عن المثقف والثورة


ياسين الحاج صالح
الحوار المتمدن - العدد: 4522 - 2014 / 7 / 24 - 22:42
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي     

أسئلة زاهر عمرين
أيار 2013
نشرت ترجمة انكليزية مختصرة للحوار في كتاب SYRIA SPEAKS, Art and culture from the frontline
ـ تقول في كتابك الأخير، "بالخلاص يا شباب": "مثقفو السجن، إذاً، هم من "تخرجوا" من السجن مثقفين، قبله كانوا أعضاء فحسب في أحزابهم (…). ثمة في المقابل مثقفون معتقلون سابقون أمثال ميشيل كيلو الذي كان معروفا فبل اعتقاله في مطلع الثمانينات" ص 189.
المنتج الفكري يتفاعل دوما مع شرط الحياة التي تحتضنه، إلي اي حد صاغ الاعتقال و الاضطهاد السياسي الثقافة السورية بالتماهي معه او برد الفعل عليه، و هنا نسأل عن مدى فعالية مجال الثقافة في تكوين الوعي السوري السياسي والهوية عبر عقود من الاستبداد ووصولا الى الثورة السورية؟
أثر الاعتقال، والطغيان عموما، على الثقافة العالِمة ظاهر في سورية منذ سبعينات القرن العشرين في رأيي. منذ ذلك الوقت هيمنت في تفكير المثقفين السوريين فكرة الديمقراطية وما يتصل بها من قضايا سياسية وحقوقية وأخلاقية. وفي الأدب والفن أيضا تحولت الحساسية باتجاه قضايا الاستبداد والسجن والحرية.
لكن في الوقت نفسه، هناك قضيتان يمكن سوقهما في شأن الثقافة والمجتمع والسياسة في سورية.
أولاهما، انقطاع تأثير الثقافة على المجتمع والحياة السياسية والعامة بفعل ما ضرب عليها من حصار واحتواء مديدين، داما نحو جيلين كاملين، وتسببا في عزل المثقفين وعيشهم في ما يشبه أرخبيلا معزولا، منفصلا عن البر الاجتماعي الذي يفترض أن تشكل أعمالهم الفكرية والبحثية والفنية جانبا مهما من وعيه الذاتي وتمثيله لنفسه وأوضاعه.
هناك تأثير كبير وحاسم للسلطة على المجتمع والحياة العامة، هناك تأثير كبير ومتزايد للمال، هناك تأثير كبير أيضا للدين، لكن ليس هناك غير تأثير طفيف للثقافة والتفكير الحر. وبنتيحة ذلك فإن المثقف هو الطرف الأضعف بين الفاعلين العامين الذين يتصدرهم صاحب السلطة، ويتنافس على إشغال المحل الثاني صاحب المال والدين.
القضية الثانية تتمثل في الانقسام العميق للمثقفين السوريين في ربع القرن الأخير، وظهور محوري استقطاب مختلفين، بل متعارضين، السياسة والدين، ووراؤهما أعماق اجتماعية منقسمة بدورها. ويتواتر أن يكون ما يقال في شأن الدين أو في شأن السياسة كناية عن الأعماق الاجتماعية المنقسمة وليس تفكّرا جديا، واعيا لافتراضاته ولشرطه الاجتماعي والسياسي، ما يحكم عليه بأن يكون بلا محصول.
يزيد من ذلك أيضا تهافت المثقفين حول أصحاب السلطة والسياسيين، أو أصحاب المال والمنابر، وسهولة استتباع الأخيرين لهم، وكذلك ما يبدو من قلة حرص المثقفين على استقلاليتهم، وعلى كرامة الثقافة. وبالمقابل، هناك انفضاض شديد للمثقفين عن العالم الاجتماعي، عالم العمل والإنتاج.
هذا محددات بنيوية ومديدة لوضع الثقافة في سورية. وبمحصلتها، دور الثقافة محدود في تشكيل اتجاهات التفكير والوعي الذاتي لعموم السوريين.

ـ الاستبداد يعمل دائما على تطويع الثقافة. بعد عامين على الثورة، هل لازال الحديث صالحاً عن "مثقف سلطة"؟ وكيف استطاع النظام خلق هذا النموذج وتطويره؟ واستثماره خلال الثورة السورية؟
هناك في رأيي تعارض جوهري بين الثقافة ونمط ممارسة السلطة القائم في سورية في الزمن الأسدي. الأنسب هنا أن نتكلم على موظفين مشتغلين في الثقافة لا على مثقفي سلطة. أو على وكلاء للنظام تحركهم عوامل متنوعة، ليس بينها ما هو إنساني أو وطني في رأيي.
وآلية صنع هذا الضرب من "القوميسارات" من أمثال حسين جمعة وعلي عقلة عرسان وما شابه هي نفسها آليات الصعود السياسي والاجتماعي التي وفرها النظام للأدنى قدرة وموهبة وكفاءة واستقلالا في المجتمع ككل. أعني الصعود مقابل الولاء، والظهور مقابل الالتحاق، والانتشار مقابل التبعية... وبالمقابل سد الأبواب أمام المستقلين والأكثر جدارة. هناك قانون تطور خاص بالنظام الأسدي يتمثل في أن البقاء للسيء والصعود للأسوأ، للمتزلف والمصفق وكاتب التقارير.
وفي أضعف الإيمان يوفر هذا القانون فرص صعود اجتماعي لمن يعادون أعداء النظام، المحليين منهم والإقليميين. ولدينا في سورية ظاهرة لافتة، تتمثل في مثقفين لا يخطئون مرة واحدة في عدم معاداة أعداء النظام وخصومه (وليس أعداء سورية أو أعداء الشعب السوري)، وفي مشاركته حساسياته العميقة كلها، مع عرض أنفسهم كمعارضين. أعتقد أن هؤلاء، ومنهم أسماء معروفة، هم الجديرون باسم مثقفي السلطة، أو إيديولوجييها العضويين وحراس عالمها الفكري. وهم من شغلوا غالبا مواقع عليا في أجهزتها الثقافية.
ولا يحتاج هؤلاء جميعا، المرتبطون منهم أو الأقل ارتباطا، إلى من يستثمر في مواقفهم وتفضيلاتهم. فهم حين لا يكونون أقرب إلى النواة الفاشية للنظام، شركاء ثقافيون له، لا يعترضون على شيء من عالمه الفكري، ويشاركونه النظرة المتعالية إلى المجتمع والتشبيح عليه (بمزيج من المزايدة على العامة والطعن في خصوم النظام). وفي اللحظات الحاسمة تجد هؤلاء إلى جانب النظام.

ـ يرى البعض أن الثقافة السورية تعرضت خلال مراحل متفاوتة إلى محاولات تشويه عميقة (الفساد، المحسوبيات، وحسابات الولاء)، فغاب دور المثقف كفاعل في المجتمع لصالح بروز "ثقافة ولائية" متمثلة بعبد اللطيف عبد الحميد في السينما مثلا، أو بـ علي الديك في الأغنية... هل تعتقد أن محاولات التشويه هذه حدثت بقرار أمني سياسي (قصدي)، أم أنها نتاج تفكك البنية العامة للمجتمع السوري؟
تقديري هو أن هناك "قصدية" خفية للبنية السياسية القائمة، التي يشغل دوام "النظام"، أي المركب السياسي الأمني المالي المسيطر، المحرك العميق لعملياتها. هذه القصدية تقود إلى موقع متشكك وعدائي حيال المجتمع المحكوم من جهة، وإلى تقديم أهل الولاء والثقة على أهل الكفاءة وعموم الناس من جهة ثانية، وإلى قانون البقاء للأسوأ الذي ذكرته للتو. وبما أن "مقصد" هذه البنية دام طويلا، وبما أنه لم يكن موضع نقاش عام، ولم يواجه اجتماعيا وسياسيا، ولم يكد يدرس ويحلل أيضا، فقد أنتج وطبّع ثقافة شبه عنصرية تميز بين السوريين، وتستسهل قتل وإذلال المعترضين منهم، وترفع عتبة التعاطف معهم من قبل النخبة الحاكمة وحراسها الإيديولوجيين، الذي يعلمون على جعل توحشها طبيعيا، والاعتراض عليه هو غير الطبيعي.
التفكك الاجتماعي هو نتاج تلك القصدية التي تبلغ أعلى وعيها الذاتي (سياسة فرق تسد) عند المنظمة الأكثر إرهابية وفاشية في سورية، الأجهزة الأمنية، الأمن العسكري والأمن الجوي بخاصة، ومعهما ميليشيا الشبيحة.
أمثال من ذكرتَ في السؤال هم من الأكثر استبطانا لمنطق هذا التكوين، والأقرب إلى دوائره النافذة.

ـ الثورة السورية انفجرت شعبيا وعفويا، بعيدا عن الطروحات الفكرية التنظيرية أو الثقافية، إلى أي مدى ساهم المثقفون من كتاب وفنانين وشخصيات عامة في تغذية هذا الانفجار من قبل، والالتصاق به من بعد؟
أعتقد أن قطاعا من المثقفين أسهم في إبقاء مبدأ الاعتراض السياسي والاحتجاج الحقوقي والأخلاقي حيا. وهو القطاع الأنشط والأكثر ثباتا في معارضة النظام. من ذلك دوره في "ربيع دمشق"، ومنه أنشطة احتجاجية محدودة، لكن مهمة، منذ وقت مبكر من حكم بشار الأسد، ومنها الكتابة النقدية التي أسبغت على الاعتراض السياسي بعدا ثقافيا، وعلى الثقافة التزاما عاما ووجهة سياسية، وحددت قضايا النقاش العام في سورية طوال أكثر من عقد من السنين.
لكن تأثير كل ذلك على انطلاق الثورة محدود، وأكثر محدودية أيضا على سيرها.
الثورة السورية هي ثورة مجتمع العمل، الذي رأى مقدراته تتدهور بسرعة في السنوات السابقة للثورة. وفوق تدهور أوضاعه بفعل سياسة الباب المفتوح التي اعتمدها النظام في سنوات حكم بشار، هذا المجتمع معزول عن السياسة بفعل منع أي انتظام اجتماعي مستقل، وتدهور مؤسسات التعبئة الاجتماعية البعثية في سنوات بشار أيضا وقمع التعبيرات االسياسية البديلة، ومعزول بقدر أكبر عن الثقافة على ما تبين لي بالمعاينة المباشرة في مناطق الغوطة الشرقية. في مثل هذه الظروف يقوم الدين بدور حد للحرمان السياسي، والثقافي أيضا، وهو ما أهّله لإشغال الموقع المتسع الذي نراه اليوم. هذا ينطبق بصورة خاصة على الإسلام السني، لكن الترابط الديني السياسي متسع باطراد عند الجميع في سورية.
غير أن الدين لا يصلح سياسة بديلة، وأكثر من ذلك لا يصلح ثقافة بديلة. ورجل الدين، والمناضل الديني، و"المجاهد"، بديل سيء عن السياسي، وبديل أسوأ عن المثقف، هذا حتى لو قلنا إن السياسي كان بديلا سيئا عن نفسه، والمثقف قلما كان بديلا جيدا عن نفسه.
هذه أوضاع ومسارات بحاجة إلى تتبع ودراسة، على كل حال. وفي هذا الشأن الفرصة متاحة لأول مرة منذ عقود لدراسة المجتمع من داخل المجتمع وبالمعايشة المباشرة. هذا التحول في الموقع عنوان مبدئي لتحول فكري ضروري، كي لا نقول لثورة فكرية. دراسة المجتمع عن بعد لا جدوى منها ولا ثمرة لها.
ما سبق قوله عن انقطاع تأثير الثقافة على الحياة العامة كان يجد كمالته في انعزال المثقفين عن المجتمع العام والبيئات المحلية بفعل الرقابة الأمنية والتقييد السياسي. اليوم يمكن للثقافة أن تبدأ باستعادة تأثيرها العام بقدر ما يكسر المثقفون أسوار العزلة حولهم، ويعيشون قريبا من التجربة.
ومن المؤسف أن المؤشرات المتوفرة غير مشجعة. فضل الكثيرون العيش خارج البلد، وإرسال المواقف والتحليلات من هناك، أو القيام بدور قادة سياسيين، فضلوا ذلك على البقاء هنا ومحاولة فهم شيء ما وشرحه.

- استغلت الدكتاتورية كل العوامل المقسمة للمجتمع السوري وغذاها مانعا تطور هوية مواطنة حقيقية، الشعب السوري صرخ "واحد واحد واحد" بوعيه الجمعي تصديا لهذه المحاولات، إلى أي حد نجح المثقفون والشخصيات العامة بالتصدي لهذا التحدي؟ بمعنى هل كان لهم ما يضيفونه أم هل انكفؤوا؟
و إى أي حد ساهموا (أو لم يساهموا) في تكوين وعي جمعي وطني يحمي الثورة و الهوية السورية؟
مرة أخرى يجب التذكير بشرطنا البنيوي المديد: انقطاع تأثير الثقافة على الحياة العامة بفعل التمركز الإجباري للحياة العامة حول السلطة، والشكل العدواني المتطرف لممارستها. وكذلك بتأثير ضمور الطاقة الإبداعية لثقافتنا المعاصرة نتيجة انعزال المثقفين المتعدد عن بيئاتهم المحلية، وعن الموروث التاريخي المتنوع، وكذلك عن الثقافة الغربية الأكثر ديناميكية.
السؤال المهم، تاليا، ليس ما إذا قام المثقفون بدورهم بالقدر المطلوب، بل ما إذا كان للثقافة دور أصلا. وجوابي إنه محدود جدا.
هناك مثقفون وهناك شخصيات عامة لم يقصروا، وبذلوا كل ما في الوسع، لكن دون تغيير البنية الأثر يبقى محدودا.
وأول التغيير التحول من تأييد الثورة إلى المشاركة في الثورة. هناك مثقفون كثيرون مع الثورة، لكن لا يكاد يكون هناك مثقفون في الثورة.
هذا التحول وجه من وجه العملية المعقدة والطويلة التي نسميها الثورة.
رغم كل شيء أحب أن أتصور أن دور المثقفين سيكون أكبر بعد الثورة، أن الثقافة ستستعيد روحها القتالية وثوريتها، وأنها ستكون فعل مقاومة وتجديد.

- رافق المطالب السياسية للثورة السورية تنامي أشكال متنوعة من التعبير الثقافي عن الهوية و المطالب على مستويات متعددة بدء من الكرنفال و الأغينة و البوسترات وانتهاء بالمقال والتحليل والاشكال الأكثر مؤسساتية للعمل الثقافي على امتداد المدن المنتفضة، هل تعددية اشكال التعبير الثقافي مؤشر على دمقرطة للهوية السورية؟ وهل هي أصيلة وستصمد بمواجهة الحرب و العنف الدائر اليوم؟
إذا لم ينجح النظام في الإجهاز على ما بقي من سورية، وتغذية أسوأ نوازع السوريين أكثر مما فعل حتى اليوم، فإن تلك التعبيرات الثقافية التي ذكرت ستكون رصيدا يستند إليه لمواجهة أية تطلعات محتملة للاستبداد في سورية ما بعد الأسدية. كانت تلك التعبيرات منبعا للفخر ومؤشرا على إحساس قوي بالحرية والشخصية، وكان يجمعها توجه وطني سوري غير مسبوق، يسوغ القول إن الثورة تؤسس لهوية وطنية سورية متمايزة لأول مرة.
وملاحظتي الميدانية المتواترة أن جمهور الثورة الذي كان يحتج بالمظاهرات على النظام، يحتج بالمظاهرات على مجموعات مقاتلة غير مسؤولة، ولعله سيدافع بالقوة يوما ما عن نفسه ضد أي متجاوزين.
لقد ترسخت ثقافة الاحتجاج في المجتمع السوري، ولن تتوقف عند إسقاط النظام، ولن تتراجع أمام صعود متطلعين جدد إلى التسلط والاستبداد.
وأرى في ذلك ما يتجاوز الهوية الوطنية وشاغل الهوية ذاته باتجاه ابتكار جديد للذات ومعان جديدة للحياة، أكثر حرية وجذرية.
في هذا السياق أرى موجة الصعود الإسلامي الراهنة يمكن أن تكون فرصة للجذرية والانعتاق الفكري والأخلاقي، أكثر مما هي مجرد عائق ونكوص سلبي. وهذا لكون الاعتراض المحتمل عليها، وبوادره موجودة منذ الآن، يجمع بين المواجهة الفكرية والثقافية وبين المقاومة السياسية، وفي ذلك ما يعود على الاعتراض السياسي بعمق ثقافي، وما يزوِّد الاعتراض الثقافي بوجهة سياسية.

ـ هناك تناقض واضح حدث في وسط صفوف الانتلجنسيا السورية إن صح التعبير حول مفهوم "الثورة" قبل آذار 2011 وما بعده، فمنهم من طالب بثورة على مقاسه ووفق طروحاته الفكرية، ومنهم من اعتبرها لا ترقى لمستوى ثورة وتتوقف عند توصيف "انتفاضة" كيف تفسر هذه التناقضات؟
ليس هذا نقاشا نظريا حول مفهوم الثورة. يبدو لي مختلطا بالموقف من العمليات الاجتماعية والسياسية والنفسية والعسكرية الجارية في البلد منذ عامين ونيف، والتي تحولت شخصيا إلى وصفها بالثورة بعد نحو 6 شهور من اعتمادي كلمة انتفاضة في وصفها. المفاهيم التي نستخدمها ليس متجردة عن انحيازاتنا السياسية، ويبدو لي أن من يرفضون وصف ما يجري بأنه ثورة هم أقرب إلى التحفظ أصلا على هذا التمرد الاجتماعي الواسع والأميل إلى التحكم به وإجهاضه. ومن يصفونها بالثورة هم من يسجلون انحيازا قطعيا لها.
يوما ما قد نعود إلى هذا النقاش بهدوء، ونقلِّب مفهوم الثورة على أوجهه الاجتماعية والتاريخية، والسياسية والإيديولوجية. أما اليوم فاستخدامنا له أو لغيره مختلط حتما بمواقفنا العملية وانحيازاتنا الواقعية.
لكن في سياق الكلام على "الانتلجنسيا السورية"، الشيء المهم في تصوري، أكثر من المفاهيم التي نستخدم، هو استعدادنا العملي والفكري لأن نتغير مع الثورة، لأن نواكب التغير الاجتماعي والسياسي بتغير شخصي في التفكير والحساسية. هذا شيء طيب بحد ذاته لأنه يجدد حياتك، أو يضيف إليها بعدا جديدا، لكنه شيء ضروري أيضا للمساهمة في التغير العام. قد لا تؤدي الثورة في أي وقت قريب إلى أوضاع أكثر حرية وعدالة (قلما تحقق الثورات ذلك على المدى القصير)، لكن مغامرة الثورة ومعايشتها تعادل ثورة على المستوى الشخصي، وتورثنا، الشبان منا بخاصة (ولستُ منهم للأسف)، تجارب وخبرات فذة. والثورة السورية مغامرة تاريخية عظيمة، من المشين أن يبقى الواحد منا خارجها.
الموقف الذي أجده مهينا للمثقف، قبل أن يكون مرفوضا سياسيا، هو أن يشترط الواحد منا أن تشبهه الثورة كي يعترف بها، أن يرفض أن يتغير منه شيء، لا رأسه ولا ضميره ولا كيانه، أو يثابر على قول الأشياء نفسها وفعل الأشياء نفسها قبل الثورة كما بعدها. هذا موقف "خارجي"، رافض للتفاعل والتغير. وهو يعادل البقاء خارج الثورة عمليا. وبالفعل هذا موقف المتحفظين على الثورة عموما.
الثورة فرصة كي يكف الإنسان عن مشابهة نفسه، كي يتغير.
ولو كان لي أن أخاطب الشباب السوريين بشيء لقلت: تغيروا! لا تبقوا كما أنتم! كونوا غيركم! أنا ثائر، إذن أنا أتغير! وهذا خلافا للصيغة الشيوعية من الثورية التي تطلب الثورة الاجتماعية وتغيير العالم، لكنها تطلب أكثر من الشيوعي أن يشبه ذاته طوال عمره، ولا يتغير، وتثني كثيرا على "الثبات على المبادئ" المتقادمة، وتجعل الثورة تطبيقا لمبادئ سابقة عليها ومتعالية على كفاح الناس الفعلي.
هذا لا يطاق، موقف مغرور وأناني، ولا يؤدي إلى غير الطغيان.
ليس معقولا ولا إنسانيا، وغير ثوري قطعا، أن نقول الأشياء نفسها ونفعل الأشياء نفسها طوال حياتنا. هذا سجن مؤبد.

- النظام السوري يعمم المجازر و الموت تحت التعذيب والقصف العشوائي للمدنيين، الملايين باتوا مهجرين ويتصاعد الغضب وردات الفعل اليائسة. هل من الممكن للثقافة ان تكون عامل مؤثر في زمن "الحرب"؟
لا أعتقد.
الحرب تستنفر في الإنسان "القوة الغضبية"، وهذه مضادة للثقافة التي هي من عمل العقل والمخيلة. وظاهر أن تأثير الثقافة يقل ولا يزيد مع تحول الثورة إلى حرب مفتوحة. كان تأثير الثقافة أكبر في البداية، حين كان الاحتجاج السلمي هو طابع الثورة العام. لكن، بالمقابل، هذه الثقافة هزمت نفسها بنفسها، واختار أكثر ممثليها "النأي بأنفسهم" عن مخاطر الصراع وتعقيداته، والتمسك بتبسيطات مبتذلة أو اشتراطات خارجية تعكس عجزهم عن مواكبة ما يتغير ويتحول ويصير. ويولد.
ثم أن مناخات المواجهة والحرب وجهت المثقفين السورين، وهم ليسوا تلك الفئة الواسعة من المجتمع أصلا، بعيدا عن الثقافة، باتجاه السياسة بخاصة.
هل يحتمل أن تشكل الثورة تجربة لثقافة جديدة، للإبداع الثقافي؟ ما يعنيني شخصيا هو الأدب والإنسانيات، ولا أتبين مؤشرات مهمة على ذلك.
لكن وارد جدا أن تشهد ثقافة الصورة والصوت ازدهارا كبيرا. كان من أول ملامح الثورة السورية ذلك العدد الكبر من "المواطنين المراسلين"، ومن المتمرسين بالصورة والنت. والهيئات أو المكاتب الإعلامية ملمح ثابت لتشكيلات السياسية والاجتماعية التي رأينها في مناطق محررة، وللتشكيلات العسكرية أيضا. من هذه القاعدة الواسع أرجح أن يخرج موهوبون ومبدعون كبار.

ـ صادر النظام من ضمن ما صادر العمل الثقافي، وحصره بوزراة الثقافة ذات الطابع الأمني، وخنق كما هو معروف كل المبادرات الثقافية المستقلة تحت عناوين أولويات المقاومة والممانعة، هل تخشى أن تعيد الثورة هذه التجربة تحت مسميات مختلفة أبرزها "الثورة" ذاتها؟
نعم، أخشى ذلك. ومن المحتمل كثيرا في تقديري أن تصادر الثقافة مجددا باسم الثورة، وباسم الإسلام. أو باسمهما معا. سبق لشيء مثل ذلك أن وقع في إيران، لكن يحتمل لوضعنا أن يكون معقدا أكثر لأننا نواجه بالفعل نظاما مجرما وإرهابيا، ولأن القضاء عليه هو الشيء العادل إنسانيا ووطنيا، وهو ما يسهل لإسلاميين متشددين أن يستغلوا محن السوريين وآلامهم لتمرير تطلعاتهم السلطوية. بعض المؤشرات على ذلك متوافرة منذ الآن، لكن بعض ملامح مقاومته تتوافر أيضا. وأقدر أن الثقافة الجديدة تتكون حول تجربة مقاومة الطغيان الأسدي وحول تجارب مقاومة أشكال التحكم الناشئة. ولا أرى أن هناك شيئا يجمع هذه الثقافة بتلك الثقافة التشبيحية، المدمنة على المزايدة على الجمهور وتخجيله، وعلى النضال من أجل التشاؤم والتبشير بأوضاع أسوأ، وإقناع عامة الناس بنقصهم وباللاجدوى.
وفي كل حال، أقدر أن الثقافة ستصبح شأنا أكثر جدية وأمنع على الاحتواء والترويض بعد الثورة.

- ما علاقة الدين والطوائف بالهوية السورية التي تؤسسها الثورة؟ نسأل هنا عن محورين: علاقة السوريين ببعضهم؟ وبما يسمى المجتمع الدولي؟ ما هو الواقع من الصور النمطية؟
الدين، الأديان المتعددة في سورية، هي مكونات أساسية لهوية السوريين التي لا تكون الهوية السورية إلا تجريدا فارغا إن انفصلت عنها.
وبينما الأديان كلها مزودة بآلية إقصاء حيال المختلفين والمخالفين، فإن هذه لا تكون عاملة بنشاط في كل حال، أو هي لا تكون في أنشط أحوالها إلا في شروط سياسية محددة. ومنها شروطنا السورية في ظل النظام الأسدي، ثم في نطاق التفجر الراهن للمجتمع السوري.
وتقديري أننا سنعيش حمى دينية وطائفية طوال سنوات من اليوم، وأن التمايزات الدينية والمذهبية (والإثنية والجهوية والطبقية) ستلعب بدرجات متفاوتة أدوارا سياسية، وأن سورية الجديدة سوف تبنى من التخلص من النظام الأسدي، وكذلك من مواجهة عقابيله، ومنها بخاصة هذا التمازج السياسي الديني. أمامنا ثورة أخرى دون ريب. هذا كلام أسمعه من كثيرا في بيئات منخرطة كليا في الثورة، وهو يقيني أنا أيضا. لا أعرف متى تحدث ثورة أخرى، لكنها حادثة في كل حال. لن يستقيم شيء في بلدنا دون ثورة ثقافية وأخلاقية تتبع الثورة السياسية.
يلزم أيضا سقوط النظام ليس كي تستقيم علاقات السوريين بين بعضهم (فهي لن تستقيم في وقت قصير)، بل كي يكون العمل على إصلاحها ممكنا دون كذب وتدليس، ودون مزايدة وتشبيح.
أما "المجتمع الدولي" فهو عامل إفساد يضاف إلى النظام الأسدي في رفعه لواء "حماية الأقليات"، وهذه دعوة تتضمن اتهاما مباشرة للأكثرية الإسلامية بالعدوانية والتوحش، هذا بينما تتعرض أوساط تلك الأكثرية لجرائم لا سبيل لنكرانها على يد النظام الأسدي، وبينما يسترخص النظام حياة المنسوبين إليها على نحو فاضح.
وبخصوص الصور النمطية، فإن الثورات والحروب الأهلية مصنع لهذه الصور. صورة العلوي في أوساط سورية واسعة اليوم هي الشبيح، وصورة السني المؤيد للثورة هي السلفي الملتحي المسلح. نحتاج إلى أوضاع أقل عنفا وأكثر استرخاء كي يمكن تحطيم هذه القوالب.

- هل وإلى أي مدي نجحت ثقافة الثورة والمثقفين المدافعين عنها في تعريف المجتمع السوري الأوسع والرأي العام بشرح قضايا الثورة؟
من لم يعرف حتى اليوم ما هي "قضايا الثورة"، أو ما هو "الموضوع" في الثورة السورية، فلن يعرف أبدا، ولا موجب لشرح أي شيء له، لا من مثقفين ولا من غيرهم.
ما ينتظر من المثقفين هو المزيد من الانخراط في العمل الاجتماعي والثقافي من أجل أن يعرفوا هم ما يجب عليهم عمله، وكي يحوزوا الشرعية الأخلاقية للاعتراض على أي طغيان جديد محتمل، وكي يسهموا في دفع التغيير نحو غاياته التحررية المرجوة، وليتدربوا أيضا على إنتاج ثقافة حية وقابلة للتطور، وأوثق ارتباطا بأوضاع وحاجات مجتمعهم.
يلزم الجمع بين ثقافة الكتب والتجربة، وأن نعيد النظر في تفكيرنا وأدواتنا على ضوء تجاربنا، وأن نحول تجاربنا إلى أفكار ومفاهيم، وفنون، توسع آفاقنا وتسهم في تطور الثقافة لدينا وفي العالم.
هل يتوقع أي مثقفين سوريين أن تكون لهم كلمة مسموعة وهم غادروا البلد منذ بداية الثورة ولن يعودوا إليه قبل سقوط النظام (ربما لن يعودوا إليه أبدا لأن كل شيء سيكون صعبا خلال سنوات طويلة قادمة)؟ وهل يعرفون هم المجتمع السوري والثورة السورية كي يُعرِّفوا ذلك المجتمع بـ"قضايا الثورة"؟
أعتقد أن الجواب واضح. وسلبي.

ـ بمقابل ثنائية "معارضة الداخل ومعارضة الخارج" توجد ثنائية "مثقف الداخل ومثقف الخارج" بكل ما ينطوي عليهما المصطلحين من تصنيفات السلب والإيجاب. في سياق تقييم عملك توصف بأنك مثقف الداخل كيف تحلل هذين المركبين، وما أوجه الخلاف والاختلاف بينهما لو وجدت؟
أفهم الداخل، سياسيا وثقافيا، بأنه أرض التجربة أو مجال الصراع الجاري من أجل التغيير. الداخل السوري منذ عامين ونيف هو الثورة، والموقف من الثورة والمشاركة في أنشطتها هو ما يحدد من الداخلي ومن الخارجي. يمكن للمرء أن يعيش داخل البلد، لكنه خارجي، ليس فقط حين يعادي الثورة أو يقف إلى جانب قوى الموت التي تتكثف في النظام، وإنما كذلك حين ينتظر من الثورة أن تشبهه كي يعترف بها.
ويمكن لبعض من يعيشون في الخارج أن يتكرسوا بإخلاص لانتصار الثورة، فيكونوا بدرجة ما داخليين.
في مجال الثقافة لا نكون داخليين لأننا مع الثورة، بل لأننا ننخرط في عملياتها بأدواتنا الخاصة، ونتغير بها ومعها، ونعمل على تجسيد تطلعاتها وقيمها في سلوكنا ونتاجنا ومشاركتنا لغيرنا. أحب قول غاندي: كن أنت التغيير الذي تريده في العالم! تغيّر أنت إن كنت تريد التغيير.
وفي الثقافة، أكثر من السياسة، لا أفهم كيف يكون ممكنا إنتاج فكر وأدب وفن بينما يعيش المرء بعيدا عن بلده وعن أرض التجربة والتحول، وبخاصة في وقت مثل هذا. فكيف إذا كان يعيش بعيدا طوال عقود!
على أن هناك دواخل ودواخل. منذ بداية الثورة وأنا داخل البلد، لكن في الشهور الأخيرة قبل ان أترك دمشق في أوائل نيسان صرت أشبه بخارجي بفعل تحول دمشق إلى ما يشبه سجنا. في الغوطة أنت داخلي أكثر. وحين تشارك في أوجه من الحياة العامة في "المناطق المحررة" أنت داخلي أكثر بعد.
هنا التجربة، وهنا تولد الثقافة.