فصلان من رواية -ابنة سوسلوف-


حبيب عبدالرب سروري
الحوار المتمدن - العدد: 4532 - 2014 / 8 / 3 - 00:28
المحور: الادب والفن     

فصلان من رواية "ابنة سوسلوف" لحبيب عبدالرب سروري، دار الساقي.
(متوفرة لدى دار أقلام عربية (شركة توزيع)، تلفون: 1118273500. وفي المكاتب المصرية في وسط البلد : مكتبة ديوان، والشروق، مدبولي، عمر، الحلمية، سنابل.  وبمدينة 6 اكتوبر مكتبة الكلمة)
 
 
(١)
 
 
منشور تمهيدي من حائط صفحتي في الفيسبوك:
عندما كان بن علي هارباً يلهث في الطائرة بحثاً عن بلدٍ يأويه، كنت أكتب مقالي الأوّل: ”حان موعد رحيل طاغية اليمن!“. بعثته طازجاً إلى قائمة بريدٍ طويلة، وإلى صحفٍ عديدة...
لم تقبل نشرَه صحيفةٌ عربيّةٌ واحدة، لأنه كان متقدِّماً ومبكّراً حينها.
لم تنشره لي إلا صحيفةٌ إلكترونية، قبل نهاية يناير ٢٠١١، بعد أيامٍ من رفض الصحف الورقيّة له، سأظلّ ممتنّاً لرئيس تحريرها المبجّل: ص. ش.!
 
منشور تمهيدي من حائط صفحتي في الفيسبوك:
عشية ١١ فبراير، تجمّدتُ مشلولاً على كرسي مكتبي وأنا أتابع خطاب عمر سليمان على شاشة كمبيوتري. انتظرَ الجميع أن يقرأ خطاب تنحّي مبارك، لكنه قرأ خطاباً معاكساً لا يُفهَم منه شيء.
شللٌ حقيقي (أدركت بفضله كيف يموت الإنسان، معزولاً وحيداً في بيته، دون رفيق، قبل أن يكتشف الناس أشلاءه الرميمة المتخثّرة بعد أيام، بعد أسابيع وأكثر).
انقطع الإنترنت داخل مصر بعد الخطاب. يأسٌ عميمٌ في الخارج.
كتب حينذاك أحد الخبراء الفطاحل المتخصِّصين بمصر على صفحته في الفيسبوك عبارات تغلغلتْ في مساماتي كدبّوس: «لن يرحل مبارك! ضجيجٌ كثيرٌ مقابل لا شيء!».
صدمة!
لم أستطع أو أودّ النهوض عن كرسي مكتبي. شللٌ حقيقيٌّ حميد. لعلي نمت عليه سويعات قليلةً فقط قبيل الفجر. ظللت مشلولاً عليه بشكلٍ طوعيٍّ حتّى عصر الغد، ١١ فبراير، عندما قرأ عمر سليمان، ببدلته الزرقاء الأنيقة وقامته السامقة المتخشّبة، بياناً مقتضباً من أربع جمل، لم يرتكب فيها خطأً لغويّاً واحداً: بيان التنحّي.
المشلول يرقص، يقفز، يطير...
لم أترك صديقاً أحبِّه في الكون دون أن أتّصل به لأفرغ أطناناً من الفرح!...
 
منشور تمهيدي من حائط صفحتي على الفيسبوك:
خسّرني القذافي ما خسّرني، إذا جاز القول:
كنت أتابع بهلع أخبار القصف على شارع طرابلس بمصراته. أفتح القنوات من آيفوني وأنا أقود السيارة. أنسى الأضواء الحمراء وبقية إشارات المرور. النتيجة: خسرت عشر نقاط من الاثني عشر نقطة التي تُسحَب بعدها بطاقة ترخيص القيادة. كل ذلك بسبب شارع طرابلس بمصراته!
ليس ذلك فحسب، لكني أضعت حقيبة ظهري التي صارت مع مرور العقود جزءاً من جهازي البيولوجي (أحمل حقيبة ظهر منذ أوّل سنة جامعية. أوّل هديّةٍ من زوجتي لي كانت حقيبة ظهر وقلم حبر ثمين. لا أخرج منذ ذلك اليوم أو أدخل دون حقيبة ظهري).
أضعتها في باريس بكلِّ ما فيها من وثائق وأمتعة ثمينة، عندما توقّفت أثناء المشي، لأمكث في ركنٍ هادئٍ أتابع فيه خبراً تلفزيونيّاً عاجلاً في الآيفون عن شارع طرابلس بمصراته.
من شدّة القلق والارتباك، بعد الجلوس نصف ساعةٍ ربّما، واصلت المشي دون أن آخذ كعادتي، بشكلٍ لا إراديّ، عضواً من جسدي تركته على الأرض...
عدتُ إلى نفس الموقع بعد ٣ ساعات بحثاً عنه، عبثاً!...
كلّفتني مصراته ما كلّفتني!
أردتُ أن أسحب ٣٠٠ يورو ببطاقة البنك من ساحبٍ آلي في شارع، قبل الذهاب لشراء صحيفة اللوموند المسائية لمتابعة أخبار شارع طرابلس بمصراته. من فرط تعجّلي وضعت بطاقتي في فلقِ الساحب الآلي، استعدتها وهرولت نحو المكتبة دون أخذ النقود التي تخرج بعد سحب البطاقة!
لم أكتشف ذلك إلا عند محاولة دفع ثمن الصحيفة: وجدت جيبي فارغاً إلا من بطاقة البنك!
قائمة تعويضاتي التي سأطلبها يوم الحشر من القذافي طويلة:
منها تذكرتا سفرٍ بالطائرة فقدتهما بسبب جنونه وهمجيته وتحويله الثورة السلميّة إلى صراعٍ عسكريّ.
التذكرة الأولى أثناء أيام قصف مصراته. كنت في طريقي إلى مؤتمرٍ ببولندا. مترو الذهاب إلى مطار شارل ديجول (الذي آخده من محطة قطارات الشمال بباريس، أكثر من مرّتين في الشهر، منذ عقدين على الأقل) أخذته هذه المرّة باتجاهٍ معاكس يؤدي إلى مطار أورلي!
فقدت الرحلة وحجز الفندق بسبب استغراقي في المترو في متابعة أخبار مصراته، دون أن أركِّز على محطات المترو التي أعرفها عن ظهر قلب، والتي كنت أعبرها بالاتجاه المعاكس!
وفقدت تذكرةً أخرى، بعد استفحال عسكرة الثورة الليبيّة، وأنا في مطار بوفييه في طريقي إلى جزيرة سَردينيا. مكثت في مقهى المطار وقتاً أطول من اللازم أتابع الأخبار وأتناقش مع جارةٍ بديعةٍ في المقهى عن القذافي، وما أدراك ما القذافي، دون أن أنتبه أن باب الدخول إلى الطائرة قد أُغلق!...
 
منشور من حائط صفحتي في الفيسبوك:
بدأتْ روائع الثورة اليمنية تأتي من «ساحة الحريّة» بتعز: كومونةٌ راقية، بنشاطات فنيّة وثقافيّة جذّابة، تفتح الباب لثورةٍ بدت مدهشة.
ثمّ جاءت الآلام متواترةً من عدن، حيث الحراك الجنوبي (الربيع الجنوبي الذي سبق الربيع العربي بثلاث سنوات) كان عظماً في حنجرة النظام منذ ٢٠٠٩.
كان الضرب الوحشيّ على عدن من قبل النظام تراجيديّاً، مرعباً، ينزف حقداً وبشاعة!
عشرات «الشهداء» منذ الأيام الأولى لانفجار الثورة في عدن.
كنت معهم في كل ساعةٍ ولحظة...
أعرف كلَّ أوجاع هذه المدينة المسفوكُ دمُها منذ حرب ١٩٩٤، هذه المدينة الكوسموبوليتية الساحرة التي صارت مرتعاً لنهب القبائل ومرقصاً لأحقادهم. أدرك تماماً مدى بشاعة وجنون النظام وهوسه لإطفاء الثورة التي تشتعل فيها منذ ٢٠٠٩...
 
*********
 
«قبل أن يَصلُبَ مولانا البوعزيزي نفسه، من أجل أن نتحرّر ونحيا» (صرت أتنحنح كثيراً عندما أعيد قراءة هذه العبارة التي كتبتها ذات يوم) فقدت الأمل كليّةً ليس فقط في رؤية غروب الرأسمالية (أنا الذي أعشق منظر الغروب) وإشراق شمس الاشتراكية والمساواة، بل حتّى في رؤية غروب عصر الطغاة العرب وديكتاتورياتهم الظلامية العتيقة، أو حتّى أحدهم فقط.
فقدت الأمل كثيراً أيضاً في رحيل هاوية من مستنقع حياتها في مجمّع قصور الإمام لتطوفَ العالم معي، كما أحبّ.
كنت حينها مشتاقاً لأحضانها بضراوة: لم أرها منذ الصيف الماضي. لم يحدث لنا منذ لقائنا الأوّل في جلسات الفردوس أن نفترق ردحاً من الزمن بهذا الطول: لا أستطيع، لظروفٍ مهنيّةٍ لا مناص منها، الوصولَ إلى صنعاء قبل ١١ مارس. أي: بعد شهرٍ بالضبط من انطلاق الثورة اليمنية وسقوط مبارك!
تفجّرت كلُّ أحلامي القديمة دفعةً واحدة عند اندلاع ثورة تونس، ورؤية الكلمة المقدسة: «إرحلْ» على لوحةٍ ترفعها شابّةٌ مدنيّةٌ عاريةُ الساعدين، بهيّةُ الطلعة، جميلة المحيّا، عذبة الابتسامة، ترفرف مع لوحتها على عرش أكتاف حبيبها. شعرت بالدوار من فرط روعة هذا المنظر الذي لم أكن أتجرّأ أن أحلم به!...
صعدتْ إلى السطح حينها ذكرياتٌ مؤثِّرةٌ عارمةٌ حميمة: رفعتُ نجاة، في «عيد اللومانيتيه» وفي مسيراتٍ شعبيّة وحفلاتٍ فنيّة في فرنسا وخارجها مرّاتٍ ومرّات، مثلما رفع هذا الشابُّ حبيبته...
ولّت نجاة، ولن أجد بعدها من تتربّع على كتفَيّ لتقول لكلِّ طاغيةٍ في أرخبيل الكوكب الأزرق: «إرحلْ!».
ولّتْ لتتركني وحيداً مسلوباً، كافراً بهذا العالم. أعيش، تحت الأقبية، عشقاً غامضاً مغشوشاً أتقاسمه مع «طبينٍ» غادر. أناطح تنّيناً، أنتظر موتي بهدوء.
ولّتْ ضحيّةَ الدعوات الإرهابية التي تزدهر في ديكتاتورياتنا العربية المتعفّنة، والتي تقول ثورة تونس لأحد قادتها: «إرحلْ!»...
عشت بعد تونس ثورةَ مصر وأمجاد ساحة التحرير دقيقةً بدقيقة.
بدت كومونةُ ساحة التحرير عروسَ أحلامنا بدون منازع: ثورةٌ «من طرازٍ جديد»، دون حزبٍ طليعي، دون بلاشفة، دون مناشفة، في ساحةٍ أسطوريّةٍ خالدة، وبسلاحٍ عصريٍّ عبقري: الإنترنت!
تبرعم الأمل أكثر فأكثر بعد دخول ليبيا على الخط أيضاً. كنت في القطار عندما ألقى القذافي خطاب «زنقة زنقة». أراقبه في الآيباد يرتجف. لم أصدِّق عينيّ وأنا أرى «ملك ملوك أفريقيا» عارياً يُرثى له. كلّما تفرقعَ أكثر، بدا منهاراً بشكلٍ أجلى. أشفقتُ عليه فعلاً!...
غير أنه نجحَ في تحويل الثورة إلى صراعٍ عسكري، وبدأ بنسفها بالطائرات والأسلحة الثقيلة!
انتهت فرحاتي وأنا أتابع القصف العسكري على شارع طرابلس بمصراته. أرتجف هلعاً كل يوم، كما لو كنت أسكن فيه مع عائلتي وأطفال أطفالي.
تغيّر كلُّ شيء: انتقلنا من ثورةٍ إلى حربٍ وجنون!
غير أن أليافي العصبية كانت مشدودةً لخفقات ثورة اليمن، ليل نهار.
تضاعفت، قبل هذا وذاك، أشواقي لعناق هاوية.
أحنُّ بلهفةٍ مضاعفة إلى جلسات العشق، إلى بروفات الفردوس في هذا الزمن الجديد، زمن ما بعد انطلاق الثورات!...
 
١١ مارس ٢٠١١:
تصل الطائرة في الصباح الباكر إلى عاصمة ثورة الربيع اليمني: صنعاء!
ظروفٌ مخيفةٌ وقلقٌ منذ لحظة الهبوط. اختلف الحديث مع سائق تاكسي المطار الذي نقلني إلى الشقّة عن كلِّ حديث:
– لماذا جئتَ في هذه الظروف؟ أنت مجنون؟
– بالعكس، تأخَّرتُ عنها شهراً بالوفاء والتمام. أنتظرها منذ قرون! كان بودّي الانغماس فيها منذ اليوم الأوّل!
– من هي؟
– الثورة!
– أية ثورة؟
– الثورة اليمنيّة!
– آه، الثورة اليمنيّة!... أنت وحظّك!...
– .......
أخرجني من اضطراب لخبطةِ أسئلته، قال:
– بس، كأنّك تتحدّث عن امرأة!
يبدو، مع ذلك، للعين المجرّدة أن ثمّة شيئاً ما يشبه الثورة، الأمل: صور الطاغية ممزَّقةٌ على الجدران، شعاراتٌ جديدة تنبت هنا وهناك، نداءاتٌ وأحاديثُ متمرِّدة ألتقطها في المطار وأثناء عبور صنعاء المشطورة بين قوّتين:
قوّة النظام وعسكره التي غرستْ خيامَ بلاطجتها سريعاً في «ساحة التحرير»، في شارع التحرير القريب من صنعاء القديمة، خوفاً من أن يحتلَّه الثوار ويكون صدىً لساحة التحرير في القاهرة التي أسقطت مبارك (والتي استُعير الاسم منها في لحظة انطلاق التحرير الجمهوريّ في ١٩٦٢).
وقوّة الثورة والمعتصمين في الساحة والشوارع المتاخمة للجامعة، التي وجدتْ هنالك البديل، وأسمتْه: «ساحة التغيير».
هكذا تشبه صنعاء قافيةَ شطرين متنافرين لبيتٍ من الشعر العربي العموديّ القديم. نهاية شطره الأوّل: التحرير، والآخر: التغيير.
قد يقول غيري إنّ من الأجدر استبدال نهاية الشطر الأوّل بـ«التكفير» (لأن كلَّ الراسخين في عِلم التكفير ينتمون للساحة الأولى)، ونهاية الشطر الثاني بـ«التفجير» (لأن كلَّ القتلة والمجرمين وبطارقة علوم التفجير ينتمون للساحة الثانية).
تغيير، تكفير، تحرير، تفجير...
تشبه عاصمةَ بلدٍ تتفرقع كلُّ قوافيه الجامدة السحيقة. يراقبه العالَم باستغراب،
بعدم اكتراث،
بنصف اعتراف،
وبدهشةٍ مشوبةٍ بشيءٍ من الإعجاب...
كان واضحاً وأنا أعبر صنعاء باتجاه الشقّة:
بعد أقل من ٣ أشهر من رحيل البوعزيزي، سقط فعلاً جدار الخوف في أدمغة الناس، كما يبدو للعين المجرّدة.
تذكّرت عبارة سارتر: «ليس بمستطاع أحدٍ، حتّى الآلهة، قهرُ إنسانٍ تفجّرت في روحه ينابيع الحرّية!».
تضخّم الحلم في رأسي وتمدَّد وتمطمط في كلِّ الاتجاهات!
ألهث نحو الشقّة. أغتسل بماءٍ يرفض أن يصل، ثمّ يتقطَّر بارداً جدّاً، بمشقّة... تلتهب أشواقي للذهاب إلى «ساحة التغيير» في تخوم جامعة صنعاء (مركز الكومونة الثوريّة اليمنية) واللحاق بـ«جمعة الغضب» التي أتابع أخبارها من قناة الجزيرة وأنا أغتسل تحت حنفيّةٍ بلا ماء.
كهربةٌ ثوريّةٌ محمومةٌ تعصف بي. أعيش أخيراً اللحظة التاريخية التي أنتظرها منذ ولادتي، وقبل ولادتي بقليل: لعلِّي لن أعيش غروب الرأسمالية، كما حلمت كثيراً مع نجاة، لكني سأعيش على الأقل، وبشكلٍ مباشر، غروبَ الطغيان وشروقَ عالمٍ عربيٍّ جديدٍ يدخل العصر!
أصل ساحة الثورة قبيل صلاة الجمعة. جوٌّ ثوريٌّ مهيب لم أتصوّره. خيام المعتصمين في كل مكان. كلُّ ثائرٍ كتب أو يكتب أحلامه في ورقةٍ يرفعها على خيمته أو يلصقها على ظهره.
ملحمةٌ من الأحلام كم ندمت أني لم أجمِّعها في كتاب، وإن احتفظتُ بأحدها فقط. صوّرته بكاميرا تلفوني، أضعه هنا كما رأيته فوق خيمة شابّةٍ قرويّة:
«حلمي: سيّارة ’هيلوكس‘ أبو غمازتين. وبودّي أن تكون: حمولة واحد طن.
أُحمِّلها قات عنسي وأمشي بها الخط الطويل من الجند، إلى تهامة، إلى عدن... وألقط من الطريق مسافرين أحصل منهم حق البترول والزيت وصرفة البيت... وأسمع حزاويهم والأخبار.
حلمي أتزوّج وليد "من تحت كمِّ أمِّه"[1] يخدم أبي ويقوم بواجبه.
حلمي شنطة لابتوب أبو خانتين، خانة للّابتوب وخانة (للرشاش الآلي الروسي، أبو عطفة).
وأبحث عن أرملة تغطِّي دوامي الوظيفي في مكتب الاعلام، أعطي لها نصّ الراتب (ثواب)، ونصّ الراتب أفعل به جمعيّة بثلاثة مليون ريال، أستلمها في القعدة وأطلع أحجّ بها أنا وأمي وأبي .
وفي بداية 2015م أصدر روايتي الأولى بعنوان: فتاة من آزال!».
أعدت مراراً قراءة هذا الحلم البريء الذي انبثق عموديّاً من الطبقات الجيولوجية السفلى للاوعي شابّةٍ ريفيّةٍ رقيقة أذكر أنني التقطت اسمها، سلمى، وأنا ألفُّ وأدور قرب خيمتها وصديقاتها.
نزيفٌ من الصّدق. روحٌ رشيقة. انحنيت أمام خيمتهنّ، مشيت على أطراف الأصابع!...
نقاشاتٌ ثنائيةٌ حميمة، موسيقى ثورية، شعاراتٌ تردَّد هنا وهناك، ندوات، صلوات، خطابات دينيّة...
تذكَّرت «عيد اللومانيتية»، حِجَّنا السنوي، نجاة وأنا؛ عشقنا الدائم (نحن اللذين تمنينا أن تكون الحياة عيدَ لومانيتيه بحجم الكرة الأرضية)، وإن كان، بالمقارنة بساحة التغيير، ينتمي لكوكبٍ وقرنٍ آخرين.
دموعٌ صامتة: لأوَّل مرّة أرى معلَماً كهذا في صنعاء يذكِّرني بنجاة.
أين هي الآن عزيزي لاطش الأرواح؟
ماذا عملتَ بروحها النقيّة الطاهرة، يا ملاكاً لا قلبَ له؟ في أيِّ جهةٍ من «وادي الدموع» تحلِّق؟ متى سألقاها؟... صدِّق أو لا تصدِّق عزيزي مفرِّق الجماعات وقاتل المسرّات: ما زلت أحلم أحياناً أنها في طريق العودة من مكتبة جوزيف جيبير، حاملةً كيس رواياتٍ صغيرة وحزمةً من أقلام الرصاص!
كم أحلم اليومَ أن أسير معها هنا، في ساحة التغيير، نتحدّى القبائل!
كومونةٌ ثوريّة حيّة هذه التي أتجوّل فيها. أمكث لحظات في خيمات ترفع شعارات مدنيّة، وفي خيمة موظفي الجامعة والحزب الاشتراكي اليمني... قلبي ينتفخ أملاً وسعادة.
تتفجّر فيَّ نفسُ تلك السعادة الميتافيزيقية القديمة التي كانت تطفح فينا نحن الاثنين، نجاة وأنا، ونحن نذوب في معزوفةٍ جماعية تحتفل بالحياة والأمل والثورة.
لا أقترب كثيراً من خيمات القبائل والسلفيّين والإخوان المسلمين والحوثيّين (أتباع إمام آل البطْنين: ذريّة الحسن والحسين).
أي: معظم خيمات الساحة!
يختلط في الساحة الحابل بالنابل: من المتديّن السلفيّ في الغالب إلى العلمانيّ في أحيانٍ نادرةٍ جدّاً، من القبيليّ في أغلب الوقت إلى المدنيّ الناضج بين الحين والحين، من الأمِّيّ المسحوق أو نصف الأمِّيّ غالباً إلى المتعلِّم المستنير، من الفقير المسحوق و«البروليتاري الرث» (حسب مصطلح الأيام الثورية في عدن) والوجه الأغبر في معظم الأحيان إلى المثقف الأنيق المشعشع!...
«شارابية»، كما يقال بالفرنساوي المستورد. «عصيد»، باليمني الفصيح!
كنت واثقاً أنَّ «السبعة الكرام البررة»، الذين يضعون «لايكات» الإعجاب على منشوراتي في الفيسبوك، موجودون بين من رأيت، في مكانٍ ما من الساحة!
لو لم يكن لهم، مثلي، أسماءٌ تنكريّة في الفيسبوك لعرفنا بعضنا البعض، وتعانقنا بحرارة، وشربنا معاً نخب لقائنا الأوّل: كأساً من عصير المانجو، لا أكثر!
لا توجد بيرة هنا بالطبع، رغم أن مذاق بيرة «صيرة» (التي ألغى مصنعها في عدن ظلاميو حرب ١٩٩٤ لصالح مهربيّ كلِّ أنواع الخمور، في رأس الجيش والسلطة) ما زال لذيذاً عبقاً في الوجدان!
مثل كلِّ أسبوع: تحضيراتٌ لصلاة الجمعة، في قلب الساحة، ستسبقها خطبةٌ دينية ثورية!
أدعية، أذانٌ يهزُّ الساحة...
أخافني هذا الحضور الكثيف للدِّين في هذه الثورة، أنا الذي أعرف المخاطر التي تكمن جرّاء خروج الدِّين من المسجد إلى الشارع. لكنّ قلبي كان يرتجف من السعادة والدهشة والأمل، مع كلِّ ذلك!
تساءلت أيضاً: لماذا لا أصلِّي الجمعة معهم، أنا الذي قطعت حبل السرّة مع الطقوس الدينية، منذ الرابعة عشرة من العمر، إثرَ عشقي من أوّل نظرة لـ«الدرجة المائة» في كتاب بوليتزر؟
سأدعو في الصلاة، من كلِّ قلبي، أن تنتصر الثورة، وتسقط العائلة الحاكمة، ويبدأ اليمن الجديد!
سأتضرّع إلى الله أن يترك هاويتي «ترحل» معي في هذا العالم الفسيح، أو أن أعيش معها قرب البحر، في عدن (في جزيرة «عمران» مثلاً التي تحمل اسمي)، أو حتّى في مدينة «عمران» المخيفة جدّاً القريبة من صنعاء، أو في هذه الأخيرة (التي بدأت أهواها بضراوة) بعيداً عن مجمّع قصور «غُورُو» هاويتي اللعين، «طبيني»: الإمام الهمداني!
أين هو؟
الإمام الهمداني (الذي يُعتبر الآن من كبار معارضي الرئيس، فيما هو فلذّة كبد نظامه!) سافر إلى دولةٍ مجاورة، مع ابنه الإمام عمر، خوفاً من تعرِّضهما لاعتداء قوات الأمن، لأن خطاباته تُغلي وتحرِّك الجموع المؤمنة ضد النظام!
الأمل يتضاعف في جوانحي اليوم وقد صارت هاويةُ بعيدةً عن جلاّدها الهارب، وزوجها ابنه المقيت. لم يبقَ لي إلا استغلال هذه الفرصة التي لن تتكرّر، وتخليصها منهما بشكلٍ نهائيٍّ حاسم.
الأمل والتناقض معاً: عدوّي الأكبر من أهمِّ «مؤدلجي» هذه الثورة (ثورته وثورتي معاً!) ومن أبرز قادتها ورموزها وملهم كثيرٍ من ثوّارها!
أتستطيع، عزيزي قابض الأرواح، استيعابَ هذه المعادلة المجنونة، أو فكَّ بعض رموزها فقط؟
أما أنا فلا أفهمُ شيئاً! تتفجَّر «فيوزاتُ»[2] دماغي كلّما حاولت أن أستوعب ذلك!...
أهذه ثورةٌ أم مطبّ؟
أمن الأفضل الإصابة بسرطان الدم (النظام الحالي)، أم سرطان المخ (نظام السلفيّين)، الطاعون أم الكوليرا؟
الأدهى: في طليعة هذه الثورة، قائدتها ورمزها بشكلٍ أو بآخر: امرأة، مثل جان دارك الفرنسية، صدِّق أو لا تصدِّق ذلك، عزيزي الغالي ملاك الموتى!
خيمتُها، مع بعض صديقاتها من الداعيات، كانت أوّل الخيمات التي انغرست في الساحة. يَنَمْنَ فيها ليل نهار. تنطلق منها شعارات ثوريّة يردِّدها الصغار والكبار، بعد جان دارك اليمن (أو «قَبول المجنونة»، كما يسمّيها أحد «السبعة الكرام البررة» في أحد منشورات حائطه في الفيسبوك، دون أن يدرك أنه يجرحني بهذه التسمية):
تخرج من خيمتها كلَّ صباح، بعد الفطور مباشرةً، كأنّها مدرِّبةٌ رياضيّة لفريقٍ من صغار شباب الثورة. الجميع ينحني إعجاباً أمام صدق عدائها للنظام، ومواجهتها له بشجاعةٍ لا تخلو من تطرّف.
«بطلة»، «امرأة بألف رجل»، يسمِّيها الكثيرون.
تهتف جان دارك اليمن، (مثل الحسّاني في طفولتي) بصوتها العذب السامق:
«كلما زدنا شهيد»،
يردِّد بعدها شبابٌ مجاذيب بشكلٍ آلي (مثلما كنّا نردّد بعد الحسّاني):
«صرنا ثوّار من حديد!»...
من هي؟
امرأة تبدو أكثر شباباً من عمرها الحقيقي، كما لو كانت في الثامنة والثلاثين فقط، وإن صغرتني بست سنين لا غير. داعيةٌ دينيّة خلعت منذ اندلاع الثورة نقابها لينكشف وجهها الساحر الذي ينحني عند رؤيته الجميع!
قضّيت نصف وقتي في باريس، منذ اندلاع الثورة، أتابع أخبارها في الفيسبوك، أتابع مقابلاتها الإعلامية في القنوات التلفزيونية والصحف العالمية...
تتحوّل هكذا شريكتي في حوار «دكان الأعمى» الصامت، رويداً رويداً، إلى ناقوسٍ يدقُّ في عالم الثورات!
لكن لماذا خلعت نقابها، هي التي لم أسمع منها يوماً أدنى رغبةٍ في خلعه؟
أذلك من بشائر الثورة ومفعولها السحري؟ دليلُ تغييرٍ حقيقيٍّ فجّرتْه في وعي معشوقتي؟ بازغةُ أمل؟
أم ثمّة قرارٌ حزبيٌّ أجبرها أن تصبح واجهةً نسائيةً دوليّةً لهذه الثورة؟ أم هناك من فذْلَكَ في مكانٍ ما لأن تكون الرمزَ الذي يهرع الصحفيون الأجانب والقنوات الخليجية للاقتراب منه وتصويره واللقاء معه؟
هل سأراها في الساحة؟ هل ستأتي إلى الشقّة بعد ساعات، حين أغادر ساحة التغيير وأعود إلى طقوس انتظار بروفات الفردوس التي أشتاقها بضراوة، كما لم اشتقتها يوماً؟...
لا أستطيع أن أتصوّر كيف ستكون روعة جلسات عشقنا في معمعان ثورةٍ تحرّرت فيها هاوية من نقابها، ومن الإمام الهمداني وزوجها الإمام عمر، الهاربَين خارج اليمن للاحتماء من انتقام الرئيس، لأنهما في مقدمة معارضيه؟
اقترب وقت صلاة الجمعة. يتوجَّه الجميع، دون استثناء، نحو فناءٍ في قلب ساحة التغيير...
لماذا لا أصلّي مثل الجميع؟
لم أتردّد!... انخرطتُ مع جموع المصليين بحماسةٍ ورغبة، وبخشوعٍ أيضاً (وإن كنت قد نسيت تماماً أنه يلزم بدء الصلاة بالوضوء!).
قبعتُ في الصفوف الأخيرة لأصغي للخطبة. احتجتُ وقتاً لإدراك أن هذا الخطيبَ «الثوري» فقيهٌ شهيرٌ مُعادٍ لمنع زواج القاصرات: الشيخ عبد الرحمن، الصديق الصدوق في السرّاء والضراء للإمام عمر محمد الهمداني، بشحمه ولحمه!
شعرتُ برجّة!
لا يجوز في ديني الصلاة وراء مجرمٍ يُحلُّ نكاح الأطفال!
تساءلت: ماذا أعمل هنا؟ أجننت وأنا أستمع لخطاب هذا الطامّة الكبرى؟ ألا أشعر بالخجل، وأنا أصغي لمجرم؟...
بعد بضع دقائق: ضيقٌ خانق، ورغبةٌ في مغادرة الساحة وإغلاق هذا الملف «الثوري»، دون ندم.
خطابه: عباراتٌ عتيقة لتاريخٍ غير علميٍّ لا أعترف به. تنويمٌ مغناطيسيٌّ وغسيل دماغ...
(ألاحظ على محيّا صديقي ناهبِ الأرواح تأفّفاً من ثورةٍ تفتح أبوابها لأبشع الظلاميين. أسمع زفير خيباته...
حاولت التخفيف من وطأة حديثي على صديقي الذي يمقت النفاق وأقنعة الدجّالين أكثر منّي.)
استطردت:
لُذتُ، عزيزي الغالي كاسر الملذّات، من ضجيج الشيخ عبد الرحمن بالذكريات:
استعدت لحظات صلوات طفولتي في مساجد عدن، قبل «حنجلة»[3] «الدرجة المائة» في كتاب بوليتزر، وأنا في الرابعة عشرة:
كم كنت أحبّ مراوحَها (التي تقينا لظى سخونة الجو وكثافة الرطوبة)، براءةَ وطيبةَ فقرائها، ومشروبَ «فيمتو» المثلَّج الأحمر الفاقع والحلاوة اللذين يوزّعان للجميع بعد صلوات العشاء، داخل المسجد (عندما تكون هناك صلوات تأبين لميّت، تسمّى «دروس»، تليها جلسات تلاوةٍ قرآنيّةٍ تُهدى حسناتها وثوابها لروحه: أوركسترا تمتمات أصغي إليها بأذنٍ رهيفة، وسط أضواء نيون المسجد البيضاء وهدير المراوح الكهربائية)...
بدأتُ صلاة جمعة الغضب. لاحظت بسعادة: ما زلت أتذكّر طقوس الصلوات وإرشادات أدائها ونصوص تراتيلها وآليات خطواتها.
قبيل نهاية الصلاة، عندما كان الجميع مستغرقاً في السجود وترديد «التحيات المباركات» بصمت، نهض من سجوده طفلٌ جاء للصلاة مع والده، ليهتف وسط جموع المصلِّين: «الشعب يريد إسقاط النظام!»، هذا الشعار الساحر الذي يفجِّر فيّ طاقات لا حدّ لها (والذي كنت أردِّده لوحدي في جولاتي الباريسية الصغيرة أو في أروقة بيتي، في «مليونياتٍ» فرديّة تحاكي مليونيّات جُمَعِ مصر واليمن!).
كتمت ضحكتي بصعوبة في قلب الصلاة، وأنا أسمع الطفل الواقف يرتِّل لوحده آيتي المفضَّلة وسط الراكعين!
«رمزٌ تعبيريٌّ نابض: طفلٌ واقفٌ وسط كبارٍ راكعين!»: قلت لنفسي من باب «الدعاية والتحريض» الثوريّ الذي يرفع معنوياتي على الدوام!
لكلٍّ تنويمه المغناطيسيُّ المفضّل، حبيبي هادم المسرّات!
ما إن انتهت الصلاة حتّى نهض كثيرٌ مثلي يهتفون وراء الطفل: «الشعب يريد إسقاط النظام»، الذي بدأ مفعوله السحريّ يغيظ بعض قادة «اللجنة التنظيمية»، فصاروا يردِّدونه أقلّ فأقل، وبمضض، وذلك لصالح شعارات أخرى أكثر دينية...
لاحظت: تزعجهم جدّاً هاتان الكلمتان: «الشعب يريد»، تقضُّ مضاجعهم. لأن من «يريد» هو الحاكم، الملِك، أو مالِك المُلك... لكن الشعب يطيع فقط، يخضع للملِك، للشيخ، للحاكم، للّجنة التنظيمية...
أما إذا أراد الشعب حقّاً، فهذه بداية النهاية!
السؤال الرئيس الذي لا أعرف الإجابة عنه: هل هذا الشعب قادرٌ أن يريد حقّاً؟
مكثتْ أغلبية المصلِّين تتابع تسبيحات وأدعية الخطيب بعد الصلاة، غير سعيدةٍ بمروق مجموعتنا المتمرّدة لتطوف الساحة وهي تردِّد «الشعب يريد إسقاط النظام» بعد مايسترو صغير يقودنا من فوق أكتاف والده.
أما هم، الأرثوذوكسيون جدّاً، فسيخرجون بعد نداء «اللجنة التنظيمية»، وذلك لمليونيةِ مسيرةِ الجمعة في الشوارع «المحرّرة» من صنعاء المشطورة.
انتهت سلسلة أدعية الشيخ عبد الرحمن بـ«اللهم أهلِك الكافرين!» التي خنقت بلعومي بضع دقائق، لأنها بالتأكيد خارطة طريق مَنْ وضع عبواته الناسفة في مترو سانت ميشيل داخل كيس قمامة!
إلهي، ماذا أعمل هنا؟ ماذا أعمل هنا؟...
بانتظار اللحاق بمسيرتهم، أرتِّل مع الحشد البريء بكلِّ جلافة أوتار حنجرتي، وبكلِّ لزوجة وليونة خياشيمي، آيتي المقدسة: «الشعب يريد إسقاط النظام!». أقذف، بسعادةٍ لا حدّ لها، طنّاً من الطاقات التي تكلَّستْ.
أحتاج إلى الصراخ بهذه العبارة حتّى أنهارَ مغشيّاً عليّ وسط ساحة التغيير، أحتاج إلى الانتماء العضويِّ الحميم لأمعاء هذه الساحة، أحتاج إلى كثيرٍ من التفجّر والانتفاضات والجنون!
ثمّ نتقدّم بين الخيام والطرق المتناثرة، على هامش المسيرة الرسمية الكبرى التي يستعدُّ حشدنا المتمرِّد الصغير والسعيد جدّاً للانضمام إليها...
أترك الحشد ونحن نقترب من خيمةٍ يُعرَض فيها فيلمٌ عن دور المرأة في الثورة اليمنية سيُقدَّم إلى مهرجانٍ دوليّ. كنت واثقاً أنه سيتحدّث كثيراً عن إحدى أهمِّ نجمات الثورة: هاويتي!
دخلت الخيمة لأقرفص بين المشاهدين.
نصفها الأيمن نساءٌ قليلات مغلّفاتٌ بسواد كلّي، والنصف الآخر رجالٌ مزدحمون، من القبائل المجاورة في الغالب. بينهما برزخٌ لا يبغيان.
الأغرب أن «اللجنة التنظيمية» أمرتْ أن يقبع الزوج في النصف الرجولي من الخيمة، بعيداً عن زوجته!
إلهي، أهي ثورةٌ تقودنا إلى الأمام أم إلى قندهار؟...
أترك الخيمة لأني لا أحتمل هذه الطقوس الظلامية متأكِّداً من أني سأجد الفيلم على يوتيوب، وسأرى فيه هاويتي تملأ الشاشة والوجود، من دون نقاب!
يلاحظ تذمُّري الخجول عجوزٌ وارمُ الوجه، متكوِّرُ البطن، «ذماريّ»[4] النكتة، جالسٌ قرب خيمةٍ مواجهة، يحدِّق في الجموع بأعين من يعرفها عن كثب، وبمتعةِ من يُجمِّع زخماً من المناظر والذكريات والمواد الخام، للثرثرة والحكي الساخر بعد عودته إلى ذمار...
– ما بك يا حاج؟ لا تروقك مشاهدة الفيلم كما يبدو؟؛ سألني.
– لم يبدأ بعد... لكن، بالفعل، لا يسعدني تصرُّف منظمّي الخيمة من «الثوريين» وهم يفصلون حتّى الزوج عن زوجته!
– يا ابني: كلُّ هؤلاء الذين تراهم في الساحة أبناءُ من كانوا جمهوريين في الصباح (أي: مع جيش مصر الذي جاء أيام جمال عبد الناصر يدافع عن الجمهورية) وملكيين في المساء مع حشود الإمامة والقادمين من المملكة (أثناء حصار صنعاء، بعد سقوط الإمام في شمال اليمن، في ٢٦ سبتمبر ١٩٦٢).
لا تصدِّق إطلاقاً أن هذا الشعب الجمهوكي (أي: الجمهوري  – ملَكي) يريد التغيير. هو أكبر منافقٍ في الكون، ابناً عن أبٍ عن جد. لا تصدِّقه إطلاقاً!
ثمّ أضاف:
– لكني متفائل، ستنتصر الثورة!
ابتسمت سعيداً وتنفّست الصعداء، كنت أريد تقبيل رأسه لشكره على هذه البشارة، قبل أن ألاحظ أنها تتناقض وتصطدم مع ما سبقها، وقبل أن يضيف:
– تجرفك السعادة بسرعة كما يبدو. ألا تلاحظ أن تفاؤلي منافقٌ أيضاً؟
ابتسامةٌ صفراء.
التصقت عبارته بذاكرتي، وازدادت رغبتي في التأمُّل فيها يوماً بعد يوم...
لم أرَ ذلك الذماريَّ الفطين مرّةً أخرى. عبر حياتي كما تعبر صورة هيتشكوك بعض أفلامه خلال ثوان.
عبرَها كالنبي الخضر وهو يعلِّم النبي موسى كيف يدرك باطن الأمور بألمعيّةٍ تتجاوز القراءة التبسيطية المباشرة (كما ورد في سورة الكهف)!
أسميته: الخضر الذماريّ!
أتردّد في الذهاب باتجاه خيمة هاوية التي تقع، كما عرفت من صفحات الثورة في الفيسبوك: في قلب الساحة!
حولها، كما شاهدت في أكثر من فيلم على يوتيوب: قطيعُ شبابٍ صغار في تدريب ثوريٍّ دائم، تقوم به هاوية مع صديقاتها الداعيات استعداداً ليوم «الزحف الخالد»، يوم الحسم: الهجوم على القصر الرئاسي على إيقاع: «كلّما زدنا شهيد، صرنا ثوّار من حديد!».
أيمكنك حبيبي قابض الأرواح أن تشرح لي علاقة ثورة هذه المحاربة القتالية بطفولتها التي قضتها في معمعان حروب سوسلوف وفيروز التاريخيّة؟
لا أجرؤ على الاقتراب من خيمتها، قدس أقداس الساحة، وإن كنت متأكِّداً أنها خارجها في هذه الساعة، في رأس مسيرة جمعة الغضب التي تطوف المناطق المحرّرة من صنعاء...
لم أواجهها يوماً في الحقيقة خارج غرفة، منذ ١٢ سنة. بيان رصيد لقاءاتها، عزيزي سارق الأرواح، هو الآتي:
مرّة واحدة في غرفة أختي الدكتورة سميّة، ومرّة في صالة فندق (انثالَ قربه سيلٌ من طيور ظلام، كانت تردِّد هذا الشعار المدنيّ الراقي: «الشرع حلّل أربع!») وأكثر من ٣٠٠ بروفة فردوس.
لم نعرف، منذ أن ألتقينا في بيت أختي، غير حياة شقّةٍ نغلق نوافذها بإحكام. لم نخرج يوماً إلى شرفة، إلى شارع. لم نتجوّل معاً تحت الشمس، على شاطئٍ أو جبل. لم نجلس في مقهى، ساحة، سقف عمارة. لم نقرفص فوق كثيبٍ صحراويٍّ أو تحت قمر. لم تجمعنا يوماً مظلّةٌ تحت مطر... لم نمارس غير عشق الفئران في الأقبية المظلمة!
يستحيل معرفة كيف وكم سأفاجَأ (وهي أيضاً) إذا رأيت هاويتي في الساحة أمامي، أو إذا واجهتني في شارعٍ ما، أنا الذي قضيت مع ذلك نصف ليالي باريس أتخيّلها تطوف معي نصف شوارع الدنيا...
أشاهد بعيداً في الساحة، قرب المنصة الرسميّة، حفل عقد قران ثائرةٍ وثائر. يرقص قلبي من الفرح.
اقتربت إلى حضور الحفل وصدري يخفق بهجةً وإعجاباً.
ها أنذا أحضر عرساً يمنيّاً لأول مرّة منذ دهر، عرساً ثوريّاً! تكفيني هذه السعادة إلى زمن!
تخيّلت نفسي مع هاوية واقفَين محلّ العروسين اللذين يحيط بهما الرجال والنساء في جهتين مفصولتين متباعدتين.
أيمكنني أن أقبل زواجاً بهذا الشكل، أنا المنقوع بقيم التنوير والمساواة بين الرجل والمرأة؟
لِمَ لا؟... لا ضرر في صبِّ قليلٍ من الماء على النبيذ (أو على الحليب كما يجدر القول هنا).
زفّات زغردات «غطرفةٍ» نسائيّة تكتسح أذني!... نعم، أقبل صبَّ الماء على الحليب، ولو من أجل نبرات هذه الغطرفة السعيدة التي تثقب قلبي، تغزوه كسهم!
لم يكسر كيفي ويعكِّر مزاجي إلا صراخٌ من داعياتٍ دينيّاتٍ ثائرات منعن ذلك قائلات: «صوت المرأة عورة!»، وشغَب: «ممنوع التصوير، حسب تعليمات اللجنة التنظيمية».
أحد أعضاء اللجنة التنظيمية ينتزع الكاميرا بعنف من أيدي ثائرة لم تلتزم بالتعليمات.
عراكٌ ورفس!
«يلعن أمَّها ثورة!»، قلت لنفسي بغضب!
ثورةٌ إلى الأمام هذه، أم هرولةٌ إلى قندهار؟
راجعت قراري بقبولي الزواج الثوري مع هاوية على إيقاع تعليمات اللجنة التنظيمية وتوجيهات الداعيات السلفيات!
تذكّرت لقائي بالخضر الذماريّ قبل قليل. ما أبلغ وأعمق اختزالاته!
اقتربت الساعة من الرابعة والنصف.
هرولت باتجاه تاكسي نقلني إلى الشقّة: من يدري، قد تصل هاوية إليها كما كانت قبل الثورة؟...
نفس الطقوس الخالدة: أراقب بتلصّص من نافذة شقّتي معمعة منزل جاري الذي يشبه إسحاق شامير، والذي لم يخرج بعد لجولته حول العالم.
خوفٌ من قنّاص؟ قلقٌ دائم من مفاجآت؟ وافته المنيّة؟...
كلاّ، ما زال حيّاً يُرزق، أشاهد من نافذتي ظلال حركاته وسكناته داخل صالون منزله... يتردّد، يريد أن يخرج، لكنه لا يخرج!
سكنني يقينٌ خانق: إذا لم يخرج فذلك يعني أنّ هاويتي لن تصل!
أنتظرها بنفس اللوعة القاتلة، أراقبه، أفقد الأمل في أن تأتي اليوم هذه المعشوقة القديمة الجديدة التي صارت أشهر من نارٍ على علم!
أفقد الأمل تماماً: تغيّر كلُّ شيءٍ في هذه المدينة منذ زيارتي الأخيرة، حتّى جاري لم يعد يخرج من منزله ليطوف العالم...
ثمّ، قبيل السادسة والنصف، عندما يتوغّل في صنعاء خوفٌ وسكون ويغمرها الظلام، تتوقّف حافلةٌ قرب عمارة شقّتي. تخرج منها فتاةٌ بنقابٍ وحجابٍ مغبّرٍ قديم، من يراه يرثي فقرَ حالها!
ليست هاوية إذن، وإن كان لها نفس طلعتها، نفس قامتها السامقة الأنيقة!
فقدت الأمل قطعاً هذه المرّة، لولا (بعد بضع دقائق) نفس قرع الباب الذي أعرفه.
البنت التي واجهتني عندما فتحتُه ترتدي حجاباً آخر، أنيقاً وجديداً، لكنها بنفس النقاب، بنفس الأريج الذي يسحرني ويعيد بعثي من جديد.
ينفتح الباب.
«ساحة التغيير» بأكملها تصل إلى شقّتي!
 
(٢)
 
 
جلسات عشقِ ما بعد انفجار الثورة تختلف عمّا قبلها. ليس فقط لأنها تجمع شخصين ينظران في نفس الاتجاه: إسقاط أتعس وأسفل نظامٍ منحطٍّ فاسدٍ عرفته اليمن بلا منازع. يرتجفان لنفس الحلم الثوري وبنفس الطريقة. تحرِّر الثورة فيهما طاقات جديدةً هائلة. يجدان أنّ للحياة أخيراً اتجاهاً حكيماً طال انتظار البحث عنه واكتشافه...
لجلسات عشق ما بعد الثورة سحرٌ مختلفٌ فريد، لا أستطيع تفسيره!
عناقٌ جديدٌ كأننا نلتقي لأوَّل مرّة. عناقٌ ودموع!
– اشتقت إليكِ كما لم أشتق إليك يوماً، وهجي!
– وأنا أكثر حبيبي، طال غيابكَ هذه المرّة!
– لكنني كنت معكِ في كلِّ لحظةٍ وسكنة، قلبي!
– وأنا ضعفك مرّات ومرّات حياتي، كادت أعصابي تنفجر لطول غيابك!
(أعشق جهازها العصبي).
لاحظتُ سريعاً أنها وصلتني وفي فمها (لأوّل مرّة!) كتلةٌ مرموقة من القات. لم تصلني قبل ذلك يوماً وهي تلوك القات. تعرف أنني لا أطيق رؤيته في أي خدّ، لاسيّما في خدٍّ أنثوي!
كانت، في جلسات عشق ما قبل الثورة، تجلب معها بضعة أعشاب بين الحين والحين لا غير، تقطف بعض وريقاتها في ساعتي ما بعد العشق، تمسِّدها قليلاً بدلال ونحن نثرثر بسعادةٍ لا تساويها في الدنيا سعادة. لكني لم أرَ يوماً أثراً منتفخاً للقات في خدِّها في كلِّ الأحوال!...
بيد أنها هذه المرة تصلني بخدٍّ مفعمٍ بكتلةٍ استفزازية (كانت في قمّة جمالها رغم ذلك، بعينين مكحّلتين بعنايةٍ فائقة، بماكيّاجٍ صارخ، وكأنَّ ثورةً لم تكن؛ وكأنّها ليست جذوة هذه الثورة التي تبحث وسائل الإعلام العربية، لاسيّما الخليجية والسعوديّة، عن تصويرها واللقاء بها، وتحلم قناصات النظام بتوجيه رصاصةٍ طائشةٍ نحو جمجمتها.
إلهي، ما أبدعها وهي لا تخاف من شيء، بنفس جرأة تمثال «دكّان الأعمى» الذي كان يخترقني بنظراتٍ ليزريّةٍ عموديّة. تغامر في كل لحظةٍ ألف مرّة، تجيد تغيير قبعاتها بزئبقيّةٍ وأخطبوطيّةٍ لا حدّ لسلاستهما وأسفنجيتهما ومطّاطيتهما، وبسرعةٍ لا تخطر ببال!).
لا يحلو، بل يصعب كثيراً، تقبيل فتاةٍ فمها مملوءٌ بالقات: اللسان والشفتان مكبّلةٌ بكتلة القات الرخوة. لا يمكن إذن أداء رقصة فالس اللسانين التي نجد لذّةً غاويةً في ممارستها بعمق، هاوية وأنا. لاسيّما أن ثمّة لغةً كوّنّاها معاً في تفاصيل هذه الرقصة، تقول للآخر كلَّ ما لا يمكن قوله بالكلمات، تُهيِّجه وتُسقطه أحياناً باللكمة الغرامية القاضية. نصغي إليها دوماً بحساسيّةٍ فائقة، ونميل بِجَدّ لتنويعها وتطويرها اليوميّ باهتمامٍ خاص...
ما العمل وظمأ تقبيلها يستبدُّ بي منذ أشهر؟
فوجئت بها ترغب بشدّة في تقبيلي منذ بدء لقائنا مباشرةً، بشكلٍ أكثر حميميةً، وأمام المرآة أيضاً، وهي تلوك هذه الكميّة الاستعراضية من القات بالذات وبشكلٍ خاص، وكأنها استلمت هاتفاً من زوجها الإمام عمر يأمرها بالعودة سريعاً لأنه في جلسة ويسكي مع الشيخ عبد الرحمن، وتريد لذلك الانتقام منه، تريد الانتقام منه كما لم ترد ذلك يوماً، بسيمفونية انتقامٍ جديدةٍ جدّاً تفاجئني بها بعد شهرٍ بالضبط من اندلاع الثورة!...
تهبط باتجاه خاصرتي!
من لم يمارس العشق مع سلفيّةٍ لن يعرف يوماً ما يحمله الانزياح الطائش الراقص الرجراج (في كتلةٍ دافئةٍ رخوةٍ من قاتٍ مبلولٍ برضاب حورية) من مفاجآتٍ وتشنّجات...
لن يعرف ما تعني اللذَّة الطويلة التي تتجاوز أمد اللذَّة التقليدية.
لذّةٌ شاهقة، أم اللذّات، هاويةٌ من اللذّات الإلهية. أمام ابتسامة عينين مكحّلتين ببذخ، ضاحكتين بفخر وسعادة، تخاطبانك بلغة الأعين وهي تراقص وتراقب، بشهوةٍ وثنيّة، الامتداد الحميم المتشنِّج لجسدك المبهوت يغرق في ثغرها...
تغمره وتؤرجحه بحبٍّ خالص في كتلةٍ هلاميّةٍ رخوة، ساحرة التأثير متماوجة الاحتضان، من القات المنقوع برضابها!...
عينان مترعتان بالليل تقولان لك في المرآة وهما تشاهدانك أسير هذه الأوبرا الفريدة، وتشاهدان سعادة ابتسامتهما في نفس الوقت، وتشاهدانك سعيداً جدّاً برؤية سعادتهما، تقولان:
«تمتّعْ طويلاً، طويلاً، إلى الأبد... كلُّ شيءٍ في هذه الدنيا فانٍ إلا هذه اللحظات المتمرِّدة الفريدة، لا غير! هي وحدها التي ستعود إلى ذاكرتك في الدقائق الأخيرة قبل لقاء قابض الأرواح!».
ما يزيد جمال هذا المهرجان هو أصداء الرصاص التي تغرِّد في سماء صنعاء. ثمّة تناغمٌ لذيذٌ أحياناً بين لعلعتها وإيقاعات عشقِ هاوية.
المجد للثورات!...
لم تنتبه هاوية، عزيزي هادم الملذّات، إلى أن هذه اللذّة الشاهقة ستنتهي بتفجّر ينبوعٍ طال أمد احتباسه أيضاً، نسغي الصَّدفي سيتدفّق من ذَكَري المجنون بحرارة. سيختلط الحابل بالنابل في ثغرها كاختلاط الحابل بالنابل في ساحة التغيير...
فوضى، ثورة، سعال، كتلة قات مكتظّة بالسوائل السعيدة، لذَّةٌ عاتية لا تساويها في الكون لذّة... انطفأت الكهرباء في معمعان القذف والربشة. ظلامٌ دامس. ثمّ عشقٌ في ظلام. ثم عشقٌ بالشموع...
العشق أيام الثورة بحثٌ متمرِّدٌ في العتمة عن خارطة الطريق، رقصٌ رجراجٌ حرٌّ يتنقّل بين الظلمة والشموع، على موسيقى الرصاص والانفجارات البعيدة.
عشقُ ما بعد انفجار الثورات عالمٌ زاخرٌ بالمفاجآت، يصعب وصفه!
ساعتا ما بعد العشق في بروفات الجنّة يختلفان كثيراً أيضاً عن ساعتَي ما قبل الثورة. لم تبقَ هاوية معي في الشقّة إلا خمسين دقيقة بالكاد: لهاوية موعد لقاءٍ مع إذاعةٍ أجنبيّة. لم أنل وحدي من الخمسين دقيقة أكثر من عشر فقط: كان الحديث فيها حول الثورة وساحة التغيير ومستقبل النظام، لا غير (بين قليلٍ جدّاً من القُبل العميقة).
ما تبقّى قضته هاوية في الردّ على نُصيصاتها الهاتفيّة الهامّة، وبعض الاتصالات العاجلة جدّاً أيضاً، والتعليق أو بعث إيميلاتٍ حسّاسة على الإنترنت...
لغةٌ مقتضبةٌ تنكريّة أرمقها (ونحن مفترشان السرير، مستلقيان بحريّة، كما خلقنا الله) وهي تطقطق على لوحة مفاتيح ماكينتوشها الخفيف في ضوء الشموع، وتعبر بعينيها المكحَّلتين شاشته القابعة خلف نهديها الزاخرين، العذبين جدّاً.
ثورةٌ، حرية، جمالٌ، مجد!...
أحد اتصالاتها الهاتفية فقط بدا لي غريباً نسبيّاً. انسحبتْ عندما رنّ الهاتف إلى طرف الغرفة بلا وعي... تغيّر خلاله صوتها قليلاً. بدأ الهاتف بعبارة دينية «يحفظكْ الله ويرعاكْ حبيبي!» (أزعجني سكون الكافَين: لم أعرف هل تتحدَّث إلى ذكرٍ أو أنثى أو خنثى).
ثم اختفت الصيغ الدينية منه تماماً!
بدا حميمياً أكثر من اللازم، ازداد فيه تواتر عدد لفظها لـ«حبيبي» أكثر من العادة. صار صوتها خلاله شجيّاً راقصاً كما أهواه، بنفس النغمات النديّة التي أعشقها، وإن كان خفيضاً أكثر من اللازم!
كلُّ رادارات حواسي الخمس أو السّت تصغي إلى نبراتها وحركاتها وعباراتها وبريق عينيها أثناءه...
لعلّها تتحدّث إلى داعيةٍ من صديقاتها الحميمات جدّاً، لأن كلمة «حبيبي» تُوجَّه للنساء أيضاً، ولأنها كانت سعيدةً بشكلٍ خاص بالهاتف.
تصف إنجازات يومها كطفلة، تريد بجلاء إبهار من في طرف الخط وإثارة إعجابه.
لاحظتُ بهلع: كانت لعينيها (لمن يعرف لغة عينيها مثلي) لمعةٌ غراميَّةٌ عميقة!
غير أن نهاية المكالمة كانت متوتّرةً نسبيّاً. قالت هاوية:
«لا أستطيع قولها الآن! سنتواصل بالهاتف لاحقاً حبيبي!»، قبل أن تنتهي المكالمة!
– تحتاجين الآن إلى مكتب سكرتيرات لإنجاز مهامك والردِّ على الرسائل والاتصالات، حبيبتي!؛ قلت لهاوية.
– ما يحكُّ لك إلا ظفرك، في هذه البلاد، حبيبي!
– تحتاجين أيضاً إلى فرقة حرّاس!
– لا يأمن أحدٌ أحداً (حتّى الحرس) في هذه البلاد، حبيبي!
– ستأتي إذن قريباً للعَيش معي في باريس، حيث الأمان والهدوء والسعادة؟
لم تعلِّق، كنت كمن يرطن بلغةٍ أجنبيّة!
– يلزمني حبيبي أن أغادرك سريعاً الآن، بسبب مواعيد هامة جدّاً تنتظرني في الساحة. سنلتقي غداً!
تغادر الشقّة بحجابٍ ثالثٍ يختلف عن الذي خرجت به من الحافلة، والذي وصلت به إلى شقّتي: لا هو رثّ ولا أنيقٌ جذّاب؛ أقرب إلى «المنزلة بين المنزلتين»، حسب التعبير المعتزلي (الكلامي).
تأخذ أوّل حافلةٍ تمر. ستصلها سيّارةٌ خاصّةٌ لتنقلها إلى ساحة التغيير، بعد أن تتوقّف في محطّةٍ ما...
لم تكن «جمعة الغضب» بالنسبة لي، حبيبي سارق الأرواح، إلا «جمعة الرضى والبهجة»؛ جمعة اللذة والعشق والدهشة والثورة الحقيقية؛ جمعة الحلم والرومانسية والحياة...
المجد للثورات، المجد للغضب!
المجد للحياة!...
 


[1] إنسان بلا تجارب، لا يعرف إلا أمَّه.
[2] الوصلات القابلة للانصهار.
[3] وضع الرِّجل بين ساقي الآخر لعطفهما وإسقاطه على الأرض.
[4] ذمار: مدينة في اليمن يشتهر أهلها بالنكتة الساخرة.