جهاديّو الشيوعية وسلفيّوها


عصام الخفاجي
2014 / 8 / 27 - 22:48     

حزب التاريخ المختار

ليس ثمة حزب شيوعي في المنطقة العربية (وربما خارجها) ظل يرسي برامجه على مشروع الإستيلاء على السلطة أو الوصول إليها غير الحزب العراقي. تبنّت برامج أحزاب شيوعية عدة هذا الهدف وحققته. وراود أحزابا أخرى، كالحزب الشيوعي الإندونيسي وتودة الإيراني، لفترة من الزمن. لكن هذا الحلم (أو الكابوس) ظل راسخا في العقل الشيوعي العراقي منذ إسقاط النظام الملكي عام 1958 حتى أواخر الثمانينات حين اقتلعت حملة الأنفال الدموية التي شنّها النظام العراقي الحركات المسلحة، بما فيها الحزب الشيوعي، من كردستان العراق وأجبرت من تبقى من قادته وكوادره على النزوح إلى المنافي. حتى في الفترة التي انخرط فيها الحزب في جبهة مع حزب البعث منحته مقعدين وزاريين ثانويين كان تثقيفه الرسمي يركّز على أن هذا التحالف يهدف إلى إنجاز ”ثورة وطنية ديمقراطية“ تمهّد للإنتقال إلى الإشتراكية التي لا بد أن يقودها حزب الطبقة العاملة، وهو بالتعريف الحزب الشيوعي الذي قد يضم آنذاك حزب البعث المتحول إلى الماركسية-اللينينية على غرار التجربة الكوبية حين تبنى فيديل كاسترو تلك الفلسفة وأسس حزبا شيوعيا ضم الحزب القديم إلى صفوفه.

ليس حلم/وهم قيادة السلطة حكرا على الشيوعيين العراقيين، فهو مكوّن رئيس من مكوّنات الفكر اللينيني. لكن الحركات المشرقية الأخرى لم تضعه في جدول أعمالها المباشر لأسباب مختلفة. وفي ظل غياب حياة ديمقراطية، كان أي مسعى جدي لتحقيق ذلك الحلم يعني اللجوء إلى العنف. حلم كان في أساس الصراعات التي دارت في داخل الحزب وأدت إلى انشقاقين كبيرين هزّا كيانه التنظيمي عامي 1967 و 1984.

حصل انشقاق 1984 حين كان وجود الحزب منحصرا في كردستان العراق وفي المنافي. أما انشقاق 1967 فحدث حين كان للحزب وجود جماهيري كبير في أنحاء العراق كما أنه أسّس ليسار ”جديد“ تساوق وتزامن، وإن لم يعمّر طويلا، مع تحوّلات هائلة شهدها اليسار العربي والعالمي خلال النصف الثاني من عقد الستينات.

ولدت ”القيادة المركزية“ كما تعارف الناس على تسميتها اختصارا في أيلول 1967 لتجذب إليها قطاعات واسعة من تنظيمات الحزب وكوادره الذين اتهموا الحزب الأم بـ”الإصلاحية“ و”التحريفية“، وهما تهمتان رائجتان آنذاك كانتا كافيتين لنزع الصفة الشيوعية عن الخصم. فوق هذا كلّه، وإلى جانب الشعارين المشتركين بين الحزبين: ”ياعمال العالم اتحدوا“ و ”وطن حر وشعب سعيد“، وضعت القيادة المركزية شعارا ثالثا تحت اسم جريدتها ”طريق الشعب“ وهو الإسم الذي ظل كلا الحزبين متمسكا به. كان الشعار الثالث ”حزب شيوعي لا اشتراكية ديمقراطية“، وهو عنوان كرّاس لفهد قائد الحزب الأسطوري في أعين أعضائه أعدمته السلطات الملكية عام 1949. أن يكون الحزب اشتراكيا ديمقراطيا، وفقا لقاموس فهد والحركة الشيوعية العالمية، يعني أنه لم يعد ثوريا وأنه انتقل من معسكر الطبقة العاملة إلى معسكر البرجوازية.

فجّر الصراع اجتماع عقدته اللجنة المركزية أوائل عام 1967 لمناقشة وثيقة طلبت قيادة الحزب إعدادها لتقييم سياسته خلال فترة الجمهورية الأولى التي قادها عبد الكريم قاسم بين 1958 و 1963 وانتهت إلى بحر من الدماء أغرق به حزب البعث المنقلب عليها العراق: أعدم عبد الكريم قاسم وكبار أعوانه وعُرضت جثثهم على شاشات التلفزيون وقُتل قادة الحزب تحت التعذيب فضلا عن عدد يراوح، وفقا لمعظم التقديرات، بين أربعة وخمسة آلاف من أعضائه وأنصاره. كان على الوثيقة الإجابة عن السؤال الحارق الذي ظل أعضاء الحزب ينتظرون الإجابة عنه: كيف نجح حزب البعث ذو القاعدة الشعبية المحدودة في قيادة انقلاب عسكري وشن حرب إبادة ضد الحزب الأكثر جماهيرية في العراق، الذي كان ثلت ضباط القوة الجوية أعضاء أو مناصرين له، وقطاعات كبيرة من القوات المسلّحة تؤيده؟

عوض الوثيقة الواحدة، وجد الحزب أمامه وثيقتين تقدّمان تفسيرين متناقضين. ”كان علينا الإستفادة من جماهيريتنا لإسقاط قاسم بعد أن كشف عن ميوله الدكتاتورية. لكننا اتّبعنا سياسة ذيلية تجاهه“، قالت الوثيقة الأولى. أما الوثيقة الثانية فكان منطلقها ”أن قاسم، وإن عزز من شعبيته بفضل دعمنا له خلال السنتين الأوليين على الأقل، إلا أن جمهرة هائلة من عشّاق الزعيم الكاريزمي أيّدتنا بسبب دعمنا له. ولو أننا انقلبنا عليه لكنّا واجهنا عداء تلك الجمهرة وربما محاربتها لنا. أضف إلى ذلك أن العراق كان في قلب الحرب الباردة بين الولايات المتحدّة والإتحاد السوفياتي ولن تسمح الأولى بسقوط بلد نفطي ذي موقع استراتيجي بيد عدوها من دون حرب بينهما“.

كان الصراع بين التيارين قائما منذ النصف الثاني من 1959 حين تبنى سكرتير الحزب وعدد من القادة الآخرين الرؤية الأولى فأبعدوا إلى موسكو. ثمة وصفة مضمونة النجاح يعرف كل قائد يريد البقاء في موقعه أن عليه اتّباعها: ألا تنحاز إلى طرف محدد عندما يحتدم الصراع. وهكذا كان. اختتم السكرتير الأول للحزب اجتماع 1967 بخلاصة مفادها أن كلا الرأيين أحادي الجانب، يحمل كل منهما عناصر من الصحة وأخرى من الخطأ.

والآن ما العمل وقد أسقط الناصريون بقيادة عبد السلام عارف البعث بعد تسعة أشهر وأسسوا نسخة عراقية من ”الإتحاد الإشتراكي العربي“، الحزب الحاكم الوحيد في مصر؟ جاء جواب مؤيدي الوثيقة الأولى قاطعا: اعتماد الكفاح المسلّح أسلوبا رئيسا لإسقاط السلطة البرجوازية الدكتاتورية المعزولة عن الجماهير. بعد أشهر، سيصبح شعار ”الكفاح المسلّح“ الذي أطلقته المقاومة الفلسطينية ترياقا سحريا لمقاومة المظالم في أعين الشباب، وهو ما الهب حماسهم للقيادة المركزية، حتى بات اسمهم الشعبي ”جماعة الكفاح المسلّح“.

على أرضية هذا المزاج السائد، والإحساس بأن الحزب الشيوعي لم يكن جادا في إسقاط سلطة عبد الرحمن عارف (الذي خلف أخاه)، وأن الحزب الذي كان يقود الشارع العراقي لم تضعفه ضربات انقلابيي 1963 فحسب، بل تحول خطه السياسي كذلك الى ”ذيلي يميني“ على حد التعبير السائد حينها، نشأ ”الحزب الشيوعي العراقي/القيادة المركزية“ بزعامة عزيز الحاج فيما ظلّ ”الحزب الشيوعي العراقي/اللجنة المركزية“ تحت قيادة عزيز محمد. وبغض النظر عن الحجم الفعلي لكل من الجناحين (انحازت غالبية التنظيم الطلابي وجزء كبير من التنظيم العمالي والكردي والفلاحي الى جانب اليسار) فإن التأثير الرمزي للقيادة المركزية تجاوز حجمها الفعلي بأشواط إذ لعبت شعاراتها على المزاج الجماهيري وتجاوبت معه: القوة، الاعتماد على النفس، تقديس الفعل. وسرعان ما دخلت مجموعة الكادر المتقدم المنشقة عن الحزب منذ 1964، في مفاوضات للتحالف مع القيادة المركزية لتشكلا معاً تحالفاً يحمل اسماً شديد الجاذبية ”جبهة الكفاح الشعبي المسلح“ ضمّ كذلك مجموعة ماركسية صغيرة انشقت عن حزب البعث عام 1961 وأطلقت على نفسها اسم ”راية العمال“.

في منطقة الأهوار الشاسعة المستعصية على السلطة في جنوب العراق، حيث تمتد مستنقعات مائية تتخللها جزر يتنقّل سكانها بينها بزوارق يقال إن تصميمها يعود إلى العصر السومري، ويعيشون على صيد الأسماك والخنازير وتربية الجاموس، أقامت ”جبهة الكفاح الشعبي المسلّح“ قاعدتها العسكرية مستفيدة من دعم شيخ قبيلة بني أسد لها، الشاب المتعلّم أمين خيون الأسدي. كما شكّلت القيادة المركزية ”الجهاز الصِدامي“ للقيام بعمليات مسلّحة داخل المدن. وأحاطت باسمها هالة كبيرة فأيّدها الجناح اليساري لحزب البعث، الذي حكم سوريا بين 1966 و 1970، وباتت هي والجبهة الشعبية الديمقراطية لتحرير فلسطين (هكذا كان اسمها) أشبه بفرعين لحركة واحدة وقدم لها الزعيم الكردي الملاّ مصطفى البارزاني الدعم وإن ظل على تحالفه التاريخي مع الحزب الشيوعي الأم.

في جاذبية العنف

أحاول من السرد السابق أن أبني جسما تحليليا يتساءل عن معنى اليسار الجديد في العراق (وربما في المشرق): هل برز الحديث عن إسقاط السلطة في تلك الفترة صدفة؟ هل ثمة قواسم مشتركة بين تياراته؟

مفهومان يصلحان أن يمثّلا هيكل الجسم التحليلي المقترح: اللينينية والكفاح المسلح أو العنف. للمرة الأولى (والأخيرة) في تاريخ المنطقة العربية بدا وصول الحركة الشيوعية إلى السلطة أمرا واقعيا وممكنا (حين استولت الجبهة القومية على السلطة في اليمن الجنوبي لم تكن قد تبنّت الماركسية/الشيوعية عقيدة لها بعد). لم تكن جمهرة الحزب معنية بتفحص الحجج التي عرضها ما صار يُعرف بـ”الجناح اليميني“ في الحزب الشيوعي العراقي، مفنّدا وجود تلك الإمكانية في أسوأ الأحوال ومخاطر استغلالها والإستيلاء على السلطة في أسوئها. كانت تلك جمهرة شابة تتأجج حماسا. بل إن أعمار كثير من قادة الحزب نفسه راوحت بين منتصف الثلاثينات ومنتصف الأربعينات.

وعلامَ يتربّى الشيوعي، والمنخرط في أي حركة ثورية؟ على أن الهدف الأسمى لحركته، والوسيلة الأكثر حسما وفاعلية في تحقيق المُثُل التي يسعى إليها، يكمن في الوصول إلى السلطة. وها إن الحزب لا يضيّع تلك الفرصة فحسب، بل إن مجزرة 1963 وصعود نظام قومي إلى الحكم وضعاه في موقع المعارض الذي لم يعد يشكّل خطرا جدّيا للسلطة الحاكمة. أن يكون حزب شيوعي في موقع المعارض للسلطة أمر طبيعي. لكن ما لم يكن طبيعيا بالنسبة لجمهرة الشيوعيين العراقيين هو فقدان الحزب لهيبته، لسطوته، لقدرته على إخافة الخصوم.

لم يكن الضعف التنظيمي وحده ما أنهى حلم الوصول إلى قيادة السلطة. فقد نجح الحزب في إعادة بناء تنظيماته وحقق نجاحات في انتخابات طلابية وعمالية في أواسط الستينات. لقد حدث زلزال هز كيان الحركات الشيوعية في كل بلد حكمته أنظمة تم التعارف على توصيفها بـ”الوطنية“، أو التقدمية، أي النظم التي لم تعد منحازة إلى الغرب والتي وسّعت سيطرة الدولة على مناحي الحياة السياسية والإقتصادية وباتت تطرح شعارات اشتراكية غير شيوعية. نالت نظم المنطقة العربية الحصة الأكبر من تلك التوصيفات: مصر، سوريا، الجزائر والعراق.

تبنّى المؤتمر العشرون للحزب الشيوعي السوفياتي (1956) سياسة جديدة عنوانها ”التعايش السلمي“ بين النظامين الإشتراكي والرأسمالي، سياسة تقوم على التنافس السلمي بين الإتحاد السوفياتي والولايات المتحدة على كسب النفوذ في البلدان الواقعة خارج المعسكرين، وجاء تبني هذا الخط متزامنا مع (أو لعله اقتنص فرصة) وصول سياسات الولايات المتحدة الى الذروة في العمل على إسقاط أنظمة الحكم غير الكاملة الولاء للغرب على امتداد العالم الثالث محققة نجاحات في أميركا اللاتينية وإيران والعراق وكثير من بلدان أخرى في آسيا وأفريقيا، وعاجزة عن تحقيق ذلك في مصر وبلدان أخرى مما دفعها إلى اللجوء إلى قطع المساعدات العسكرية والإقتصادية والفنية عنها وتنظيم حملات تحريض إعلامية ضدها. لم يكن معظم تلك الأنظمة المستهدَفة متعاطفا مع الإتحاد السوفياتي، بل كان بعضها، مثل مصر عبد الناصر وإيران محمد مصدّق، معاديا للشيوعية بشكل صريح. وكان هذا العداء كفيلا بأن يترك السوفياتُ أنظمة كهذه تسقط من دون أن يتدخّلوا لإيقاف السطوة الأميركية، كما تدلّل تجربة وقوفهم متفرجين على الإنقلاب الذي نظّمته وكالة المخابرات المركزية الأميركية على مصدّق في إيران المتاخمة لحدودهم الجنوبية.

قدم التصلّب الأميركي في التعامل مع مصر الناصرية عام 1954 فرصة ذهبية للإتحاد السوفياتي الذي لم يكن له أي حليف بعد خارج المنظومة الشيوعية، بل كان يمثّل كوكبا بعيدا لا علاقة لبلدان العالم الثالث، باستثناء الهند المستقلة حديثا، به.

توافق هذا التحول مع موقف الحزب الشيوعي العراقي الداعم بحماس لنظام الجمهورية الأول بقيادة عبد الكريم قاسم. وكان هذا هو الحال مع الحزب الشيوعي المصري ”حدتو“ (الحركة الديمقراطية للتحرر الوطني) الذي دعم نظام عبد الناصر. حتى حين تعرّض الحزبان إلى القمع على يد هذين النظامين فيما بعد، لم يتّخذا موقف العداء القاطع لهما.

بعد أواسط تموز 1959، انتقل عبد الكريم قاسم الى موقع الهجوم على الشيوعيين الذين تعاظم نفوذهم الشعبي منذ ثورة تموز 1958 مشجعاً القوى الأخرى على التحرش بهم. وكان البعثيون أول من اقتنص الفرصة، إذ قاموا بقتل عضو شيوعي في بغداد. ينقل أحد قدامى البعثيين كيف كان القلق يتآكلهم بعد العملية خوفاً من رد فعل عنيف من جانب الشيوعيين وأصدقائهم. وجاءت المفاجأة حين أصدر الحزب الشيوعي بياناً ينعى فيه الشهيد ويطالب السلطات المختصة بالتدخل لحمايتهم. تلتقي هذه الرواية مع ما يردده كثير من الشيوعيين الذين عايشوا تلك الفترة، من أن عدم ردهم على الهجمات حوّلهم في أعين الناس الى مسيحيين يثيرون العطف والشفقة.

وجذر القضية لا يعود الى أخطاء تكتيكية، كما يبدو، بل الى رغبة الحزب بالتخفيف من الصورة التي رسمها له الاعلام والقوى المعادية له ومفادها أنهم يتحكمون بالسلطة والشارع العراقي، بل يمارسون السلطة على قاسم. وكان الأخير يستغل تلك الصورة المضخّمة ليحجّمهم بعد أن قام بضرب خصومه الملكيين والقوميين مستنداً الى تأييد الحزب الشيوعي له. كان صمود مئات الشيوعيين وموتهم تحت التعذيب الوحشي إثر انقلاب البعث الأول عام 1963 يثير شعوراً بالفخر لدى البسطاء وهم يسمعون عن قصص أسطورية مثل صمود سكرتير الحزب الشيوعي سلام عادل وجسده يقطّع بالمنشار، و”قطار الموت“ الذي أريد له أن يتحول الى مقبرة جماعية لشيوعيين أحكمت عليهم صهاريج معدنية في ذروة الصيف العراقي اللاهب بحجة نقلهم إلى سجن في الجنوب. لكن هذا لم يمنع الشعور العارم بالخيبة الذي لف أنصار الحزب وهم يرونه عاجزا عن الاستفادة من جماهيريته. وتحول المزاج الشعبي الذي ظل متعاطفا مع الشيوعيين من التطلّع إليهم كأبطال امتلكوا القدرة على ردع الخصوم إلى حسينيّين مستعدّين للإستشهاد دفاعا عن مبادئ لم يضعوها موضع التطبيق.

وتعرّض الشيوعيون المصريون لحملة قمعية عام 1959. ومع هذا وُصف طابع السلطة بـ”البرجوازية الوطنية“: ليست السلطتان المصرية والعراقية اشتراكيتين بالتأكيد، لكن مصالح طبقاتها الحاكمة تتعارض مع الإمبريالية وعلينا بالتالي دعمهما ”نقديا“. وهذا حتى لو تعرّضنا للقمع من جانب طبقة معادية بالأصل للطبقة العاملة التي نمثّل، إذ بيننا مصلحة مشتركة في معاداة الإمبريالية.

لم يكن لدى شيوعيي المشرق، ولا لدى غيرهم في العالم الثالث، غير عدّة تحليلية بائسة عمرها أربعة عقود. فانعزال الروس عن العالم الخارجي أبقاهم في عالم أوائل القرن العشرين. ولم يكن لدى السوفيات غير جعبة مناقشات مؤتمر باكو لشعوب الشرق الذي انعقد عام 1920 والذي لم ينته إلى مواقف نظرية معلّلة على أي حال. ما الذي ينبغي على الشيوعيين فعله تجاه السلطات الحاكمة سواء كانت تحت سيطرة استعمارية كالهند، أو مستقلة كالصين؟ توارى في مقابر ستالين الأذربيجاني سلطان عليّيف الداعي إلى الإندماج في حركة التحرر القومي، والهندي روي الداعي إلى شن الصراع الطبقي ضد البرجوازيات المحلية حتى قبل نيل الإستقلال. كانت آمال الروس في انتشار الثورة غربا قد انتهت بعد أن قُضي على الثورتين الشيوعييتين في ألمانيا وهنغاريا. وحين تحوّلت النظرة الأممية إلى آسيا، لم تعد الشيوعية حركة فكرية-نضالية فقط (بل ربما لم تعد حركة فكرية أصلا) بل صارت نظاما يحكم دولة لها مصالح. هكذا، أمرت الأممية الثالثة (التنظيم العالمي للحركة الشيوعية) الشيوعيين الصينيين بالتعاون مع البرجوازي الوطني تشانغ كاي تشيك لكي ينتهي الأمر بقتل الأخير مليون عامل في شنغهاي عام 1927.

معاً نحو الإشتراكية

جاء الزلزال الذي هز الحركة الشيوعية حين شرع عبد الناصر بإرساء أسس نظام سياسي-اقتصادي-ثقافي على غرار النظام السوفياتي: تأميم الجزء الأكبر من المنشآت الإقتصادية العائدة لرأس المال الخاص، فرض احتكار الحزب الواحد، تبني الإشتراكية هدفا تسعى الدولة إلى تحقيقه، تأميم الإعلام والتعليم، إنشاء منظمات شباب وطلاب ونساء ونقابات تابعة للحزب الحاكم وتحريم ما عداها. بعد سنوات قليلة أعلنت السلطات العربية التي جاءت إثر إنقلابات جذرية (سوريا والعراق) واليمن وليبيا فيما بعد، وتلك التي جاءت إلى الحكم بعد حروب تحرير (الجزائر واليمن الجنوبي) اشتراكيتها من خلال تبني الإجراءات ذاتها. وانتشرت العدوى إلى أكثر من عشرين بلداً أفريقياً وآسيوياً خلال عقدي الستينات والسبعينات، فظهرت نظم تسمي عقائدها ”اشتراكية علمية“ و”اشتراكية عربية“ و”اشتراكية أفريقية“ وشتّى أنواع الإشتراكيات.

لم يحدث أن قام نظام غير شيوعي بتلك الإجراءات من قبل. كان الإنقلاب العسكري حتى ذلك الحين مرادفا لليمين. بل لم تكن ثمة ظاهرة اسمها ”انقلاب عسكري“ في آسيا وأفريقيا آنذاك. حصل انقلاب في غواتيمالا الأميركية الجنوبية لم تكن يد المخابرات المركزية الأميركية خافية في تنفيذه. عدا هذا كان في الذاكرة انقلاب موسوليني الفاشي في إيطاليا. أيمكن أن يقوم العسكر باستلام السلطة لغير صالح الغرب؟ تبنى طرف في الحركة الشيوعية المصرية هذا التفسير ليعلن أن ما حدث في مصر كان انقلابا فاشيا.

في أوساط الحركة الشيوعية العالمية كان أمرا مفروغا منه أن الطبقة الإجتماعية الوحيدة القادرة على، وذات المصلحة في، اتخاذ تلك الإجراءات، لا سيما القضاء على الملكية الخاصة لرأس المال أو فرض قيود صارمة على رأس المال الخاص، هي الطبقة العاملة، الطبقة التي لا يمثلها أو يقودها غيرنا. وإذ تعمّقت علاقات السوفيات مع النظام الناصري، والنظامين السوري والجزائري فيما بعد، كان لا بد من شَرعنتها آيديولوجيا. خرج الحزب الشيوعي السوفياتي بنظريته عن التطور اللارأسمالي: يمكن لأنظمة البرجوازية الصغيرة المرور في مرحلة أسموها الوطنية الديمقراطية، توصل بلدانها إلى الإشتراكية متجاوزة المرور بمرحلة الرأسمالية.

كان هذا انقلابا فكريا. البرجوازية الصغيرة، تلك الطبقة اللاطبقة، المزبلة الإجتماعية التي ألقى التحليل الماركسي إليها كل من لا ينتمي إلى إحدى أقليّتين (حتى في الغرب): البرجوازية والطبقة العاملة، الطبقة الموصوفة بأنها لا يمكن أن تحكم إذ لا تمتلك مصالح خاصة بها لأن مصالحها متأرجحة بين نقيضي الصراع، باتت حاكمة كما قرر السوفيات.

في النقاشات والسجالات التي دارت لتبرير أو تفنيد تلك النظرية، وهي كثيرة وعنيفة لا مجال لإستعراضها هنا، كان ثمة مضمر لم يطرحه الشيوعيون صراحة: إن كان بوسع البرجوازية الصغيرة القيام بإجراءات ”لا رأسمالية“، أي متجاوزة للرأسمالية، فما مبرر وجودنا كقوة سياسية مستقلة؟ أجاب المنظّرون السوفيات بأن هذه البرجوازية الصغيرة بحاجة إلى من يدفعها، عبر التحالف لا العداء، إلى التخلّص من تذبذبها لكي تنحاز بشكل حاسم إلى صف الطبقة العاملة لبناء الإشتراكية. ستبرز مفارقة بعد بضع سنوات: المنشقّون عن الحركات الشيوعية ومتبنّو الماركسية من القوميين العرب التصقوا بدرجة كبيرة بالخط الكاستروي/الغيفاري القائم على العنف المسلّح لإسقاط النظم الحاكمة. لكن السوفيات أنفسهم كانوا يبشّرون بجانب آخر من التجربة الكوبية يريدون للشيوعيين الإلتصاق به. فحين وصل كاسترو غير الشيوعي إلى الحكم في كوبا، كان ثمة حزب شيوعي اتخذ منه موقفا سلبيا مما عرّضه إلى القمع على يد الثوار المنتصرين. وما لبث كاسترو أن عفا عن خصومه الذين ذابوا في حزبه الشيوعي الجديد. كانت قيادة الثورة الكوبية، وفق التوصيف السوفياتي، برجوازية صغيرة. لكنها حسمت أمرها بأن اعتنقت الماركسية اللينينية وشرعت ببناء الإشتراكية في كوبا.

بعد حوالى عقد من الزمن، سيستخدم الحزب الشيوعي العراقي هذا الضرب من التفسير لتبرير تحالفه مع حزب البعث (1973–1978). وذهب بعض هذا التنظير إلى أن ثمة جناحين في حزب البعث الحاكم، يقود الجناح الثوري فيه نائب الرئيس العراقي آنذاك صدّام حسين. وكان التلميح واضحا: يمكن للأخير أن يكون كاسترو جديدا. تبنّت الأحزاب الشيوعية في البلدان الحليفة للإتحاد السوفياتي نظرية التطور اللارأسمالي التي عنت في الواقع العملي أن العمل على إيجاد بديل عن النظم الحاكمة لم يعد واردا وكل ماعليها الآن هو دعم تلك النظم أولا، والسعي للتحالف مع الحزب الحاكم الوحيد ثانيا، وتوجيه النصح والنقد الحذر بما يدفع تلك النظم إلى ”تعميق إنجازاتها“ وعدم الإرتداد عنها بعدم السماح للقوى المضادة بالتسلل إلى جسم الدولة.

إذن لم يكن الإقرار بمشروعية الإطار العام للنظام القائم مشابها لإقرار الأحزاب الشيوعية الغربية بضرورة التخلي عن ستراتيجيات الثورة والإنخراط في العمليات الإنتخابية والتنافس مع الأحزاب الحاكمة، بل كان تسليما لتلك الأحزاب بالقيادة. وسيواجه الحزبان الشيوعيان السوري والعراقي تلك المعضلة عند توقيعهما على ميثاقي التحالف مع حزبي البعث الحاكمين في بلديهما في عامي 1972 و 1973 على التوالي. وافق الأول على تثبيت فقرة تنص على أن ”حزب البعث العربي الإشتراكي يقود الدولة والمجتمع“، واستخدم البعث العراقي تلك السابقة ليضغط على الشيوعيين بإقرار فقرة كهذه لكن الأخيرين أعلنوا بزهو أنهم نجحوا في تثبيت قيادة البعث للدولة فقط.

لم تكن تلك الأحزاب بحاجة إلى انتظار التوجيه السوفياتي لكي تتبنى الخطوط العامة لتلك السياسة. فما كان بوسع الشيوعيين المصريين المفتّتين وقليلي الأتباع اتخاذ موقف غير مصفّق للكاريزمي عبد الناصر، فبادروا إلى دفع استراتيجيات عمل التطور اللارأسمالي إلى حدود لعل السوفيات أنفسهم لم يتوقعوها: حلّوا حزبهم وانضمّوا فرادى إلى الإتحاد الإشتراكي العربي واحتل بعض أبرز قادتهم مراكز مسؤولة في المنابر الثقافية والفكرية الرسمية. لكن هذا لم يكن حال الشيوعيين العراقيين، لا لأنهم كانوا أكثر شعبية بما لا يقاس من أحزاب المنطقة الشيوعية كلها فحسب، بل لأن نظام الحكم الناصري بقيادة عبد السلام عارف لم يحظ بأي شعبية، كما أنه لم يُقدّم إنجازا يتفاخر به كما فعل نظام عبد الناصر. ومع هذا أدرجه السوفيات ضمن فئة الأنظمة السائرة في طريق التطور اللارأسمالي لأنه أمم البنوك وقسما كبيرا من القطاع الصناعي المحلي، وأمم الإعلام وأنشأ اتحادا اشتراكيا عربيا.

ألهب تأميم عبد الناصر قناة السويس مشاعر المصريين والعرب. فقد كرّس سلطته منتصرة على الإستعمار من جهة ومنتزعة لثروات البلاد من أيدي مستغلّين من جهة أخرى، لا سيما وأن التأميم جاء في سياق البحث عن تمويل مشروع السد العالي الذي بات هو الآخر مرادفا للكرامة الوطنية. أما في العراق، فبدت إجراءات التأميم مهزلة إذ تركت النفط الذي يموّل ثلاثة أرباع الميزانية العراقية ويوفّر أكثر من تسعين بالمئة من عائدات العملة الصعبة في أيدي الشركات الأجنبية فيما توجّهت إلى رأس المال المحلي الضعيف أصلا. كانت قيادة الحزب الشيوعي العراقي تدرك أنها ستواجه احتجاجات هائلة من جانب كوادر الحزب وأعضائه إن هادنت سلطة عبد السلام عارف. فمهّدت لذلك بدفع أحد قادتها إلى كتابة مقال في مجلة ”قضايا السلم والإشتراكية“ المعبّرة عن المواقف الرسمية للأحزاب الشيوعية المرضي عنها من جانب السوفيات، يجادل بصحّة التعاطي الإيجابي مع السلطة الحاكمة من دون أن يصل إلى حد الإعلان عن ضرورة التحالف معها. ومع هذا حصل ما توقّعه القادة، وتم التخلّي عن ”خط آب“ وهي التسمية التي أطلقها الشيوعيون على ذلك الموقف الذي تم إعلانه في عدد شهر آب 1964 من تلك الدورية.

حين تبنّى الحزب موقفا مهادنا من السلطة الحاكمة، كان الطابع الإجتماعي لجمهرته الكبيرة قد تعرّض لتحول عميق، إذ لم يعد حزبا حضريا (مدينياً) بالأساس كما كان في الفترة السابقة على ثورة تموز 1958 وأثناءها. دخلت إليه، أو تعاطفت معه، غالبية السكّان المهمّشين من المهاجرين إلى بغداد، فضلا عن قطاعات واسعة من فلاحي المنطقة الجنوبية. وكان هؤلاء كلّهم يشعرون بالغربة عن الدولة وأجهزتها وبالعداء لها. لم يكونوا مثل الشيوعيين الحضر الذين كانوا على تماسّ بالحركات السياسية الأخرى، والحاصلين على قسط من التعليم في المؤسسات الحكومية والقادرين على ممارسة مهن مختلفة في قطاع الدولة أو القطاع الخاص. كان الحزب يحظى بدعم من جانب فئات من أثرياء بغداد وبعض من أبرز المثقفين والأكاديميين الذين درسوا في الغرب. وكل هؤلاء كانوا مندمجين بهذا القدر أو ذاك بالجسم الإجتماعي القائم. لكن مهادنة السلطات بدت في أعين جمهرة المهمّشين أقرب إلى خيانة المبادئ أو على الأقل تخلياً عن الدفاع عن مصالحهم. من هنا أرسى هذا الحقد أساسا متينا لكل دعوة تهدف إلى إسقاط السلطة الحاكمة.

تشارك المهمّشون في نظرتهم إلى الدولة مع كتل لعبت، ولا تزال، دورا أكثر حسما في تزويد الحركات السياسية الراديكالية التي تزعّمتها الحركة الشيوعية آنذاك بأبرز نشطائها. كتل لم تكن مهمّشة بالمعنى الإقتصادي بالضرورة: محترفون حزبيون لم ينخرطوا يوما في الحياة المهنية والإقتصادية، خريجو جامعات ومدارس إعدادية وطلاب انسدّت آفاق صعودهم في السلّم الإجتماعي لأسباب عدّة برغم حصولهم على مؤهلات كافية. كان أهم تلك الأسباب انسداد الحراك الإجتماعي الصاعد بسبب ركود الحياة الإقتصادية وعدم توافق معدّلات تطوّرها مع الزيادة في قوة العمل. لقد فتح العصر الجمهوري الباب على مصراعيه لتلقي الفقراء تعليما جامعيا أو إعداديا. لكنه لم يفتح بابا مماثلا أمام هؤلاء للإنخراط في الحياة العامة أو لتحقيق آمالهم أو أحلامهم بالصعود إلى مواقع سياسية أو اقتصادية يعتقدون أنهم يستحقونها. والفرص القليلة المتاحة لتحقيق تلك الأحلام، وهي فرص وفّرها بالأساس الإنخراط في الكليات العسكرية والتخرّج ضباطا، باتت محتَكرة منذ 1963 وسقوط الحكم القاسمي. لم يعد الطابع الطائفي السنّي وحده بارزا في تكوين السلطة وأجهزتها، بل بات ثمة توزيع وتنافس وصراع مناطقي سنّي على احتلال المواقع البارزة.

في فترة حكم الأخوين عبد السلام عارف وعبد الرحمن عارف (1963–1968) كانت قيادات السلطة وجهاز الجيش والشرطة متنازَعة بين كتلة ”الجُميلات“ وهي العشيرة التي ينتمي إليها الأخوان عارف وينحاز إليها أبناء الغرب، وكتلة الموصل التي تزعّمها عبد العزيز العقيلي، وكتلة تكريت ذات الزعامات المتعددة التي التف حولها أبناء مناطق شمال بغداد. الغالبية الساحقة من تلك الكتل الأخيرة جاءت إثر اكتساح عشرات ألوف المهاجرين الجدد للمدن الكبرى، لا سيما بغداد. لم تكن موجات الهجرة في تلك الفترة أكثر عددا من مثيلتها خلال العقد الأخير من العهد الملكي والتي كانت بمئات الألوف، لكن عنصرها التدميري للحياة السياسية (أو الإنقلابي على تلك الحياة كلها) تمثل في كون هؤلاء المهاجرين، على عكس سابقيهم الفلاحين المسحوقين والأميين، قد حصلوا على قدر من التعليم وجاء بعضهم للإنخراط في الجامعات أو الكليات العسكرية. كما أن غالبيتهم الساحقة لم تأت من الريف بل من بلدات صغيرة. وكان هؤلاء هم الأكثر شعورا بالتهميش والأكثر قدرة على الفعل. ومن تلك الكتل ستأتي غالبية راديكاليي لا الحركة الشيوعية فحسب، بل البعثية كذلك، وسينحاز جيلها الثالث إلى الحركات الإسلامية الشعبوية.

هكذا كسبت القيادة المركزية تعاطف قطاعات مهمة من هؤلاء الغرباء عن الدولة والمجتمع ”الراقي“: انتشوا عند سماع أنباء عن قيام الحزب بإحراق عشرين سيارة يملكها ”برجوازيون“، وعندما سطا الرفاق على فرع لمصرف الرافدين الحكومي في المنطقة الكردية. وكانت العملية الأكثر إثارة إسقاط طائرة هليكوبتر عسكرية فوق منطقة الأهوار.

البحث عن الإستعمار

ظلت قيم التحرر الوطني غالبة على تفكير اليسار والرأي العام عموما ولم تبدأ بالإنكسار إلا مع ثورات ما يعرف بالربيع العربي. ولكن حتى في الأخيرة، ظلت تلك القيم حاضرة بقوة سواء في معسكر الثوّار أو في معسكر النظم الحاكمة.

أقصد بقيم التحرر الوطني تلك التي ترى في الصراع مع القوى الإستعمارية الواجب الأول والأساس للشعوب غير المنتمية إلى معسكري الصراع الدولي: المعسكر السوفياتي من جهة ومعسكر الدول الصناعية الرأسمالية من جهة أخرى. والأمر الطبيعي، وفقا لهذه النظرة، هو أن تكون تلك الشعوب كلاّ موحَّدا غير قابل للإنقسام حتى وإن تم الإقرار بوجود تباينات اجتماعية وعرقية ودينية في داخل هذا الكل الواحد. في معظم بلدان المشرق، مثّل انتشار هذه القيم وعاء آيديولوجيا فاعلا لقوى اليسار والقوى القومية في مجابهتها للنظم الحاكمة قبل انتصار الثورات الناصرية والبعثية. ولعل سوريا ما بعد الإستقلال كانت استثناء. إذ عدا فترات حكم حسني الزعيم وسامي الحنّاوي وأديب الشيشكلي الإنقلابية، لم يكن ثمة تشكيك عام بوطنية نظام الحكم. كان من السهل على قوى المشرق القومية واليسارية التحريض على الأنظمة الحاكمة بوصفها متواطئة مع العدو الأجنبي، وهو بريطانيا وفرنسا ولحقت بهما الولايات المتحدة فيما بعد، مما قدّم مبررا كبيرا للإلتفاف الشعبي حول تلك القوى بوصفها حاملة لقيم التحرر الوطني.

كانت النظم الحاكمة، وفق منظومة القيم هذه، معيقة للتحرر الوطني بوصفها عميلة للغرب أو متحالفة معه. استخدم اليسار الشيوعي جهاز تحليله الطبقي ليشرعِن العداء لتلك النظم ويكسب تفوّقا بين صفوف المتعلمين الحضر على حساب التيار القومي. فثمة في هذا الجهاز تقسيم مرتّب للمجتمع تتحدد المواقف فيه وفقا للمصالح: العمال والفلاحون والمثقفون والبرجوازية الصغيرة والمتوسطة والصناعية، كلهم مع التحرر الوطني. ولا يبقى سوى كبار ملاّك الأرض وكبار التجار في المعسكر المعادي لأن مصالحهم تتوافق ومصالح الإستعمار. وكمن تفوق الشيوعية هنا في أنها حاولت، ونجحت في أحيان كثيرة، في رفع المعايشة اليومية لأبناء المدن إلى مستوى التنظير والتفسير. وهي نجحت كذلك في ربط الظلم الإجتماعي والتخلف بالتحرر الوطني. مصالح كبار التجار تقف ضد التصنيع وكذا مصالح الغرب الإستعماري. ومصالح كبار ملاك الأرض معادية للعدالة الإجتماعية وكذا مصالح الغرب.

لأبناء البلدات والضيع الصغيرة كان هذا الضرب من التفسير مبهما. كانت تلك البلدات والضيع عوالم صغيرة يقل فيها التباين الإجتماعي وتغلب على أبنائها روح التضامن العائلي أو المحلي أو غيرها. هناك، في عالم العاصمة والمدن الكبرى البعيدة، ثمة مترفون بعيدون عن همومهم. هناك أجانب كثُر يغرفون ثروات كبيرة. وهناك أبناء طوائف وأديان وقوميات تختلف عن طائفتهم أو دينهم أو قوميتهم يتمتعون بخيرات البلاد. لم تتعرض للانهيار صناعاتنا الحرفية تحت وطأة استغلال فئة اجتماعية محلية، بل هي سلع الإستعمار وسياساته التي تشقّ وحدة الأمة المتجانسة لإضعافها. عملاء الإستعمار بالتالي لا يُتعرّف اليهم كطبقات بل كأفراد خانوا مصالح الأمة التي هي بالتعريف موحّدة. ولمن يتسلل النفوذ الإستعماري أولا؟ للشيعة ذوي الولاء الإيراني في العراق، وللأكراد الإنفصاليين، ولليهود بالطبع. رفع التفسير القومي العربي هو الآخر المعايشة اليومية لهؤلاء إلى مستوى التنظير مما طبع ذلك الفكر بطابع معاداة أبناء المدن لا سيما الأقليات. وحين انتصرت ثورات التحرر الوطني كان الحضريون جزرا صغيرة وسط بحر هائل من أبناء البلدات والريفيين المهاجرين.

مع صعود تلك النظم، لم يتم تهميش النظرة الشيوعية للمجتمع فقط بل تم تهميش الأفكار الإصلاحية للأحزاب التي لعبت أدوارا معارضة للنظم السابقة أيضا. وحتى في صفوف قادة ثورات التحرر، وفي داخل الحركات القومية نفسها حدثت انقلابات اجتماعية عميقة عكست تسيّد فكر أبناء البلدات. أزيح أول قادة ثورة يوليو المصرية، اللواء محمد نجيب ورفاقه الحضريون وحل محلهم طاقم لم ينحدر أي من قادته البارزين من المدن الكبيرة. وسقطت سلطة عبد الكريم قاسم الذي مثّل أبناء المدن غالبية أعضاء حكوماته وحلت محلّه سلطة البعث. لكن الأمر لم يتوقف عند هذا الحد. فحزب البعث نفسه خلع قادته المدنيين عبر صراعات دموية. بدل الدمشقي صلاح الدين البيطار والحلبي أمين الحافظ جاءت قيادات تنحدر من ضيع اللاذقية ومن دير الزور والسلَمية ودرعا. وبدل البغدادي علي صالح السعدي ورفاقه الحضريين مثل حازم جواد وطالب مشتاق حلّ أبناء قبائل الدليم والجبور وبلدات تكريت وسامرّاء وعانة والدور وحديثة.

ظل الخطاب المعادي للإمبريالية يتمتع بقوة تعبوية هائلة في أعين الغالبية من أبناء المشرق. وليس من المبالغة القول إن منطقتنا تكاد تكون الوحيدة التي لا زالت مصابة بهذا العصاب برغم أنها لم تخضع لحكم استعماري مباشر مديد (باستثناء الجزائر واليمن الجنوبي). نجد بالطبع مواقف سياسية حذرة متفاوتة الحدة من سياسات الولايات المتحدة في أجزاء من أميركا اللاتينية والهند التي خضعت للإستعمار قرونا طويلة، لكن هذا لا يصل إلى حد الهوس الذي يقرن كل ظاهرة سياسية بنوايا الإستعمار أو مؤامراته.

ترتّب على هذا أن الموقف من النظم الوطنية وسياساتها المعلنة في معاداة الإمبريالية صار أساسا في انقسام الحركات الشيوعية في المشرق. تبنى الإتحاد السوفياتي ومعه الأحزاب الشيوعية الرسمية موقف الدعم الحازم لتلك الأنظمة التي صارت رصيدا له في الحرب الباردة ضد الولايات المتحدة والغرب. وحين كانت بعض تلك الأنظمة تغازل الغرب هنا وهناك، كان الشيوعيون يرون أن موقفهم يتمثل في الضغط ”لتصليب“ مواقفها. تمثّلت الترجمة الأكثر فضائحية لهذه السياسة في تقييم الحركة الشيوعية للإنتصار الإسرائيلي على تلك الأنظمة عام 1967. لم تنتصر إسرائيل، وفقا لبيان مشترك أصدرته الأحزاب الشيوعية، لأنها لم تحقق أهدافها من تلك الحرب. كان هدفها إسقاط الأنظمة التقدمية في مصر وسوريا لكنها لم تنجح في ذلك. وسيستعير صدّام حسين هذه المحاجّة ليعلن انتصاره في حرب تحرير الكويت عام 1991، برغم انهزامه المذل، لأن الولايات المتحدة وحلفاءها لم ينجحوا في إزاحته عن الحكم.

ومع أن السوفيات والشيوعيين كانوا يحاولون إنقاذ ماء وجه حلفائهم المهزومين، إلا أن الأخيرين شجّعوا كتابا وصحافيين مقربين منهم على الترويج لحجة أن السوفيات لم يقدموا الوسائل الكافية لمجابهة منظومات الأسلحة المتطورة التي جهّزت الولايات المتحدة بها حليفها الإسرائيلي. جابه الشيوعيون هذا المنطق بالقول إن أسلحة سوفياتية أقل شأناً مما لدى العرب تستنزف الأميركيين في فيتنام. لكن المفارقة تكمن في أن هذه المحاجّة لم تكن تصب لصالحهم، إذ كان المثال الفيتنامي يوجه الأنظار الى شكل آخر من الماركسية، ماركسية فلاحية أو قومية تدعو الى المزيد من الاعتماد على النفس أولا، وعلى حرب العصابات التي تلعب القوات غير النظامية دورا أساسا فيها.

كأن التاريخ أعاد نفسه. فللمرة الثانية يواجه الشيوعيون محنة العجز عن التوافق مع المزاج الجماهيري الهائج في ما يتعلق بالقضية الفلسطينية. المرة الأولى حين أيدوا قرار تقسيم فلسطين إلى دولتين يهودية وفلسطينية، وهذه المرة إذ طالبوا بتنفيذ قرار مجلس الأمن الداعي إلى انسحاب القوات الإسرائيلية من الأراضي التي احتلتها عام 1967 عبر المفاوضات. كان المطلب الجماهيري في كلتا الحالتين تحرير فلسطين كاملة من البحر إلى النهر.

وبرغم أن انقسام الحزب الشيوعي العراقي وظهور القيادة المركزية تكرّس في أيلول 1967، إلا أن من الصعب القول بأنه جاء كردة فعل على موقف الحزب الرسمي من هزيمة حزيران. فقد اندلع الصراع فور إعادة بناء التنظيم بعد كل ما لحق به عام 1963، بل قبل ذلك كما بيّنت. وفضلا عن هذا، فإن الوثائق المؤطّرة للصراع لم تأت على ذكر القضية الفلسطينية قط. ومع ذلك لعب المناخ السياسي السائد في المنطقة آنذاك دورا في إضفاء هالة على الجناح المنشق. لقد أضافت القيادة المركزية عتادا إلى ترسانتها بفضل هزيمة الأنظمة العربية الحاكمة أمام إسرائيل، لا سيما تلك التي أسقطت سابقاتها لعجزها (من بين مبررات أخرى) عن تحرير فلسطين عام 1948 وخيانتها للقضية الفلسطينية. ومع أن حرب 1967 توقفت والقوات العراقية المرسَلة للمشاركة في الحرب لم تصل إلى الأردن بعد، فإن تقاعس النظام العراقي عُدّ حجّة إضافية تبرر عدم أهليته لقيادة النضال التحرري.

جاء ظهور المقاومة الفلسطينية المسلحة بعد حزيران عاكسا لذلك المزاج السائد في الشارع. فقد انطوى صعودها والتأييد الساحق الذي حظيت به عربيا على فكرة عجز الجيوش العربية عن تحرير فلسطين وضرورة خوض ”حرب التحرير الشعبية الطويلة الأمد“ من جانب الحركات المسلحة غير النظامية. وستتكفل تلك الاستراتيجية بإنجاز هدف التحرير عبر اللجوء إلى العنف المسلّح الدائم الذي تعجز الجيوش عن القيام به. أضاف يساريو المقاومة الفلسطينية الذين تبنوا الماركسية حديثا، ”الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين“، ومن ثم ”الجناح التقدمي“ في تلك الجبهة الذي سرعان ما استقل عنها واتخذ اسم ”الجبهة الشعبية الديمقراطية لتحرير فلسطين“ بعدا تنظيريا على هذا الإستنتاج، بأن أعلنوا بأن الطبيعة الطبقية للنظم العربية تشلّها عن خوض الحرب لأن تسليح الشعب يهدد سلطتها. فالشعب، وفقا لهذا التنظير/الوهم، لا يمكن أن يكون إلا مع اليسار الذي يعلن نفسه ممثلا للكادحين وهم غالبيته الساحقة.

حين كان المزاج الساخط يتحدث عن الكفاح المسلح وأن ما أخذ بالقوة لا يسترد بغير القوة، وعن الانتقام من الإذلال الذي لحق بالعرب، كان الشيوعيون يتحدثون عن المفاوضات وقرار مجلس الأمن 242 وتعزيز القدرة العسكرية للجيوش العربية وتعزيز التحالف مع المنظومة الإشتراكية وعلى رأسها الاتحاد السوفياتي والسعي لإقامة جبهات وطنية مع السلطات القائمة لتوسيع القاعدة الشعبية للحكومات والتفاوض مع إسرائيل بهدف الوصول الى حل سلمي يقوم على انسحاب الأخيرة من الأراضي المحتلة عام 1967 مقابل اعتراف العرب بها. وحين اتّسع دور المقاومة الفلسطينية عوملت من جانب الإتحاد السوفياتي والحركة الشيوعية بحذر شديد وراوحت التقييمات بشأنها بين كونها ”مشبوهة“ وبين اتهامها بـ”الفوضوية“ و”المغامرة“ والبرجوازية الصغيرة. عبّر عن تلك المواقف آنذاك مقالان أحدهما بقلم سكرتير الحزب الشيوعي الأردني فهمي السلفيتي (انشق الحزب على أثره)، والآخر بقلم العراقي نوري عبد الرزاق حسين الذي لمع نجمه في الواجهات السوفياتية المبثوثة في العالم يومذاك (اتحاد الطلبة العالمي ومنظمة التضامن الأفرو آسيوي). وحين تبيّن للأحزاب الشيوعية أن مأثورة الكفاح المسلّح باتت غير قابلة للتحدّي أنشأت الأحزاب الشيوعية في الأردن ولبنان وسوريا والعراق منظّمة ”قوات الأنصار“ التي سرعان ما تبخّرت.

ترك طغيان الخطاب المعادي للأمبريالية وتعاظم سطوة المقاومة الفلسطينية آثارا شديدة العمق على تبلور اليسار العراقي الجديد والقيادة المركزية بالطبع. انشقّت ”الحركة الإشتراكية العربية“، وهي التسمية التي اتخذتها ”حركة القوميين العرب“ العراقية لها، إلى جناحين أحدهما والى ”الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين“ والآخر ”الجبهة الديمقراطية“. فالصراع ضد الإمبريالية يعني البحث عن مسوّغ لإسقاط نظام الحكم يقوم على دمغه بالعمالة أو التواطؤ مع الغرب.

احتدم نقاش يبدو اليوم منتميا إلى عالم المجمّعات الكنسية عن طبيعة الله. نقاش لا علاقة له بالعالم ولا علاقة للعالم به: النظم ”التقدمية“ في مصر وسوريا ذات طبيعة برجوازية صغيرة. وهي قد أثبتت عجزها عن خوض المعركة ضد إسرائيل حتى النهاية. فهل يمكن لهذه الطبقة قيادة تلك المعركة، أم أن عليها أن تكون طرفا في حلف تقوده قوى تمثل الطبقة العاملة والكادحين؟ انطوى الأمر على بضع مفارقات تبدو كاريكاتيرا اليوم. أولاها أننا، أي اليسار، ممثلون لتلك الطبقات الكادحة، وثانيتها أننا من يحدد لسلطات حاكمة مترسّخة الجذور دورها، وثالثتها أن لكل من تلك الطبقات المزعومة، التي لا وجود محددا لها في فلسطين على الأقل، موقفا قاطعا متمايزا في المعركة مع إسرائيل. واتّخذ الأمر أشكالا كاريكاتيرية في لبنان بعد انتقال المنظمات الفلسطينية إليه عام 1970–1971 ومن ثم أثناء الحرب الأهلية: بما أن الصراع مع إسرائيل يدور على أرضنا، وبما أن لا وجود لمقاومة فلسطينية مقاتلة إلا على أراضينا، فهل أن حركتنا الوطنية اللبنانية هي طليعة حركة التحرر العربي أم هي جزء منها؟

تبنّت القيادة المركزية، التي أشرت إلى أن القضية الفلسطينية لم تلعب دورا قط في تبرير انشقاقها عن الحزب الرسمي، هدف التحرير الكامل لفلسطين، فصارت تلك الحركة إيقونة للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين وتوأما لها، بل إن مجلة ”الحرية“ الناطقة باسم الأخيرة وصفت قائد القيادة المركزية بـ”غيفارا العرب“. لكن جاذبية تلك الدعوات لتحرير فلسطين لم تكن وحدها ما أكسبها هالة في أعين الشباب. فالبعثيون والقوميون كانوا حملة راية التحرير الكامل منذ الأربعينات. كان العنف والكفاح المسلّح من جانب الجيوش غير النظامية هو الترياق. ومع أن البعثين السوري والعراقي حاولا اللحاق بركب العمل الفدائي من خلال تأسيس منظمتيهما، ”الصاعقة“ و”جبهة التحرير العربية“ على التوالي، إلا أن قيادتهما لأنظمة حكم جاءت عبر انقلابات عسكرية شلّت قدرتهما على المزايدة التي تعني التقليل من أهمية المؤسسة الحامية لحكمهما والتي تضخمّت مواردها وسلطاتها وامتيازات قادتها بفضل خطاب سياسي رهن تحرير فلسطين بتوسيعها ووضعها فوق كل مؤسسة أخرى. هكذا بات تحرير فلسطين وأسلوب التحرير معولا إضافيا استخدمه اليسار العراقي الجديد لإثبات تمايزه وتفوقه على الشيوعيين. وفي المقابل كادت تنقرض الحركات الناصرية والقومية، وهي ضعيفة النفوذ الجماهيري أصلا في العراق، إذ لم تنهزم القيادة المصرية في حرب 1967 فقط، بل إن سياستها المعلنة طوال الفترة اللاحقة قامت على تحرير ما احتلته اسرائيل في تلك الحرب لا التحرير الكامل لفلسطين. وحين أسست مصر منظمة فدائية باسم ”جبهة تحرير سيناء“ بدت القيادة الناصرية هي الأخرى لاهثة للحاق بموضة العمل الفدائي الذي أخذت منظماته تتكاثر كالفطر، لإثبات أنها لا تقل تمسّكا بحرب التحرير الشعبية، وهذا مع أن محمد حسنين هيكل، منظر القيادة الناصرية، كتب سلسلة مقالات يسفّه فيها إمكان الجيوش غير النظامية تحقيق انتصار على إسرائيل.

هكذا، وعلى عكس هزيمة الجيوش العربية أمام إسرائيل عام 1948، لم تعد ثنائية عميل/وطني صالحة لتفسير هزيمة 1967. من هنا كان الصراع الحاد المتغلّف طبقيا حول قدرة أو عدم قدرة البرجوازية الصغيرة على قيادة المعركة الوطنية. كان النظامان الملكيان في مصر والعراق حليفين رسميين للغرب. فكان من السهل دمغهما بالعمالة التي لم تتجلّ في التواطؤ المؤدي إلى ضياع فلسطين فقط، بل في أنها أبقت البلاد في حال من التخلّف. وفقا لهذه النظرة كان الإقطاع يفرض سطوته على ملايين الفلاحين الذين عاشوا أوضاعا معيشية مزرية، وكبار التجّار يعيقون التصنيع إذ يغرقون الأسواق بالسلع الغربية المستوردة. من هنا لم تكن قضية فلسطين محور التأليب على علاقة نظم الحكم بالغرب، بل واقع التخلّف الذي كان ملموسا للجميع.

في 1967، كانت الإصلاحات الزراعية قد قضت على الإقطاع، وتأميم التجارة الخارجية قضى على ”الكومبرادور“ أي التجار المستوردين المفترَض أن مصلحتهم تكمن في التبعية للغرب وإعاقة التصنيع. إلى هذا كانت الأنظمة الجديدة قد شرعت في عمليات تصنيع (أيا يكن الرأي فيها) وصارت هي مالكة المصانع الكبرى. ولم يعد أمام اليساريين الجدد في العراق غير استغلال بقاء امتيازات النفط بيد الكارتيل الغربي العالمي لوصم نظام عارف ومن بعده نظام البعث بالعمالة، وهي تهمة كانت الأقدر على إثارة العداء لهما، لا سيما وأن الغالبية الساحقة من غير المنتمين إلى التيار القومي كانت مقتنعة بأن السبب الرئيس لإسقاط نظام عبد الكريم قاسم يعود إلى تشريعه قانونا استرجع فيه كل الأراضي التي لم تقم الشركات بالتنقيب عن النفط فيها، أي 99,5 بالمئة من مساحة العراق (كانت كلها تقع ضمن مناطق الإمتيازات الممنوحة لها). ولهذا كان صدور عدة كتب ودراسات حول تأميم النفط خلال النصف الثاني من الستينات وكسبها شعبية هائلة ومن ثم منعها من التداول مصدر تهليل لليسار الجديد باعتباره إثباتا لعمالة النظام العراقي.

جاءت سلطة البعث، وفقا لتحليل القيادة المركزية، كحصيلة للصراع بين الشركات الفرنسية والبريطانية على نفط العراق. وهكذا تلقت الحركة ضربة كبرى حين أممت السلطة النفط، فدارت التحليلات الخجولة حول كونها لعبة مدبّرة أو انتصارا للفرنسيين الذين لم تخضع حصصهم للتأميم في مرحلة أولى. وحين تم تأميم تلك الحصص فيما بعد، كانت القيادة المركزية قد تشرذمت قبل هذا بسنوات.

اتّبع الحزب الشيوعي الرسمي طريقا أسلم، لكنه أقل إثارة للعواطف، فوطنية أنظمة رأسمالية الدولة لم تعد موضع نقاش في المعسكر السوفياتي. وكانت الخطوات الذكية التي اتّبعتها سلطة البعث منذ أشهرها الأولى كافية من وجهة نظر الحزب لإسقاط تهمة العمالة عنها. وعليه دارت النقاشات داخل الحزب حول طابعه الطبقي: برجوازي أم برجوازي صغير. وتركّز النقد على طابع الحكم الدكتاتوري. وفيما بعد، صارت وطنية الحزب الشيوعي نفسها موضع تشكيك من جانب السلطة التي ركّزت على طبيعة علاقته بالسوفيات أولا، وموقفه ”الإستسلامي“ من القضية الفلسطينية إذ هو لا يدعو إلى تحرير كامل فلسطين ثانيا.

البحث عن لينين

لننظر إلى ظاهرة اليسار الجديد في العراق والمشرق العربي استرجاعيا ونتساءل: هل كان جديدا حقا؟ وما الذي أضافه إلى التراث السياسي اليساري للمنطقة؟

مساران منفصلان كوّنا ما صار يسارا جديدا في المشرق خلال النصف الثاني من الستينات. مسار نشأ عن انشقاق في الأحزاب الشيوعية في العراق ومصر (التي لم يكن انشقاق حركتها الشيوعية غير داء متأصل) ولاحقا في سوريا عام 1973 (الحزب الشيوعي السوري/المكتب السياسي تحت قيادة رياض الترك) إضافة إلى نشوء رابطة العمل الشيوعي الراديكالية السورية، وآخر نشأ عن انشقاقات أو تحوّلات في الحركات القومية في العراق وسوريا ولبنان وفلسطين فضلا عن حركات مماثلة في عُمان واليمن الجنوبي والكويت والبحرين.

ولئن تباينت الجذور السياسية لكل من تلك الحركات وتأثر كل منها ببيئته المحلية، فمن المثير أنها انتهت، برغم ادّعاءات بعضها بإنتاج فكر يساري جديد، أو صياغة مجدِدّة للماركسية، إلى ارتكاز على القاعدة النظرية اللينينية نفسها لتبرير سياساتها المختلفة عن الأحزاب الشيوعية ولتندثر أو تذوي بعد حين.

أولا، لم يكن ثمة تباين يُذكر بين كل من ماركسيي ”حركة القوميين العرب“ والحركات الشيوعية المنشقة والأحزاب الشيوعية الرسمية في تصوّراتهم عن النظام الإجتماعي الذي يسعون إلى إقامته. لا أقصد هنا السعي لبناء نظام اشتراكي فحسب، بل أقصد أن صورة النظام الإشتراكي الموعود وهيكله كانت هي نفسها: ملكية الدولة لوسائل الإنتاج، قيادة الحزب الشيوعي أو الماركسي للسلطة بما يعنيه ذلك من السيطرة على منظومات الإعلام والبث الأيديولوجي والتعليم والمنظمات الجماهيرية. تحيط بهذا الحزب القائد أحزاب وهمية طيّعة تتشكل منها الجبهات الشعبية، وقد يتم الإستغناء حتى عن ذلك الديكور.

ثانيا، واشتقاقا من النقطة السابقة، كان من المحتّم أن يغيب مفهوم الديمقراطية المنطوي على فصل السلطات والتعدّدية السياسية والانتخابات الحرة وتداول السلطة عن جدول أعمال الحركات الماركسية والشيوعية، بل أن يتعرّض للإدانة. فالسلطات الثلاث، التشريعية والتنفيذية والقضائية، هي في واقع حالها سلطة واحدة تخدم مصالح الطبقة الحاكمة.

والانتخابات، حيثما وُجدت، هي حلبات منافسة بين أجنحة تلك الطبقة في أكثر التحليلات الشيوعية تعقّلا ومسرحية تضليلية في أكثرها ابتذالا. وعليه فالتعويل على الانتخابات، والدعوة لها أصلا، كوسيلة للوصول إلى السلطة ليس غير وهم. العنف الثوري وحده هو الكفيل بإيصال الثوريين إلى السلطة. وقد عبر ماوتسي تونغ عن الفهم الأكثر دموية للعلاقة بين العنف والديمقراطية في شعاره الشهير: الشرعية تنبع من فوهة البندقية، ولم يشذ الكاسترويون عن هذا الفهم. أما في المجتمع الإشتراكي المنشود، بل في المرحلة الممهّدة له: الثورة الوطنية الديمقراطية، فلن يكون ثمة مكان لمسرحيات الإنتخابات البرجوازية. فالطبقة العاملة، قائدة المجتمع الإشتراكي، متجانسة وموحّدة لا أجنحة متصارعة أو متنافسة داخلها. وفي المرحلة الوطنية الديمقراطية، حيث ثمة طبقات أخرى لها مصلحة فيها، ستكون ثمة حركات لا تتنافس، بل تتحالف مع حزب الطبقة العاملة: أحزاب البرجوازية الصغيرة والبرجوازية المتوسطة. وماذا عن الحركات والطبقات الأخرى؟ هنا كان المبدأ هو: لا حرية لأعداء الشعب، أو لأعداء الثورة.

ومع هذا كان ثمة انقسام شديد الأهمية بين الشيوعيين الرسميين والآخرين في تفسير تلك المبادئ وتنفيذها. هذا التفسير ارتبط بالموقف من الأنظمة الوطنية الحاكمة، الذي هو أساس الانقسامات في الحركة الشيوعية.

لم يكن ثمة جدال حول تلك المفاهيم عن الديمقراطية والتحالفات وتمرحل التحولات: تحولات وطنية ديمقراطية تليها تحولات انتقالية إلى الإشتراكية لتتوّجها مرحلة بناء النظام الإشتراكي وترسيخه. ولم يكن ثمة جدال على قيادة الطبقة العاملة، أي ”نحن“، لمرحلة البناء الإشتراكي. الجدال الذي يبدو لمن ينظر إليه إسترجاعيا، أو لمن لم يعش تلك المرحلة، أشبه بالنقاشات الكنسية حول طبيعة الله، أو نقاشات المسلمين عمّن يحق له دخول الجنّة وشروط دخولها، وقد احتدم حول القضايا التالية: البرجوازية ”الوطنية“ والبرجوازية الصغيرة لهما مصلحة في إنجاز الثورة الوطنية الديمقراطية. ولكن هل يمكن إنجاز تلك الثورة تحت قيادة أي منهما؟ أم أن علينا أن نسعى الى القيادة، أي إسقاط الأنظمة البرجوازية الصغيرة التي باتت تُعرف بالتقدمية، ثم نجذب البرجوازيين الصغار الى التحالف معنا؟ قبل هذا، كان ثمة صراع عنيف مهّدت له تنظيرات يساريين غربيين حول عدم وجود برجوازية وطنية أصلا في العالم الثالث، بحكم تبعية ذلك العالم للغرب الإستعماري، وتبعية برجوازيته حكماً له، وهو تنظير لم يحتفِ به اليسار المشرقي الجديد فحسب، بل صار معلماً لتجديدٍ تفاخر به الحزب الشيوعي اللبناني على أشقائه في الحركة الشيوعية الرسمية. أما البرجوازية الصغيرة، فهي وفقا لليسار المشرقي الجديد أثبتت عجزها عن إنجاز تلك الثورة حتى نهايتها.

لعب انتقال السلطة في مصر إلى أنور السادات وانقلابه على نظام عبد الناصر الإجتماعي دورا أساسا في تعميق التخندق بين كل من طرفي الصراع اليساري. ما اعتبره الشيوعيون كارثة وارتدادا، عدّه اليساريون الجدد تأكيدا لصحة تحليلاتهم القائلة بعجز غير الشيوعيين ”الحقيقيين“ عن قيادة الطريق الثوري. لقد ضلّت الثورة الوطنية الديمقراطية الطريق لهذا السبب، وكأن المفتاح السحري صار بيد الأخيرين، أو كأنهم اعتبروا قدرتهم على تقرير مسار التطور أمرا مفروغا منه. لم يكن ثمة أكثر جاذبية للشباب الماركسي من إعلان حركة ما بأن دور الحركة الثورية القيادي حلّ الآن لا بعد مرحلة مديدة، كما تدّعي ”جماعة الحتمية التاريخية“ (أي الشيوعيون الرسميون). واشتقاقا من هذا كله برز صراع جديد: هل من الضروري أن نقوم بثورة وطنية ديمقراطية؟ أم أن ثورتنا ستكون اشتراكية منذ البدء؟

تكمن دلالة كل ما سبق في أن الحركات الشيوعية واليسارية الجديدة لم تطرح نموذجا جديدا للحكم أو للنظام الإجتماعي الذي تسعى لإقامته. وبرغم اطّلاع قادة بعض تلك الحركات، لاسيما في منظمة العمل الشيوعي اللبنانية، على تراث يساري جديد، وبرغم أن قيادات أخرى، كالجبهة الديمقراطية الفلسطينية في أشهرها الأولى، غازلت تيارات مغايرة كالتروتسكية، بل حتى القيادة المركزية العراقية تبنّت خط ماوتسي تونغ في فترة أفولها، فقد ظل تثقيفها الرسمي وسبلها في حشد الأنصار والأتباع يتّكئ على مرجعية لينينية. بل يمكن لمن تتبّع فترات نشوء تلك الحركات نفسها، أن يلاحظ أنها لم تبدأ من منظور فكري تسعى الى تنفيذه، بل كانت تبحث عن أي منظور ماركسي يبرّر تمايزها عن الحركة الشيوعية. لكن هذا المنظور كان محكوما بالتفسير اللينيني للماركسية وانتهى في كل الأحوال إلى المرجعية اللينينية.

كان تأسيس حركة تقدس العنف والقوة المسلحة كافيا لإثارة الحماس. لكن هذا العنف لا بد من أدلجته. لم تعد عدالة القضية التي يتبناها الحزب كافية لجذب الأعضاء والمؤيدين، بل بات الأمر يتطلب الإحساس بأن الحزب يمثل سلطة بديلة تدافع عن أعضائها، تنتقم لهم وتخيف من يهددهم، واعدة جمهورها بأنها قادمة الى السلطة لا محالة ذات يوم للإقتصاص ممن تعرضوا لها. نشأت عن ذلك لحمة تصيغ هوية المنتمي وتزيده فخرا بانتمائه إلى الجماعة. فكما هو حال حركات الإسلام السياسي الراهنة، كان لكل من طرفي الصراع الشيوعي فضاؤه الإجتماعي: مقاهٍ خاصّة بكل منهم، فعاليات اجتماعية وترفيهية خاصة بالأعضاء والمؤيدين، علاقات زوجية تتأسس على التزاوج بين أفراد عوائل الرفاق، وأهم من ذلك بث الشعور بأنهم ينتمون إلى أسرة عالمية يستمدون منها القوة.

كانت الأحزاب الشيوعية الرسمية أنجح في ترسيخ هذا الشعور بالهوية المشتركة بالطبع. فالرفيق هنا ”جندي في جيش البروليتاريا العظيم“ الذي يقوده الإتحاد السوفياتي، وفقا للتعبير السائد آنذاك. بوسعه متابعة دراسته في جامعات البلدان الشقيقة، والكوادر تتدرب في دورات حزبية هناك، والقادة يتعالجون في مستشفياتها ويُستضافون لقضاء إجازات للترويح عن أنفسهم من عناء النضال.

كان الحال مختلفا وملتبسا في حالة اليسار المشرقي الجديد. رومانسية الريادة في شق طريق جديد للحركة الثورية كانت مغرية للمثقفين المؤيدين لحركاته. قيادات وكوادر تتماهى مع حركات اليسار الجديد الأوروبية المتكاثرة آنذاك، وكوفيّات فلسطينية تلتف حول أعناق شبابها. صارت مجلة ”تريكونتننتال“ (القارات الثلاث) الكوبية بديلا عن مجلة ”قضايا السلم والإشتراكية“، وانتشت نخب اليسار الجديد المشرقية باحتفاء دوريات نظرية مثل ”نيوليفت ريفيو“ البريطانية و”منثلي ريفيو“ الأميركية بها. لكن هذا الشعور كان مقيّدا. فمع تقديس التجربة الغيفارية والفيتنامية، كان ثمة خوف حقيقي من الانزلاق إلى تبني أي نقد للينينية ولينين خوفا من أن تتعرّض للاتهام بالتحريفية. لا خطر كبيرا من تبني نهج الحزبين الشيوعيين الفييتنامي والكوبي. فكلاهما جزء من جيش البروليتاريا العالمي المعترف به سوفياتيا. لكن أيا من تلك الحركات لم يسند نفسه إلى المرجعية الماوية العدوة اللدود للسوفيات ناهيك عن الإستناد إلى مراجع اليسار الجديد الأوروبي آنذاك: تروتسكي أو هربرت ماركوزه أو غيرهما.

كانت القيادة المركزية تتصارع مع الحزب على أرضية كونها هي الحزب الشيوعي الحقيقي، بل إنها عند انشقاقها حاولت نشر مقال في شهرية ”قضايا السلم والإشتراكية“ يثبت أنها هي الحزب الشيوعي ”الحقيقي“. ففي ذلك الوقت كان ثمة تمسّك بـ”الحديث“ اللينيني القائل إنه إذا وُجد حزبان شيوعيان في بلد واحد، فلا بد أن يكون أحدهما مزيّفا ولا يجوز بالتالي الإعتراف به. ولم تتبنّ القيادة المركزية الخط الماوي إلا في مرحلة أفولها بعد اعتقال زعيمها ومعظم قادتها وظهور الأول مدليا باعترافاته على شاشة التلفزيون.

وهكذا لم تنطو الصراعات بين الحركات المتصارعة على مراجعات فكرية تمتحن النظرية أو العقيدة وتتحدى مسلّماتها. كانت بالأحرى تدور حول مرجعية لينين التي لا جدال في صحّتها والتي يحاول كل جناح البرهنة على أنه الأكثر تمسّكا بها (في 1968 عثر بعض كوادر التنظيمات المتحالفة مع القيادة المركزية على نصّين للينين تعمد السوفيات عدم نشرهما بالعربية وتم تكليفي بترجمتهما. كان النص الأول بعنوان ”البرنامج العسكري للثورة البروليتارية“ والثاني ”ثورتان“ ويدور حول تنظيم الانتفاضة المسلّحة في المدينة).

والواقع أننا لو تأمّلنا كل الإنشقاقات في الأحزاب الشيوعية المشرقية سنجد أنها كانت تدور في الإطار ذاته، سواء دار الحديث عن انشقاقات الحزب الشيوعي المصري أو السوري أو تحولات الحزب الشيوعي اللبناني الذي أضفى عليها هالة الانعطاف الجذري. فحين بدت بوادر الإنشقاق في الحزب الشيوعي السوري عام 1973، استعان الطرفان بـ”العلماء“ السوفيات لقول الكلمة الفصل وتحديد الطرف اللينيني حقا. ولم يقتصر هذا الأمر على الأحزاب الشيوعية، بل إن النقاشات الحامية التي قادت إلى انشقاق ”الجبهة الديمقراطية“ عن ”الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين“ كانت هي الأخرى صراعا حول الإنتماء إلى لينين.

وثالثا، كانت أشكال البناء التنظيمي لدى كل تلك الحركات هي ذاتها. رفض ”المارتوفية“ التي لا تلزم العضو بالانتظام في خليّة أو هيئة حزبية، البناء الهرمي، تنفيذ القرار الحزبي ثم مناقشته، عدم الإدلاء بأي موقف مخالف لما اتّخذت اللجنة المركزية أو المكتب السياسي. وأهم من ذلك كله الفكرة الماركسية-اللينينية القائلة بأن وعي الطبقة العاملة، ومن باب أولى الطبقات الثورية الأخرى، منقوص أو مضَلّل أو عفوي، ووظيفة الحزب بالتالي هي بثّ الوعي العمّالي ”الحقيقي“ في صفوف تلك الطبقات. برجوازيون صغار، هم غالبية أعضاء الأحزاب وقادتها، يضخّون الوعي العمالي إلى العمّال. وبدهي فإن الحزب لم يكن هو من يثقّف، بل كانت قيادات الأحزاب والحركات تثقّف أعضاءها الذين سينقلون تلك الثقافة إلى الطبقة. فوعي الأعضاء هو الآخر منقوص. وبعد عقدين أو ثلاثة، سيسخر الشيوعيون واليسار من الإسلاميين الذين يرون أن المسلمين العاديين مضللون يعيشون عصر الجاهلية ولا بد من ”بث الوعي“ الإسلامي لهم عبر الفقهاء.

كان التياران الشيوعي الرسمي والشيوعي الجديد قد حسما موقفيهما من ماركس سيرا وراء لينين: رفعه إلى مصاف السمو كمؤسس ومكتشف لقوانين عمل النظام الرأسمالي، ولكن بعد تجريده من قدرته على التنبّؤ بالمجريات الراهنة وبالتالي على إمكان لجوء الشيوعيين إلى كتاباته السياسية كوصفة لما يجب القيام به. لا يكمن الأمر في تبرئة ماركس من الاستماتة لتحويل نظريته ومنهجه التحليلي إلى برنامج سياسي، بل في أنه صاحب الصياغة القائلة إن نظاما اجتماعيا لا يزول حتى يستنفد كل إمكاناته على التطور نازعا بذلك عن الطليعيين القدرة على التصرف الإرادوي، كما أنه اشتقّ من فكرته هذه استنتاجا يقوم على أن التحول نحو الإشتراكية لا بد وأن يحدث في البلدان التي يستنفد فيها النظام الرأسمالي إمكاناته تلك أولا، أي في البلدان المتقدمة. وبدهي أن هذا يصيب الفكر اللينيني مقتلاً إذ هو ينفي إمكانية قيام ثورة اشتراكية في روسيا. هكذا أعلن لينين أن المؤسس لم يتكهن بقدوم عصر إمبريالي يجعل ”الحلقات الضعيفة“ في التطور الرأسمالي، أي روسيا، هي المرشّحة لنيل شرف قيادة تحويل العالم إلى الإشتراكية.

بدهي أن الحركات الشيوعية والشيوعية الجديدة لم تكن بحاجة إلى أوامر من موسكو لكي تتبنّى هذا الفهم، إذ هو مبرر وجودها. فمن دون السعي إلى السلطة وشرعَنته نظريا سينفتح باب مدمّر يتيح طرح سؤال: لماذا لا نكوّن حزبا يدفع باتجاه إصلاح النظم القائمة بدل تدميرها؟ أو لماذا لا نكتفي بدعم حركات إصلاحية أو تقدّمية لا تتبنّى الفكرة الماركسية فنذوب فيها حتى يحين أوان الثورة الإشتراكية؟ سيكون الجواب باختصار: إن كان ولا بد من أن نكوّن حزبا، فالمنطقي أن نتبنّى الفهم الإشتراكي الديمقراطي للماركسية (وقد ظلت الأحزاب الإشتراكية الديمقراطية حتى فترة متأخرة تتبنى الماركسية رسميا ولكن من خلال منظور تطوّري). لكن الإشتراكية الديمقراطية كانت في ذلك العصر الستّيني سُبّة، كما لاحظنا في حال القيادة المركزية التي رفعت شعارا يغمز من طرف خصمها ”حزب شيوعي لا اشتراكية ديمقراطية“.

هكذا انتهى التنافس بين الشيوعيين واليسار الجديد لا إلى إعادة النظر باللينينية، بل إلى الى التباري على من يكون الأكثر لينينية إن جاز التعبير. اليساريون الجدد يعلنون خيانة غيرهم أو عجزهم عن قيادة المرحلة المفضية إلى التحول الإشتراكي، فعليهم السعي لاستلام السلطة منذ الآن، فيما الشيوعيون الرسميون يقتربون بالفعل من الخط الإشتراكي الديمقراطي باستحياء وإن لم يتخلّوا عن الطرح اللينيني: ”سيأتي دورنا الذي حتّمه التاريخ بعد انتهاء مرحلة الثورة الوطنية الديمقراطية“. فمع صعود الأنظمة الوطنية، بات الشيوعيون ينشطون من خلال إقرار ضمني بمشروعية الهياكل القائمة للدولة، فيما خصومهم يتحدّون تلك الهياكل من الأساس. لا يعني الإقرار، بالطبع، الموافقة على أساليب عمل مؤسسات مخابراتية أو غيرها، إنما يعني أن مبدأ ”تحطيم جهاز الدولة البرجوازي“ الماركسي-اللينيني بات طيّ الماضي.

في نهاية المطاف، إن كان للمطاف نهاية، لم يهزم أحد طرفي المنافسة غريمه، بل أخذ نجم الطرفين بالأفول منذ أواسط السبعينات. كان اليسار الجديد أسبق في تسليمه بالهزيمة حين حاولت ”منظمة العمل الشيوعي“ اللبنانية و”حزب الشعب الديمقراطي المصري“ (وهو التنظيم الشيوعي الراديكالي بقيادة أحمد نبيل الهلالي وميشيل كامل) المشاركة في الاجتماعات الدورية لـ ”الأحزاب الشيوعية والعمالية في البلدان العربية“ وجوبها بالرفض من ذلك المحفل. أما ”الحزب الإشتراكي اليمني“ فانضم إلى تلك الصفوة المختارة لأنه صار الحزب الحاكم. والمفارقة أن محاولات الحركتين الأوليين جرت في أواخر الثمانينات حين كان أفول الشيوعية واضحا للعيان.

لم يعد الماركسيون قادرين على إقناع الناس بقدرتهم على الدفاع عن مصالحهم ناهيك عن بناء نظام سياسي-اجتماعي عادل. والأحزاب الشيوعية الرسمية التي كان لها عدد كبير من الأعضاء كاللبناني والسوري والعراقي، نسيت الهدف من هذا التوسع وصار التنظيم هدفا بحد ذاته. بات التنظيم حقلا لممارسة السلطة على الأعضاء، وصار حجم العضوية وسيلة ضغط على السلطات والحلفاء الإقليميين والأمميين لانتزاع أكثر ما يمكن من مكاسب للقادة والكوادر.

وبقيت مطامح أو مطامع أو تصورات البشر على حالها: كتل جهادية تشعر بالغربة عن الدولة ونظامها السياسي الذي تراه يهمّشها، وأخرى سلفية تريد التغيير عبر غرس مفاهيمها في وعي الجمهور. ولعل هذا يفسّر كيف أن معاقل اليسار الثوري التقليدية باتت بعد عقدين من الزمن، لا أكثر، حواضن الجهاد الشيعي والسنّي. كانت ”الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين“ تتفاخر بشعبيتها الكبيرة في غزّة التي صارت معقل حماس، وانزاح ”الحزب الشيوعي اللبناني“ عن الجنوب مخليا الساحة لحزب الله، وانتقلت مدينة الثورة/الصدر ذات الثلاثة ملايين في بغداد من السير المتحمّس وراء ”الحزب الشيوعي العراقي“ إلى موالاة مقتدى الصدر وحركته.

هكذا بدأت دورة اجتماعية جديدة تتأطر صراعاتها ضمن أيديولوجيا جديدة/قديمة. فالأيديولوجيا لا تستمد قيمتها من المنطق الداخلي الذي يحكمها، بل من تصوّرات الناس عن قدرتها على (أو عجزها عن) التنفيس عن رغباتهم. والنقاشات التي تبدو لنا مثيرة للسخرية ليست سوى مرتكزات يؤدلج كل طرف عبرها مساره وسبل عمله. والأدلجة هنا لا تعني قط تحايلا متعمّدا من جانب فاعلين سياسيين يقصدون خداع الجمهور، بل هي تعني أن إطارا فكريا عاما يغلّف وعي الغالبية من أبناء مجتمع محدد في زمن محدد لا بد وأن يعّين أشكال وحدود الصراع في داخله ويوقد الحماس بين أطرافه المتصارعة. وهو يعني بالطبع أن الفاعلين السياسيين في ذلك الزمان والفضاء لا بد أن يكونوا مقتنعين بهذا الإطار وقابلين به.

أن يكون الفكر القومي هو الإطار العام يعني أن يدور الصراع (الذي أدى إلى قطيعة بين بلدان تتبنى ذلك الفكر) بين أنصار ”وحدة، حرية، إشتراكية“ أي البعث وأنصار ”حرية، اشتراكية، وحدة“ أي الناصريين. وأن يكون الإطار العام شيوعيا فسيدور الصراع حول دور البرجوازيات صغيرها وكبيرها.

وقريبا، سينضمّ إلى تلك الجعبة، كما أزعم، صراع النجف وقم حول دور الفقيه: هل يقوم بنشر الدعوة حتى يحلّ أوان المهدي المنتظر، أم ينوب عنه ويقيم دولة الإسلام الشيعي؟ وصراع الإخوان المسلمين وجهاديي السنّة: هل ننشر الدعوة في مجتمع الجاهلية حتى يأتي يوم يبايعوننا فيه؟ أم نعمل على القضاء على دولة الكفر وننشر الإيمان من بعد؟

من كان يصدّق أن يوما سيأتي يسخر فيه الناس من نقاشات أثارت حروبا طاحنة في أوروبا: هل المسيح إله أم هو إنسان تمظهر فيه الله؟ هل نتبع البابا (الولي الفقيه) أم ننشئ كنائس قومية مستقلة؟