موسى وجولييت الفصل الخامس والعِشرون


أفنان القاسم
الحوار المتمدن - العدد: 4577 - 2014 / 9 / 17 - 11:33
المحور: الادب والفن     


الصحراء تلسعه بسوطها، وتلسعه بسوطها، وهو يتقدم على صراط المجد. ستكون جولييت بانتظاره ينبوعا، فتغسل تعبه، ويجعل منها متعته وابتراده. لن يعود نوري الشقيّ، ولن يعود من نفس الطريق، ستكون من البحر عودته. أخيرًا سيركب البحر عائدا. بدأ نوري يلهث وسوط الصحراء يلسع ظهره وعنقه وجبهته وأنفه وفمه. جف البحر، وتحول إلى أمواجٍ من نارٍ ورمل. أَوَ يكونُ الطريقُ السويّ؟ خلفه ياكوفُ القويّ، وأمامه جولييتُ تتبع في ظل يوسُفَ. يحترق الهدف الأخضر، ويحس نوري بالمشي على جمر. هذا هو جريه إلى المجد. لقد كان المجد جمرا. والجنة تحرق لا كما يقال في التوراة. تراءت له روبيكا الحبلى من يوسُفَ. سيرميه في البحر ليعود منه كيفما ستكون عودته. جولييت أم روبيكا؟ اشتعل خياله، فضرب بقدمه الجمر، والشمس تفاحة العقاب. أراد أن تعود روبيكا من حيث أتت، هناك حيث الشباب يظل بعيدًا عن شيخوخةٍ تهددُ بها الشمس، فهي لم تكبر في الظل، ورغم ذلك، قالت بعزم:
- أحب يوسُفَ، وأنا أسعى إلى حمايته منك أيًا كان في ذلك من تهديدٍ لعمري أو لشبابي، لأني معه أتحدى الأيام، وأتحداك.
زجرها نوري:
- أيتها اللعينة، يا روبيكا، عودي من حيث أتيت، واتركيني وحدي مع يوسُفَ!
واصلت روبيكا التقدم بخطى ناوية، فسارع نوري إلى قطع الطريق عليها:
- خذي طريقًا آخر غير طريقي، يا روبيكا، وليعبر كل واحد منا طريقه.
رأى الشراسة في عينيها، وهي تنسحب أمام قوة الحب المحرقة، فجذبها إلى صدره، وتوسل:
- إني أحبك، يا روبيكا، فتعالي! لنذهب من هنا!
لكنها أعرضت عنه:
- اذهب، أنت! سأجد يوسُفَ، وأعيده إلى ذراعيّ.
امتنع نوري عن التوسل والبكاء، وأمطرها بوابلٍ من الأسئلة:
- لماذا لا تحبينني، أنا؟ لماذا لا تختارينني، أنا؟ لماذا لا تَقْبَلينني، أنا؟ لماذا؟ لماذا؟ لماذا؟
مسحت روبيكا العرق عن جبينها، ونظرت بتحدٍ إلى الشمس، ثم قالت:
- لأني أحب يوسُفَ قبل أن يكون رجلي الذي اخترته من بين كل الرجال، والآن هو رجلي الذي سآتي به إلى الوجود منقذًا ومنتقما.
لم ترقه الحدة في صراحتها، فتقدم، وهو على استعداد أن يدفنها حيةً في الشمس والرمل. استطاعت الثعلبة الذكية التي كانتها الهرب من بين يديه، ونوري من ورائها يهدد:
- سأذبح يوسُفَ رجلك، وأصبح مجدك!
أخذت روبيكا تضحك عليه، وهي تعدو من وراء ظلها المنمسخ، وغابت خلف إحدى التلال، بينما راح نوري يدب في الصحراء كأعمى بعينين مفتوحتين. نعم... لن ترى بعينيك، وهما مفتوحتان، وهما مغلقتان، فتتلمس في الظُّهْرِ كما يتلمس الأعمى في الظلام، ولا تنجح في طُرُقِكَ، بل لا تكون إلا مظلومًا مغضوبًا كل الأيام، وليس لك مُخَلِّص. تخطب امرأةً، ورجل آخر يضطجع معها. تبني بيتًا، ولا تسكن فيه. تغرس كرمًا، ولا تستغله. يُذبح ثورك أمام عينيك، ولا تأكل منه. يُغتصب حمارك من أمام وجهك، ولا يرجع إليك. تُدفع غنمك إلى أعدائك، وليس لك مُخَلِّص. يُسَلَّمُ بَنُوكَ وبناتُكَ لشعبٍ آخرَ، وعيناك تنظران إليهم طوال النهار، فتكلان، وليس في يدك طائلة. ثمر أرضك وكل تعبك يأكله شعب لا تعرفه، فلا تكون إلا مظلومًا ومسحوقًا كل الأيام. وتكون مجنونًا من منظر عينيك الذي تنظر. يضربك الرب بِقَرْحٍ خبيثٍ على الركبتين وعلى الساقين حتى لا تستطيع الشفاء من أسفل قدميك إلى قمة رأسك. يذهب بك الرب وَبِمَلِكِكَ الذي تقيمه عليك إلى أمة لم تعرفها أنت ولا آباؤك، وتعبد هناك آلهةً أخرى من خشب وحجر.


يتبع الفصل السادس والعِشرون