موسى وجولييت الفصل الحادي عشر


أفنان القاسم
الحوار المتمدن - العدد: 4571 - 2014 / 9 / 11 - 01:08
المحور: الادب والفن     


الرصاص يصنع حقلاً للزهر في خياله. هل يستطيع؟ الحب يصنع حقلاً للحجارة في خياله. وحبه يصبح الحجر والهدف. الطلقة الأولى والأخيرة. وحبه يصبح الحجر والزهرة. ولكن هل يستطيع؟ راحت الإرادة تدفعه إلى قوة الحجر، فقوة الحب، وقوة الزهرة. خطا في الليل مبتعدا، وفي الحديقة عناقيد العتمة ناضجة. التفت موسى إليها، كانت جولييت تقف كتمثال ساخن أسفل النجوم، وكانت تبكي. ذهب إليها، ورشف بشفتيه دمعها الذي كان مرًا معطرا. ماذا يقول لها؟ إن ميلادهما كان انتظارا؟ إن قلبه يموت الآن لينهض بعد مائة سنة؟ إن حب قلبه لهو الشوكة في قلبها؟ شوكة تنغرس في الرغبة والدم؟ ماذا يقول لها؟ ليقف حبنا الآن على أن نتحابب غدا؟ اليوم هو ليل أبيك وغدًا نهارنا؟ الليل إرادة القوي والنهار إرادة العاجز، ولأني أحبك، عليّ أن أقلب الوضع؟ هذا الليل الذي هو الحب أيضًا والاحتضان، فكيف عرفتك لولاه؟ هذا الليل الذي هو الانطلاق والنوم إلى جانبك عاريا. هذا الليل الذي هو سهر المحبين ورحيق قبلة على قدمك. آه، ما أجمل سوادك، يا ليل! ما أروع ظلامك! ما أحقر النهار من نافذة كوخ محطم أو قصر عظيم على حد سواء في اللحظة التي أحبك فيها في الليل وأفقدك على عربة أبولون! فهل يستطيع؟ ماذا يقول موسى لجولييت وحبه يغدو الليل والنهار؟ الحجر والهدف؟ أَوَ يغدو بعيمها؟ وإذا ما ارتكب خطأً، أَوَ يمكنه قتلها؟
قال لها:
- اذهبي، جولييت! سيأتون في أعقابك كالجبابرة المهووسين، ولن يمنعهم في أمرهم معك أن تكوني جولييت، ابنتهم، سيُكرهونك على الخضوع بعنف العصا.
شدته جولييت إليها بكل قواها، وقالت له:
- فليأتوا، لن يمنعوا لقائي الأخير وإياك.
- كفى! إني أودعك أخير الوداع.
ابتعد موسى عن جولييت خطوتين، وتمثالها الساخن يغدو باردًا كالشتاء الفائت مرتين، فنادته:
- أيا موسى، انتظر!
فانتظر لتترامى في أحضانه مرة أخرى، ولتسأله سؤالها المحير في أمره:
- أأنت غاضب مني؟
- أنا غاضب مني، فلم يبق لي أحد لأغضب منه.
- ماذا ستفعل؟ ماذا ستكون؟
- عليّ أن أفعل أشياء كثيرة، وأكون في عيبال غارًا ورجولة، لتأتي الطفولة.
- أما أنا، فلا أستطيع أن أفعل إلا شيئًا واحدًا فقط، أن أحبك!
قرصها من ذقنها، وقال مدللها:
- عليكِ أن تبقي الطفلة التي هي أنت.
- وأنا بين ذراعي الآخر سأفكر فيك، سأفكر فيك كل لحظة. سأعد النجوم، وأفكر فيك، وسأبكي. وإذا ما لم يبق لعينيّ دمعٌ من أجل البكاء، فسيبكي قلبي، هكذا يرتوي حبي لك.
- لا تعذبي نفسك كثيرا. اسقي طفولتك لتظل ما بعد صورتها التي تسعى إرادتهم إلى محوها، إلا إذا ما كان كل هذا سوى وهم، ومجيئي إليك سوى خداع. نعم، لا بد أن نولد كبارا، ثم تأتي الطفولة فيما بعد، لتسعى إلى حيث ما لا تتحقق. أما إذا ما كنت تصرين على تعذيب نفسك لحبي، فعذبيها قليلا.
- كيف لا أعذب نفسي كثيرًا وأنت بعيد عني؟
ومن جديد، ابتعد موسى عن جولييت خطوتين، فسارعت لتسأله:
- هل ستعود؟
فوعدها موسى:
- سأعود إليك، آه! يا طفلة قلبي، فلا تكبري. اتركيهم يشيخون وحدهم كصورهم على واجهات البيوت.
- متى ستعود؟
- متى يتحول النهار إلى قوة في وجه أبيك، متى يغدو أبوك طفلا.
أخذت جولييت تبكي: الكلمات التي قالها حبيبها كلمات عقل ليس عاقلا. رأت نهرَ دمٍ يلطمُ له الروح، ويتنبأُ بالموت الذي سيشيعه. وصلتهما من جهةٍ يتساقط فيها الليل أكثر ما يكون خطواتٌ تخبط خبط عشواء وجه الأرض، وتهتز لها الأشجار فرقا، فصاح موسى بجولييت منبها:
- ها هم يأتون في أعقابك، جولييت!
ولكنها حثته على الهرب بأقصى سرعة:
- انفد بجلدك، أنت، ولا تخش عليّ شيئا، انفد بجلدك إلى جريمتك المؤجلة.
رأى يوسُفُ، أخوها، موسى، وهو يركض، ورآه، وهو يتسلق سور الحديقة، فلحق به، وأفرغ عليه سلاحه، وكأنه بفعل كهذا يريد النفاذ إلى أطواء النفس.


يتبع الفصل الثاني عشر