في جاذبية البشاعة


عصام الخفاجي
الحوار المتمدن - العدد: 4584 - 2014 / 9 / 24 - 08:42
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني     


إذا كانت داعش دفعت الممارسة الوحشية إلى مدياتها القصوى فلابد أن تلك القسوة لم تأت من فراغ.
مع كل مجزرة، يعلن الداعشيون أنهم قاموا بواجبهم الشرعي الذي تمليه عليه عقيدتهم. القتل، وياللأسى، ممارسة تحولّت إلى مفردة عادية في عالم السياسة: أحكام بالإعدام في بلدان تمتد من الصين شرقا إلى الولايات المتحدة غربا. لكن التفنّن في عمليات القتل هو ما شدّ أنظار العالم إلى دولة الخلافة. ولقد قيل الكثير عن دوافع الترهيب الكامنة وراء إبراز هذا الجانب الوحشي إعلاميا. من منّا لايشعر بالرهبة والرعب إذ يرى عنق إنسان محزوزا. حاسّة البصر أقوى بكثير من التحليل الذهني. أن ترى هذا المشهد يعني أن تتخيل نفسك في الموقف ذاته، وهو غير أن تسمع أو تقرأ خبر تنفيذ حكم الإعدام بحق شخص لاتراه.
كل هذا صحيح. ولكن، لماذا التفنّن في عمليات القتل التي تجري بعيدا عن الأضواء؟ وكيف يتم إقناع الجهادي بأن تلك الوسائل، وليس تنفيذ حكم الإعدام شنقا أو بالرصاص، هي التي تلّبي المطلوب؟
خطر سؤال ببالي وأنا أقرأ ما توافر من سير ذاتية لقادة داعش. معظمهم احتل مراكز في أجهزة مخابرات صدّام حسين أو قواته الخاصة. هل يعقل أن كل هذه الجمهرة اهتدت إلى الدين ودخلت في التديّن خلال سنوات قليلة؟ وهل يعقل أن لايجد تنظيم جهادي يعلن تمسكه الصارم بتعاليم الإسلام قادة تربّوا على تلك التعاليم منذ الصغر وكانت لهم تجارب مع تنظيمات مماثلة أو حركات إسلامية أخرى؟
ليس ثمة وجه شبه بين الآيديولوجيا البعثية وآيديولوجيا الجهاديين. بل أن نظامي البعث في العراق وسوريا حاربا الأخيرة باسم العلمانية. ويمكن تفهم وليس القبول بتحالف قوى بعثية مع الجهاديين لأسباب قالوا أنها تكتيكية. أما أن يندمج بعثيون قضوا سنوات طويلة في التثقّف بالتعاليم القومية في تلك الحركات، بل وكان بعضهم من كوادرها، فهو أمر يستدعي التأمل لأننا لسنا أمام حالات فردية.
ولكن، هل تنجذب الجمهرة إلى حركة سياسية ما بسبب أفكارها أم لأن الأنماط القيمية التي تتبناها الحركة ومنظومة الممارسات المشتقّة منها تلبّي حاجة لديها؟ هل ثمة مدى أدنى من الوحشية جعل بعض العراقيين والسوريين يجدون أعذارا لداعش في دفعها إلى المدى الأقصى حتى وإن أبدوا امتعاضا منها؟ بعد سقوط نظام البعث في العراق كان كثير من الناس يحاججون بأن أي نظام لابد وأن يستخدم وسائل القمع للحفاظ على "الأمن" ولعلّ صدّام بالغ في قسوته، بل أن شيخ قبيلة كبيرة ألتقيته أوائل التسعينات حين انتقل إلى صفوف المعارضة سألني حين أثرت مأساة قصف الأكراد بالسلاح الكيمياوي: "وماذا ينتظر من يقف بوجه الدولة (لاحظوا/ الدولة لا النظام)؟ أن يقصفوه بالشوكولاته؟".
لم تستخدم داعش السلاح الكيمياوي حتى الآن. سلاحها الترهيبي المفضّل هو قطع الرؤوس. خلال التسعينات حمل فدائيو صدام بقيادة ابنه عدي السيوف لقطع رقاب الزانيات. لايعرف أحد كم كان عدد الضحايا ولا عدد من لاقين هذا المصير لأنهن رفضن الزواج من الواشي أو لم يتنازلن لإبتزازه. وخلال الثمانينات كان العقاب الرسمي للهاربين من جحيم الحرب قطع الآذان. لم يعد الموت وحده كافيا للشعور بالتشفّي بعد أن تعوّد العراقي على مشاهدة صور جماجم إيرانيين سقطوا في معارك الحرب العراقية- الإيرانية.
البشاعة عملية تراكمية تبني على بشاعة قبلها حين لاتعود الأخيرة كافية لإثارة الشعور بتميّز الحركة الجديدة. إنها تبني على تعوّد الناس على ممارسة البشاعة الأدنى حتى لو كرهوها. بشاعة التسعينات والثمانينات بنت على تراكمات سبقت صعود البعث الذي افتتح عهده بدعوتنا إلى الزحف لمشاهدة جثث إحد عشر يهوديا عراقيا اعتبرهم جواسيس لإسرائيل. كانت الجثث معلّقة على أعمدة تحيط بساحة التحرير مقابل نصب الحرّية. التفرّج هو جزء من طقس رمزي. نتفرّج على الجثث لأننا نؤيد العقوبة، وفرجتنا مشاركة في تنفيذ العقوبة. يتحرّر الجلاد من عقدة الذنب ويحرّر طاقات الشر الكامنة فينا.
التعذيب لدى الجهاديين قيمة بحد ذاته لا وسيلة غايتها تنفيذ العقاب. ولأنه قيمة فلا ينبغي أن يعهد به إلى محترف مثلما يحصل في السجون، بل هو طقس لتطهير النفس والبرهنة للذات وللجماعة بأن الجهادي صار جزءا من القضية. تنقل النيويورك تايمز عن شاب تركي كان مدمنا على المخدرات منذ طفولته قبل أن تلتقطه داعش وتحوّله إلى جهادي في سوريا، أنه لم يحصل على رتبة المقاتل الكاملة حتى بعد أن قتل عدوّين بالرصاص وشارك في حفلة إعدام جماعي. فقط حين قام بدفن أحد ضحاياه حيّا استحق هذا "الشرف". مقابل عشرات الفيديوهات التي تبثّها داعش ثمة آلاف الممارسات البشعة لن تتوقف داعش عنها حتّى لو انخفض عدد مشاهدي فيديواتها إلى الصفر. لاشكّ أن القتلة يهدفون إلى إيصال رسالة ترهيبية إلى الآخرين. ففور صعوده لموقع الرئاسة اكتشف صدّام حسين أن تسعة واربعين قياديا كانوا يتآمرون عليه. عقوبة الإعدام في حالة كهذه أمر مفروغ منه. لكن كان على كل عضو في قيادة الحزب أن يطلق رصاصة على المتّهمين.
تضفي المشاركة الجماعية في الوحشية هوية توحّد ممارسيها. وهي تتأدلج كعقاب أو انتقام من عدو أذلّ الجماعة أو تجرّأ على تحدّيها.
تتناسب الوحشية طرديا مع درجة الإذلال الذي تشعر الجماعة بأنها تعرّضت لها على يد العدو المفترض، كما تتناسب مع مشاعر الناس عامة تجاه ذلك العدو. ولهذا التناسب أهمية قصوى فالقاتل هنا يصوّر نفسه ممارسا للفعل نيابة عن الشعب الذي يتوحّد معه. وكثيرا ما نجح هذا التكتيك، لسوء الحظ. من لم يتمنّ الإنتقام من إسرائيل بعد عامين من انتصارها على العرب عام 1967؟ أما أمريكا فلم تكن كثرة من العراقيين والعرب والمسلمين بحاجة لغزوها للعراق لتأجيج كراهيتهم لها. فالجوع والموت الذي خبروه طوال 13 سنة من الحصار سبقت الغزو تكفّلت بذلك. لو اكتفى مقاومو الفلّوجة بإعدام مجموعة مقاولين أمنيين أمريكان وقعوا في كمين لهم بعد أشهر من الغزو لبدا الأمر مفهوما، لكنه لم يكن ليُشبع شهوة الجمهور للتشفّي. تدلّت جثثهم من الجسر. كان أحد المقاتلين يصرخ: لنعمل منهم "باجة"، وهي أكلة مادتها رأس الخروف. ثمة تواطؤ بين الجمهور والقاتل.
ليست الرغبة بالإنتقام الجماعي جزءا من جينات المسلم أو العربي، لكن قسوة الإنتقام وتعريف من يخضع له تتناسب مع درجة التطور الحضاري للشعب. يقول كاتب فرنسي"حين تحرّرت باريس من النازية أجّج العنف والخوف والبؤس المصاحب للإحتلال تعطّشا حادا للأنتقام". لم يكن دافع الإنتقام ما قام به النازيون فقط، بل ترسيخ الشعور بانتصارهم وهم يعرفون أن الدور الرئيس في تحقيقه يعود للحلفاء لا للمقاومة. كانت وظيفة الإنتقام الإيحاء بأن الشعب كله، باستثناء حفنة متواطئين، كان موحّدا مع أن غالبية الفرنسيين لم تقف في وجه حكومة فيشي النازية. في فترة الإحتلال كان ثمة عمليات إعدام من دون محاكمة لأفراد الميليشيات الفاشية و تجار السوق السوداء والمخبرين. وبعد الإنتصار تم إعدام ثمانين مسؤولا في فترة الإحتلال. كان هذا أمرا طبيعيا. أما التلذّذ بالإنتقام الجماعي فتجلّى في سَوق مئات، وربما آلاف، النساء المتعاونات إلى الشوارع وحلاقة شعورهنّ أمام الجمهور. يستحقّ استهداف النساء من قبل الجهاديين، كما من جانب غيرهم مقالا مستقلا. لعلّه يساهم في تذكير غالبية الرجال بمصلحة مشتركة في تكريس إخضاع نصف المجتمع قبل التفرّغ لإخضاع الخصم الديني أو القومي أو الطبقي.
وليست الرغبة في الإنتقام وتقديس القسوة حكرا على الجهاديين. استخرجت نصّا مدفونا في أرشيفي:
"القمع المنفلت.. هو إعادة خلق الإنسان لذاته. إنه الغضب المجنون الذي يستطيع معذّبو الأرض أن يصبحوا رجالا من خلال ممارسته".
ليس كاتب هذا النص واحدا من جزّاري داعش أو منظّريها. هو الفيلسوف الإنساني الذي كان معشوق شباب الستينات جان بول سارتر كتبه كمقدمة لكتاب لم يكن عشق ثوريي العالم الثالث له أقل: "معذّبو الأرض" لفرانز فانون.
ولكن إن بات التلذّذ بالقتل جزءا من ماضي شعوب كثيرة، فهو مازال منغرسا فينا.
تقول كلمات أغنية ذائعة "والله لو حبّيت غيري/ أقتلك وأموت بعدك"
أمّا الأغنية الأكثر وفاءا للتقليد الداعشي، فتقول "لو يدرون أهلي وعَمامي/ يذبحوك وآنا شبيديّه".