موسى وجولييت الفصل السادس


أفنان القاسم
الحوار المتمدن - العدد: 4568 - 2014 / 9 / 8 - 11:57
المحور: الادب والفن     


ليس البحر موجًا وضوءًا وغراما، البحر حطامٌ وظلامٌ وانتقام. البحر صراع. مراكب تحطمت في البحر، وحيتان انتصرت. البحر امتداد، والبحر تراجع. البحر عودة الراحل إلى الرحيل. فماذا لقي موسى بعد أن فقد جولييت؟ لعنة الحب أو الحب الملعون؟ والبحر ملحٌ وحبرٌ ودم، وقلبُ شراع يرفض التراجع. عالمه أمامه، إلا أنه يبتعد عند اقترابه. صرخ هذه المرة بإرادته، فأصغت له الأسماك التي في أعماق البحر بعد أن نهضت من نومها، وتحركت، فتبع موسى آثارها. جولييت ذهبوا بها من هنا. والدرب معتم. والدرب مُحْجِر. والطرق التي ظن أنه يعرفها ها هي تذهب به إلى حيث تشاء.
ولكنه شراع يرفض التراجع. والبحر واسع. والبحر عميق. ولكنه شراع عنيد. جولييت أرادها موسى نقطة الوصول. والتواصل. وأرادها أبوها نقطة الانطلاق إلى السفر الدائم. هي عذابه القريب، ولأبيها عذابه البعيد، فليضع حدًا لعذابه. انتهت الآثار تحت شرفتها، فتسلق الجدار إليها، وسمع أباها بِطِمِّهِ وَرِمِّهِ يهددها:
- سأزوجك من نوري، وإلا جعلته ينتقم لشرفي المهان، فما موسى إلا ادعاء كل الحب وكل القدرة، بينما هو في حقيقته وعدالته خطر الأعداء وجبروتهم، وأنا لهذا جعلتني جبارًا بقسوة الحجر عليك، وما قسوتي عليك إلا من قسوة الحال، يا ابنتي، وحاجتي إلى محفز أوجه به كل هذا المصاب كبركان لا يرحم، فلا أرحم أعدائي الهمجيين المحيطين بي من كل حدب وصوب، وتكون جولييت منارتي.
وجولييت تبتهل لياكوف، أبيها:
- سأكون منارتك في ظل موسى، فلا تزوجني من قدم في عرشك.
تقدم ياكوف، أبوها، منها عنيفًا فظا، ولطمها، وهو يزبد ويرغي:
- إنها إرادتي التي توجب، فلا تعكري اللبن، ولا تجعلي العسل مرًا وزهاقا!
وجولييت تتهدج، وتبكي:
- لا، يا أبت، لن أعكر اللبن، ولن أجعل العسل مرًا وزهاقا، ولن أعصيك، فأنت "الحي في معاط"، أنت المعطيّ!
خمد بركانه، ومن الحجاز راحت تنسحب ضبابة دخان، وتذهب مطمئنة:
- هكذا تكون إرادة أبيك واجبة، بها ستحتمل جولييت كل ضربات القدر فينا بما في ذلك حبها لموسى.
اقترب ياكوف، أبوها، منها، ومسح لها دمعها، ثم نظر في عينيها المخضلتين، وقال لها:
- كم يحبك أبوك، يا جولييت! كم يحبك!
تبدى لها فِرْعَوْنًا طاغيًا تحيطه هالات المجد والهيبة، فسمعت نفسها تقول له:
- وأنا أيضًا أحبك، يا أبت العزيز!
- إذن عليك إرادتي واجبة، كالحياة، كالعمل، كالراحة.
وأمام عودة أمارات التمرد على جبهتها وفي عينيها، أوضح ياكوف، أبوها، الذي عاد يصبح أباها، بعد خروجه من ظلال الصولجان، وفي صوته بعض الرجاء:
- وإلا كانت نهايتي، يا ابنتي، سأصاب بسكتة قلبية، وأموت. أتريدين أن يموت أبوك، يا جولييت؟
- لا أريد، يا أبت، أريد أن تبقى حيا.
- إذن أطيعي إرادته، واجعلينا نفرح. سيبقى عرسك مثالاً يتردد خالدًا على أفواه بني إسرائيل. فلتجعلينا نفرح، يا جولييت، فلتجعلينا نفرح!
قدم لها ياكوف، أبوها، هديته إليها عجلاً ذهبيا، وأعلن أن زواجها من نوري سيكون في نهاية الأسبوع القادم، فدخل عليهما من الشرفة موسى الذي كان يرى كل الذي رأى، ويسمع كل الذي سمع، وبغضب حيوان هائج، انقض على ياكوف، أبيها، وجذبه من خناقه. أراد أن يدق عنقه بعجله الذهبيّ لولا أن جولييت منعته، وخلصت أباها من براثنه، ثم راحت تضرب موسى في قلبه، وتعنفه، فعرف أنها رجعت عن حبه. قال لها ارجعي إليّ ولا تخدعنَّكِ عواطف عابرة، فلم ترجع إليه، بل راحت تبكي، وتنتحب. توتر موسى توترًا شديدا، وصار صقرًا جبارًا يريد الحق والحق لا يريده. ضرب بالعجل الذهبيّ شرفتها إلى أن حطم كل شيء فيها: الأصص والأعمدة والظلال، وجعلها عليها دمارا. وقبل أن يذهب من حيث أتى، قال لها: سآمرك بحبي أمرا! أما لأبيها، فقال: ستموت لكل عائلة من شعبك امرأة فيها جولييت ما أن أنهي هذا الكلام، فاسمعي، يا إسرائيل، أنينك، لعلها تصلك نجواي!
وما أن هبط من الشرفة المهشم فيها كلُّ شيءٍ كإبريق، وذهب، حتى انتشر الضباب، وهجم الموت، وصعد أنين النفوس يدق أبواب السماء.



يتبع الفصل السابع