ذكريات أندلسية مع الشاعر حسن توفيق


خالد سالم
الحوار المتمدن - العدد: 4539 - 2014 / 8 / 10 - 20:14
المحور: الادب والفن     

ذكريات أندلسية مع الشاعر حسن توفيق

خالد سالم
يولد الإنسان غير مخيرٍ في الحياة، الكينونة، ويرحل غير مخير أمام الموت، الرحيل الأبدي. وبقدر ما لا نتوقف أمام بدء الكينونة فإن الموت يستوقفنا بدءًا بمراوغته، لكنه عندما يهزمنا في أحد الأعزاء لنولج في نسج الحكايات البطولية حول الراحل وحياته. هذه ليست حالتي مع "مجنون العرب" وشاعرهم حسن توفيق، لكن حالة من الندم تنتابني لعدم الوفاء بآخر لقاء اتفقنا عليه الربيع الماضي حيث هاتفني "صدفةً" متصورًا أنني عدت إلى إسبانيا التي عشقها بأناسها قبل وبعد أن زارها لأول مرة في منتصف التسعينات.
علمت صدفةً منذ بضعة أيام بوافاته من مطبوعة خليجية أرسلها إليّ زميل، الدكتور حسين محمود، نشر فيها مقالة له، وإلى جانب مقاله وجدت آخر ينعي وفاة الشاعر الإنسان حسن توفيق. لم اصدق الخبر، إذ قلت ربما هناك خطأ، فاتصلت على هاتفه، وردت عليّ شقيقته لتؤكد لي الخبر وأن المرض الوبيل أتى عليه في أقل من شهرين بعد أن كان قد نخر عظامه. سيطر عليّ وجوم لساعات إذ أضيف الحزن على الصديق البشوش إلى حزن آخر وخوف من موت يترصد إحدى فتيات العائلة منذ أيام. تملكني رعب لا أنساه من رحيل الشاعر حسن توفيق والخوف على المهندسة الشابة وفاء النجار، لأعيش ضربًا من الذهول والتسامي، جعلني أتساءل مجددًا حول الموت.
عاش حسن سنواته الخمس الأخيرة في القاهرة في شبه صمت وغربة بعد أن أمضى ثلاثة عقود في الدوحة يعمل في القسم الثقافي في جريدة الراية القطرية. وجدته بعد العودة يعيش وحدة نتقاسمها كل من عاش خارج مصر ثم عاد. زرته في منزله الزاخر بالكتب في معظم أرجائه أول مرة بعد العودة من قطر. تحدثنا كثيرًا عن الشعر الإسباني المعاصر، خاصة عن غارثيا لوركا ورفائيل ألبرتي، والمحطة الإسبانية في حياة عبد الوهاب البياتي، وتأثر الأول بالشعر العربي الأندلسي، وكتابات صديقه الدكتور أحمد عبد العزيز وكتابتي حول هذا الموضوع الذي لا ينضب له معين أمام البحث الجاد.
لا أظن أن من عرف حسن توفيق سينسى منه الجانب الإنساني ولا الابداعي، فبشاشته، وابتسامته وقفشاته الدائمة ستظل تلازمنا ما بقي لنا في الحياة. عرفته من خلال أشعاره والمراسلة منذ منتصف الثمانينات وتأخر أول لقاء بيننا حتى منتصف التسعينات. كان اللقاء الأول في مدريد إذ أخبرني دبلوماسي قطري أن الشاعر المصري حسن توفيق يسأل عني. كان قد جاء في مهمة ثقافية مع نادي الجسرة –إن لم تخني الذاكرة- لاقامة أمسية ثقافية وفنية ضمن أسبوع ثقافي قطري في جامعة مدريد كومبلوتنسي. أسهمت أنا وكل من حولي في انجاح الحدث من أجل "الباشا"، كما كان يلقبه مثقفو قطر الذين كان يعرفهم جميعًا ويعرف نتاجهم الأدبي. وكان للأسبوع الثقافي القطري صدى في وسائل الإعلام الإسبانية بفضل الشاعر والناقد والصحفي المصري المولد الخليجي الهوى.
كان حريصًا على التعرف على مؤسسات الجامعة، خاصة قسمي الدراسات العربية والإسلامية والمستعربين في جامعتي مدريد، كومبلوتنسي وأوتونوما. وعملت له "مرشدًا" ثقافيًا لدى كل من وما أراد الاقتراب منه ومقابلته شخصيًا. كان على رأسهم المستعربان الكبيران بدرو مارتينيث مونتابيث وكارمن رويث، من جامعة مدريد أوتونوما، ومن جامعة مدريد كومبلوتنسي المستعربتان ميلاغروس نوين وماريسا برييتو. كانت الأولى قد ترجمت له بعض قصائده إلى اللغة الإسبانية ونشرتها في أكثر من مطبوعة إسبانية. قدمت له عددًا لا بأس به من المثقفين الإسبان، وهناك من ظل على اتصال بهم إلى أن توفي. كانت هناك مشروعات ثقافية عدة لكن عودتي إلى القاهرة حال عطل الكثير منها.
حرص على زيارة المقهى الذي كان يرتاده صديقه عبد الوهاب البياتي، مقهى فويما، الذي كان يشبه مقاهي الشرق، لكنه كان قد تغير وتصادف هذا التغيير مع رحيل البياتي عن مدريد عائدًا إلى بغداد ثم إلى عمان ليموت في دمشق ويدفن إلى جوار محيي الدين بن عربي، نزولاً على وصيته.
ضمن زياراته الثقافية عرج على المعهد المصري في مدريد وكتب عنه لاحقًا، وعن مدريد العربية، والفنون الإسبانية كالرقص الكلاسيكي والفلامنكو. وضمن تلك الجولات الكثيرة توقف أمام تمثال يرمز للحرب الأهلية الإسبانية عند مدخل الربوة المشرفة على دجزء كبير من العاصمة الإسبانية التي يعلوها معبد ديبود المصري الذي أهداه عبد الناصر لإسبانيا لمشاركتها في انقاذ معبد أبو سمبل في الستنيات.
لا أزال أتذكر مقابلته شديدة اللهجة مع رئيس مجلس الأمة الكويتي سنتئذ حول جدوى الحصار الاقتصادي على العراق. كان الطقس ربيعيًا لكن نار الكلمات المتبادلة مع المسؤول الكويتي –لا أذكر اسمه لكنني لا أزال أتذكر قسمات وجهه التي كانت تطلق شررًا- ألهبت مكان اللقاء في الجامعة. كنت أجلس مشدوهًا من تحدي الشاعر للسياسي واصراره على طروحاته القومية لصالح العراقي وعدم جدوى الحصار الذي دمر العراق وأضعف بناه البشرية والتحتية أيما تدمير. هل استفادت الكويت من الحصار على العراق؟ لا أظن، فقد ضعف الجميع وطمعت إيران في الكل.
أثمرت تلك الزيارة الأولى لمدريد ابداعًا وكتابةً وثقافيًا فكتب عن الفن التشكيلي في إسبانيا، خاصة الفنانة إلينا غونثاليث وشقيقتها، وعن فن الفلامنكو. ولم ينس صنعته الأولى إذ كتب أشعارًا عن الأندلس وإسبانيا وأهدى بعضها إلى المستعربين العظيمين بدرو مارتينيث مونتابيث وكارمن رويث، وترجمت بعضها إلى الإسبانية ونشرته في مطبوعة إسبانية وأخرى من أميركا اللاتينية، إضافة إلى زملاء أخرين اهتموا بهذا الجزء من العالم العربي فأتى بأكله لاحقًا في ترجمة أعمال أدبية لكتاب من الخليج العربي.
كانت تلك الزيارة فاتحة خير للتواصل الثقافي بين قطر وإسبانيا عبر حسن توفيق، فضمن هذا الجسر دعوت الدكتور محمد عبد الرحيم كافود، رئيس المجلس الوطني للثقافة سنتئذ، لالقاء محاضرة عن الأدب القطري في جامعة مدريد كومبلوتنسي وأخرى في مدرسة اللغات الرسمية، ففتح خط منح للطلاب الإسبان لدراسة اللغة العربية في الدوحة. كل هذا يدخل في اطار روحه النقية الهادفة إلى افادة الجميع من الثقافة والتواصل. ولهذا فقد استكتب الكثيرين ممن يعرفهم في جريدة "الراية" القطرية التي ظل يعمل فيها مسؤولاً عن القسم الثقافي طوال العقود الثلاثة التي عاشها في قطر قبل أن يعود إلى القاهرة في 2009.
في هذا السياق يحضرني رأي للناقد الراحل فاروق عبد القادر، صنوه في العيش بعيدًا عن الأضواء، إذ قال لي ذات مرة: "حسن توفيق شكل جزءًا من "جوال" المثقفين المصريين التي حملها رجاء النقاش عام 1979 ليقودوا الحياة الثقافية في المطبوعات القطرية". الرأي لا يخلو من المزاح والجدية، لكن فاروق عبد القادر كان يتخذه للتندر ضمن قفشاته المعتادة. وبالفعل مازحت حسن حول هذا الأمر بعد رحيل فاروق عبد القادر، فكان أمرًا مثيرًا للضحك لديه دون تعليق.
غدًا سيكون هناك تأبين للشاعر حسن توفيق في أربعينيته في منزله في القاهرة. وأتمنى أن يلتف الأصدقاء حول الأسرة، لتخفيف لوعة الفراق لدى أسرته الصغيرة، شقيقته وابنها اللذين رافقاه في سنواته وأيامه الأخيرة.