ساقان قويتان للانحطاط: تهميش العدالة وتغييب الواقع


ياسين الحاج صالح
الحوار المتمدن - العدد: 4537 - 2014 / 8 / 8 - 17:48
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي     

ليس الافتقار الأكيد إلى العدالة والحس الأخلاقي هو ما يميز مجموعات الإسلاميين العسكريين المختلفة في سورية، وإنما كذلك الافتقار التام لمفهوم الواقع، والممكن، لمصلحة المرغوب أو المثال. سنقول هنا إن جذر المشكلتين الأخلاقية والمعرفية واحد.
لم تعرض أي من المجموعات الإسلامية العسكرية التي ظهرت بعد الثورة السورية حسا بالإنصاف والسخاء والأريحية حيال العموم يمكن أن يكون مثالا إيجابيا عاما، أو يشكل فرقا أكيدا عن النظام الأسدي. حين لا يكون السجل أسود كما عند داعش، فإنه بعيد عن البياض عند الجميع.
والجذر المرجح لهذا الواقع هو تلاقي نزعة التمركز حول "الشريعة"، مع سردية مظلومية بالغة القوة في أوساط الإسلاميين، ومع جنون ارتياب حيال العالم من حولهم وغير قليل من الجهل بأحواله وتحولاته. تحت تأثير هذا المزيج الخطر يعرض القوم تلهفا على فرض سيطرتهم دون وساوس أخلاقية، ولا يترددون في قمع معارضيهم، ومراقبة المختلفين عنهم والتضيق عليهم. ولا يبدو أنهم يعرفون من السياسة غير سياسة القوة، هذه التي خبرها السوريون جيدا على يد النظام الأسدي.
في تكوين الإسلاميين الفكري أيضا ما يضعف حسهم بالعدالة العامة. فهم يماهون أنفسهم بالإسلام الذي هو العدل تعريفا. العدل، تاليا، هو شيء يكونونه، لا ينفصل عنهم مهما فعلوا، وليس شيئا متصلا بفعلهم، يمكن للغير تقييمه. نحن العدل، إذن كل ما نفعل عادل! لكن هذه المصادرة للحكم الأخلاقي تلغي الأرضية القيمية المستقلة التي تتيح نقد الممارسات الفعلية للإسلاميين أو تضيقها إلى أقصى حد. وهو ما يعني رفض الاحتكام إلى قيم مشتركة، أو إلى "مكارم الأخلاق" و"المعروف"، وكان الناس يعرفونهما قبل الدين، ويفترض أن الدين ذاته يستمد عدالته منها، قيم العدالة والإنصاف والرفق والاحترام والكرامة.
ليست العقيدة، أية عقيدة، دينية كانت أم دنيوية، هي ما ينبغي أن تبرر القيم الإنسانية أو "مكارم الأخلاق" نفسها أمامها؛ بالعكس، كل عقيدة مطالبة بأن تسوغ نفسها أمام هذه القيم المشتركة، "العمل الصالح" الموجه لخير الإنسان بما هو إنسان.
يغطي الإسلاميون على هذا المبدأ بالمزايدة وإحراج الناس وتخويفهم من الخروج من الإسلام أو الكفر. لكن غرضهم لا يختلف عن غرض النظام الأسدي من المزايدة بالوطنية وإشهار التخوين سلاحا في وجوه السكان: إخراس الجميع، والاستيلاء على الكلام الصحيح والسياسة الصحيحة، وإشغال الموقع العام الذي يمكنهم من تجريم المغاير والمعارض. وقد لا يكون ما في سجل إسلاميين عسكريين متنوعين من الجرائم ما يصمد للمقارنة مع جرائم النظام، إلا أن ما يعرضونه من حس بالعدالة، فضلا عن الوطنية والحرية، لا يتفوق على النظام في شيء.
وبالقدر نفسه يعرض مختلف الإسلاميين تجاهلا لمبدأ الواقع وضرورة معرفة الواقع، وتكوين صورة أمينة عنه. لن نجد مهما حاولنا تفكيرا حول المجتمع السوري مثلا، حول التاريخ المعاصر والحديث، حول إنتاج الثروة والموارد العامة، حول موقع البلد في الإطار الإقليمي. مفهوم الواقع ذاته غائب عن الإسلاميين مثل كل أصحاب العقائد الكلية. الواقع الحقيقي هنا هو الطوبى الإسلامية التي ينبغي تحقيقها الآن. واقع حياة الناس اليوم هو شيء عارض، لا يستحق الاهتمام به.
سورية غير موجودة كإطار انتماء ووحدة عمل. الواقع المهم هو الأمة الإسلامية التي هي صورة خيالية، أكثر خيالية من الأمة العربية التي طافت بخيال البعثيين والقوميين العرب قبل جيلين. كان تبخير الواقع السوري حينها قد بخّر مفهوم الممكن أيضا، وفتح بابا لمزايدة عشواء انتهت خلال سنوات قليلة إلى كارثة حزيران 1967، وإلى النكبة الأسدية الأكبر منها بما لا يقاس. وليس هناك أي سبب لتوقع أن تكون مآلات المزايدة الإسلامية أقل كارثية. وكما أن الأمة العربية كانت حجابا لحكم طائفي في سورية، يمكن للأمة الإسلامية أن تكون حجابا لأمارات وأمراء طائفيين صغار، يحكمون بلدات وأحياء وقرى.
هذا المزيج من تهميش الموقع المستقل للحكم الأخلاقي، وتغييب مبدأ الواقع، ومعهما سردية المظلومية السنية (والمظلومية أسوا مدرسة للعدالة، حسب السوابق العروفة كلها)، والجهل الواسع بأوضاع عالم اليوم وموازينه، وبخاصة بما حققه على المستوى الأخلاقي والحقوقي، هذا المزيج مؤهل للدفع نحو كارثة مستعجلة، قد تفوق كل ما خبرناه في عقود وأجيال سابقة. سياسات الإسلاميين اليوم أكثر انتحارية من سياسات البعثيين في يفاعهم، وأكثر أنانية. ولا يبعد أن تمهد السبيل بعد الكارثة المحتومة لحكم "واقعي" جدا ولا أخلاقي جدا، مثل حكم حافظ الأسد.
ولا يشكل نهج المزايدة على العدالة باسم "شرع رب العالمين"، والمزايدة على الواقع والممكن باسم مثال ديني مفترض، قطيعة على أي مستوى مع النظام الأسدي. فهو أيضا قد ألغى أي موقع مستقل يمكن منه توجيه نقد باسم العدالة، وأي موقع مستقل للمعرفة والنقد باسم الحقيقة الواقعة. والسياسة الممتنعة عند نظام يلغي أية مواقع مستقلة لأحكام القيمة وأحكام الواقع أشد امتناعا عند نظام إسلامي يسند إلغاء هذه المواقع المستقلة إلى المقدس.
المفهوم الذي يمكن أن يحيط بهذين الوجهين القيمي والإدراكي معا هو مفهوم الانحطاط. نتكلم على انحطاط حين يفقد الناس حس الواقع وحس العدالة معا. الواقع أكثر من مقولة معرفية، ومن حتى مقولة سياسية، إنه مقولة حياتية، نستند إليها من أجل حسن التوجه في عالمنا وتجنب المخاطر، والتحرك فيه بأمان وسداد. يقود فقدان حس الوقع إلى مسالك خطرة وقتيا، لكنه بفعل ذلك يؤول إلى المحافظة وتفضيل المسالك المطروقة وانحطاط المدارك، دون مبادرة أو جهد للتغيير، وبالطبع دون استكشاف لجديد أو معرفة ينتفع بها أحد من البشر. ومعلوم أنه بعد سنوات من السلوك الانتحاري البعثي انتهينا إلى الأبد الأسدي والاستسلام للموت.
وبدوره العدل ليس شيئا كماليا أو "تحسينيا"، ولا هو مجرد حاجة سياسية، إنه بدوره شيء حياتي، يؤسس للثقة بين الناس وللأمان في تفاعلاتهم، ولاستقرار النفوس والمجتمع. غيبة العدل تفضي إلى الكراهية والقسوة، وإلى تحجر القلوب وانحطاط الهمم.
بسيرها على هاتين القدمين، المزايدة على الواقع والممكن، والمزايدة على العدالة البشرية، تستأنف الإسلامية الانحطاط الأسدي ولا تنفصل عنه. لعلها اليوم تعيش أيامها الانتحارية، ما قبل 5 حزيرانها الخاص.
غير أن معاكسة المسار الانحطاطي ممكنة، ولها عنوانان: واقع وطني لا يقبل الاختزال إلى مكوّن واحد، أو سيادة مكون على غيره، وعدل بين الناس يستند إلى قيم مشتركة، لا إلى أي مفهوم خاص أو طائفي للعدالة.