استنهاض عبد الناصر من ثراه


خالد سالم
الحوار المتمدن - العدد: 4519 - 2014 / 7 / 21 - 22:00
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

"لكنها تدور"

استنهاض عبد الناصر من ثراه


في غمرة الأحداث وقسوتها استوقفني شريط مصور لعجوز بزي مميز لأهلنا في الصعيد وعصا يتكئ عليها، من أولئك الذين عاشوا حلم عبد الناصر، حلم تهشيم الفوارق بين الطبقات واقامة مجتمع المدينة الفاضلة. أخذ يبكي أمام قصر عبد الناصر مستنهضًا إياه من ثراه "اصحى يا أبو خالد، اصحى عليك رحمة الله، لمن تركتنا..."، هذا بينما يحملنا كل ليلة السوري العظيم جمال سليمان من خلال مسلسل "صديق العمر" إلى تفاصيل فكر عبد الناصر على طريق بناء وطن جديد على أسس الوحدة.
جاءت هذه التفاصيل بينما تئن فلسطين تحت أنقاض غزة الدامية في حين أن سلاطين المنطقة يلتهمون فطورهم على الموائد الرمضانية العامرة بكل أصناف الطعام الشرقية والغربية، ولم يجرؤ أحدهم على استنهاض العالم لوقف هذه المجازر في غزة. لم يكتفوا بهذا، وبدلاً من تحية بسالة المقاومة الغزاوية وصمودها أمام ألة العدو الوحشية أطلقوا أبواقهم الاعلامية للنيل منها.
مثبت أن الافتراض لا يتسق مع التاريخ، لكننا مع الانحدار والتقزيم نجد أنفسنا نفترض عودة عبد الناصر من ثراه إلى عالمنا الذي لا يتماشى في أي شيء مع ما دعا إليه وحلم به. فلا فلسطين عادت، بل زادت هوانًا وسالت دماء أبنائها أنهارًا، ولا توحد الوطن العربي، بل ازداد تشرذمًا ووصل عدد دويلاته إلى عدد ممالك الأندلس، وانفصل شرقه عن غربه جراء عاملي الوفرة في جانب والفقر في الآخر، ولم تولد بعد مدينته العربية الفاضلة، بل زاد الفقر والبؤس والتخلف، بين شعوبه، والهوة بين الطبقات.
لقد أصابت البلادة قصورالحكم العربية، ومعها قصور العالم، أمام الصور المروعة التي نقلتها التلفزيونات بالأمس، الأحد، من حي الشجاعية في غزة. للوهلة الأولى عند مشاهدة أشلاء البشر تملأ شوارع هذا الحي تصورت أن خطأ ما قد حدث، فبدلاً من أن ينقلوا إلينا صور غزة وضعوا صور مذبحة صبرا وشاتيلا التي كان بطلها المجرم المجحوم أرييل شارون عام 1982. وعلى ما يبدو فإن التاريخ يعيد نفسه في بعض الحالات. لو حدث هذا في إسرائيل لقام الغرب بدك المنطقة بأسرها، وربما كرر هيروشيما عندنا.
أما صور اخلاء أحياء غزة بالأمس فقد أعادتنا إلى صور النكبة عندما خرج الفلسطينيون من بلدهم صوب الدول العربية المجاورة على أمل العودة خلال فترة وجيزة. لكنهم خُدعوا على يد العالم كله وظلوا مشتتين جيلاً وراء جيل.
تساءلت: ألم يشاهد سلاطين العرب هذه الصور؟! هل تناولوا فطور الأمس بعد مشاهدتها؟ لا أعتقد أن وقف هذا المجازر والمطالبة بتحقيق دولي فيها أمر صعب على قصور الحكم العربية المترعة بالمال والنفوذ الاقتصادي في الغرب. أعرف أن كل واحد يتحسس سدة حكمه قبل أن يطلب شيئًا من الغرب لقضية قومية، وهو ما قاله الزعيم الخالد منذ عقود قبل أن يرحل. وهنا يحضرني تصريح للرئيس الأميركي الأسبق جيمي كارتر إذ قال ذات مرة: "المدهش أن الحكام العرب لم يطلبوا مني في لقاءاتي العديدة بهم حل القضية الفلسطينية، بل اكتفوا بعرض مشكلات بلدانهم!"
لا شك أننا في مرحلة عسيرة، في برزخ نصبه لنا الغرب بمساندة ملوك الطوائف الذين يتهافتون على موائد الغرب. ولا يساورني أدنى شك من أن البرزخ سيؤدي خلال سنوات قليلة إلى خروج من المهانة والذل. لم يبق أمامهم شيء من ورقة التوت لتغطية عوارتهم. والثورات العربية التي روتها دماء شباب الأمة النقي ستعود لتأخذ مسارها الذي ولجته في شهورها الأولى، قبل حرفها عن طريقها على أيدي "العواجيز".
ما يحدث يسير عكس المنطق والتاريخ، فنحن نمثل حالة خارج سياق العالم، وفي قلب هذا السياق قضينتا الكبرى، قضية الصراع العربي الإسرائيلي. ما تقوم به إسرائيل، أمام عيون العالم وصمته المخزي، تعد حشرجات وضع دام أكثر من مائة عام منذ اجتماع بازل السويسرية واعلان هرتزل الشهير. المهم أن يصمد الشعب الفلسطيني. السياق يتطلب من فلسطيني 48 والقطاع تحركًا على غرار ثورات الربيع العربي، فلا جدوى من صمتهم وصمود المقاومة في غزة يحتاح إلى حراكهم في الداخل. إنها لحظة قيام انتفاضة جديدة!
لهذا أقولها وأمضى: الولادة عسيرة، ورغم حالة اليأس والتجهم التي تغطي وجوه أبناء هذه الأمة في هذه الأيام القاسية على نفس كل عربي ومسلم، لكنها ستضع نهاية لقرون من الانحطاط منذ سقوط بغداد المروع على يد التتار وبعدها غرناطة، وتحول المنطقة إلى ممالك طوائف.
الأمل في أبناء هذه الأمة الذين اشعلوا ثورات ربيعها، وبنزق الشباب وثقتهم المفرطة خربها لهم العواجيز، فأفسدوا أجمل عرس عربي منذ حرب أكتوبر 1973 التي خربها أقزام التاريخ. إنهم هم أنفسهم الذين جعلوا العوام يتمنون عودة الاستبداد بعد أن صوروا لهم ثورات الربيع العربي مؤامرة، وهم أنفسهم الذين جعلوا الدهماء يصدقون أن المقاومة الفلسطينية هي المسؤولة عن شلال الدم الفلسطيني. وهم الذين حولوا الضحية إلى جلاد بينما يذرفون دموع التماسيح العاهرة على دماء الفلسطينيين.