مدخل الفصل الخامس (بين العظمة الحقيقية والعظمة الميكافيلية السياسة )


أحمد صبحى منصور
الحوار المتمدن - العدد: 4512 - 2014 / 7 / 14 - 21:43
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني     

ق 1 / ف5 : مدخل الفصل الخامس (بين العظمة الحقيقية والعظمة الميكافيلية السياسة )
كتاب ( المعارضة الوهابية فى الدولة السعودية فى القرن العشرين )
الفصل الخامس : تحليل سياسة عبد العزيز وتجربة الاخوان
مدخل : (بين العظمة الحقيقية والعظمة الميكافيلية السياسة )
أولا : أنواع العظمة بين الأخلاق والسياسة
1 ــ عبد العزيز آل سعود بمقياس السياسة الميكافيلية هو ( سياسى عظيم ) ينتمى الى ( عظماء التاريخ ) منشئى الدول . لا مفر للباحث التاريخى من الاعتراف بهذه الحقيقة . ولكن هل العظمة التاريخية وفى مقياس السياسة الميكافيلية هى كل شىء ؟ نتوقف فى هذا المدخل مع أنواع العظمة بين الأخلاق والسياسة .
2 ــ هناك عظمة أخلاقية إيجابية بنّاءة تبنى وتغير الواقع ، وتقيم الاصلاح ، وتتجنب بقدر الامكان سفك الدماء . على قمة هذه العظمة الأخلاقية يتربع الأنبياء عليهم السلام .
3 ــ فى عصرنا الحديث هناك عظماء للإنسانية قاموا بتغيير إيجابى سلمى فكرى وواقعى ، منهم الأدباء مثل تولستوى الروسى ( 1828 ــ 1910 ) أعظم الروائيين فى العصر الحديث ، والأديب الهندى البنغالى طاغور ( 1861 ــ 1941 ) أول آسيوى يحصل على جائزة نوبل ( عام 1913) ومنهم سياسيون مصلحون مثل صن يات سن الصينى ( 1866 ــ 1925 ) وأحرار مناضلون سلميون مثل غاندى ( 1869 ــ 1948 ) ومارتن لوثر كنج ( 1929 ــ 1968 ) أصغر حائز على جائزة نوبل ( عام 1964 ) ونيلسون مانديلا ( 1918 ــ 2013 ) و رهبان خادمون للانسانية مثل الراهبة الألبانية الأم تريزا ( 1910ــــ 1997 ) الحائزة على نوبل عام 1979 . .
3 ــ فى ثقافة الاستبداد والظلم والاسترقاق يختلف تماما مقياس العظمة . تتركز العطمة حول ( المستكبرين ) ( المترفين ) الذين يحتكرون الثروة والسلطة . بدأ هذا ــ تقريبا ــ بقوم نوح الذين إستنكفوا أن يكونوا مع نوح لأن أتباعه من الفقراء ، وأعلنوا له هذا وطلبوا منه طردهم فرفض : (قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الأَرْذَلُونَ (111) قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (112) إِنْ حِسَابُهُمْ إِلاَّ عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ (113) وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ (114) الشعراء ) (فَقَالَ الْمَلأ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَراً مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِي الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ (27) ) ورد عليهم نوح عليه السلام : قَالَ ( وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ (29) هود ).
4 ــ ومن الأوصاف القرآنية شديدة الدلالة وصف زعماء الكفر والعظمة الزائفة الظالمة بأنهم ( الملأ ، والذين استكبروا ). واستكثر الملأ من قريش نزول القرآن على رجل عادى يأكل الطعام ويمشى فى الأسواق ، وقالوا : ( وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنْ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (31) الزخرف ). لم يروه عظيما مع إعترافهم بسموه الأخلاقى وأنه الصادق الأمين ، لأن مقياس العظمة عندهم هو القدرة على الظلم والبغى لامتلاك أكبر قدر من الثورة والسُّلطة .
5 ـ وهى عادة سيئة أن يحتكر أولئك المستكبرون المترفون العظمة فى الدنيا ، ويعتقدون أنها ستستمر معهم فى الآخرة أيضا ، يقول جل وعلا فى حُكم عام على البشرية : (وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (34) وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالاً وَأَوْلاداً وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (35) سبأ ).
ثانيا : العظمة الميكافيلية
1 ــ إبتكر السياسى والكاتب الايطالى ميكافيلى ( 1469 ــ 1527 ) مقولة ( الغاية تبرر الوسيلة ) وهى أشهر عبارة قالها فى كتابه ( الأمير ) .. كتاب ( الأمير ) لميكافيلى وضع فيه خلاصة تجاربه السياسية فى فلورنسا مع قراءاته التاريخية وتجربته مع استاذه الراهب الثائر المصلح سافونا رولا ، الذى انتهت حياته بالاعدام حرقا عام 1498 ، كان سافونا رولا خصما عنيدا للبابا الفاسد اسكندر السادس ( 1431 ــ 1503 ) ، لم ينفع سافونا رولا عمله الاصلاحى والأخلاقى أمام سطوة البابا الفاسد ، وتعلم ميكافيلى هذا الدرس من مأساة سافونا رولا ؛ تعلم أن العظمة ليست فى التمسك بالاخلاق الحميدة ولكن فى نبذها وإخضاعها للضرورات السياسية .
2 ــ ميكافيلى تعلم أيضا من التاريخ . عقد مقارنة بين الشخصية المصنوعة للنبى محمد والشخصية المرسومة للمسيح الذى ــ فى إعتقادهم ــ انتهى به الأمر مهزوما مصلوبا . حسب الشائع فى السيرة المصنوعة للنبى محمد والمخالف لشخصيته الحقيقية فى القرآن ــ فهو النبى المسلح الغازى المحتل ، والذى أسّس صحابته امبراطورية وصلت بعد موته بقرنين الى احتلال بعض أجزاء من ايطاليا نفسها وتهديد عاصمة الدولة البيزنطية ( القسطنطينية ) .
3 ــ عاصر ميكافيلى في شبابه نموه ازدهار فلورنسا وعظمتها كقوة إيطالية تحت حكم أسرة دى ميديتشى ، وسقوطها عام 1494 ، وتأسست فى فلورنسا جمهوية استمرت حتى عام 1512 . فى فترة الجمهورية تلك تبوأ ميكافيلى عدة مناصب ، ودفع الثمن بسقوط الجمهورية وعودة أسرة ديميتشى ، فاتهموه بالتآمر وتعرض للسجن وإفرج عنه فاختار النفى . وفى منفاه وعزلته فى منطقة ريفية تفرغ للقراءة ، ووضع كتابه ( الأمير ).
4 ــ من قراءاته التاريخية وتجاربه السياسية الواقعية بين الفاسد اسكندر السادس والمصلح سافونا رولا ــ إستقى ميكافيلى مبادئه السياسية التى يجب أن يتبعها الأمير ليكون ( عظيما ) . مقولته المشهورة ( الغاية تبرر الوسيلة ) فى كتابه ( الأمير ) عززها بمقولات أخرى مستقاة من قراءاته التاريخية ، منها : ( أثبتت الأيام أن الأنبياء المسلحين إحتلوا وانتصروا بينما فشل الأنبياء غير المسلحين عن ذلك ) ( إن الدين ضرورى للحكومة ، لا للفضيلة ولكن لتمكين الحكومة من السيطرة على الناس ) ، ( من واجب الأمير أن يساند دينا ما ولو كان يعتقد بفساده ) ، ( ليس أفيد للمرء من ظهوره بمظهر الفضيلة ) ، ( لا يجدى المرء أن يكون شريفا دائما ) ( من الأفضل أن يخشاك الناس على أن يحبوك ).
5 ــ المستفاد مما سبق أن ميكافيلى تلميذ مخلص للعرب المسلمين الذين إستغلوا دينا عظيما هو الاسلام فى تكوين امبراطورية ضخمة ( عظيمة ) بالمقياس الميكافيلى . الفارق بين ميكافيلى والفقهاء السنيين العاملين فى خدمة الخلفاء القرشيين أن عمل أولئك الفقهاء إكتفى بصناعة أحاديث فى طاعة الحاكم وقتل الخارج عن جماعة المسلمين ، مع التركيز على (فقه النصف الأسفل ) ، بينما قام ميكافيلى فى كتابه ( الأمير ) باستخلاص قواعد سياسية للعظمة السياسية التى تضع دين الله جل وعلا والأخلاق فى خدمتها وتحت أقدامها . بإختصار وضع ميكافيلى قواعد إستغلال الدين الالهى فى إقامة دولة ، وهو الذى نجحت قريش فى تطبيقه قبل ميكافيلى بقرون.
6 ــ لم يكن عبد العزيز آل سعود محتاجا لقراءة كتاب ( الأمير ) لكى يحقق العظمة الميكافيلية . كان لديه ما يكفيه فى الرسائل التى كتبها محمد بن عبد الوهاب والتى نفذها الأمير محمد بن سعود فى تأسيس الدولة السعودية الأولى . وعلى أساسها أسّس عبد العزيز دولته السعودية الثالثة ، إستخدم الإخوان ، ثم حين أصبحوا خطرا عليه تخلص منهم ، هذا دون أن ينطق مقولات ميكافيلى : ( الغاية تبرر الوسيلة ، أثبتت الأيام أن الأنبياء المسلحين إحتلوا وانتصروا بينما فشل الأنبياء غير المسلحين عن ذلك ، إن الدين ضرورى للحكومة ، لا للفضيلة ولكن لتمكين الحكومة من السيطرة على الناس ، من واجب الأمير أن يساند دينا ما ولو كان يعتقد بفساده ، ليس أفيد للمرء من ظهوره بمظهر الفضيلة ، لا يجدى المرء أن يكون شريفا دائما ، من الأفضل أن يخشاك الناس على أن يحبوك ) .
ثالثا : دركات العظمة الميكافيلية :
1 ــ لا نقول ( درجات ) بل ( دركات ) لأننا نتحدث عن سقوط يتراوح بين ( الحضيض ) و ( أسفل سافلين )
2 ــ الحضيض فى العظمة الميكافيلية أن تستخدم ايدلوجيات علمانية لتصل بها الى الحكم ، وتصبح ( عظيما ) مذكورا فى التاريخ . كثيرون أقاموا دولا بايدلوجيات علمانية ، منها القومية العنصرية مثل هتلر ، أو بالمتاجرة بأحلام الفقراء المستضعفين مثل لينين وستالين . أفظع منه أن تستخدم دين الله فى إقامة دولة دينية ، ثم تحكم الشعب بالاستبداد والاستعباد والفساد وتحتكر السلطة والثروة ، وتعتبر نفسك مالكا ( للرعية ) وباسم الرحمن . هذا هو أسفل السافلين . فعل هذا الخلفاء القرشيون ، وفعله عبد العزيز آل سعود ، وأسلافه ،وأبناؤه .
3 ـ خطورة ( اسفل السافلين ) فى أنه
3 / 1 : يدمر سُمعة دين الله جل وعلا ، ويخترع له إلاها مصنوعا من الكراهية والطغيان و محبا لسفك الدماء . وبهذه الصورة المقيتة يرى الغربيون الاسلام ويتخيلون رب العزة جل وعلا حيث يستخدم أصحاب ( أسفل سافلين إسم الله جل وعلا ودينه الاسلام فى تبرير وتسويغ و تشريع ما يفعلون ، وحيث يهنتفون ( الله أكبر) فى قتلهم الأبرياء . الله جل وعلا أرسل رسوله رحمة للعالمين ، فجعلوا دين الله جل وعلا لاهلاك العالمين .!!
3 / 2 : بسبب زعمه الانتماء للاسلام وإحتكاره للاسلام تظل ايدلوجيته باقية ، تخدع الناس باسم الاسلام ، وهذا بالضبط ما فعلته الوهابية فى انتشارها وفى استمرار ضحايها والذين بلغوا عدة ملايين منذ إنشاء الدولة السعودية الأولى 1745 .. وحتى الآن : 2000 . وقت تأليف هذا الكتاب . وسيظل عدد الضحايا فى إزدياد طالما لا يتم مواجهة الوهابية وفضح تناقضها مع الاسلام .
3 / 3 : المجرم العادى والقاتل من الممكن أن يتوب . ولكن الذى يقتل الناس على أن ذلك جهاد مفروض يستحيل أن يتوب ، فقد زين له الشيطان سوء عمله فرآه حسنا . وقد قال رب العزة لخاتم المرسلين أن يُعرض عن هذا الصنف ولا يحزن عليهم لأنه يستحيل هدايتهم : (أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (8) فاطر ) . شاءوا الضلالة والتزموا بها فشاء لهم رب العزة ذلك الضلال . فى قلوبهم مرض فزادهم الله جل وعلا مرضا : ( وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8) يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (9) فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمْ اللَّهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (10) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11) أَلا إِنَّهُمْ هُمْ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ (12) ) البقرة ) . كل منهم عشى بصره عن نور القرآن فتلقفه قرين من الشياطين يزين له الضلال هدى : (وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36) وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنْ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (37) ) الزخرف ) ويوم القيامة سيرون ذلك القرين ويتبرءون منه حيث لا يُجدى الندم (حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ (38) وَلَنْ يَنفَعَكُمْ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ (39) الزخرف ) .
4 ـ ومن أسف أن التاريخ ــ خصوصا فى العصور الوسطى ــ لا يأبه بالعظماء الحقيقيين ، بل ربما يشوّه سمعتهم إذا كانوا مشهورين. التاريخ كان ـ ولا يزال ــ يتراقص فى مواكب السلاطين ، ويجعلهم عظماء . هم عظماء بمقياس ميكافيلى فقط . ويوم القيامة سيكون هؤلاء العظماء الميكافيليون فى عذاب خاص يتناسب مع كونهم فى الدنيا ( أعزاء مكرمين ) ، يقول جل وعلا عن هؤلاء العظماء الميكافيليين : (إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ (43) طَعَامُ الأَثِيمِ (44) كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ (45) كَغَلْيِ الْحَمِيمِ (46) خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ (47) ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ (48) ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (49) الدخان ).
سيقال لهذا العظيم الميكافيلى وهو تحت العذاب الأبدى (ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ ).!!
عندها سيُدرك أنه (مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ (2) المسد )