أخلاق مقابل لا أخلاق أم صراع بين أخلاقيات؟


ياسين الحاج صالح
الحوار المتمدن - العدد: 4529 - 2014 / 7 / 31 - 19:05
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي     

رجمت امرأة بتهمة "الزنا" حتى الموت في مدينة "الطبْقة" السورية التي تسيطر عليها خلافة داعش. وفي سجالات حادة تلت الواقعة المريعة، ومنها مساهمات لكاتب هذه السطور على صفحات فيسبوك، تمحور النقاش حول سؤال من يمتلك جسد المرأة البالغة المستقلة: هي، أم الأمة أو الدولة أو الدين أو الطائفة، أم الله؟ وأظهر متدينون استعدادا عدوانيا فائقا بينما هم يأخذون على خصومهم الإباحية وانعدام الأخلاق. بالمقابل، بدا لأمثالنا أن انعدام الأخلاق يتمثل، بالأحرى، في إنكار خيارات الأفراد الحرة ورفض المساوة بين االجنسين.
لكن بنظرة ثانية، يبدو أن الأمر لا يتعلق بصراع بين أخلاق ولا أخلاق، وإنما عن صراع بين أخلاقيتين أو أكثر، من شأن التعرف عليها أن يساعد في تطوير فهم مشترك أو أقله على حسن الاختلاف.
يوالي قطاع من المتساجلين ما قد تسمى أخلاقية العيب، وسند أحكامها هو "المجتمع"، ما تعارف عليه الناس وانتقل إليهم بالتربية الأسرية، ووجدوه ساريا في بيئاتهم الاجتماعية. وبقدر ما هي أخلاقية الأسرة، فإن موضوعها الأساسي هو الأسرة وسلوك أفرادها، النساء بخاصة، وما ينتظر منهن في مجال السلوك الجنسي بالأخص، وذلك في بيئة مكونة من أسر، قرية أو محلة أو حي. رذيلة الرذائل هنا والعار الأعظم هو انفلات جنسية المرأة من تحكم الأسرة وذكورها. قد تدفع حياتها ثمنا، أو يُحجَر عليها، أو "يُستر" عليها بتزويجها من قريب "يضحي" بزواجه منها صونا لـ"شرف" الأسرة.
ولا توفر لنا هذه الأخلاقية دليلا للتصرف في مجال الدولة وإداراتها، أو المنظمات الاجتماعية والسياسية، ولا عن واجباتنا وأصول التعامل مع أفراد غرباء، ولا مع مجتمعات أخرى نظام الأسرة فيها مختلف، ولا بطبيعة الحال مع قضيا البيئة والحياة على الكوكب. يتواتر أن نجمع بين أخلاقية أسرية منضبطة، وبين انعدام الأخلاقية في نطاقي ما يعلو الأسرة وما هو خارجها. الفرد الذي يقيد نساء العائلة إلى أقصى حد، قد يبيح لنفسه التمادي مع نساء "غريبات" إلى أقصى حد. كان أحمد عبد الجواد في ثلاثية نجيب محفوظ بطريركا متسلطا في عائلته، وكاد يطلق زوجته وأم أبنائه لأنها زارت أمها في غيابه، بينما كان رقيعا متبذلا بين أصحابه وفي سهراتهم العامرة بخمر ونساء.
ولكون "المجتمع" هو "مؤلف" وسند سلطة هذه الأخلاقية فمن سماتها الأساسية أنها ليست موضوع تفكير منظم، ليست نسقا معقلنا من القيم والضوابط الالتزامات. سمة أساسية ثانية لهذه الأخلاقية ضعف الضمير الشخصي لمصلحة العيب الاجتماعي. ما يخشاه الناس في بيئاتنا عموما هو ما قد يقوله الغير عنهم، أو يعيبونه عليهم. لذلك تراهم إذا أمنوا عيون الناس تصرفوا بطريقة مختلفة.
مقابل هذه الأخلاقية التي تستمد سلطة الإلزام بها من المجتمع، هناك أخلاقية تستمد سلطة الإلزام بها من الضمير والاقتناع الشخصي. نمتنع عن القيام بأفعال ليس لما قد يقع علينا من لوم من جراء القيام بها، ولكن لأننا نشعر أنها غير عادلة أو غير كريمة. لذلك يتطابق سلوكنا في السر والعلن، في بيئاتنا الخاصة وخارجها.
تقوم أخلاقية الضمير على ثلاث قيم أساسية: الحرية والمساواة وعدم الإيذاء. أن يتمتع الواحد منا، امرأة أو رجلا، أبيضا أو أسود، وأيا تكن معتقداته، بالحرية فيما لا يلحق أذى بغيره أو بمرفق عام.
ووفقا لهذه الأخلاقية تخرج الحياة الجنسية للبالغين من الأفراد غير المرتبطين بزواج أو ما يعادله من دائرة الحكم الأخلاقي، لأنها لا تؤذي أحدا. بالمقابل، ليس مقبولا تعدد الزوجات لأنه تشريع عام للامساواة بين الجنسين. وهذ ما يفتح بابا للاحتكاك بين أخلاقية الضمير وبين "الشريعة" ومركزية دور المفتي في أحكامها.
يتعلق الأمر هنا بأخلاقية ثالثة، قد تسمى أخلاقية الحرام، مصدر الإلزام فيها هو السلطة الدينية المستمدة فيما يفترض من الإرادة الربانية. تختلط هذه الأخلاقية بأوامر الشريعة ونواهيها، وقضايا الحلال والحرام، ولا تسمح باستقلال الأحكام الأخلاقية عن الأحكام الدينية. هل انتهاك محرمات الطعام والشراب مثلا معصية دينية أم رذيلة أخلاقية أم جريمة؟ نفترض أنه معصية، لا تطعن في عدالة الشخص وأمانته، ولا هي جريمة ما دام لا أحد يتضرر منها. بالمقابل، يتعارض التزام "الحلال" في قضايا الزواج مع أخلاقية الضمير القائمة على المساواة، ويحدث تعدد الزوجات أذى لا ريب فيه للنساء المعنيات، وغير قليل من الأذى في العلاقات داخل الأسرة.
ويشغل المفتي هنا موقع الضمير أو القلب الذي يفترض أن يستفتيه المرء في شؤونه. هذا يؤدي إلى ضمور الضمير الشخصي تدريجيا بفعل ندرة الاستخدام، سمة تميز السلفيين الذين يعطون الانطباع بأنهم آلات حية يسيرها البرنامج الذي اسمه الشريعة. ليسوا كذلك قطعا. فهم يسوقون الأمور لصالح سلطتهم ومتعتهم حيثما تيسر لهم.
وبما هي مؤسسة على الحرية، فإن أخلاقية الضمير تتقاطع مع أخلاقية المسؤولية التي ميزها ماكس فيبر عن أخلاقيات الاعتقاد. تتمثل أخلاقية المسؤولية في تحمل المسؤولية عن نتائج أفعالنا، وبخاصة حين نكون فاعلين عامين. لذلك يستقيل أو ينتحر المسؤول السياسي أو العسكري الذي فشلت سياسته وخططه، وعادت بالأذى على العموم، لمن يحظة باالتكريم حين يتعود سياسته بالخير على الجماعة . الشرف هنا هو القيام بالواجب وتحمل مسؤولية الأخطاء، وانعدام الشرف أو العار هو التخلي عن الواحب والتنصل من المسؤولية. أما أخلاقية الاعتقاد فتقوم على التفاني في خدمة معتقدنا الديني أو الدنيوي، ومنه تحمل التعذيب أو حتى الموت في خدمة القضية. الشرف هنا هو خدمة العقيدة والتضحية في سبيلها. أخلاقية الاعتقاد شائعة وسط الإسلاميين المعاصرين، ومختلف تياراتنا الفكرية. أخلاقية المسؤولية نادرة بالمقابل.
وما نريد أن نتأدى إليه هو أن لدينا صراع أخلاقي هو أحد أوجه الصراع السياسي والاجتماعي والفكري في مجتمعاتنا المعاصرة. وهو صراع بين أخلاق وأخلاق، وليس بين أخلاق ولا أخلاق، دون أن يعني ذلك أن هذه الأخلاقيات متكافئة. نرى أن أخلاقية الضمير أشمل وأكثر إنسانية وأعلى اتساقا. أخلاقية الفتوى أو الحرام طائفية، مقصورة الالتزامات على المؤمنين، وقد توجب مجاهرة من لا يشبهوننا بالعداوة، وحتى الإساءة إليهم. وهذا ممعن في اللاأخلاقية من وجهة نظر أخلاقية الضمير. أما أخلاقية المجتمع أو العيب فهي مرائية ومزدوجة المعايير.
تشير هذه المناقشة الأولية إلى حاجتنا إلى اشتغال أوسع على قضايا التربية والضمير والمسؤولية، ومعاني الإنسانية والواجب والحق والعدالة والحرية. ضعف شواغلنا الأخلاقية مؤشر على ضعف تطلبنا للحرية.