الانتخابات البرلمانية ووضع الثورة الراهن


محمد حسن خليل
الحوار المتمدن - العدد: 4514 - 2014 / 7 / 16 - 21:33
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

الانتخابات البرلمانية ووضع الثورة الراهن
بعد حوالى ثلاث سنوات ونصف من عمر ثورة 25 يناير حققت الثورة الكثير ويبقى أمامها ما هو أكثر لتحقيقه. ومن القوانين الأساسية للثورات، التى رغم وضوحها كثيرا ما يغفلها الكثيرون، أن الثورة دائما هى بداية المطاف وليس نهايته. الثورة هى فعل شعبى جماهيرى واسع وتضحيات هائلة من أجل تغيير جذرى للنظام. وبما أن الثورة لا تجرى فى الفراغ، ولكنها تجرى ضد النظام القديم وامتيازاته غير العادلة، فإن فعل الثورة نفسه يستثير النظام القديم ويزيد شراسته عشرة أضعاف وهى ترى امتيازاتها تتهدد عند إقرار حقوق الشعب المظلوم، سواء فى العدالة الاجتماعية أو فى الحريات.
المعركة بين الثورة والنظام القديم هى مسار كل الثورة وقدرها. كان هذا واضحا فى العام التالى للثورة الذى انبرى فيه المجلس العسكرى، رغم تمجيده للثورة وموافقته على التضحية بمبارك إنقاذا للنظام، ورغم تحياته اللفظية للثورة، يقاوم كل تغيير ولو صغير ولا يقدم على أى تنازلات إلا تحت أعنف الضغوط الجماهيرية. لم تتم إقالة وزارة شفيق إلا بعد مليونيتى مارس، ولم يتم القبض على رجال مبارك المقربين وأنجاله إلا بعد مليونيتى إبريل، ولم يتم نقل مبارك للقاهرة والشروع الجدى فى محاكمته وحل المحليات إلا بعد الموجة الثورية الهائلة فى شهر يوليو عام 2011. كل هذا فى إطار محاولة النظام القديم وفى القلب منه المجلس العسكرى تقليل التنازلات للثورة فى حدها الأدنى والحفاظ على الحد الأقصى من ملامح النظام القديم دون تغيير.
اعتمد تكتيك المجلس العسكرى فى تصفية الثورة على محور آخر شديد الأهمية: ألا وهو التحالف مع قوة معارضة لنظامه القديم، الإخوان المسلمين ومعها كل الجماعات الشبيهة، ضد الثورة. بالطبع أخذ فى الاعتبار أن تلك القوى تشاركه نفس المصالح كقوة تنتمى لنفس الطبقات المالكة الكبيرة. المعادلة المفهومة للتحالف هى أن النظام القديم يدخل ذلك الجناح القوى اقتصاديا للمشاركة فى الحكم بنصيب فى كعكة السياسة بعد طول استبعاده منها، فى مقابل تعاونه لأداء المصلحة المشتركة ضد ثورة الجماهير، خصوصا وهو له وزن بين الجماهير.
كانت أقسى سنين الثورة هى السنة الأولى من فبراير 2011 إلى فبراير 2012 عندما اتحد النظام القديم هو والإخوان فى مواجهتها. وأثبتت الثورة صلابتها وقدرتها على كسب الكثير من النقاط من الأعداء. مكن المجلس العسكرى الإخوان من لجنة الدستور والمجالس التشريعية، وراهن على تعاونه معهم كجزء من الطبقة الحاكمة. بدأ الصدام بين الإخوان والمجلس العسكرى من أواخر فبراير 2012 حينما لم يكتف بالسلطة التشريعية وطلب موقع قدم فى السلطة التنفيذية ممثلا فى أربع وزارات، ثم بعد الجدال والصدام قرر الإخوان ترشيح مرسى للرئاسة رغم تعهده السابق بعدم تقديم مرشح رئاسى. انتهى الصدام بتولى مرسى الرئاسة، وساهمت الضغوط الأمريكية فى ذلك.
وكان المأمول من النظام القديم بالطبع أن يؤدى إشراك الإخوان فى السلطة إلى نوع من الاقتسام للسلطة يعين على تصفية الثورة، ولكن برز عنصران جديدان أفشلا ذلك المخطط:
الأول هو طموح الإخوان الزائد إلى إزاحة النظام القديم والانفراد بكل أو معظم السلطة، بدءا من مؤامرة اغتيال الجنود فى رفح للإطاحة بالمجلس العسكرى، وحتى الصدام مع أجهزة الدولة، بادئا بمذبحة القضاء (إحالة 70% من القضاه للمعاش بتخفيض السن واستبدالهم بمحامين إخوان، ثم حصار المحكمة الدستورية)، والصدام مع الإعلام وحصار مدينة الإنتاج الإعلامى، وتعيين 13 ألف موظف فى جهاز الدولة بالذات المتحكم فى الانتخابات فى وزارات الحكم المحلى والتعليم.
والثانى هو التحالف القوى الذى ظهر بين الإخوان والغرب بالذات الولايات المتحدة الأمريكية، التى كانت قد اتفقت مع الإخوان على مساعدتهم على تولى السلطة فى مقابل مشاركتهم فى تنفيذ مخطط الشرق الأوسط الكبير القاضى بتفتيت دول المنطقة إلى أقليات دينية وطائفية وعرقية مختلفة. يكسب الأمريكان القضاء على مصر الدولة الكبيرة، وعلى كل دولة ذات وزن فى المنطقة، ولا يبقى قوة تذكر يمكن أن تتحدى نفوذهم فى أى مستقبل منظور. بينما يكسب الإخوان مظلة الخلافة الإسلامية الشكلية على دويلات موالية سياسيا واقتصاديا للغرب.
بدأ الشعب تحركه ضد الإخوان منذ تفجر أول موجة إضرابات عمالية فى عهد مرسى منذ أغسطس –سبتمبر 2012، كما بدأ تصدى الشعب كله ومعه جهاز الدولة والنظام القديم بجيشه وشرطته وبيروقراطيته لحكم مرسى والمطالبة بإسقاطه منذ الإعلان الدستورى فى نوفمبر 2012 حتى سقط مرسى أخيرا فى 30 يونيو.
إننا من الناحية الموضوعية إزاء نوع من التحالف المؤقت بطبعه بين الشعب وأحد العدوين، أو بالأحرى السير منفردين والضرب معا ضد هذا العدو المشترك شديد الخطورة على وجود الدولة ذاته، بالسير مع رجال النظام القديم، ضد الإخوان الذين أرادوا تدمير جهاز الدولة والعودة بها إلى الدولة البدائية التى يدعون أصالتها باعتبارها دولة الخلافة الإسلامية، ضد الديمقراطية الحديثة والقضاء الحديث والصحافة الحديثة، كما تواطئوا مع المخطط الاستعمارى الخاص بالشرق الأوسط الجديد وتآمروا مع أمريكا بالذات على تفتيت مصر والدول العربية.
كسب الشعب، فضلا عن إزاحة كابوس الإخوان عن الحكم، دستورا يعد افضل دستور حصلت عليه مصر فى تاريخها رغم مثالبه. دستور يقر مبدأ حقوقه الاقتصادية والاجتماعية والحريات الأساسية للشعب ومبدأ تداول السلطة، رغم أن تلك النصوص لن تفعل نفسها بنفسها. لا أقصد مجرد تحويلها إلى قوانين، ولكن تفعيل الدستور والقوانين هو موضوع صراع وميزان قوى بين الشعب والسلطة. ولكن يبقى الدستور ذخيرة هامة فى ذلك الصراع. كما كسب الشعب بعض الحقوق الاقتصادية واستمرار ممارسة حريات الأمر الواقع بممارسة حق الاجتماع والإضراب وتشكيل الأحزاب والمنظمات الجماهيرية.
تسبب تعقيد الموقف فى تمايز المواقف داخل اليسار: فمن رأى أن الخطر الأساسى هو تفتيت الدولة باسم الأخونة وتنفيذ مخطط التقسيم انحاز للمعسكر المعادى للإخوان بما فيه من تحالف مؤقت ضرورى مع جهازالدولة القديم (أو بالأحرى السير منفردين والضرب معا ضد الإخوان)، أما من لم يقدر مثل ذلك الخطر بهذا القدر فقد تركزت معارضته على محاولة النظام القديم إحياء جهاز الدولة القديم وعودة البطش ممثلا فى بعض التجاوزات التى حدثت أثناء فض الاعتصامات، ودور الدولة فى سن قوانين رجعية معادية لحركة الجماهير غير القبض على بعض نشطاء الثورة مع الإخوان والحكم عليهم.
أما بخصوص الشعب الذى خرج عن بكرة أبيه ضد الإخوان فقد انعكس موقفه المقدر لدور الجيش فى المساعدة الحاسمة فى التخلص من الإخوان على تأييده الساحق للسيسى فى انتخابات الرئاسة. إلا أن انتخاب السيسى بما يشبه الإجماع لا يعنى تناسى مطالب الثورة، فقد توقفت سياسة التوكيل على بياض لأى حاكم، ومازال الشعب فى حالة انتظار لتحقيق أهداف الثورة فى العدالة والحرية، ولسان حاله يقول: عملنا ما علينا وننتظر الآن تحقيق مطالب الثورة.
إذن فمع تراجع التناقض مع الإخوان إلى الصف الثانى رغم عدم انتهائه ورغم استمرار المخططات الأجنبية الداعية له، يبرز من جديد المعركة بين الثورة والنظام القديم، وهى معركة بالنقط دون أن تستبعد بالطبع إمكانية السخونة فى أى لحظة سواء من الجماهير المنتظرة أم من السلطة التى تحاول تقييد حقوق الجماهير.
فالثورة غيرت الشعب، رفع حاجز الخوف، وعودته على أساليب الكفاح، وأصبح من المألوف تهديد العاملين بأى مجال عند أى مشكلة باللجوء إلى الأساليب النضالية التى تم التعود عليها (إضراب، وقفة احتجاجية، عريضة، مقابلة مسئولين، مخاطبة الرأى العام من خلال البيانات والصحافة والإعلام). أيضا هناك انتشار المؤسسات التى تبلور المطالب وترفعها وترفع أفقها السياسى وتوصلها بالإعلام نتيجة لوشائج الصلة التى تتنامى كل يوم بين حركة الجماهير والمنظمات السياسية والنقابية المعبرة عن مطالب الجماهير. ولعل فى المثل الأخير حينما أضرب مصنع الكوك لمدة أربعة أيام، ثم علق الإضراب فى نهاية الأسبوع ليعود فى بداية الأسبوع الذى يليه باشتراك مصنع الحديد والصلب معه، لعل فيه درسا هاما. لقد كان مجرد تهديد عمال الصلب بالإضراب كافيا لتحقيق مطالب الإضراب قبل أن يضربوا!
إن الفترة الحالية هى فترة استمرار المطالبة بمطالب واستحقاقات الثورة التى لم تتحقق بعد، ومن الهام فى تقدير ميزان القوى تقدير المزاج الجماهيرى وتحديد أساليب الكفاح على أساس ميزان القوى وطبيعة المزاج الجماهيرى. بالطبع هناك قطاعات من الجماهير أيدت السيسى رغبة فى الاستقرار الذى يمكنها من مواصلة كسب عيشها، إلا أن الجماهير قد خرجت عن الطوق وعن وصاية النظام الحاكم وأساليب وصايته وأخذت تأخذ أمورها بأيديها.
كان دورنا قبل الثورة مثلا، حينما كان الشعب يعى فساد النظام القائم ولكنه لا يتحرك بشكل كاف، كان دورنا هو حفز أخلاق المقاومة وتحويل السخط السلبى إلى عمل جماعى إيجابى ضد النظام. أما اليوم حيث الشعب فعلا فى حالة مقاومة تمثلها الحركات المطلبية والإضرابية، وفى حالة نمو لتنظيماته المستقلة السياسية والنقابية (النقابات المستقلة والأنشطة والنجاحات داخل النقابات المهنية) فإن هدف تحركنا لابد وأن يكون تنظيم تلك المقاومة، ورفع وعى الشعب باستمرار بترابط مطالبه المهنية والمطالب السياسية فى الحريات وشكل الحكم، واستمرار المقاومة الجماهيرية (وليس الأمنية فقط) للتيار المتأسلم واجتثاث قاعدته الاجتماعية سواء بإقرار العدالة الاجتماعية أو بالنضال ضد الأفكار الرجعية التى تشكل قاعدته.
فى هذا السياق تمثل مناسبة الانتخابات البرلمانية فرصة هامة يتيح فيها اهتمام الجماهير بالسياسة والمرشحين فرصة للثوريين للارتباط بالجماهير والاستمرار فى رفع وعيها وتنظيمها وتطوير مقاومتها للنظام القديم فى معركة الثورة المتواصلة. وهنا لابد من التمييز بين عنصرين هامين: النظام القديم يعتبر أن المطلوب هو الاستقرار الذى يعنى استكمال شرعية الحكم عن طريق الخطوات الثلاث لشرعية النظام فى رأيه بإقرار الدستور وانتخاب رئيس الجمهورية والبرلمان، ويتوافق مع هذا الصبر وشد الأحزمة على البطون والبعد عن المطالب والاحتجاجات "الفئوية" كما يقولون. أما نحن فندرك جيدا أنه لا مكان لخطاب مبارك المحسن حول شد الأحزمة على البطون الخاوية مادام هناك ذلك التمايز الخانق فى دخول الطبقات الغنية التى لا تمس إلا بأقل القليل، والحاسم هو متابعة المعارك المتعددة لتطبيق الحد الأقصى للأجور وتقليص الفارق إلى 20:1، ومتابعة معركة تطبيق الضرائب التصاعدية، ورفض تحويل حقوق الشعب إلى شحاتة من الأغنياء. لقد كان أحمد عز قبل الثورة يفخر بأنه يدفع سنويا 400 مليون جنية ضرائب، ومعنى هذا أنه يعترف بأن أرباحه السنوية 2 مليار جنية (الضريبة وقتها 20%)، ولا يعقل فتح باب التبرع للاثرياء الآن لكى يتبرع أحدهم بخمس ملايين بينما لو تم تطبيق ضريبة تصاعدية 50% مثل متوسط الدول الرأسمالية أو 42% كما كان فى مصر حتى عام 2005 لدفع أمثال أحمد عز حوالى مليار جنية سنويا دون الحاجة إلى تسول التبرعات منه!
الاستقرار فى عرفنا ليس برنامج الخطوات الثلاث ولكنه تنفيذ استحقاقات الثورة من حرية وعدالة اجتماعية وكرامة إنسانية ورفع مستوى الشعب إلى مافوق حد الفقر، وتخصيص الموارد الجديدة لتطوير التعليم والصحة والخدمات والمرافق، وكذلك تخصيصها لتطوير الإنتاج الصناعى والزراعى ودخول التنمية التى تأخرنا فيها كثيرا، واستقلال الإرادة الوطنية بالاستفادة من العالم الواسع والأقطاب الجديدة البازغة فيه بدلا من سياسة إلقاء كل البيض فى سلة الولايات المتحدة الأمريكية والغرب.
محمد حسن خليل