عليك إطلاق سراح ابنتي جولييت في الحال، أيها الجنرال!
فرفض الجنرال:
- أعليّ إطلاقَ سراحِ قاتلةِ يوسُفَ؟
بكى ياكوف بين يدي الجنرال ولهد:
- إنها ابنتي جولييت، أيها الجنرال! كل من تبقى لي في الدنيا.
فأبدى الجنرال استنكارا:
- ولكنها قاتلةُ يوسُفَ! مجرمة هي، وهي أجرمت في يوسُفَ!
توسل ياكوف إليه:
- أنا قاتلُ يوسُفَ، أيها الجنرال، فأطلق سراح جولييت، إنها كل من تبقى لي، كل من تبقى لي ولك في الدنيا!
طبطب الجنرال على كتفه مشجعا:
- لقد كان أثر الفاجعة عليك كبيرا!
قفز ياكوف مبتعدًا عن كف تواسيه:
- أطلق سراح جولييت في الحال، أيها الجنرال، فتنطلقُ النفسُ على سَجِيَّتِها، وإلا جعلتك تأخذ في الظلمات الأظلم مكانها!
قهقه الجنرال، وأشار بإصبعه إلى "شكونات هاتيكفا"، وقال:
- ليس باستطاعتك أن تفعل فيّ شيئًا الآنَ وقد جعلتَ مكاني هناك مكانًا أبديا. سبق السيف العذل، فلا تطلق حربًا من عِقالِها.
وذهب الضابط الرفيع المقام برفقة عدد من رجال المعراخ أو الليكود، الليكود أو المعراخ، إلى أزقة تل أبيب الفقيرة، فجاء عموس عوز بعد ذلك، ورسم بعض دمع الأزقة البائسة في مسودات روايته القادمة وبعض الدم الدينيّ، لكنه رأى في عربي من هنا وآخر من هناك ديكورَ الليس إلا، على الإطلاقِ غيرَ جميل، ديكورَ المذل الذليل، ولم ينظر في "علبته السوداء" إلى دمائنا بشرًا وثيرانًا أطرافَ صراعٍ في الفاجعة، فهل سيعيق قلمُهُ ياكوفَ، أو الجنرالَ صنيعتَهُ، عما سيفعلان في النفوس؟ وماذا سيفعلُ ياكوفُ بعد أن مات يوسُفُ، وحبسوا جولييت التي هي كل من تبقى له في الدنيا غيرَ اجتيازِ عتبةِ النهاية إلى القيامة؟ ولكنه القوي ياكوف حتى في محاولات الموت التي أجراها عليه، لم يكن باستطاعته الموت، وكلما حاول الموت أمات غيره من أهل موسى وأهل جولييت.












الفصل الثلاثون

روبيكا، روبيكا... آه، يا روبيكا! روبيكا الشراسة الأسيلة! لم يقتله حبه لجولييت، لا ولا حبك له. خرج الجنديّ من ثوبه عندما مات، وصار يوسُفَ. كنت تحبين الجنديّ، أما وهو جثةٌ بين ذراعيك، أحببت يوسُفَ. أكان عليه أن يموت لتجديه؟ ضاع الوقت معه والحب. والشباب شاخ. لا بد من أحدٍ واحدٍ يكونُ الأقوى. أقوى من الورد الجامح والعطر الوحشيّ. لا بد من أحدٍ واحدٍ يكونُ الأقوى في الصراع الميتافيزيقي. ولكن صورته ميتًا قَصِمًا مسالمًا رسخت في خيالك. لهذا تبكين على العتبة. تتفجرين حزنًا، وتتفجرين دمعا.
أنتِ روبيكا التي أحبت يوسُفّ لحظةَ موته. ويبقى الماضي يطاردك حتى عتبة بيتك، فَتَجِسِّينَ ما أكدت الإيكوغرافيا في بطنك أنه ولدٌ صبيّ، وتقولينَ أريده أن يكون يوسُفَ ولا أريده أن يكون الجنديّ. فلا يقتل هذا ذاك لحبيبة، والفاجعةُ تَتَلافى الفاجعة. كيف تريدين تحقيق ما تريدين في البؤس الجاثم؟ هل سيتركون له مجالا؟ من قلب حزنك تقولين لقلبك لا بد من إيجادِ وسيلةٍ تمنع الموت من موتنا، فنعيش كسائر البشر حياتنا. أن نكون بشرا. لا قاتلاً ولا قتيلاً نعيش. أن ندحض ذريعة القائلين بالفاجعة قدرًا مذ كان الإنسان. إنسانٌ يقتل إنسانا، وسِبطٌ يقتل سِبطا، ودينٌ يجرم في دين! كان حزنها بالغًا وعقلها ثاقبا، وكانت أقدامٌ تدوي في الزقاق تشدها إليها. هناك ضجة الجنرال ورجال الليكود أو المعراخ. يريدون أن ينتزعوا بلطافة، وكالة للحكم جديدة. هناك ضجة الجنرال ورجال المعراخ أو الليكود. يريدون أن ينتزعوا بشراسة، وكالة للحكم جديدة. يغدو الكل جثة يوسُفَ، دمه وأوردته. الضحية التي تستطيع الكلام بالرصاص. الهدف في الجهة الأخرى. هكذا قالوا إنه قيل في التوراة. وفي الجهة الأخرى، الحجارة تتنهد، والصراصير لها أنفاس فينيق أو تنين. وفي الجهة الأخرى، الردب لا ينفذ، والطائر يغتصب الحقل، والسلاح أخرس أو حُلْمٌ زاعق. وسيبقى لزقاقك أمل النهوض كل صباح، أما إذا ما تدخلت الإرادة، فهو سينهض في السقوط، وستتحول جثةُ يوسُفَ المدماة إلى حمامة بيضاء في حُلْمٍ أسودَ، فتبكين على بعض الطوباويين الذين في المعراخ يبكون، وعلى الآخرين الذين في الليكود يشخون، والذين لا يفهمون إلا القوةَ لغةً.
نادتها أمها العجوز، وهي تسعل:
- تعالي، روبيكا! من ذا الذي تنتظرين؟
وجاءت أمها قربها، وهي تسعل دوما:
- أنت لا تنتظرين أحدًا، يا روبيكا؟
أجابت روبيكا:
- أنا لا أنتظر غير ولدي الذي في الطريق.
جلست أمها العجوز إلى جانبها على العتبة، وهي تسعل دومًا، وهي تسعل:
- هنا لا أتوقف عن السعال، وفي أوشفتز هناك لم أتوقف عن السعال.
- عودي إلى الداخل، يا أمي، عودي إلى فراشك.
- المسألة مسألة أخرى.
- هذه هي كل المسألة.
- المسألة هي السأم.
- الفكرة المتسلطة.
- السعال.
- عودي إلى فراشك.
- دعيني أتنفس بعض الهواء.
وصلتهما ضوضاء بعض القادمين، فراحت روبيكا تحدق في عيني الجنرال بخوفٍ وغضب، بينما راح الجنرال يحدق في عيني أمها بطمأنينة ورضاء، وأمها تحدق في عيني الجنرال، وكأنه آخر ملجأ لها. سمعت أمها تقول، وهي تسعل دومًا، وهي تسعل:
- انظري ما أجمل هذا الضابط، يا روبيكا... كأنه الملاك! نظرة واحدة منه تشفي الجراح!
احتد سعال الأم، فراحت تبصق دما، وراح الجنود يركضون في أعقابِ ولدٍ رديءٍ يمتطي كلبًا-ذئبا، وهو يطلق الضحكات المتحدية، وهم يطلقون الطلقات الطائشة، شَمالاً وجنوبا، فهذه الفصيلة من الكلاب-الذئاب سريعة العدو، عنيفة، لكنها جريئة، تحنو على الأطفال حنوها على أطفالها. ولما وصل الولد الرديء إلى زقاق روبيكا المغلق، وقف حائرا، والنورسة، صديقته التي من عادتها أن تطير به على ظهرها كلما وجد نفسه في مأزق، كانت تستحم في بحر يافا. أمسكته من يده روبيكا، وخبأته عندها. سألته عن اسمه، فقال إن اسمه الولد الرديء، وإن فضَّلَت الولد الشقيّ، وهو من بُرْقَة، قرية من قرى نابلس أسماها جنود الاحتلال "عش الدبابير" لشد ما لدغت وأوجعت، وقد دعاه البعض بالولد البرقاوي. كان الجنود قد ذهبوا بعد أن عجزوا عن القبض عليه، فأراد امتطاء كلبه الذئبيّ والعودة من حيث جاء، فلم تكتمل له مهمة بعد، ولما تكتمل مهمته، سيذهب إلى بُرْقَة وإلى نابلس مدينة الشهداء وإلى رام الله، فقالت له روبيكا:
- أنت إذن الولد الذي يخشاه الجنرالات!
ابتسم الولد البرقاوي، فرفعت روبيكا بأصابعها خصلة سائبة من شعره الناعم سقطت على جبهته، بينا عادت أمها تسعل سعالاً حادا. أخرج الولد الرديء من جيبه قنينة دواء لتسقيها منها ما يشفيها، واعترف بأنه سرقها من مستشفى لهم لمستشفى لنا منع الجنود عنه الدواء وصادروا عربات الإسعاف، فمات بعض الجرحى في أسرّتهم، ومات بعضٌ آخرُ أكثرُ على الحواجز. قَطَبَتْ روبيكا حاجبيها، وهذا يذكرها بيوسُفَ. عتم وجهُها، واحتل وجهَها الحزنُ حزنًا على حزن، فسألها عن أمرها. حكت له حكايتها، حكاية أثرت فيه عظيم الأثر. قال لها ما القاتل إلا ياكوف، لأن موسى ما قتل وما انتقم، هو ياكوفُ القويّ، فما عرف أن نقطةَ ضَعْفِهِ يوسُفُ وجولييتُ ونوري، وما أدرك أن في شر الهزيمة خيرها إلا عندما مات الواحد والآخر، واعتقلت جولييت. ولأنه أشيل زمانه، لم يستطع الموت، أشيل الجبار، أشيل الأقوى! وكلما حاول الموت، بعد أن فقد كل الذين كانوا له في الوجود، أمات غيره من يهود وعرب وغير عرب وغير يهود. سألت روبيكا الولد البرقاوي لو كان بالإمكان إنقاذه، فأجاب ليس بالإمكان إنقاذه بغسله في البحر، فلا دمعًا مرًا يصير ولا ماءً حلوا، ولكل واحد منا نقطة ضعفه. احتارت روبيكا، وخاف الولد الرديء عليها، فطمأنها عندما قال إن لكل واحد نقطة ضعف عليه أن يعرفها قبل فوات الأوان، وإلا انقلبت عليه شرًا مستطيرا. في ظرف من الظروف، من الممكن أن تغدو نقطة الضعف هذه للضعفاء نقطة قوة، وهي في الوقت الحالي، بالنسبة له، أن يبقى ولدًا شيطانيًا يجعل الفيلة تطير والسلاحف تهرع والثعابين تنطق. تقدم من أم روبيكا النائمة على الأرض، وأخذ يقتل بعض صراصير تزحف عليها. تناول كلبه الذئبيّ من عنقه، وأراد الذهاب، فقالت له روبيكا بصوتٍ يبدي قلق أم على ولدها:
- يجدر بك ألا تبالغ، فأنت يحدق الخطر بك من كل جانب! ستقضي ليلتك في مكان آمن حتى يكل الجنود من البحث عنك، وينتهي الأمر بهم إلى اليأس.
- الجنود ذهبوا.
- ذهبوا ولم يكلوا.
- سأحتج ببراءتي.
- لن تحتج على الظلم.
أمسكته من يده لما حط الظلام، وسارت به إلى أحد الأديرة المهجورة. خبأته في حِضنه، هو وبعض صغار الكلاب-الذئاب، فأخذ يلعب معها وبعض صغار الوطاويط وبعض صغار العنادل. بعد ذلك، اغتسل الجميع بماء البئر الفضيّ، ثم ذهب الكل عند ياكوف في بيته التل أبيبيّ، وهتف الصغار: لتسقط السلطة القاتلة لبنيها! صوّب الصغارُ بحجارةِ بئرِ الديرِ كعبَهُ عونًا له على الموتِ وراحةً من عذاباتٍ ينفقُهَا باطلا، ولكن ما أُصيب إلا قلبه أو رأسه أو صدغه. تأذى، وبقي في بلائه حيا.








الفصل الحادي والثلاثون

أسماء تعود إلى الهضبة، وفي بطنها بنتٌ تكبر، كما أكدت الإيكوغرافيا. تبكي أسماء. لتبكي الشجر. وتبتسم أسماء. ليرى موسى في ابتسامتها ابتسامة جولييت. تحكي له عن فدائي آخر، غير الذي قتله، يريد أن يربي البنت معها. تحكي له كيف قُتِلَ. ولا تصبح أسماء وحيدة، وهي قربه. يلف كتفيها بذراعه، ويقول لها كيف قتل الجنديُّ يوسُفَ، وكيف رمى يوسُفُ في السجن جولييت. تهتز الأغصان، والشمس غير بعيد ترتعش. تعصف الهضبة بالعشب. وبالرصاص البارد. متى يدفأ الرصاص؟ متى يُدفئهما؟ تقول ابنتها تتحرك، وتترك أصابعه تلاحق الحركة على بطنها. تتحول الأصابع إلى أناشيد. هناك جولييت بين القضبان، وأسماء تسقطُ في لحظةِ خجل. تترك أصابعه على بطنها، فيترك أصابعه في مرق العائلة، ولا تغادر فكره جولييتُ ربةً للبيت. للسكر والملح. للخبز والأرز. للذكر والأنثى. ربة للخير والشر. للأسود والأبيض. للأسود والأسود. للشرق والشرق. ويأتيه البحر متعاليًا من كلكوتا هادرًا وعازما، يُنْطِقُ عُقابَ البحر، فيقترب من أذنها. أيحب جولييت، وكسائر الرجال، يشتهي "الأخرى"؟ يهمس لها نشوانَ أنه سيربي البنت معها.
- وجولييت؟
- ستربيها جولييت معنا. سنربيها على عشبٍ أزرقَ وحجرٍ ياقوتيّ، في الوقت الذي تكون فيه أرضنا بلا برد شديد ولا شمس شديدة، ولا تكون بلا ماء كثير ولا أحلام كثيرة، تكونُ للزنوجِ البيضِ جنة.
ابتسمت أسماء، وقالت إن تشيخوف قال: إذا كنت تخشى العزلة فلا تتزوج. بدوره ابتسم موسى، ونهض ليتأمل معها اغتراب الشمس. أحست بأنفاسه على عنقها، وعندما التفتت إليه، وجدته ينقط رغبة. ذهبا إلى الصخر والعشب وندى المساء، واتحد الجسدان الطائعان هذه المرة لجسديهما، وبندقية أسماء تومض على مقربة منهما أملاً ويأسا. حضر الولد الرديء، فابتسم له موسى، وقال لأسماء: إنه لمن الجنون أن يقعد عاقلا! كما يقول جنديٌّ يدندن أغنية بلجيكية: الضحية جِد جميلة والجريمة جِد مرحة! وكما يقول ولدٌ رديءٌ آخرُ يدندن أغنية فرنسية: فلتصرخ حقدك كقطٍ يُذبح!
أطعمهما الولد البرقاوي بعضَ برقوقٍ بريٍّ قطفه في الطريق، وقال لموسى: يريد العودة إلى وقتٍ كان فيه طفلاً ويشاء الكِبَرَ حالا، هو بين يدي بندقية أسماء وبندقية أسماء بين يديه. فيما بعد، نعم، سيكون زمنه القادم إن لم يُكتب له النجاح، وكُتب له الفشل في كل ما يفعل. لكنهما بَدَوَا، هو وموسى، سعيدين، سعادة من كان دينيًا متطرفا، فأخافتهما سعادةٌ كانت لهما، ولم يمكثا في مكانهما حائرين طويلا، لأن الصغير ما لبث أن عرّض للخطر نفسه عندما راح يُهَرّبُ أطفالاً من خطر الجنود، ولأن الكبير جرى في وجوهِ خيّالةٍ متذمرين مستفزين، ونادى، فإذا بالخيول تقذفهم عن ظهورها، وتأتيه لتمسح عليه غرتها. فقال موسى للولد البرقاوي: هذه خيول نجدية رباها على يديه لما كان في مثل سنه، وهي لم تنسه. لاحظ الصغير أن بعض عدم المضربين المترددين يجلسون على عتبات دكاكينهم، فسرق بضائعهم، تحت أبصارهم، وهرب. طارده التجار، ودعوا عليه، أن يعذبه الله عذاب الكافرين في الجحيم، العذاب الأقسى، حتى وصلوا إلى مظاهراتٍ وجدوا أنفسهم في صميم قلبها. أما ما سرقه اللص الصغير من بضائع، فما كان إلا لإطعامِ بعضٍ ممن لم يدفع لهم أحدٌ بعضَ دولار من تونس. وأما ما فعله موسى الكبير في بعض بغايا الحي أنه أعطاهن لأكل أولادهن قمحًا وعدسا، فلا يعاشرن جنودًا مكبوتين، ولا لصوصًا محترفين. وبينا كان الولد البرقاوي يجلس عاقلاً على رصيف، إذا بجنودٍ مدججين، يريدون القبض عليه بدون سبب من تلك الأسباب التي يئدون البعض لأجلها، فلم يرفع علمًا على سلك كهرباء، ولم يشعل إطارا، ويداه الاثنتان لم تكونا ملوثتين لا بأتربةٍ ذهبية ولا بألوانٍ قزحية. احتج على الظلم: أتوقفونني وأنا لم أفعل شيئا؟ ونهض ظالمًا لما قذفَ فناجينَ قهوةِ أصحابِ الكوفيات، وشدَّ كوفياتِ أولئك الذين هبوا ليذبحوه ذبحا، فأعادهم أطفالاً يثأرون من كل الظلم المحيق بهم، ومن كل الفراغ، وليكتبوا الأسماء الصالحات على جدارٍ لبيت ساحور لا ينهدمُ ضريبةً لخدماتِ أسماكِ القروش التي هي تجويع الذئاب فلا تعوي، وعزل الوطاويط فلا تبغي، وإغلاق مخيمات الصراصير فلا تغلي غليان الماء والأفكار.
صف الجنديّ الملائكيّ الدميم شبان بيت ساحور صفًا طويلاً على جدارٍ من إسمنتٍ مسلح، وسمح لهم برفع أذرعهم الطويلة عليه، أذرع طويلة كانت تقصر للحظات، الوقت الذي تُخرج فيه للجنديّ الملائكيّ الدميم من الجيوب بطاقات التعريف، فيتعرف على وجوهٍ غريبةٍ عن وجوههم، رُغْمَ كل أسلحة العالم التي في حوزته، ويكون مرتعدا. قال لها كوني قنيصتي، فصاح حاخامٌ غربيٌّ غريبٌ عن هنا في أمره معه، وصاحت روبيكا بعد أن ذكّرها الحاخام بوجوهٍ لهم، فقال لها اصمتي، إني أكثر يهودية منك! لكنها لم تصمت، وراحت تسعى في طلب الولد الشقيّ، الولد البرقاويّ، ذاك الولد الرديء. ولما أرادت دخول الأرض المحتلة، وقف الجنود في وجهها جدارًا يتهدم بالتدريج، وقالوا لها: حتى وإن جئت بموسى، فلن نأذن لك بالدخول! فجاءت بموسى الذي أدخلها دون أن يأخذ من أحدٍ إذنا، أخذها أولاً إلى ذراعي بُرْقَة، وبعد ذلك إلى ذراعي أسماء، وَعَرَّفَهَا عليها.








الفصل الثاني والثلاثون

هم أسباب أوجاعها، يغوصون في أعماقها كالسمك الجامح، ويزحفون حياتٍ تتقنُ النهش حتى كبدها. ألم يجعلوها تحبل، ابنتها أسماء؟ تأخذ العمة زليخة رأسها بين يديها، وتصرخ من الوجع. هؤلاء الإرهابيون هم سبب الفاجعة. هم الدموع والشقاء. وهم نهاية راحتها. هؤلاء الإرهابيون هم شرفها الجريح. ألم ينفخوا في بطن أسماء لقيطًا لن يحمل اسم أبيه؟ تصححها أسماء، ليس لقيطًا، لقيطة! فيمسك الولد الرديء بيدي أسماء، ويصبغ شفتيها بألوان الوفاء والصفاء، ويقول لها: لتخرجي أسماء من قفص الكآبة وأزمان العِداء! وكم سلاحك المنتظر يسقط في الصرامة! تراءت له كل الوجوه التي كان يعرفها في حيهم قبل أن يُحَصِّبوا أرضه، ويفضوا بكارتها. وطلب من أسماء الدخول إلى زمنه، فلا تخرج منه إلا بنضارة الوردة. أرشدها الولد البرقاوي إلى الطريق التي ضربت فيها الكآبة والصرامة بعصا الجرح السحرية والموت المبتسم. ولما ذكرته بأحزان الأرامل والثواكل، قال هذا شأنٌ من شؤونِ غيرِنا الذين نتركهم من بعدنا، وهي أحزانٌ محرضة. الطريق التي تذهب إلى أمك، يا أسماء، وتخرج من هذا النفق الذي عَهْدُنَا به معتمًا منذ جيل مضى ستواجهين فيها الكثير من الزلازل التي سببها زعل القمر وتحرك الأرض تحت أقدامنا، ولك أحلف، يا أسماء، إني لن أُنزل علمًا عن سلك كهرباء ولا عن مئذنة، ولن أجمع حجارةً رشقها خلاني في الطريق لأزيل للجنود حجر عثرة، ولن أُطفئ الإطارات المحترقة، لأني أحب الفوضى والدخانَ الأسودَ المُعْمِيَ للعين الجاعلَ من النهارِ ليلاً والأعلامَ المرفرفة. فقال موسى: هكذا يُنفخ الأولاد في بطون الحَبَلات، وتصير الحَبَلاتُ لي حدودا، وتصير لي أمة. وقال الولد الرديء: ستنتهي الفاجعة عندما يقتل جنودهم اليهود ممن يموتون لأجلنا. وتبكي أسماء على الموتى، أيًا كان الموتى، ومن أين يأتون، أيًا كان الشعب الذي ينتمون إليه، تبكي على الزمن الطويل لهذه الطامة الكبرى، الأطول من ساقي أريحا وساقي غزة المدينتين الأسطوريتين، تبكي على الزمن الباقي لنا ولهم في العذاب. وتقول عن البرقاوي ما هو إلا ولد، وعندما يكبر سيفهم أن الزمن الباقي يقصر بفضله. مسحت دمعها، وابتسمت فجأة، وفي عينيها أمارات اللَّذة. تعلو صرخة الريح. ينطفئ الضوء. ويكبل الصمت العمة زليخة، أُم أسماء. لا تستطيع الذهاب صوب صورتها. والمرآة ضخمة. فيها العالم يتحرك. وتصرخ التجعدات على وجهها، ولا تنام في الليل من فظيع الوجع، وخاصةً في الهزيعِ الأخير.
لينبثق إذن فجر دمهم! ولتقهقه شمس الشيطان في احتفال الموت! أتتحقق الأمنية الغالية على قلبها؟ هكذا تنتقم لشرفها العمة زليخة، ولا يغدو شرفها عقابها. العقاب طفل الرغبات، وهي، ما صنعت حياتها إلا مما هو حلال ومستقيم. ما صنعت حياتها إلا مما هو واجبها القديم. تحب الوطن كالآخرين. وقيمة الوطن لديها لا تقدر بثمن. الوطن لديها من ذهب. وتغوص أصابعها في صندوق جواهرها، وقد نسيت وجعها وصداعها. وتصرخ كعجوز تفاجئها اللَّذة المستحيلة، فتفتح الباب عليها أسماء، وزليخة أمها تطرح ذات السؤال:
- أهذه أنت، أيتها العاق؟
- هذه أنا، أسماء!
- يا عار أمك! لولاك لما استمر النزاع! لولاك لكنا نأكل فولاً في عكا! أيكون هذا الحاكم منهم أسوأ من ذاك الحاكم منا؟ مع الواحد ومع الواحد كلنا في الهم سواء! وهاءنذا أعيد عليك القول: لن ينسحبوا! ولن يصفوا المستوطنات! ولن يوافقوا على دولة ككل الدولات! قال دولة قال ومؤتمر دولي وكوميديا فاشلة لممثلين من برة وممثلين من جوه للتمكيك وإكمال المجزرة. وكل هذا لأجل شقفة أرض تُعطى لأولئك الجهلة والسراقين أبناء مخيمات بيروت وفنادق تونس ومناخير المرسى، إن لم يكن مواخير المرسى، فرائحتهم العطنة تملأ الدنيا أينما حطوا وأينما بطوا! صاروا وزراءَ وحكامًا ومتسلطين على ريحة دولة، فكيف لما تصير لهم دولة على أرض وقمع وضرب وجمع وشفط ولهط مثل كل ناسنا؟ أبو فلان يشخر وأبو علان يجحر وأبو ذل الأبناء في أندونيسيا أو الجزائر يجلس على كرسي مريحة ومن طرف لسانه يقول لك بلهجة غبية وانتهازية: كل شيء للانتفاضة! وهو لا علاقة له بالانتفاضة لا من بعيد ولا من قريب، ولا يعرف عنها إلا بالاسم. وبالطبع، كل شيء للانتفاضة بالكلام ما عدا معلق ثدي حرمه المصون المترهل أدامه الله!
أوقفتها أسماء، وهي ترفع إصبعًا مهددةً أمام وجهها:
- ما أتيت لأسمع منك ولكن لأنذرك.
- تنذرين أمك؟!
- أنذر زليخة.
انفجرت العمة زليخة باكية، وهي تلطم، وتولول، وفجأة، كفت عن ضرب وجهها وكفكفت دمعها:
- آه، كيف أضاعت زليخة أسماء! أهو موسى من يحرضك عليّ؟ أتسمعين له بعد كل ما فعله فيك على رؤوس الأشهاد؟ أََصرت له عاشقة؟ لو كنت مكانك لذهبت وجلست بدون قيد أو شرط، وضمنت ألا يذبحوا الأطفال كالأغنام وأنت تنظرين وترين ولا تفعلين شيئا! أن تكوني اعترفتِ لا يعني هذا أن تنتظري منهم اعترافًا كاملا، فهم لن يعترفوا بك إلا كما يخططون لك الاعتراف ما داموا هم الأقوى! قالوا باي باي لبندقيتك، إذن مع السلامة، واتركي الباقي لنا نحن الذين بقينا، فهو أمرنا معهم، نحن الذين صرنا نعرفهم، وهم الذين صاروا يعرفوننا، منذ اثنتي وعشرين سنة ونحن متفاهمون لبن على عسل ليأتي بعض الأولاد الطائشين الذين يريدون أن يفعلوا بكمشة حجارة ما عجز ربهم عن فعله! ربهم ما استطاع مع الذين لهم رأس أقوى من كل الحجارة وكل الدنيا شيئا! فكرتهم في الحل هي التي ستمشي، في حل مسألتهم ومسألتنا، خذي هذا الرأي من إنسانة تعرفهم، وقولي أمي قالت. اليوم زمن اللاجدوى، لا شيء يجدي نفعا، إنه الزمن الرديء الذي هم أسياده! فكم نحن صغار أمام الكبار، وكم نحن ضعاف أمام الأقوياء! لهذا احفظوا عليكم ضحاياكم، وصونوا لشبابكم دمًا تهدرونه في الأرض باطلا، فما ذنبكم إذا كنتم تعجزون اليوم عن حل يرضيكم؟ اتركوا الحل للأجيال القادمة، فلربما كانت أذكى منكم وأقوى وأغنى، أما إذا عاندتم طويلا، فلن يكون إلا الترانسفير حلا، فتمعنون في تشريد بقية شعبنا، وتمزيقه، وتعذيبه. آهٍ لهذه الأرض التي هي جنة والتي هي جحيمان!
نبرت أسماء:
- اسمعي، يا زليخة، الأرض التي بعتها تحترق كجهنم الآنَ، وهناك من سيأتيك ليأخذ منك الثمن.
- حريق! ثمن! أي حريق؟ وأي ثمن؟ عمّ تتكلمين؟ ماذا تقصدين؟
- ثمن الأرض التي بعتها بالذهب ثمنا.
- ذهب! أي ذهب؟
- ما قبضته من ذهب مقابل الأرض التي بعتها ليقيموا عليها مستوطنة.
دقتها في قلبها:
- أيتها الفتاة العديمة الشرف! لو لم أبعها لصادروها بالقوة. اخرجي من هنا، يا غبية! لقد بعتِ نفسك للشيطان، فاذهبي لترتمي في أحضانه، ولتبتعدي عني أنت وشيطانك ونسلك الدميم، وإلا كانت نهايتك على يدي! هكذا أريح الدنيا بأسرها من شرك، وأقلع غرورك كشجرة من الجذور! صحيح، المال والمال زينة الحياة الدنيا والبنون شجن وهموم!
أخذ الولد الرديء يد أسماء لما خرجت تبكي من عند أمها، وقال لها لا تبكي، فأنت كل أهلي في هذه الحياة الدنيا، لا أعترف إلا بك أُمًا. مسح لها دمعها، ثم التحق معها بجنازةِ بنتٍ في السابعة من عمرها قُتلت بالرصاص الحي الذي يميت. قال لها لا أحد سيبكي اليوم، موتانا اليوم يبتسمون ونحن نبتسم وإياهم. حمّلها باقاتِ وردٍ أحمرَ، وحمل باقاتِ وردٍ أخضرَ وأسود، وجعل معها من النعش حديقة. ضايق جنود الاحتلال ألا يبكي أحدٌ في الجنازة، حتى ولا أم القتيلة الصغيرة، فأتوا جماعاتٍ من مترو شارون إلى مقبرةِ نابُلُسَ حيث العصافير تغرد والتوت الطعام المفضل للحبالى، وأطلقوا الرصاص ليقتلوا سبعةً على قبورهِمِ المفتوحةِ لمراكبِ الملح. توقف الناس عن الابتسام، وأخذوا يبكون.

الفصل الثالث والثلاثون

يا لهم من مرضى هؤلاء الملائكة المنتصرون! مرضى بقوتهم! ويظنون أن قوتهم قوة، وأن الله معهم، وأنهم لهذا هم المحظوظون! لا يعرفون أن في قوتهم ضعفهم، وأن الله سيخونهم لما يميل الميزان بكفة الثدي والثمر، وبالاتحاد العادل. نعم، يا لهم من مرضى بقوتهم هؤلاء الملائكة البواريد! الحب لهم بحيرة دم، وحجر الحرية جريمة. تنظر جولييت إلى خيالات السجانين العملاقة عبر القضبان. ولكن ما هي إلا خيالات! الضوء المعتم يغلف حركة أصحابها بهالة من عدم الحقيقة. وترصد جولييت أقل حركة من حركاتهم. يأتون بشبانٍ سمر، ويعودون بشبانٍ أكثرَ سمارا، ولا يوفقون إلى إخفاء آثار التعذيب عن البشرة المدبوغة بلفح الشمس. يغدو الحجر حرية. الجرح والحب.
صاحت جولييت مناديةً موسى: تعال إليّ بلعنةٍ ووصية! إلا أنهم جاءوا جماعاتٍ لإسكاتها، ولإسكاتها ضربوها بأعقاب البنادق إلى أن جعلهم الدم يهتزون حتى أعماق قلوبهم. قالوا لجولييت لغيرك منا معاملة أخرى، ولكنك أنت قاتلةُ يوسُفَ، وأنت قاتلةُ يوسُفَ وحبيبةُ موسى.
آه، كيفَ يصبحُ الحبُّ جريمةً للمحبين! آه، كيفَ تصبحُ الجريمةُ حبًا للمجرمين!
مضت الظلال العملاقة، مرةً أخرى، أمامها، وهي تدفع أحد المنتفضين. كان في قدم الشاب ألم يعيقه عن التقدم بسرعة أقدامهم، فضربوه ليواكبهم، وجولييت يصلها كلامهم بوقاحةِ مَنْ تكلمَ واحتقر، بينا تحتضر جولييت بحماقةِ مَنِ احتضَرَ واستسلم:
- هو لا يعدو كالظبي.
- هو لا يعدو.
- لو كان يهوديَّ الأصلِ لاستطاع أن يعدو كالظبي.
- لو كان يهوديَّ الأصل.
- في الموت كنا نعدو كالظباء.
- كنا نعدو.
- وكان الموت يهرب منا.
- كان يهرب.
تفجر دم جولييت، والموت يتقدم منها. جاء الولد الرديء، ومد لها كأس ماء، ومسح لها دمها. لم يقل لها كيف دخل زنزانتها، فهو ولد شقيّ، يخرج من بطون النساء اللاتي يقتلهن جنديُّ يكره النساء ويحب أثداءهن. ذاك الولد الرديء الذي أرضعته بُرْقَةُ من حليب ثديها حتى آخر قطرة، وجعلت منه ولدًا كبيرا. كل أيادي الوعد والوعيد التي حطمها الجنود المدججون خوفًا منها، تحولت أصابعها إلى حياتٍ تضربُ المِقلاع لتصطاد صقورًا أو لتدمي توتا. وحدثها قائلاً إن موسى لما كان في سجنٍ عربيّ، فجروا دمه، وجعلوا الموت يتقدم منه، ولكنه خرج من السجن أكثر عزمًا ومضاء. أما عنا، تابع الولد الرديء، نحن الملعونون في السجون، العرب واليهود، فمساواة التعذيب تجري علينا كما يجري الماءُ على الشفاه الظمأى، أحمرُ لنا جميعا. لاحظت جولييت أن الولد الرديء يُجري التركيز على كلمة "ملعونون"، فأيها منهم جولييت؟ جولييت الهوى والهواء؟ جولييت السور والإسار؟ جولييت الثدي والإطار؟ إلا أنها فهمت ما يريد قوله من معاملة السجانين للمجرمين اليهود خير معاملة. وعلى العكس، يهوديٌّ أم غيرُ يهوديّ، لما يكون الملعون هو المقصود، للكل الحق في أسوأ معاملة. الشيء ذاته مع السجانين العرب لما اعتبروا موسى، اليهوديَّ موسى، ولم يستطع الركض كما يريدون الركضَ:
- هو لا يعدو كالحمار.
- هو لا يعدو.
- لو كان عربيَّ الأصلِ لاستطاع أن يعدو كالحمار.
- لو كان عربيَّ الأصل.
- في الموت كنا نعدو كالحمير.
- كنا نعدو.
- وكان الموت يهرب منا.
- كان يهرب.
انفجر يسرئيل، السجين الحبيس مع جولييت في الزنزانة، يجهش بالبكاء لمضاء أدوات تعذيبهم التي دقوها في جسده وفي روحه. سألته جولييت عن ذنبه. لا شيء غير الخيانة في أعين "الشاباك". زرع له أطباء مِصريون كلية فلسطينية، وأنقذوه من موت أكيد. جلس الولد الرديء إلى جانبه، وأخذ يبكي معه. قال له ما أنت إلا ضحية من ضحايا، وما عذابك إلا عذاب من عذابات، فقد أغلظ موسى قلوبهم كي يصنع آياته هذه بينهم. ثم قال لجولييت مدي يدك من بين القضبان لأجل الجراد، ليصعد على أرض اللبن والعسل، ويأكل من عشب الأرض كل ما تركه البَرَدُ. فمدت جولييت يدها على أرض اللبن والعسل، فجلب الرب على الأرض ريحًا شرقيةً كلَّ ذاك النهار وكلَّ الليل. ولما كان الصباح، حملت الريح الغربية الجراد، فصعد الجراد على كل أرض اللبن والعسل في جميع تخوم فلسطين. شيء ثقيل جدًا لم يكن قبله جرادٌ هكذا مثله، ولا يكون بعده كذلك. وغطى وجه الأرض حتى أظلمت الأرض، وأكل جميع عشب الأرض، وجميع ثمر الشجر الذي تركه البَرَدُ، حتى لم يبق شيءٌ أخضرُ في الشجر، ولا في عشب الحقل، في كل أرض اللبن والعسل.
قال السجانون لموسى حبيب جولييت ولجولييت حبيبة موسى إنّا أخطأنا، والآن اصفحا عن خطيئتنا هذه المرة فقط، وصليا إلى الرب إلهكما ليرفع عنا هذا الموت فقط. فخرج موسى من لدنهم، وصلى إلى الرب، فرد الرب ريحًا شرقيةً شديدةً جدًا، فحملت الجراد، وطرحته إلى بحر سوف. لم تبق جرادة واحدة في كل تخوم فلسطين، ولكن شدد الرب قلوب السجانين، فلم يطلقوا سراح جولييت، ولم يطلقوا سراح يسرئيل، ولم يطلقوا سراح خلان الولد الرديء وباقي المساجين الذين هم بالآلاف من أهل موسى وصحبه. ولم يقف الأمر عند حد التعذيب بأبدانهم بل تعداه إلى أفواههم لسوءِ تغذيةٍ تميت البغال والحمير من الوحوش الواطين والليوث والنمور من الوحوش العالين، وذلك بتنقيص الحريرات التي تشد حيل الدم مقابل تزييد عدد النزلاء الذين يصيرون لا حيل لهم، وارتفاع أسعار الأغذية أضعاف ما كانت عليه، للتضخم اللاحق ببطون صراصير السجون المكتظة، فأُلغي الشيكم، وأُلغيت وجبة من وجبتي الدجاج اللتين في الأسبوع، وأُنقصت هذه الوجبة الملوكية من 85 غرامًا إلى 45 غرامًا، وأُنقصت القهوة الأميرية من 24 كيلوغرامًا إلى 12 كيلوغرامًا في الشهر توزع على 860 سجينا، وأُنقص الطحين ومسحوق الكعك ومسحوق الفلفل الأحمر والأخضر والأسود بألوانه التخريبية التي سنحكي عنها فيما بعد، ونفك سرًا من أسرارها. وكذلك الملح الذي جولييت إلهته أُنقص إلى النصف، فالملح سلاح السجانين الأمضى من شتى أنواع الأسلحة الأخرى عند إضراب المساجين عن الطعام، لأن مثقال ذرة منه تساعد أقل على الرضوخ وأكثر على أكسدة حديد الشبابيك وإذابته بغية الهرب والانعتاق. وبالرغم من عدم اكتظاظ سرايا الفنادق الرسمية بالضيوف والضيفات، هذه الضيفات اللاتي إن أقبلن عذراوات وإن أدبرن حمارات، فقد جعلوهم عشرات في الزنازين والزنزانات ثلاثًا وعشرين ساعة، الساعة تلو الساعة، وأجروا عليهم طبًا أبيضَ يفتك بهم بعد أن اجتاح الطب الأسود والتعليم الأسود ومطر هيروشيما البلاد في الدشرات والحارات. اقترب الولد الرديء من ركامِ مسجدٍ مهدمٍ على مهرٍ أسودَ لينظف قسم "المعبار" في سجن الرملة، ففتحوا له قسم العقاب "روني نيتسان"، فخاف، وخافت أُم المهر التي كانت معه عليه، وعاد من حيث جاء إلى سجن نابلس المخيف، ولكن المخيف أقل من سجن أخت اللد، هناك حيث تجثم جولييت القاتلة ويسرئيل الخائن وعشرات من خلانه الرديئين، الصارخين من خلف أبواب الصاج السميك لما يُضْرَبون، فلا يُسمع لهم صوتُ استغاثة، ولا أنينُ ابنِ ثعلبة، لأنهم يُشَغِّلونَ "الكُمبريسا". وزيارة الأهل للأهل في السجن ليست كزيارات المحظوظات والمحظوظين من أحفاد القيصر لسرايا شهريار مراتٍ في اليوم، فهي مرةٌ واحدةٌ كلَّ شهر، تمشي على الكل من صراصير ونمل ما عدا على الولد البرقاوي، ذاك الولد المشاغب الذي يساوي ألفًا من النواب الإسرائيليين المنحطين، ومائة ألف من "العرب الجيدين"، وذلك كي يأتي خلانه بأخبار الراديو الممنوع والتلفزيون الممنوع والصحف المَتْيولا وأوعية البول الممنوعة وأوعية الدم المشفوعة، وفي بعض الأحيان يُهَرِّب لهم بعض الشراشف النظيفة، وبعض الكتب اللانظيفة، ويُهَوِّي لهم الممرات لما تصل رائحة العفن فيها إلى رئة الأرض، ويكاد العالم يختنق. ولا ينسى أن يجلب بعض لفائف المعكرونة التخريبية الحاملة للألوان الحمراء والخضراء والسوداء، ألوان العلم الفلسطيني، وهذا ما نكشف الآنَ عن سره، المصنوعة في الضفة تمام الصنع كأي بلد متطور، الأحسن صنعًا والأرخص سعرًا من شتى أنواع المعكرونات الأخرى! ولأنها أرخص سعرًا وأحسن صنعًا راحت تهدد زميلاتها الإسرائيليات والاقتصاد الإسرائيلي برمته، فأي اقتصاد هو هذا الذي تهدده معكرونة؟ وهم لهذا ألقوا القبض على الولد المخرب بعد أن اعتدوا بعصيهم السحرية على ألف شيخ من شيوخ العرب السيئين الذين أعادت لهم هذه العصيّ الشباب، كشباب الولد البرقاوي. فرموه في السجن، في زنزانة جولييت، في المكان الذي تمحي فيه الفوارق بين النساء والرجال، ويغدون كلهم أجسادًا لظلال وظلالاً لجذوع. وقال الولد البرقاوي لجولييت إنه تركهم يلقون القبض عليه عمدا، فعرفت أنه لم يترك مكانه من ورائه شاغرا. ولما نظر الولد الرديء إلى جولييت بحزنها الهائل وجمالها الذابل، سألها خوفًا عليها:
- أتخافين من الأشياء، جولييت؟
أجابت بدونِ خوفٍ من شيء:
- أنظر إلى الأشياء، فتتشيأ الأشياء.
أخذها من يدها رأفةً برَبّةٍ على مثلِ هذا الحزن وحدبًا على قمرٍ بمثل ذاك الجمال. ترنم بالقرآن، فأعلمته أنهم انتزعوا ليسرئيل كليته الفلسطينية، وأودوا به إلى الهلاك، فقال لها مدي يدك نحو السماء ليكونَ ظلامٌ دامسٌ على كل أرض اللبن والعسل ثلاثة أيام. مدت يدها نحو السماء، فكانَ ظلامٌ دامسٌ على كل أرض اللبن والعسل ثلاثة أيام لم يبصر أحدٌ أخاه. أما عن موسى وأهله، عن روبيكا وأهلها، عن الولد البرقاوي وأهله، فكان لهم كلهم نورٌ في مساكنهم.
















الفصل الرابع والثلاثون

قتلوا الولد البرقاوي، فأجرت بُرْقَةُ عليه الحداد أربعين يوما، وصار حمام البلاد أسود. قتلوا الولد الرديء. الولد المخرب. الولد الشقيّ. التقيّ المتذمر. قتلوا صاحب كل أمر حسن. وكل الرداءة التي فينا. إلا أن الرديءَ الذي كانه الولد البريء، راح ينبت كرزًا في جناتنا، فجناتُ بُرْقَة لم تزل تعطي الثمرَ أسودَ وأخضرَ وأحمرَ. سقت جولييت الشجر من دمعها، ولما جاؤوا بغيره إلى زنزانتها، قالوا لغيره هي صِنوه، وهي غيره، هي حبيبة موسى وقاتلة يوسُفَ، وهو سجين مثلها، ولكنه لن يكون أبدًا مثلها: هي ذلنا وأنت ذلها. هي دمنا وأنت دمها. هي بيتنا وأنت بيتها... المتهدم. هي غريزةُ التناسل، وأنت آدمُ المطرودُ من جنتنا. اعتبرته جولييت أخًا للولد الرديء أو صديقًا أو واحدًا من أهالي بيت ساحور المحاصرة منذ أربعين يوما، مدةَ حفظِ النَّفْساءِ لنوعها، أو من عقبة الخالدية أو من باب السلسلة، من أولئك الذين لا يستطيعون العدو كظباء الجبل لألمٍ في أقدامهم. فاعتذر لأنه من شفا عمرو، اسمه وحيد العمري، حاول الانتحار لسبب شخصي بعد أن باءت كل محاولاتهم معه بالفشل، في الطريق، وفي الحريق، وفي العمل. قالت جولييت هم إذن رجال الشاباك أو نغالهم، وشددت العزم لديه، هي التي كانت في حاجة إلى من يشدد العزم لديها.
همهمت جولييت:
- سنموت في أي وقت.
أجابها وحيد العمري:
- سنموت في أي وقت ولكن كيف سنموت؟
سكت قليلاً، ثم أضاف، وهو يراها على حافة الموت:
- بعد محاولة انتحاري، سعيت إلى الخلاص بواجب أن استأهل الموت، أن أحيا.
فكيف يحيا؟ لا من جوه هم يسعفون ولا من بره هم ينجدون ولا أحد يقلق لأجله مثقال ذرة! كيف يحيا، وحيد العمري النبيل؟ كيف تحيا، جولييت النبيلة؟ كيف تسعى إلى الخلاص بواجب أن تستأهل الموت وموسى عنها بعيد؟ أيأتيها موسى قبل الموت أم بعده؟ أيأتيها قبل الموت فتكون له حَظِيَّة؟ أيغير من الصغير الذي مات، فيأتيها؟ أين يعقوب الموبخ؟ أين الاستخارة بالحُلم؟ يا حجر وجود الله! جاء السجانون، وذهبوا بوحيد العمري ليذهبوا بعمره. سيقولونَ: غيرهم منهم هم الذين قتلوه، فتقتتل القبائل فيما بينها وتنتحر بالتناحر، فهي كذبة على كذبة، كذبة بين كذبات لن تكون أوسخها. قامت جولييت في عذابها، وأرادت منعهم مما أرادوا له، فأرادوا لها هي الأخرى شرا. ضربوها على صدغها، وعلى صدرها، وعلى بطنها: صدغٌ تفاحيّ، وصدر عصفوريّ، وبطن أملس خالوه دِنَّ رملٍ أخذوا ينفخون فيه المعجزات، أولئك البرابرة. وجولييت تنادي عليه، فلا يسمع، وتنطق همسًا حروف اسمه، فلا يروع. تغدو جولييت شرارة دم في علمِ يوسُفَ الحاملِ الشعلة، وتغدو جولييت فراشة دم في كتابِ يوسُفَ الكاسرِ العفة. عفة من يظنون في أنفسهم التدنيسَ تقديسا. أتتركهم من بعدها، جولييت؟ ما الذي ربحته من كل هذا الحب؟ ما الذي ربحته من كل هذا الثكل؟ وهو، لماذا يأتي متأخرا؟ أيكونُ لهُ هجرٌ وعنهُ نكوص؟ أيأخذ العتاة منه القدرة؟ القدر؟ هو، نبي زمانه، أيكون بالمقابل اغتياله؟ أيكون اغتيال الزعيم الكبير بعد دخول؟ غادر الولد الرديء قبره – لا لمعجزة وإنما لشقاوته الأبدية – ودخل كعادته زنزانة جولييت. كانت بحيرةً للزنابق الميتة، فأجرى في جسدها ريحا، وفي دمها موجا، غير أنها لم تقوَ على النهوض، فحضّها على ألا تموت، كيلا يقولوا ماتت جولييت! جولييت ماتت! كيلا تجتاح الأردية المقدسة القدس الشرقية، وكيلا يقتلوا الولد الرديء الحبيب للمرة الثانية. هكذا يفضي موسى إلى حبه المستحيل. تصيب الرصاصة الحب حبًا بها. تقول الرصاصة. تلفظ كلمتها الحق لو قتلوا الولد الرديء للمرة الثانية، لو تكاثرت الأردية المقدسة، لو صمت بلبل الشعير. عندئذ سيغدو رشق الحجارة كآخر فرصة بلا موضوع، وسيتنازل الراشقون عن كل شيء بسبب جولييت، وموت جولييت المفاجئ، سيضيعون أنفسهم، ولن يبقى إلى جانب موسى أحدٌ سواها، حتى ولو ميتة: هي التي هي الجنة وهي الجحيم! أتكون له وهما؟ وهَمّا؟ كل واحد منهم جعلها ملكًا خاصا! أتطيب نفسه ونفوسهم مترفة أو غبية؟ يُسقطون الصداقة ويُعلون المصلحة؟ يُعدمون الكونية والأخلاقية والإنسانية إلى آخره... إلى آخره... ويوجدون الإقليمية والتعصبية والتحزبية أيضًا إلى آخره... إلى آخره...؟ يشجعون المزاجية، الحقد، الحقارة، يدعمون الأحكام المنزلات، الأحكام التهويمية، الأحكام التهويسية، تلك التي تتبصر في الخيانة تبصر خيالات كنعان، وتحكم على الإخلاص حكم ارتفاع أو انخفاض سعر أسهم الثرثرة، والساعة القائمة هو صاحبنا، صحبة الانتفاع وبغية الاتهام المُرجأ، والساعة القادمة هو طاحبنا، طحبة التلويث وبغية البراء المطلق، وذلك تأثرًا بمواقف الغير من مواقف الغير، وبقوانين اللاأساس من الصحة واللاحرية في الحركة إلا من داخل طوقهم العبوديّ؟ فصاح موسى في البرية صيحة الشقر التي لن تضيع عبثًا هذه المرة: لا السلام عليك، أيتها النفوس الدنيئة! وليس سبحانك، أيتها النفوس المنحطة! لا وليس لك الجلال، أيتها النفوس العرصة! وليسقط ما تصنعونه على أولادكم لأنكم لم تقلقوا بأولادي، ولا بحجر أولادي، أنا الخائن الوفيّ؟ أنا وحيد أمري! العبد لأمرها معي! فاقووا ما استطعتم، أيها الجبناء! ابطشوا، واسرقوا، واشهدوا على أقربائكم شهادة زور، واشتهوا بيوت أقاربكم، اشتهوا نساء أقاربكم وعبيدهم وإماءهم وثيرانهم وحميرهم وكل شيء لأقاربكم، لن يحميكم حجاب ولا دعاء ولا طائر جنة! أما أنتِ، أيتها النفوس الطوباوية، فلك الدعاء لأجلك، يا مسكينة، وعليك الشفقة، وكوني نفوسًا ليست مطمئنة! أأقول شفقة؟ أأقول رحمة؟ لن أقول شفقة، ولن أقول رحمة، ولتتزلزل تحت أقدامكم الأرض التي يحملها ثورٌ على قرن، وآن له من التعب أن ينقلها من قرنه هذا إلى قرنه ذاك، لتنشق الأرض، ولتقعوا في أعمق هاوية!
يئس موسى يأس فراولة الصحراء لما تمطر الصحراء بَغْتَةً، وتجعل من الطرقات طرقات وحل، فمن أين يبدأها بدايته الأخرى في محاولات الاختناق؟ سيدوم ما دامت الوحول، ولن يخنقه أحد بسهولة. سيعود إلى جوليت من قرطاجة بعد أن ينقذ قرطاجة من أهلها، ويأتي منها بأهلٍ له جددٍ جميلي العقول مديدي القامات "رديئي" الخطى، فلم تبق بعدُ جهود أو بعضُ جهود. راح موسى وأهله ممن اتبع خطاه يحاصرون سجن نابلس، قلعة جبارة سجن نابلس، وهم ببنادقهم كسهامٍ موجعة مدمية مرهقة لراحة العالم والأعصاب، ليريحوا أعصابها، جولييت، ويحرروا الولد البرقاوي، ويعيدوا الحق لوحيد العمري، ويطلقوا سراح الجبل والبحر، فها هو موسى يأتيك، جولييت. ها هو يصل الحب بالحب الممكن. تصل الرصاصة شوقًا إليها. وراحوا يحاصرون حجارة الجليد. وبنادقهم تشخ. كانت طريقتهم في المقاومة. أن يشخوا الشجاعة، فالشخُّ عادةٌ للذئاب الجسورة. وللعاشقين. عندما يأخذون طريقًا إلى المواخير. والوطن العرص يستحم في الألم والندم. والوطن العاهر يطارد فراشات النار. يطرد حمامات التهزيم. تسري الريحُ لغةً للقوددة في بحورِ نمل وصراصير ضُربت عليها الذِّلة والمسكنة وسعادة الاستمناء وحلاوة البطيخ. هناك في زنزانة السجن، سيأخذ موسى جولييت بين ذراعيه، وسيشعر بالحرية بعيدًا عن كل المنتعظين الحاكمين أو الذين لا شأن لهم المخصيين المتحكمين بشؤون غيرهم المتحكِّم بشؤونهم أسيادٌ لهم شؤون المكملين لمسيرة السابقين البائعين للأكساس والأطياز والكبابيد المتساقطين على أقدامٍ تضربهم ضرب الأزباب للأزباب، أزبابٌ تتلوها أزبابٌ إلى ما لا نهاية، فلا تنتهي السياسة، وإلا كانت نهاية السياسيين. سيأخذ جولييت بين ذراعيه كرمةً لينضج عنبٌ في الشارع الذي سيكون له مثلما ستكون له جولييت وبُرْقَة، ويصير الحب لحظة الارتماء في أحضان الحقيقة. لأنه سيترك كل الكذب لهم. كل المني. سيتركهم في الكذب عندهم. في مواخيرهم. هذا شأنهم. فليتركوه إذن يحب الشمس على هواه. هو آدم ابن آدم الذي لن يعملوا فيه هيك! وجولييت الثدي، الحلمة! الفرج، المحراب! انتخبوا، لا تنتخبوا! ليس هكذا يفهم حبه لجولييت. هكذا تفهمه الرصاصة. تُفهمه للحجر الرصاصة. ذاك الوطن العرص. وهذا الوطن العاهر في العرصنة. في الداخل صراخ وفرح، وفي الخارج صراخ وموت. الفرح والموت متحدان في الصراخ. هجم موسى وبعض رفاقه لاقتحام الزنزانات، وأخذ يبحث عنها في الظلام المتحد بالقامات الناهضة بفواجعها القادمة إلى أن وجدها، جولييت. فرسًا مخضبة بالدم. ترك سلاحه إليها، ورفعها بين ذراعيه، وراح يبكي عليها بعد أن ظنها ميتة، وهي تتساقط مثل سوحرة. أتموت جولييت حينَ وصولِهِ إليها؟ أتموت في اللحظة التي قرر فيها اقترانه بها؟ في اللحظة التي سيأخذها فيها ليربيا ابنة أسماء وابن روبيكا؟ كان يريد أن يذهب بها إلى بيته. كان يريد أن يقول لها أحبك. كان يريد أن يسبل الماء وإياها. كان يريد أن يسقيها. كان يريد أن تشاركه طعامه. أن يأكل من الفطر الياباني معها. كان يريد. كان يريد. دفن وجهه في صدرها، وتنسمها كلها ملء رئتيه، مُحَرِّضَهَا على العودةِ إليه:
- عودي إليّ، يا جولييت! آه، يا جولييت! آهٍ منك! آهٍ منهم! آهٍ من النحلة!
وقال الرب لموسى اصعد الجبل إليّ، وكن هناك، فأعطيك لِوَحْيِ الحجارة والشريعة والوصية التي كتبتُها لتعليمهم، فرفع موسى رأسه، وراح يحدق في جمالها الذابل للمرة الأخيرة، وابتعد في رحلة الجمال وأوغل، كان يريدها أن تعود إليه، فاخترقته سلسلة من الطلقات، وخر صريعا.























الفصل الخامس والثلاثون

نهضت جولييت على انهيار العالم في اللحظة التي مات فيها. موسى الحبيب يموت حينَ عودةِ جولييت إليه! كيف من الممكنِ أن يكونَ اللقاءُ وداعا؟ ووداعًا أبديا؟ آهت جولييت: آهٍ، موسى! حبنا لعنة الأجداد، ولكنك، أنت، لم تشأ أن يكون حبنا لعنة أبنائنا! أن يكون سر الطبيعة، وأن تكون سر القلوب. أن تكون مثل أولئك الذين رموا عن كاهلهم عبئًا ثقيلا! الذين جرّوا النار إلى قُرصهم قدرًا ذليلا. اللعنة عليهم جميعًا هؤلاء الذين انتحلوا الأعذار لحبك! أين هم مما أخذوهُ من تافهٍ في عالمٍ خليِّ البال؟ في نظامٍ لن يعود إلى نصابه؟ في أرضٍ طار غرابها؟ فليمنعوا عني حبك الآن!
لن يستطيعوا، جولييت، وأنت بين ذراعيه دم، وهو بين ذراعيك دم. فلتتحد روحك وروحه، ولتذهبا معًا إلى عودة العمر! أتكونُ عودةٌ لِسِيَرِ الفاسقين؟ والأفانين، أتخترق العصور مثل سهامٍ محطمة؟ أتبقى لدمهما نكهة الفاكهة ورائحة السمك الطازج؟ أيأتيهما شاعر مجهول من عندنا ليكتب عنهما أحزن حكاية وأبهج أغنية؟ أغنية تمارس علينا فعل الرُّقْيَة، وحكاية للدمع المتدفق من نبعةٍ كريمة، إكرامًا لذكراهما، من غير قدر الهوى المتسلط؟ أم أنه قدر هواهما المضّيِع، موسى وجولييت؟ ولكن أين هو ذاك القوي ياكوف؟ أين ثَوْرُهُ؟ وأين بحرُهُ؟ ها هما يتركانه من ورائه جرذًا شقيا، ويبقيان له من بعدهما كربًا وإحساسًا ما ورائيًا وحصرًا نفسيا. فما استطاعت بعض لحظاتهما الهنيئة أن تحميه من حزنهما الطويل ويأس الشجر. تلك التي تحترق جذوعها حطبًا لفينوس. سَيُدْبِرُ عنه الدهر، وستنتهي كل الأنظمة. ستبقى للآخرين أنظمة الشعر من بعدهما. والمتعة. والتجسد ظاهرة. سيخلصان مثل عاشقٍ وعاشقةٍ قَبْلَهُما من علم الأخلاق، ومن كل مسؤولية. سينجوان من كل الأعراف، ومن كتائب الموت كلها، ولن يبقى أحدٌ عليهما وصيًا أو لهما وكيلا. وستبقى الأمة لهما أُمًا وضميرا. سيستسلمان جسدًا وروحًا لعاطفةٍ تسلم الواحد للآخر في جناتِ عدنٍ تشتعل فيها النيران، وإلا كيف سيفلتان، يا ترى، من كل هذا الكذب؟ كيف سيفلتان من كل هذا الدجل؟ كيف سيغادران الندم واللهب إلى الحُلمِ والموسيقى؟ كيف سينفدانِ مثلَ حجرٍ يبرز من جدار الزمن الرابطنا؟ وإلا كيف سننفد، يا ترى، بجلدنا، ونقيم حلفًا مع الكائنات ذات السر الخفيّ، فنحظى بالضوء والظل؟ موسى كنتَ منها مُنبثقا، وهي من ضلعك كانت بلدًا متراميَ الأطراف، فاتركا للآخرين الخطرين من بعدكما جَوْرًا وجنوحَ سفينة! فما كان موسى إلا ملكًا للبحر، وما كانت جولييت للبحر إلا أجاجا، وما كانوا لموسى وجولييت إلا قتلةً وشهودًا على صراعٍ عاجلٍ من الوَجْدِ والنشوة جزعًا ويأسًا وغِلاً ووجعًا وإعصارا. لقد كانت الفاجعة. فاجعة القلب الممزق للعاشِقِين. للعاشِقِين الذين كان لهم الموت المرسوم. الموت المرسوم بريشتهم هُمُ الهالكون. نحن الهالكين الموقعين أدناه نشهد أننا دبرنا وأجرمنا. ذُدنا عن حياضنا سمكًا وفحما. فرقنا وسدنا. وما كان باستطاعة موسى، وما كان باستطاعة جولييت، أن يعيش الواحد دون الآخر، وأن يعيش الواحد مع الآخر. كانا روميو وجولييت، وكانا المجنون وليلى القادمين من قديم الزمان، ولم يكن لهما حل إلا بالموت، بالسلام، وبالنسيان.
طبعت جولييت شفتيها على شفتيه، ومسحت له شعره وجبينه. كانت طريقتها في التضرع إليه. هو ربها الآن وهي ربته. هو طفلها الآن وهي طفلته. هو قلبها الآن وهي قلبه. التواصل والتنامي. والبحر هناك امتداد وموج. هو غرامها الآن وهي غرامه الآن وغدا. وعادت الموجة إلى الموجة ليصبح البحر غضبًا وسيادة. آهت جولييت: آهٍ، يا حبي! ودمهما يذهب هَدَرا، ودمهما يروي ظَمَئا. دفنت وجهها في صدره، وتنسمته كله ملء رئتيها، مُحَرِّضَتَهُ على العودةِ إليها، فاخترقتها سلسلة من الطلقات، وخرت صريعة.







أنجزت كتابة هذا النص يوم الثلاثاء الموافق 7 تشرين الثاني/نوفمبر 1989 في المحروسة والمحسودة باريس.

تم إعداده للطبعة الثانية يوم الثلاثاء الموافق 2 تشرين الثاني/نوفمبر 1993 في الحارسة والحاسدة عمان.

تم تنقيحه الأخير يوم السبت الموافق 27 سبتمبر/أيلول 2014 في المحروسة والمحسودة باريس.












ونحن نتبع خطى موسى، ندخل في هذه الرواية دخول الفُضوليِّ في ألبوم صور يدعونا المؤلف إلى تصفحه، ولكن، ابتداء من الصفحات الأولى، تتعدد الدروب المقترحة من أجل معاونتنا في وضع أسماء على الوجوه، على الأزمنة، وعلى الأمكنة، وتقودنا إلى متاهة من متاهات الجحيم. أين نحن: على عتبة بيت مهجور في أعماق حديقة اجتاحها العشب المجنون؟ في علامة التسديد لبندقية أو تحت حجارة الانتفاضة؟ ومن هم هؤلاء: داوود وجالوت؟ عيسى ويهوذا؟ روميو وجولييت؟ الناجون من أوشفتز؟ الله؟ هل هذا مسرح، رواية، الواقع؟

يجب عليك الركض حتى الكلمة الأخيرة، وأنت تلهث منبهرًا مجروحًا، لتحل المربك في حقيقة يعيدها أفنان القاسم إلى ذاكرتنا دون أن يوفر علينا سوادها، ولكنه يلوح بها كذلك كدعوة إلى الأمل. ستكون للفاجعة نهايتها في يوم ما، مهما كان ما يُوفق الناس إلى فعله القليل، لينتصر الحب بالدم ثمنًا وبالعذاب.

أن يُجمع في نص واحد بين ملاحم المسطورات المقدسة وأسطورة روميو وجولييت وتراجيديا الشعبين اليهودي والفلسطيني لهو رهان جريء من طرف المؤلف، أن يُجمع في وقت واحد بين الشعر والمسرح والرواية والتحقيق الصحفي والنقد السياسي لهو رهان أكثر جرأة. يبقى للقارئ القبول بترك نفسه نهبًا لإعصار الأسئلة المعذِّبة، وكذلك بكل بساطة، لِلَذة القراءة.








* أفنان القاسم من مواليد يافا 1944 عائلته من برقة قضاء نابلس له أكثر من ستين عملاً بين رواية ومجموعة قصصية ومسرحية ومجموعة شعرية ودراسة أدبية أو سياسية تم نشر معظمها في عواصم العالم العربي وتُرجم منها اثنان وثلاثون كتابًا إلى الفرنسية والإنجليزية والإسبانية والروسية والعبرية، دكتور دولة ودكتور حلقة ثالثة من جامعة السوربون ودكتور فخري من جامعة برلين، أستاذ متقاعد عمل سابقًا في جامعة السوربون ومعهد العلوم السياسية في باريس والمدرسة المركزية الفرنسية وجامعة مراكش وجامعة الزيتونة في عمان والجامعة الأردنية، تُدرّس بعض أعماله في إفريقيا السوداء وفي الكيبيك وفي إسبانيا وفي فرنسا...