فوضى المفاهيم


نايف سلوم
الحوار المتمدن - العدد: 4582 - 2014 / 9 / 22 - 05:56
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     


بعد استعراض مبتور لتاريخ الظاهرة الفاشية في أوروبا الإمبريالية ـ الرأسمالية قائم على عرض انتقائي ومتعجل لأفكار ليون تروتسكي وجورج لوكاش بخصوص الظاهرة السالفة، وبعد أن يخيل للقارئ أن كاتب المقالة محمد سيد رصاص قصد من هذا الاستعراض الضخم ربط ظاهرة داعش بأزمة الإمبريالية ـ الرأسمالية التاريخية، وإذا به يفاجئ القارئ ليعتبر ويرد ظاهرة داعش والبغدادي «إلى حالة انحسارية يعيشها الآن تيار الإسلام السياسي». مع العلم أن هذا التيار لا يزال مزدهراً ويمارس هيمنة اجتماعية ـ سياسية في أكثر من مكان.

ومثال تركيا بارز لجهة التجديد لحزب العدالة والتنمية ولرئيسه أردوغان، وكذلك في تونس وفي المغرب وفي فلسطين ممثلاً بحركة حماس، بالرغم من محاولة تعزيز الجهاد الاسلامي كمقاومة إسلامية غير إخوانية من قبل الجمهورية الاسلامية الإيرانية.
يأتي البتر في استعراض تاريخ الظاهرة الفاشية في الإمبريالية الرأسمالية في أوروبا كون مقاربة السيد رصاص لا تأخذ في الاعتبار الأمر الأساسي في مقاربة تروتسكي للظاهرة في كتابه «نصوص حول الفاشية» وهي أن ظاهرة الفاشية في شكلها التاريخي (النصف الأول من القرن العشرين) في أوروبا هي ظاهرة مرتبطة أساساً وجوهرياً بأزمة نمو الرأسمالية في عصرها الإمبريالي، بتعبير آخر هي علامة على انحطاط الرأسمالية في طورها الإمبريالي، والذي عمق هذه الأزمة وحولها من أزمة اقتصادية إلى أزمة عامة تهدد مجمل النظام الرأسمالي هو النمو السياسي والاجتماعي والنقابي للحركة العمالية في كل من إيطاليا وألمانيا بعد الحرب العالمية الأولى وعلى أثر انتصار الثورة الروسية عام 1917. إذا فحد الظاهرة الفاشية هو الطور الإمبريالي الرأسمالي وشرطها تنامي الحركات الاشتراكية بعد الثورة الروسية في أوروبا الغربية وتهديد إجمالي للنظام الإمبريالي. هذا النمو في الحركة العمالية جاء في كل من ألمانيا وإيطاليا على أرضية توحيد قومي وتصنيع متأخرين وانتقالهما السريع من حالة التجزئة والتخلف إلى مرحلة الإمبريالية ورأس المال المالي.
تم استعمال هذا المسخ
البديل كقوة مضادة ضاربة لإعادة شرذمة المنطقة
فإيطاليا أنجزت وحدتها القومية 1861 بقيادة غاريبالدي وألمانيا وحدها بيسمارك عام 1871 على إثر الحرب الفرنسية البروسية. ونضيف أن اليابان بدأ تصنيعه عبر إصلاح الامبراطور الشاب ميجي عام 1882. ومع هذا الانتقال السريع والمتأخر من التخلف القومي والصناعي إلى الطور الإمبريالي من دون المرور بالمرحلة «الليبرالية ـ الصناعية» وجدت هذه البلدان الثلاثة نفسها من دون أسواق تصريف مناسبة مع وجود صناعة فتية ورأس مال مالي مندفع لكسب المستعمرات. وهكذا خاضت هذه البلدان حربين عالميتين تحت اسم دول المحور ضد الحلفاء (فرنسا وبريطانيا) كدول استعمارية عتيقة وسباقة لاقتناء المستعمرات. وليس غريباً أن تعاني هذه البلدان من الفاشية والنازية والعسكرتارية.
على هذا الأساس جرى فهم الظاهرة الفاشية وتاريخ ألمانيا من قبل تروتسكي ولاحقاً لوكاش. حيث تنزع الطبقات المسيطرة على رأس المال المالي إلى توكيل البورجوازية الصغيرة المحبطة والتي عبرت عن نفسها بالحزب الفاشي للقضاء على حركة الطبقة العاملة في شكلها النقابي والسياسي عبر الاستيلاء على النقابات من قبل الحزب الفاشي وتصفية الأحزاب الاشتراكية لا إيديولوجياً فحسب بل وجسدياً. هذا أمر اول.
الأمر الثاني أن السيد رصاص خلط بين أمرين: خلط بين العنف الموجه من قبل الفاشية وكيلة رأس المال المالي ضد الحركة الشيوعية من جهة والعنف الذي مارسته حركات حسبت على الاشتراكية الشيوعية كالستالينية والخمير الحمر وغير ذلك، بالتالي لم يعد يفهم القارئ سبب تفجر العنف الفاشي أو عنف الجماعات «الشيوعية»، هل هو شعور الرأسمالية بالخطر أم هو ردة فعل حركات اشتراكية «شيوعية» على احتواء الرأسمالية للحركة الشيوعية عبر اتفاقات يالطا أواخر الحرب العالمية الثانية. لا بل يفهم القارئ أن عنف البغدادي والدواعش ناجم عن شعور تيار الإسلام السياسي بالانحسار والانحطاط. بالتالي يكون عنف الدواعش هذه المرة شبيه بعنف الخمير الحمر، أي كرد فعل على عملية انحسار وأفول أصابت تيار الإسلام السياسي كما اصابت الحركة الشيوعية السوفياتية من قبل.
ومن دون أن يربط رصاص عنف الدواعش بالسياقات العالمية لأزمة الإمبريالية الرأسمالية وانحطاطها التاريخي، واقفالها لكل أبواب التحديث والتنمية في البلدان المتخلفة، ودعمها لنظم وحكومات بائدة تعاني موتاً دماغياً. ومن دون أن يربط أيضاً ظاهرة عنف الدواعش بالإحباط التاريخي للحركة الشيوعية العالمية، يأتي كاتب المقالة ليربط هذا العنف المتفشي في البلدان العربية باستشعار الإسلام السياسي ذي الأصول الإخوانية بالهزيمة والانحطاط والأفول!؟
الحق أقول لكم: ليس داعش وظاهرة العنف السلفي الإسلامي الجهادي المتفشي في بلداننا سوى ردة فعل رجعية في البلدان العربية المتخلفة ذات الغالبية الثقافية الاسلامية على احباط التحديث في هذه المجتمعات على مدى أكثر من مئة عام، وانسداد كل أفق لتنمية أو تقدم مهما كان طفيفاً، وانتهاء اجل النظم القائمة في هذه البلدان، ومن بقي على قيد الحياة كان بقوة السيرومات الأميركية.
ردة الفعل هذه ردة رجعية مضادة للتقدم والتاريخ الإنساني، وهي عنيفة بطبيعة الحال كونها توجه مقاصدها نحو الماضي. ولقد جرى تسخيرها واستعمالها من قبل النظام الإمبريالي الرأسمالي وملحقاته الإقليمية لتصفية حساب مع بقايا الحرب الباردة من دول كانت تسمى «الدول التقدمية». تم استعمال هذا المسخ البديل المضاد للتاريخ كقوة مضادة ضاربة لإعادة شرذمة المنطقة وتخليعها وبعثرتها وتمزيقها والتهامها لاحقاً تحقيقاً للنبوءة التوراتية الصهيونية، «الشرق الوسط الجديد».