الإعلام الديني والفتوى واحتلال «الحيز العام»


خالد الحروب
الحوار المتمدن - العدد: 4574 - 2014 / 9 / 14 - 11:07
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني     

إن أي نقاش حول دور الإعلام العربي في الانقسامات الطائفية الإقليمية الراهنة يجب أن يأخذ بالحسبان الفصل الذي لم تنطو صفحاته بعد، والذي يتتبع التغيرات التي طرأت على هذا الإعلام في أعقاب الربيع العربي. امتلك الإعلام حرية نسبية أفضل في البلدان التي نجحت انتفاضاتها ولو جزئياً في إطاحة أنظمة حكمها بعد أن كان خاضعاً لسيطرة تامة من الدولة، كما في تونس ومصر وليبيا. وقد تأسست عشرات الوسائط الإعلامية والقنوات التلفزيونية مباشرة بعد السقوط الكلي أو الجزئي لتلك الأنظمة. وربما كانت إحدى المظاهر الفارقة التي طرأت على المشهد الإعلامي الذي ما زال في طور التبدل هو الحضور القوي للسياسة، خصوصاً في وسائل البث الدينية، بخاصة القنوات التلفزيونية. وبينما كانت تلك القنوات وتحديداً ذات الصبغة السلفية حريصة جداً في عهد الأنظمة السلطوية على عدم التطرق إلى السياسة وإنتاج مواد وبرامج خالية من أية إشارات سياسية، كانت الحكومات في المقابل تسمح لتلك القنوات بالعمل، بل إنها كانت سعيدة في الواقع بسلبية تلك القنوات، وما لها من تأثير «تحييدي» على متابعيها، خصوصاً مقابل وسائل الإعلام الدينية المسيسة والقريبة من الحركات الإسلامية. والمقصود بـ «الأثر التحييدي» هنا هو تحييد المتلقين، بخاصة الشريحة الشبابية، عن السياسة من طريق تركيز البث الديني على أمور التدين التفصيلية، والحض على البعد من السياسة، مع التشديد الدائم على «طاعة ولي الأمر». هكذا، كان الكثير من القنوات الدينية يزعم بأنه «لا يتدخل في السياسة» عبر تبني خطاب ديني - تربوي يحض على المسلكيات فقط، ويصرف متابعيه بالتالي عن الشأن العام. والواقع أن هذه المقاربة الإعلامية للكثير من القنوات الدينية، خصوصاً السلفية ما قبل الربيع العربي على وجه التحديد، هي سياسية قلباً وقالباً على رغم ادعائها عدم الخوض في السياسة. ذلك أن ابتعادها الواعي من السياسة، وتركيزها على الأمور الفرعية في الدين والطقوس والانهماك بها وإشغال الناس فيها يخدم السلطة في شكل مباشر، حيث يعمل على تجميد شرائح شعبية كبيرة من الاهتمام بالعمل العام، أي أن فعل «التحييد» و «التجميد» الذي كانت تساهم به هذه القنوات هو فعل سياسي في جوهره وينفي ادعاءها بعدم الانخراط في السياسة.



في سياق ما بعد الربيع العربي، وفي عدد من الدول التي شهدت تحطيماً لأسقف حريات التعبير المنخفض والتحرر من خوف القبضة الحديد للدولة تسيس الكثير من القنوات التي كانت غير مسيّسة بالأمس، بخاصة في مصر (في مرحلة ما قبل السيسي). وتحالفت القنوات الأهم بينها مع الأحزاب السلفية التي تأسست بسرعة هي الأخرى وانخرطت في السياسة، وهيمنت السياسة والتسيس على الشاشة في انقلاب مفاجئ على الماضي القريب. أثر هذا «التسيس» الكاسح في سائر البث الديني تقريباً، وكان يجري في وقت كانت المنطقة تسير فيه صوب تموقع طائفي مكشوف بعد اندلاع الثورة السورية، وانخراط إيران و «حزب الله» في دعم نظام الأسد بلا هوادة. والواقع أن الفوضى التي عمت المشهد الإعلامي بعد الربيع العربي فاقمت من المشاكل التي طالما عانى منها الإعلام الإقليمي (العابر للحدود الوطنية)، كغياب هيئات تسن الضوابط والقوانين ومواثيق الشرف المهني والأجهزة القضائية التي توازن بين الحريات وحقوق الأفراد. وعلى خلفية هذا المشهد الإعلامي المنفلت من أية ضوابط انطلق الكثير من القنوات التلفزيونية لتحرض على الكراهية الطائفية وتدعو إلى إقصاء «الآخر» عبر إثارة مرويات تاريخية من خلال الخوض في معارك دينية جرت في الماضي من دون أن تتعرض لملاحقات قضائية.



وفي شكل ما، أدى سقوط السلطوية في عدد من الدول العربية أو تفكك قبضتها إلى تحرير الجزء الأوسع من «الحيز العام» (public sphere) من القبضة الحديد المتحكمة للدولة وإطلاق الحريات. ووفقاً لنموذج هابرماس الكلاسيكي، فإن هذا الحيز المنفلت والمتحرر من عقال سلطة الدولة وحيث يحظى الناس بفرصة مناقشة شؤونهم العامة والتعبير عن وجهات نظرهم بحرية والقدرة على انتقاد السلطة والحد من تغولها هو من علامات صحة السياسة وتعافيها. وفي سياق تطور كهذا يصبح «الحيز العام» المتحرر منتدى يتفاعل فيه المجتمع المدني والمثقفون وتترعرع فيه الحريات الإعلامية والفن المبدع وسائر أشكال التحرر. إنه حيز تزدهر فيه قوة العامة وتضمحل فيه قوة الدولة. وفي أعقاب سقوط أي ديكتاتورية يبدأ الحيز العام المقموع بالتشكل على وجه السرعة وإن في شكل فوضوي. ويربط هابرماس وآخرون كثيرون بين مدى ترسخ «الحيز العام» وتطور ثقافة ونظام ديموقراطي يعترف بالآخر، ويعمل على اكتشاف توافقات عامة داخل المجتمع تخفض من حدة الاختلافات فيه والصراعات بين مكوناته.



لكن، في سياق ما بعد الربيع العربي برزت حالة من «فوضى الحريات» اختلطت فيها الشرعيات الثورية، بالانتخابية، بالمسلحة (كما في ليبيا)، وهو الأمر المتوقع حدوثه إثر سقوط كل نظام سلطوي. وكان الأمل (وما زال) منعقداً على انبعاث «حيز عام» صحي (تعددي، ديموقراطي ونقدي) بعد مرحلة إطاحة الديكتاتورية في كل حالة من حالات الربيع العربي. عوضاً عن ذلك، وعن اشتغال نظرية هابرماس التي تفترض احتلال القوى النقدية والديموقراطية أي حيز عام يتم تحريره من سلطة الدولة، فإن الفراغ الذي برز نتيجة الانحسار السريع والمفاجئ للدولة السلطوية العربية، احتله عموماً الإسلاميون بسياساتهم وخطابهم وإعلامهم. لم تشتغل (بعد) طروحات هابرماس الكلاسيكية حول «الحيز العام» في بلدان ما بعد الربيع العربي، إذ تقوم على افتراض أن يشجع تشكل حيز عام على بروز التفكير الحر في إطار سياق علماني محدد، وذلك بالطبع بعد مواجهة قوة الدولة القمعية وإرغامها على التراجع عن احتلال الحيز. فقد كشف الربيع العربي عن دينامية أخرى مقابل تلك الدينامية المفترضة، تمثلت ببساطة في استبدال سلطوية الدولة التي أطيحت بسلطوية الخطاب الديني. وعوضاً عن خلق فضاء للتفكير الحر، وقع الحيز العام في دول عربية مثل تونس ومصر وليبيا (وغيرها وإن بدرجات متفاوتة) فريسة لتدين زاحف. وعلى رغم أن منسوب التدين دائماً ما كان عالياً قبل تغيير الأنظمة إبان الربيع العربي، إلا أن طبيعته كانت تميل إلى البساطة وكانت أيضاً بعيدة من التسيس (العفوي أو المقصود). بيد أن الانتصارات الانتخابية التي سجلها الإسلاميون منحتهم قوة شعبية غير مسبوقة ساهمت في سيطرة طاغية للإسلاموية. كما دفعت إلى تحول في شخصية الإسلاميين أنفسهم فامتلكوا جسارة غير معهودة وأصبح خطابهم أكثر جراءة من ذي قبل. وتجسد كل هذا من خلال صعود الإعلام الديني وهيمنته وترسيخ عشرات القنوات الدينية النافذة وخلق فضاء مواتٍ لتأسيس المزيد منها. فضلاً عن ذلك، فإن بروز «فضاء إسلاموي» لم يكن بأمر اقتصر على البلدان التي تمكنت من إسقاط أنظمتها السابقة. فالإسلاموية التي تمخض عنها الربيع العربي ليست إلا مرحلة متقدمة لعملية تخلق استمرت سنوات طويلة وربما جاز لنا تسميتها بـ «الفضاء الإسلاموي الإقليمي». لقد نجم هذا الفضاء عن عملية طويلة المدى شهدت غرس ممارسات وخطاب وأنشطة وتدين داخل جسم المجتمع العربي من جانب الإسلاموية وإعلامها. وربما كانت أهم التغيرات البنيوية التي نجحت الإسلاموية في إحداثها داخل المجتمع هي التأسيس لشرعية دينية جديدة يرجع إليها في الحكم المعياري على السلوك الاجتماعي، الفردي والجماعي.