موسى وجولييت الفصل الرابع


أفنان القاسم
الحوار المتمدن - العدد: 4567 - 2014 / 9 / 7 - 13:45
المحور: الادب والفن     


نزل الخبر على ياكوف نزول الصاعقة. هو ملك اللحوم والنوادي! ملك الذين يقع عليهم اختياره، وصاحب الأمر لدى الضباط الكبار. جولييت وقع اختيارها على موسى، وموسى وقع اختياره على جولييت، وأبو يوسُفَ، ياكوف، لم يأخذ برأيه أحد. هل الهوى كالقدر متى هوى؟ كالسيف القاطع؟ كنار الشرائع؟ وهو؟ أين مكانه؟ أين مكانته؟ هو القدر والهوى، وهو السيف والنار، وجولييت ابنته. يحب يوسُفَ أكثر منها، يحب يوسُفَ أكثر من نفسه أحيانا، إلا أن جولييت تبقى مدللته. كيف يصنعُها، فتصنعُ هكذا عاره؟ الموت وحده هو الذي سينتصر، وإلا مات قلبه. سيجتاح مشروعها، ويدمره، وهي على أي حال، لن تفضل عليه عدوه، فلا يجتاح هذا البائس مملكته، وإلا اجتاح نفسها، ودمرها. البحر واسع، والبحر عميق، وحبه لها سيدمرها قبل أن يدمره حبها لموسى. أَوَ تكون عودة إله البحر إلى قهره؟ هو فرعون زمانه! أَوَ تكون عودة المقهور إلى قوته بعد أن حولته القوة إلى ملك للنوادي واللحوم؟ ما هو سوى احتمالٍ من احتمالاتِ التصورِ المستحيل. لا يمكن ذلك إلا في الاستطاعة. هو الاستحالة. القدر الماضي صوب غايته. هو الأعلى. وحب جولييت لن يجعله ممكنا. لن يعيده إلى ما كان عليه تائها. فليقرر، وليكن صاحب القرار الحتميّ.
قال ياكوف لنوري:
- ستتزوج منها أنت، يا نوري، هي التي خرجت من ضلعك.
نبر يوسُفُ ممتعضا:
- نوري يتزوج من جولييت! نوري الذي انتزعته كجرذ أجرب من "شكونات هاتيكفا" قبل أن يقتل البؤس أبويه اليمنيين، وأنقذته من مصير مظلم، تهبه مصير أختي المشرق؟
هتف ياكوف مستنكرا:
- أتتنكر لأصلك الآن الذي من جذر أمك؟
ردد يوسُفُ متألما:
- أمي، أمي... أين أمي التي تركتني وماتت لما كنت طفلاً صغيرا؟ لماذا أجرمت في حقي؟ أتكون ماتت أم قُتلت؟
صاح ياكوف محتدا:
- لا تعدنا إلى الشك في موتها، فهي لم تمت قتلا، وهي إن ماتت قتلا، فإني من دمها لبريء!
وبدوره صاح يوسُفُ محتدا:
- جميعنا بريء وجميعنا غير بريء!
أزاغ ياكوف النظر عنه، فأضاف يوسُفُ، والحلم كان له معذبا:
- لقد تمنيت لجولييت زوجًا ضابطًا سويديّ المحتِدِ أو بولونيَّهُ أشقر جميلاً يسعدها ويحميها.
ونبر يوسُفُ من جديد:
- لن توافق جولييت على نوري الكريه، لن توافق عليه، حتى وإن كان زواجها منه نُبوءة عرافٍ مِصريّ لا يكذب أبدا.
ونبر ياكوف، أبوه، بدوره:
- ستوافق جولييت إذا ما كانت إرادتي. أما أنت، فلن أبكيك في شيخوختي.
ويوسف يستشيط غضبا:
- لن توافق! لن تقبل! سأكون بجانبها كمن أُغريَ بالقتال كيلا تقبل!
وأخذ يذرف بين ذراعي أبيه مر الدمع، ويطلب إليه متهدجا:
- لا تُكرهها على الزواج من نوري الكريه، يا أبتِ، فيكون مصاب جديد.
تدخل نوري، وهو يبكي، هو الآخر، وقال متهدج الصوت:
- إن يوسُفَ يكرهني، يا أبي ياكوف، منذ البداية، وهذا ما يفسر موقفه.
ولولا أن ياكوف كان يسمعه ويراه لقال الصوت صوت يوسف والفم فم نوري.
احتج يوسُف:
- أنا لا أكره نوري، أنا أحب جولييت.
قال نوري مؤكدا:
- إن يوسُفَ يكرهني ويكره حبي لجولييت، يا أبي ياكوف، أنا الحذاء لقدمها!
فسأله يوسُف:
- وهل جولييت تحبك، يا نوري؟ أنا تحبني جولييت لأني الجميل، ولأني المفسر الأمين، ولأني الذي انتصر مرتين، فمن أنت، يا نوري، قل بالله عليك، لتحبك الأميرة؟
أجاب نوري:
- إن إرادة أبيك لهي كل شيء! أما أنت، فكن المنتصر ما شاء لك، وكن الجميل ما شاء لك، وفسر ما استطعت كل هذه الكوابيس، فسيخرج عليك أبناء شياطين لن تقدر عليهم. والآن، إن إرادة أبيك لهي كل شيء علينا!
- ولكني أخو جولييت، وأنا جنديّ، لي رب لم أغضبه ولم يغضبني في القتال، ولي إرادتي في أمر يخص أختي هو أمر مصير.
أعاد نوري كالمدمدم لآية مقدسة:
- إن إرادة أبيك لهي كل شيء علينا!
لحظتئذٍ، توجه ياكوف إلى ابنه يوسُف ليسمع ويخضع:
- أما أنت، فعليك أن تعود إلى سلاحك والعصا، ولنذهب أنا ونوري لنخلص جولييت.
لم يصرخ يوسُفُ في البرية: ولكن من ذا الذي سيخلصها غيري بعد أن دفنا الجسد وأفرغنا الخوابي من النبيذ؟ راحت الحدود تنفتح على الحدود من النيل إلى النيل، ويقول الجنديّ للجنديّ هذه هي الأرض التي حررها. أخذت مدن الأرض المحتلة وغزة، أجمل مدن الدنيا، تتساقط في خياله واحدة تلو واحدة، ونبتت في سهل نابلس الشرقيّ مستعمرة على شكل قفص رمى فيها جولييت ليحميها من أبيها وليمنعها عن أخيها، فنهضت جولييت التي كانت جولييت، وغدت حملاً وديعا. قالت إني أريد أن أكون تضحيةً لذاك الراعي الذي أخرج موسى من ثوبه، فأخذها موسى النبيّ، ولطمها على خدها لطمتين أوجعتا كل العمر الباقي لها، وأمرها أن تكون جناح صقر خائر في الشمس. فرض عليها حبه الذي تراجعت عنه في لحظة ضعف، ثم راح بها إلى البحر، لما هبط الليل، ليجعل منه جدارًا في وجه يأسها القادم.


يتبع الفصل الخامس