موسى وجولييت الفصل الثلاثون


أفنان القاسم
الحوار المتمدن - العدد: 4580 - 2014 / 9 / 20 - 11:05
المحور: الادب والفن     


روبيكا، روبيكا... آه، يا روبيكا! روبيكا الشراسة الأسيلة! لم يقتله حبه لجولييت، لا ولا حبك له. خرج الجنديّ من ثوبه عندما مات، وصار يوسُفّ. كنت تحبين الجنديّ، أما وهو جثةٌ بين ذراعيك، أحببت يوسُفَ. أكان عليه أن يموت لتجديه؟ ضاع الوقت معه والحب. والشباب شاخ. لا بد من أن يكون أحدٌ الأقوى. أقوى من الورد الجامح والعطر الوحشيّ. لا بد من أن يكون أحدٌ الأقوى في الصراع الميتافيزيقي. ولكن صورته ميتًا قَصِمًا مسالمًا رسخت في خيالك. لهذا تبكين على العتبة. تتفجرين حزنًا، وتتفجرين دمعا.
أنتِ روبيكا التي أحبت يوسُفّ لحظةَ موته. ويبقى الماضي يطاردك حتى عتبة بيتك، فَتَجِسِّينَ ما أكدت الإيكوغرافيا في بطنك أنه ولدٌ صبيّ، وتقولينَ أريده أن يكون يوسُفَ ولا أريده أن يكون الجنديّ. فلا يقتل هذا ذاك لحبيبة، والفاجعةُ تَتَلافى الفاجعة. كيف تريدين تحقيق ما تريدين في البؤس الجاثم؟ هل سيتركون له مجالا؟ من قلب حزنك تقولين لقلبك لا بد من إيجادِ وسيلةٍ تمنع الموت من موتنا، فنعيش كسائر البشر حياتنا. أن نكون بشرا. لا قاتلاً ولا مقتولاً نعيش. أن ندحض ذريعة القائلين بالفاجعة قدرًا مذ كان الإنسان. إنسانٌ يقتل إنسانا، وسِبطٌ يقتل سِبطا، ودينٌ يجرم في دين! كان حزنها بالغًا وعقلها ثاقبا، وكانت أقدامٌ تدوي في الزقاق قد شدتها إليها. هناك ضجة الجنرال ورجال الليكود أو المعراخ. يريدون أن ينتزعوا بلطافة، وكالة للحكم جديدة. هناك ضجة الجنرال ورجال المعراخ أو الليكود. يريدون أن ينتزعوا بشراسة، وكالة للحكم جديدة. يغدو الكل جثة يوسُفَ، دمه وأوردته. الضحية التي تستطيع الكلام بالرصاص. الهدف في الجهة الأخرى. هكذا قالوا أنه قيل في التوراة. وفي الجهة الأخرى، الحجارة تتنهد، والصراصير لها أنفاس فينيق أو تنين. وفي الجهة الأخرى، الردب لا ينفذ، والطائر يغتصب الحقل، والسلاح أخرس أو حُلْمٌ زاعق. وسيبقى لزقاقك أمل النهوض كل صباح، أما إذا ما تدخلت الإرادة، فهو سينهض في السقوط، وستتحول جثةُ يوسُفَ المدماة إلى حمامة بيضاء في حُلْمٍ أسودَ، فتبكين على بعض الطوباويين الذين في المعراخ يبكون، وعلى الآخرين الذين في الليكود يشخون، والذين لا يفهمون إلا القوةَ لغةً.
نادتها أمها العجوز، وهي تسعل:
- تعالي، روبيكا! من ذا الذي تنتظرين؟
وجاءت أمها قربها، وهي تسعل دوما:
- أنت لا تنتظرين أحدًا، يا روبيكا؟
أجابت روبيكا:
- أنا لا أنتظر غير ولدي الذي في الطريق.
جلست أمها العجوز إلى جانبها على العتبة، وهي تسعل دومًا، وهي تسعل:
- هنا لا أتوقف عن السعال، وفي أوشفتز لم أتوقف عن السعال.
- عودي إلى الداخل، يا أمي، عودي إلى فراشك.
- المسألة مسألة أخرى.
- هذه هي كل المسألة.
- السأم هي المسألة.
- الفكرة المتسلطة.
- السعال.
- عودي إلى فراشك.
- دعيني أتنفس بعض الهواء.
وصلتهما ضوضاء بعض القادمين، فراحت روبيكا تحدق في عيني الجنرال بخوفٍ وغضب، بينما راح الجنرال يحدق في عيني أمها بطمأنينة ورضاء، وأمها تحدق في عينيه، وكأنه آخر ملجأ لها. سمعت أمها تقول، وهي تسعل دومًا، وهي تسعل:
- انظري ما أجمل هذا الضابط، يا روبيكا... كأنه الملاك! نظرة واحدة منه تشفي الجراح!
احتد سعال الأم، فراحت تبصق دما، وراح الجنود يركضون في أعقابِ ولدٍ رديءٍ يمتطي كلبًا-ذئبا، وهو يطلق الضحكات المتحدية، وهم يطلقون الطلقات الطائشة، شَمالاً وجنوبا، فهذه الفصيلة من الكلاب-الذئاب سريعة العدو، عنيفة، لكنها جريئة، تحنو على الأطفال حنانها على أطفالها. ولما وصل الولد الرديء إلى زقاق روبيكا المغلق، وقف حائرا، والنورسة، صديقته التي من عادتها أن تطير به على ظهرها كلما وجد نفسه في مأزق، كانت تستحم في بحر يافا. أمسكته من يده روبيكا، وخبأته عندها. سألته عن اسمه، فقال إن اسمه الولد الرديء، وإن فضَّلَت الولد الشقيّ، وهو من بُرْقَة، قرية من قرى نابلس أسمها جنود الاحتلال "عش الدبابير" لشد ما لدغت وآلمت، وقد دعاه البعض بالولد البرقاوي. كان الجنود قد ذهبوا بعد أن عجزوا عن القبض عليه، فأراد امتطاء كلبه الذئبيّ والعودة من حيث جاء، فلم تكتمل له مهمة بعد، ولما تكتمل مهمته، سيذهب إلى بُرْقَة وإلى نابلس مدينة الشهداء وإلى رام الله، فقالت له روبيكا:
- أنت إذن الولد الذي يخشاه الجنرالات!
ابتسم الولد البرقاوي، فرفعت روبيكا بأصابعها خصلة سائبة من شعره الناعم سقطت على جبهته، بينا عادت أمها تسعل سعالاً حادا. أخرج الولد الرديء من جيبه قنينة دواء لتسقيها منها ما يشفيها، واعترف بأنه سرقها من مستشفى لهم لمستشفى لنا منع الجنود عنه الدواء وصادروا عربات الإسعاف، فمات بعض الجرحى في أسرّتهم، ومات بعضٌ آخرُ أكثرُ على الحواجز. قَطَبَتْ روبيكا حاجبيها، وهذا يذكرها بيوسُفَ. عتم وجهُها، واحتل وجهَها الحزنُ حزنًا على حزن، فسألها عن أمرها. حكت له حكايتها، حكاية أثرت فيه عظيم الأثر. قال لها ما القاتل إلا ياكوف، لأن موسى ما قتل وما انتقم، هو ياكوفُ القويّ، فما عرف أن نقطةَ ضَعْفِهِ يوسُفُ وجولييتُ ونوري، وما أدرك أن شر الهزيمة خيرها إلا عندما مات الواحد والآخر، واعتقلت جولييت. ولأنه أشيل زمانه، لم يستطع الموت، أشيل الجبار، أشيل الأقوى! وكلما حاول الموت، بعد أن فقد كل الذين كانوا له في الوجود، أمات غيره من يهود وعرب وغير عرب وغير يهود. سألت روبيكا الولد البرقاوي لو كان بالإمكان إنقاذه، فأجاب ليس بالإمكان إنقاذه بغسله في البحر، فلا دمعًا مرًا يصير ولا ماءً حلوا، ولكل واحد منا نقطة ضعفه. احتارت روبيكا، وخاف الولد الرديء عليها، فطمأنها عندما قال إن لكل واحد نقطة ضعف عليه أن يعرفها قبل فوات الأوان، وإلا انقلبت عليه شرًا مستطيرا. في ظرف من الظروف، بالإمكان أن تغدو نقطة الضعف هذه للضعفاء نقطة قوة، وهي في الوقت الحالي، بالنسبة له، أن يبقى ولدًا شيطانيًا يجعل الفيلة تطير والسلاحف تهرع والثعابين تنطق. تقدم من أم روبيكا النائمة على الأرض، وأخذ يقتل بعض صراصير تزحف عليها. تناول كلبه الذئبيّ من عنقه، وأراد الذهاب، فقالت له روبيكا بصوتٍ يبدي قلق أم على ولدها:
- يجدر بك ألا تبالغ، فأنت يحدق الخطر بك من كل جانب! ستقضي ليلتك في مكان آمن إلى يكل الجنود من البحث عنك، وينتهي الأمر بهم إلى اليأس.
- ذهب الجنود.
- ذهبوا ولم يكلوا.
- سأحتج ببراءتي.
- لن تحتج على الظلم.
أمسكته من يده لما حط الظلام، وسارت به إلى أحد الأديرة المهجورة. خبأته في حِضنه، هو وبعض صغار الكلاب-الذئاب، فأخذ يلعب معها وبعض صغار الوطاويط وبعض صغار العنادل. بعد ذلك، اغتسل الجميع بماء البئر الفضيّ، ثم ذهب الكل عند ياكوف في بيته التل أبيبيّ، وهتف الصغار: لتسقط السلطة القاتلة لبنيها! سَدّدَ الصغارُ بحجارةِ بئرِ الديرِ كعبَهُ عونًا له على الموتِ وراحةً من عذاباتٍ ينفقُهَا باطلا، ولكن ما أُصيب إلا قلبه أو رأسه أو صدغه. تأذى، وبقي في بلائه حيا.


يتبع الفصل الحادي والثلاثون