موسى وجولييت الفصل الخامس


أفنان القاسم
الحوار المتمدن - العدد: 4567 - 2014 / 9 / 7 - 21:08
المحور: الادب والفن     

تدفقت ضحكاتهما، والبحر يتدفق بالموج، وانشق الليل، والليل يقاوم الليل، وصارت في الليل نجوم. جرت جولييت في أعقاب نجمها، وجرى موسى في أعقاب جولييت، في الماء وعلى الرمل، آدم وحواء لحظة الولادة. الحب سيد الكون، وعلى الأرض ظلالهما. كانا في كل الأبعاد، ولم تعد الرصاصة هدية الموت إليهما، وغدا الحق علمًا مرفرفا. وجولييت تتحول إلى طرقات ودكاكين وصرخات أطفال ومعاول ومنعطفات وتاريخ ليس الموت ميلاده. إنها الحب الممكن وحب الممكن. أَوَ يمكن للمألوف أن يعطي غير متن النجوم مراكبا، الليل ابتعادا، والنهار اقترابا، والليل صبحًا قادما؟ وأمه التي كانت زاهدة مسجد، وصارت عذراء هيكل، ماذا ستقول؟ التماثيل قتلتها، فما ذنب جولييت؟ جولييت الممكن؟ اقترب أكثر من الرمز ليصل إلى عمق المعنى، لتتجلى له الحقيقة وردة. لا يريد أن يحل مسألته بيد تمتد على البحر. يريد أن يحل مسألته مع فِرعون ذاته، فلا يُجري الرب البحر بريح شرقية شديدة كل الليل، ويجعل البحر يابسة، وينشق الماء. يريد أن يكون هو وفِرعون وجهًا لوجهٍ غيرِ منكسرٍ على طاولة، أو في ساحة وغى إذا ما ركبه عناد المتجبر المشؤوم، وجولييت دربه المرسوم. هل ستبقى جولييت؟ هل ستنبض كالقلب على قلبه مثل أول عناق وآخر قبلة؟ هل ستشعل في جسده الشمس المفقودة على سفح عيبال؟
قال لها:
- أتيت لأرى بيتًا كان لنا في يافا قبل أن أقذف يافا من حلقي نواة وتصير شجرة.
قالت له:
- وهل عرفته؟ البيوت تتشابه في يافا في الصيف وفي الشتاء.
- نعم، عرفته في التشابه وفي الكمون.
- وماذا تبدل فيه؟ أعرف أن زمنه الذي تبدل فيه، فالبيوت مثلنا تشيخ.
- شكله الذي تبدل فيه، فالبيوت إذا ما شاخت أصبحت لها صورنا ولأطفالنا تظل طفلة، لهذا تجدين للبيوت أزمان الحياة.
- وكيف صار شكله لك بعد أن كبرت، بعد أن تركته في هجرته، وذهبت في هجرتك؟
- في حديقته كان شجر، فرأيت أعمدة، وفي ثوبه كان حجر، فرأيت فتقا، وبان ثدي امرأة.
- وماذا تبدل فيه غير كل هذا الفضاء المريع؟
- لا شيء إلا شكله، وقد بقي معناه الذي بقي معناه.
ترامت جولييت بين ذراعي موسى، وجعلته يلفها بهما مثلما يلف قطًا خائفًا أو رغيفًا ساخنًا لا يريده أن يبرد قبل طعام:
- إني خائفة!
- مِمَّ؟ من الثدي أم من الأعمدة؟
- منك.
- لِمَ؟ لمِصر أم لقادش؟
- لحبك.
- أريد أن أحبك لنهنأ.
- ولكنك تكره أخي كرهًا يقتل، وتحتفظ بكرهك لتقتله، أو ليقتلك.
- أكره أخاك في يوسف لا يوسف في أخيك، فانظريني! لست ربًا لجنود غيرٍ طالما يبقى الجنديّ لأخيك أداة، وتظل ما بيننا مواجهة قادمة.
بقيت صامتة، وغدت حائرة. لم تعد جولييت الجميلة، لم تعد قلب أخناتون، فابتعدت عنه إلى رع، والبحر يقترب منه بالنيل والأردن موجتين ضحلتين. أرادت أن تقترب منه ببردى ودجلة ضحكةً وكمثرى، فسألت عابسة:
- أيمكنني يومًا أن أصبح بيتك؟
- يمكنك.
- إذن خذني، ولنحل المسألة.
- تصبحين بيتي عندما آخذك إلى بيتي.
- إذن سأذهب بك، أنا، معي.
- البحر هناك، والموج هناك، والريح المكرهة للمراكب هناك.
- ألم تعد تحب البحر؟
- أحب البحر، ولكن البحر ليس بيتي. كان البحر رحلتي الطويلة بعد أن تجولت في عالم دنيا كل الآخرين ثلاثة آلاف سنة منذ سنة 48.
- إذن سأذهب بي، أنا، معي وحدي.
وراحت تغذ خطاها مبتعدة، فناداها:
- انتظري، جولييت!
وأتاها:
- سأدفئك بذراعي وأنت تقطعين الطريق إليّ.
وبينا هو في الطريق وإياها، وجد موسى ياكوفَ، أباها، ونوري، أخاها، يقطعان عليه الطريق. انتزعا جولييت من الذراع المدفئة، وقذفا موسى في البحر، فقال لن أتخذ من السمك حبيبة، ولن أجعل من الصدف بيتا، ولكني سآخذ من البحر غضبا، ومن الحيتان جسدًا وشعبا. وقال له البحر إني إلهك الذي كان بركانا، ولجرأتك فقط استجبت لك، فخر موسى للبحر ساجدا.


يتبع الفصل السادس