موسى وجولييت الفصل التاسع


أفنان القاسم
الحوار المتمدن - العدد: 4569 - 2014 / 9 / 9 - 12:44
المحور: الادب والفن     

إرادة غير ممكنة في عالم ممكن حب جولييت العظيم. خطر المخاطرة. روح المخاطرة. المخاطرة بالحياة. الجرح الخطير. يدمرها الجنديّ في أخيها والملك في أبيها، وتعود جولييت إلى البكاء والنحيب. تنظر إلى النجمات، وتشاهد كيف تبكي هي الأخرى، وتنثر وردها الأسود. ويصلها صوت البحر الغاضب لأنه لا يصلها مركبًا بشراعه. هي تريد، ولكنهم هم يريدون أيضا. هم القوة المجبولة بالإرادة، وهي الإرادة المجبولة بالحب. لهذا ستتراجع جولييت. وموسى يريدها أن تقطع المسافة التي ما بينهما إليه. هو أيضًا إرادته المجبولة بالحب. كيف بإمكان موسى أن يصل إلى عصاه، فيلقيها بين أقدامهم ثعابين مفترسة أو يفجر من تحتها الينابيع دماء؟ كيف بإمكان موسى أن يفتح لها البحر إلى الشاطئ الآخر؟ هناك سترسو، ثم تسير إلى الشجر. كيف بإمكان موسى أن يدلف إلى نبوة لا تقتل نبيها؟ أيجدها بها؟ عليه أن يجدها. هكذا ينقذها. هكذا تنقذه.
سمعت حركته، وهو يتسلق الجدار إليها، فخرجت إلى الشرفة المحطمة بأشيائها المفتوحة للموت وللريح، واستقبلته مرة أخرى بذراعيها المفتوحتين على سعتهما:
- كان عليك أن تذهب، أيها الحبيب!
- كان عليّ أن أجيء، أيتها الحبيبة!
- سيقتلونك إذا ما وجدوك، ويقولون عنك لصًا من اللصوص أو فدائيًا تائها.
- أقبل أن يقتلوني لأجلك. سأكون فديتك لشعبك.
- لا تكن فديتي لشعبي، فأنا لست شعبك.
- لن أجعلهم يقتلونني لأجلهم، وستكونين شعبي من الطيور الحرة.
سكت، وهو يرزح تحت ثقل الخطايا، ثم طلب إليها:
- ماذا كان يريد، يوسُفُ أخوك، بعد كل ما أخذ؟
أدخلته إلى حجرتها، وابتعد السؤال إلى التأمل. هو في حجرتها. موسى وجولييت معًا في حجرةٍ قربَ سريرٍ وثير. لا تسل لِمَ. هذه هي كل المسألة. وإذا به يهتف مفتونا:
- ما أدفأ حجرتك، يا جولييت! ما ألذها! ما أروعها!
- هذا لأنك معي! هذا لأنك حبيبي!
- هذا لأنك، أنت، حبيبتي!
راح يجس وسادتها، ويتأمل نفسه في مرآتها، ويصبو إلى عناقها، فاختطف منها قبلة لأنها لم تشأ ضمًا لقلقٍ وحيرة. كانت الحيرة أمها والقلق أباها، وكان موسى قد اشتهاها، فجمعها في حضنه مشتاقا، وفك ثوبها، وسعى بفمه إلى ثديها.
قالت له جولييت، وقد وجدت في وضعه مناسبة لتبقيه:
- يا موسى، ابق معي، لِمَ لا تبقى معي في حجرتي إلى الأبد؟
أذهبت عنه الشوق بغتة، وصار لحلمتها طعم المرضعة على فمه، فتراجع، وهو يسألها:
- أأبقى معك في إرادة أبيك القويّ وأخيك المنتصر؟
- سنوصد الباب علينا.
وأوصدته عليهما.
- وإذا ما اقتحماه؟
- جعلتهما يقتلانني معك. هكذا أقبل أن أكون بيتك.
- ولكني لا أتمنى موتَكِ.
- وأنا أيضًا لا أتمنى موتَكَ.
- لنذهب إذن إلى بيتي الذي شجره شجر وحجره نار وجنة.
انعطفت جولييت على نفسها، وقالت بحزن امرأة أرملة:
- أنت تمامًا مثل أخي، تطلب مني ما لا أقدر عليه. جولييت أنا، وأنتم كما صنع شكسبير بها فاعلون.
- ولكني سأحميك.
- أخي كذلك يستطيع حمايتي.
- ماذا كان يريد منك غير زرع الخوف فيك والريبة؟
- أن يهربني معه. أن يذهبني في التاريخ. أن يصيرني للضباع الطيبة مليكة.
- وماذا كان جوابك غير ما اعتدنا عليه؟
- كان جوابي غير ما ستعتاد عليه، يا حبيبي: أفضل الزواج من نوري!
- وهل هذا جوابك الغريب لي أنا كذلك؟
- هذا جوابي، فهل لي من خيار؟
انعطف موسى على نفسه مثل نخلة انكسرت لثقلِ حجرٍ بناه في الأهرام، واستبد به غضبٌ جعله شراعًا ممزقًا في قبضة رياح الجيزة، فلم يتمالك نفسه عن الصياح:
- ظننت أن باستطاعتهم جعلنا حقيقتنا في لحظةٍ تصل فيها الفاجعة إلى أقصى الفاجعة. نعم، لا بد من معجزة.
رفعت جولييت رأسها، ونظرت إليه:
- الآن تتكلم عن معجزة؟
- اعتقدت أن حبنا كان الوصول، الخطوة الأخيرة.
- لم يكن الخطوة الأخيرة.
- ولم يكن الخطوة الأولى، وإنما مرآة القلوب الصلفة.
أتاها بكل صلفه، وامتطاها عنوة، وهي تصرخ، وتضرب، وهو يطلق، ويشتم: أنت جولييت الجريمة الأولى، الثدي المستبد، والفخذ المبتزة! هذا حقد كل الجحيم أنحره على بطنك، وهذا وهم كل الشياطين أهرقه على سرتك، وهذا رماد كل أبطال الأضرحة أذره على فرجك! أنت جولييت، أين أنت؟ ثم نهض الجبار عنها، وراح يحطم كل شيء في حجرتها، سريرها ومرآتها ومرحاضها، وراح في عصاب يصرخ من هناك، أن تعالوا لتشربوا من جولييت بولاً منفرا، وتطعموا من جولييت غائطًا مقززا، فجولييت تبول وتغوط مثلما تحب وتعشق، أن تعالوا إلى عالمها الواطئ، أن تعالوا إلى شِقٍّ في جدارها السامق، أن اضربوا عليه رؤوس عصيكم المختونة، وأن تتفجروا.
طُرِقَ الباب، وجولييت لا تتوقف عن البكاء والرجاء: ابق، لا تذهب، اذبحني، ولكن لا تذهب! أما عنه، فقد صعد إلى الجبل المقدس عيبال ليتأمل في حاله وحال الدنيا معه، بينا مكثت على مقربة منه ثلاثة ضباعٍ لا يمكنها النطق بين يديه، ويمكنها الندب عليه.
يتبع الفصل العاشر