ماكبث المِصراع الأول القسم الأول


أفنان القاسم
الحوار المتمدن - العدد: 4504 - 2014 / 7 / 6 - 13:51
المحور: الادب والفن     


ماكبث، تراجيديا النعامة، إحدى روايات الأدب المعاصر الكبرى مستوحاة من مسرحية شكسبير "ماكبث" دون أن يكون ذلك تمامًا، فالمؤلف يبتعد في نظرته الخاصة به إلى هذه الشخصية، ليقترب أكثر من النظرة الخاصة بمبتكرها، ينظر إلى أبعادها الكونية كشخصية لا مثيل لها من شخصيات القرن الحادي والعشرين، وإلى أبعادها كشخصية فرد استثنائي، فما وراء الفعل الإجرامي، الفعل الجنسي، فعل مقاومة القوة بالقوة، يسجل أفنان القاسم كل الإحالة الوجودية في عالمنا، ويجعلنا نكتشف ملامح ومزايا ربما ليست في ماكبث، ولكن دون ماكبث ما أمكنه تمثلها، وما أمكنه عرضها كما فعل إلا لأن هذه الشخصية تظل مذهلة، شخصية من شخصيتين، وفعل من فعلين، ولحظة من لحظتين، حتى في أشد لحظاتها بؤسًا وتعاسة، حتى في أعظم لحظاتها تألقًا وعلوًا، فالشرط الإنساني والشرط التاريخي يراهما أفنان القاسم رؤية بول ريكير (Paul Ricœur) كشرط تراجيدي. من هنا كل هذه التراجيدية "المحتَّمَة"، كل هذا التخيل "المتعذِّر"، كل هذا الكلام "اللايُطاق"، وربما كل هذا ليقول المؤلف لنا: حذار، اعرفوا قيمة العباقرة والأفذاذ ولا تتركوهم وحدهم إذا ما غررت الرؤى بهم، وإلا كان مستقبلكم وخيم العاقبة... إنها رواية الصراعات الضارية وسقوط الجبابرة.


أفنان القاسم من مواليد يافا 1944 عائلته من برقة قضاء نابلس له أكثر من ستين عملاً بين رواية ومجموعة قصصية ومسرحية ومجموعة شعرية ودراسة أدبية أو سياسية تم نشر معظمها في عواصم العالم العربي وتُرجم منها اثنان وثلاثون كتابًا إلى الفرنسية والإنجليزية والإسبانية والروسية والعبرية، دكتور دولة ودكتور حلقة ثالثة من جامعة السوربون ودكتور فخري من جامعة برلين، أستاذ متقاعد عمل سابقًا في جامعة السوربون ومعهد العلوم السياسية في باريس والمدرسة المركزية الفرنسية وجامعة مراكش وجامعة الزيتونة في عمان والجامعة الأردنية، تُدرّس بعض أعماله في إفريقيا السوداء وفي الكيبيك وفي إسبانيا وفي فرنسا...


خلف كل تراجيديا عظيمة يختفي رجل عظيم...
إلى ذكرى شكسبير


أرعدت السماء وأبرقت، وفلتت من الغيم حبال من المطر تعقد الأرض بما عليها من أشياء، ومَعْقِدُ الآمال كان اللاآمال. لم تكن للريح رغبة في الركود، ولا للشمس لهفة على الشروق، فالليل معركة طويلة بين جحافل الغزاة، والبنفسج خَلَنْجٌ قاتم، قاتم لأنه بنفسجيّ، وبنفسجيّ لأنه عُجاب، كيلا يكون لقاء، كيلا يكون سحر، كيلا تكون تورية أو نبوءة. لم يكن الكون أفظع وأروع مما كان، كان يخلع عن جسده أفعال بنيه، وفي الوقت نفسه يُري مفاتن جسده، كالمرأة المغتصبة لما تغتسل لتزيل عنها آثار مخالب مغتصبيها، ومنها قذاراتِ غيرِ بشرٍ صُنعوا بشرًا. ولم تكن نيويورك أوجع وأودع مما كانت، كانت تجمع بين أصابعها عصابات الليل، وفي الوقت نفسه ترقص وتغنج وتغني، كالأفعى الثملة لما تخترق البنوك، وبالنقود التي في خزائنها تحتفي بعظماء المدينة وعاهراتها، من شتى الزواحف وشتى الأصناف. وبين معاقبة الطبيعة وإثابة نيويورك، لفّت جسد ديدييه آبل-كاين ماكبث، Didier Abel-Caïn Macbeth، المدعو ماك، ست أذرع أرادت ضغطه، ففتح عينيه، ورأى أمه بثلاثة وجوه قرب وجهه، وهي تنظر إليه.
- أمي! هتف ماك، وهو يحجو بها خيرًا.
- أي الوجوه وجه أمك، هذا أم هذا أم هذا؟ ابتسمت الأم ساخرة. شيء من هذا لم يقع، ومع ذلك، يقع تحت عينيك.
- هذا وهذا وهذا، فالكيفية التي تسير بها الأحداث غير الكيفية.
- صاحبة هذا الوجه ستضغط بيدها على فمك، وتضع حدًا لحياة ليست حياتك، وصاحبة هذا الوجه سترفعك على يدها إلى قمم الكون، وتجعل من الحياة حياتك، وصاحبة هذا الوجه ستنزلك من يدها إلى الحضيض الأسفل، وتتركك تحيا دون ما حياة.
- دعيني أختر أمي، يا أمي، فحياتي غير الحديث عن الماء والسماء.
- اختارت أمك عنك أمًا، فالحذر لا يمنع القدر.
- احذوي النعل بالنعل والقَرض بالقَرض.
- اختارت أمك عنك أمهاتك الثلاث كيلا تجد في نفسك حرجًا.
- للموت والرفعة ونقطة الحضيض أزمانٌ ثلاثة لا رابط بينها، وأنا لن أجازف بحياتي كمن يجازف في كلامه.
- سنبدأ بالزمن الأخير وننتهي بالأول، فالأخير بداية والأول نهاية.
- لنبدأ بالثاني، فالثاني بداية ونهاية.
- إذا كان الأمر كذلك بدأنا بالأول كيلا يكون هناك ثان أو ثالث، وبالتالي كيلا تكون هناك بداية ولا نهاية.
وأخذت تضغط بأيديها الست على فمه بقوة شريرة، وعلى فمها لا تزول ابتسامتها الساخرة، بينا يطلق ماك صرخات مستسلمة دون أن يحاول التخلص منها. وهو على وشك الموت، رق قلب الأم على ولدها، فرفعت أيديها الست عن فمه، وأنامت رؤوسها الثلاثة على صدره، تاركة إياه يسترد أنفاسه.
- لنبدأ بالثاني، يا ماك، همهمت الأم، هذا لأني لم أصنعك طيبًا على شاكلتي، تحرق فحمة ليلك مع الملائكة، ولا تحرك ساكنًا.
- لم أكن يومًا شريرًا، استطاع ماكبث النطق، أحرك الشهوات، وتحركني، فتتحرك مشاعري.
- المطبوع على الشر لا يراه، أوضحت الأم، وهي تعلو بوجوهها الثلاثة فوق وجه ابنها، وعيناها تقدحان شررًا، وشفتاها تبرقان دررًا، يسمعه، فيغلق أذنيه، ويوهم نفسه بما لا يوهم نفسه، ويضحك ملء شِدقيه. لن أطيل عليك! أنا لن أكون لك في شيءٍ عونًا.
- هذه الوجوه الثلاثة تذكرني بشيء لا أدري ما هو، فتبيض عيناي من الحزن.
- وجوه الشيطان، يا ولدي.
- الشيطان أنتِ، يا أمي!
- لم يكن الشيطان يومًا شريرًا. إن لم يحدث ما ليس في الحسبان، وفي أحسن الاحتمالات، يحسن التصرف والمشورة.
- والآخر؟
- الآخر، أي آخر؟
- الآخر الآخر؟
- الآخر الآخر أم الآخر الآخر؟
- الله.
- ليس شأني. أنا شيطاني الطيب شأني، من يحسن معاملتي، ويحسن صنعًا بي.
- شيطانك الطيب وكل هذا الشر منذ قليل، همهم ماك، وهو يجس بأصابعه وجهه. نلت حظي مما لا حظ لي، وكدت أفقد غريزة المحافظة على النفس.
- اسمع، يا ماك، أمرت الأم، مع معلمتك ستعلو ومع عليمتك ستلعو ومع عالمتك ستنعو، هذه هي أقدارك، وهكذا ستكون أزمانك.
- مع عالمتي سأنعى.
- ستنعو قلتُ أنا، فأنا يجوز لي ما لا يجوز لك أنتَ.
وتبخرت الأم، وكل وجه من وجوهها الثلاثة يذهب من جهة، بينا ماكبث ينادي: "أمي! أمي! أمي!"، ويمد يده إلى الجهات الثلاث.

* * *

أيقظت جين، زوجة ماك، ماك، وماك لم يزل يصرخ: "أمي! أمي! أمي!"
- إذا ما تعلق الأمر بأمك، فهو كابوس، علقت جين، وهي ليست المرة الأولى، هذا يعني أنه كابوس بالفعل.
- أمي! تلعثم ماك.
- لن يريحك من أمك شيء آخر غير قدح من الحليب الساخن، قالت جين، وهي تغادر الفراش إلى المطبخ.
بعد قليل، عادت جين بقدح الحليب، فتناوله ماك، ووضعه على طاولة الليل.
- مع معلمتك ستعلو ومع عليمتك ستلعو ومع عالمتك ستنعو، هذه هي أقدارك، وهكذا ستكون أزمانك، همس ماكبث.
- أراك تعلو مع داناوي دانكان، معلمتك، قالت جين، وهي تعود إلى الفراش، ولكني لا أراك تلعو مع عليمتك، فأنت لا عليمة لك، ولن تكون عليمة لك، وأكثر لا عالمة لك، فكيف معها ستنعو؟ شَكّي بين الشك وعدمه، فمن طبيعتي ألا أثق بشيء، وليس ألا أشك في شيء، وعدم الشك لدي أمر غريب، من غرابة كل هذا.
- آه! ما أسهل هلاك النفس لما ينقطع الشك لا لشيء إلا لوعد تغرينا به أدوات الظلام.
- أمك أدوات ظلام!
- قبل قليل كانت لكِ أمي كابوسًا!
- ولم تزل، وأنا لهذا أفكر في تخليصنا منها، أنا وأنت، بإرضائها، فكل معرفة ناجمة من الوحي ليست بالضرورة خاطئة.
- جين! أنا لا جناح لي يعلو بي، فكيف أعلو؟ مع معلمتي أم مع غير معلمتي لن أكون أكثر من نجيّ، والنجيّ لا يعلو دون جناح.
- النجيّ جناحه الأسرار التي يؤتمن عليها.
- ما تزينينه لي لا يزين النفس وعلى العكس يثقل الفؤاد.
- فليكن قلبك بثقل المرساة إذا ما كان ذلك شرط زينة النفس لديك.
- داناوي دانكان رئيسة ومديرة عامة للبنك العالمي، يا دين الرب!
- مع معلمتك ستعلو، قالت أمك.
- ستعلو، قالت أمي، مع معلمتك، معها، تحت جناحها.
- أنت لن تبقى لها مخلبًا إلى الأبد!
- وكيف سأعلو إن لم أكن لها إلى الأبد مخلبًا؟
- ستعلو مع معلمتك، قالت أمك، نبرت جين، ولم تشترط أن تكون مخلبًا لها! لا تبلغ من السخافة إلى حد أقصى، سيسدد الشيطان خطاك، ودومًا ما كان صاحب الحق سلطانًا.
لم تتمالك جين عن غيظها، أخذت تطلق صرخات المعتوهين إلى أن تمكن ماكبث من إسكاتها. عندما هدأت، وجد نفسه يربض عليها كمن يربض على فريسته. التقط ثديها بفمه، وجعلها تموء مواء قطة، ليست اللذة دافعها وإنما الألم. عضها من خصرها، ومن بطنها، وحاول فلقها من فخذها، فتضاعف مواؤها، وتصاعدت آهات إماتة الجسد حتى وصلت إلى أعتاب السماوات في كوابيس البشر.

* * *

قامت السيدة ماكماهليان، رئيسة الديوان، في الأربعين من العمر، أول ما رأت ماكبث يدخل، والتصقت به مرحبة.
- تأخرت اليوم كثيرًا، يا سيد ماكبث، همست على حافة شفتيه.
- هل تتحرقين شوقًا إليّ، يا سيدة ماكماهليان؟ همس ماك، وهو يضغطها بأصابعه من إليتيها.
- كثيرًا.
- كثيرًا كم؟
- كثيرًا جدًا.
- كم؟
- إذا قلت لك بقدر كل الرجال الذين عرفتهم، فهل ستصدقني؟
- لن أصدقك.
- أنت ذو مزاج كئيب كما أرى.
تردد ماكبث عند باب مكتب السيدة دانكان بعد أن فتحه، فأشارت إليه بالدخول.
- تعال سريعًا، يا ماك! قالت الرئيسة المديرة العامة للبنك العالمي، وهي تغلق الهاتف.
- سأطير إليك دون جناح! هتف ماك.
- الطير دون جناح أنا لم أرَ، ابتسمت داناوي دانكان.
- ومع ذلك، أكد ماك وهو يأخذ مكانًا أمامها.
- أنت أول طائر دون جناح يعلو في الجو!
- أنا مهما علوت حلقت دومًا دونك، يا عزيزتي داناوي!
- شكرًا على كل ما تفعله من أجلي، يا عزيزي ماك!
- تقصدين تحويل المليون دولار من وقت إلى آخر إلى حسابي ومن حسابي إلى حسابك مواربةً لتفادي الشبهات؟ هذا لا شيء.
- أقصد إقناعك مالكولم، نائبي، بأخذ مكاني. أعلمني على الهاتف بذلك منذ عدة ثوان.
- إذن موافق هو على ترشيحك كرئيسة للولايات المتحدة.
- هو موافق.
- هذا أسعد خبر سمعته منذ الأزمة.
- افتح لنا قنينة شامبانيا.
- حالاً.
- ولكن...
- اتركيني أصب لك قدحًا قبل أي شيء لتُغرقي فيه هموم منصبك الجديد قبل أن يكون وليذق لسانك طعم المجد قبل أن يذهب في أطباق البيت الأبيض. هاكِ!
- شكرًا ماك! أنت توثقني بك أكثر!
- بل أنا بثقتك.
- بصحتك، يا ماك!
- بصحة أول رئيسة قادمة للولايات المتحدة!
- بوصفك النجيّ... ترددت السيدة دانكان.
- بوصفي المنيك...
- اسمع، يا ماك، كل هذا ما هو سوى رجم بالغيب ليس أكثر، فأنا لا أرى ما تراه من نجاح، الأمريكان لا يعرفونني، ومجتمعنا البطريركي لن يقبل بواحدة مثلي رئيسة، جبلوه على ذلك، وخصومي في الحزب أكثر بكثير من خصومي في البنك.
- الأمريكان سيعرفونك، ومجتمعنا البطريركي لن يبقى بطريركي المجتمع إلى هذه الدرجة مع امرأة فاتنة مثلك، وخصومك في الحزب اتركيهم لخصومك في البنك.
- رشوة هؤلاء لأولئك ستزيدهم إصرارًا على الحط من قدري.
- ونحن ستزيدنا إصرارًا على فضحهم واحدًا بعد واحد.
- فضحهم كيف؟
- دعيني أتصرف.
- أواثق أنت؟
- يكفيني خراؤك، بكلام آخر ثقتك.
- أنت تعرف أكثر من أي شخص إلى من تذهب ثقتي.
- وإلى أين، وكيف، ولماذا. ما أخشاه خشيتك، فلا تخشي شيئًا، الطيور لا تخشى العواصف، وهي في قلبها، ونحن، نحن سنكون في قلبها. لنُفرغ قدحينا!

* * *

لم يكن يبدو على بانكو، صديق ماكبث، السرور، وهو يستمع إليه.
- دانكان لن تكون أبدًا رئيسة للولايات المتحدة، اعترف ماك، ولا رئيسة لأي شيء، لقضيبي أقل الأشياء، لهذا أنا لم أمتطها بمحض إرادتي، كيلا أشعرها بكونها شيئًا، وكيلا تعتقد أنها بالفعل امرأة مشتهاة. الأمريكان لا يعرفونها، ومجتمعنا البطريركي لا يقبلها، وخصومها لا يعدون ولا يحصون.
- لماذا كل هذا الخداع، يا ماك؟ أقنعتَ دانكان، وأقنعت مالكولم، وجعلت من الوهم طريقًا إلى الوهم، نبر بانكو.
- هذا لأن من طبيعة الإنسان أن يركن إلى الوهم حقيقةً، فيتساوى الضعيف والقوي، الذليل والأبي، الغبي والذكي.
- أنا لن أكون أيًا من هؤلاء.
- أعرف، أنت مثلي، وأنا لهذا سأعلو بك كما سأعلو بي.
- ماك، كف عن مواجهة ألد أعدائك الذي هو أنت!
- لكني لن أفشل.
- إذا كان طموحك التربع على رأس هذا البنك الماخور فأنت لا محالة ستفشل.
- أمي ومن بعد أمي زوجتي اضطرتاني إلى عدم التخلي عما أريد. سأشرب الكأس حتى الثمالة، ولن تفوتني شاردة ولا واردة.
- أيها الذئب، يا ماك!
- سأكون على رأس هذا البنك الماخور، وستكون نائبي شئت أم أبيت.
- ألستَ خائفًا من ثقتك بي، أنا المتسلق، كما يحلو لك أن تدعوني؟
- في حال عدم الثقة، سأرد لك الصفعة صفعتين. لكنك بين الثقة وعدمها أنت لن تختار عدمها، هذا إذا ما تركتُ لك حرية الاختيار. أتعرف يا بانكو كيف تعرف؟
- لم أكن أعرف كيف أعرف وعرفت كيف لم أكن أعرف.
- دانكان لا تتوقف عن قهري بخرائها بي، لن يكون هذا سلوكي نحوك، فأنت صديقي قبل أن تكون نائبي.
- ليس بعد، أنا لست نائبك، وأنت، أنت لست الرئيس المدير العام للبنك العالمي.
- لا تتوقف عن إلحاق كل أذى عواطفها بي، لا تتوقف عن خنقي بكرمها ولطفها وأصابعها الناعمة كلما أمسكت بأصابعي الخشنة. هي ليست شريرة بالفطرة، هي شريرة بالإجراء. تشير إلى هذا الموظف الكبير، أو إلى هذا الرأسمالي الصغير، وتترك الباقي عليّ. تضاجع كل سياسي تلتقيه بعينيها، وكل اقتصادي، وكل الرؤساء المديرين العامين، ولا تدع مجالاً لأي شك في عدم لمس حلمتها، تجعلهم ضحايا استيهاماتهم، وعندما تشتهي أحدًا، تطلبني في أية ساعة تشاء، عند منتصف الليل أو منتصف النهار، وأجدها عارية في الفراش، بانتظار أن أشبعها بفرجي طرقًا على كل جسدها. أكابد ما أكابد، وهي تمارس ما تمارس. قلت لك شريرة بالإجراء هذه المرأة.
- أي سوء حظ! العيش بعد كل هذا الشر! التظاهر بعدم التظاهر!
- ليس عدم التظاهر كعدم الثقة، يا بانكو، فحذار!
- بالطبع لا، وأنا لهذا لن أخون ثقتك، فاطمئن.

* * *

- يا دين الرب، يا مالكولم! طن ماكبث، لِمَ كل هذه الريبة؟ أنت لا تسمع نباح كلاب مانهاتن من التهلل فرحًا للنجاح الذي ستحرزه دانكان. آه! ما أصدق الكلاب، وما أكذب الإنسان.
- فشل داناوي يعني فشلي، يا ماك، تلعثم نائب الرئيسة المديرة العامة للبنك العالمي. أنا من دعاة عبادة الطبيعة، وأنت، أنت من دعاة عبادة الفرد.
- لن يكون هناك أي فشل إلا إذا كان النجاح قد بدل معناه. يبدو أنك لا تنفع فيك العِبر، ومع ذلك العبرة بالخواتم.
- أنا لا أعبر عن رفضي، أنا أعبر عن عواطفي.
- اعتبر الواقعة أكيدة.
- احلف لي كيلا أفقد ثقتي بنفسي.
- بماذا تريدني أن أحلف لك؟
- بقفا أمك، فما يدريني أنا؟
- أحلف لك بروح أمي الغالية على قلبي!
- روحها ليس كقفاها هذا صحيح.
- علمًا بأن قفاها أجمل بكثير من روحها.
- البرهان على ذلك يكمن فيما تقول لا فيما أرى.
- بماذا أيضًا تريدني أن أحلف لك؟
- هذا يكفيني.
- وإذا ما قلت لك إن الحماقة ليست حمقاء.
- لأني صدقتك.
- لأنك ستفتح خزينتك، وتنفق دون ما حساب. داناوي ستأمر، وأنت ستنفذ، والباقي سيكون عليّ.
- مطالبك تحوي العجب العجاب!
- للشوربة الشعبية والمصحات والمقطورات، طاقتنا الضرورية لاحتلال البيت الأبيض.
- الشوربة الشعبية وفهمنا، المصحات وفهمنا، والمقطورات لماذا؟
- لمن لا سكنى ثابتة لهم.
- لكل حال عندك عَتاد!
- لا تتعجل حُكمًا!
- لكن هذا لن يغير من قوة الشراء شيئًا، وطريق كل ذاهب إلى البيت الأبيض يمضي بقوة الشراء.
- أنت لم تزل لا تسمع نباح كلاب مانهاتن حيث لا شوربة شعبية هناك ولا مصحات ولا مقطورات.
- ولا خراء!
- الخراء بلى، مانهاتن كلها خراء، خراء لا يعادله خراء.
- كارثة لا تعادلها كارثة.
- هذه الطبقة المشحرة لهي قوة شرائنا.
- قوة خرائنا.
- إذا شئت، فهي ستكون ورقتنا القوية لدى الناخب، والناخب عندنا أحمق، لهذا قلت لك إن الحماقة ليست حمقاء.

* * *

- اغفري لي، يا حبيبتي، عجل ماك القول لزوجته، جعلتك تنتظرين طويلاً!
- جعلتني أبكي طويلاً، نبرت جين، وهي تجفف دمعها.
- إنه مالكولم، هذا الجبان، تأخرت بسببه.
- لعبة التنس لا تنتظر أكثر مما انتظرت، فلنذهب، يا ماك!
- لا شيء ينتظر أكثر من لعبتنا، يا حبيبتي، فتعالي نتسلى!
- نتسلى دون أن نتسلى!
- لقد أحببتِ أنانيًا، يا جين، لا تنسي!
- أنا أبكي لهذا، لأنني لا أنسى.
- يا دين الرب!
- ارتدِ ثياب التنس التي لك، ستجدني في الملعب.
- سألعب بثيابي هذه دون أن يعذبني وخز ضميري.
- لم تحضر ثياب التنس التي لك؟
- لم أحضر.
- لم تكن تريد اللعب؟
- لا.
- يا دين الرب! قلدته.
- فلنذهب إلى مكان نتحدث فيه دون أن تسمعنا الإنسانية المعذبة.
- تحدث، فلا أحد يسمعنا.
- وهذه الطيور؟
- الطيور إنسانية معذبة؟
- الطبيعة والإنسانية من طبيعة واحدة تتحمّل العذابات الأبدية.
- تسمع ولا تتقن الكلام.
- سأطردها.
- تأخذ حذرك حتى من الطيور!
- حتى من القطط، حتى من الكلاب، حتى من النمل... إلا منك.
- لم أكن أعلم أنك كثير اللطافة!
- كثير الحذر، كثير الخراء، كثير الشر، يا دين الرب!
- أمك لم تكن تكذب.
- وأنتِ أيضًا.
- أنا بدلت رأيي، لم أعد أريد كل هذا.
- إنه لمن المحال بعد أن بدأت عجلة حظنا تدور وبسرعة غير متوقعة.
- عجلة حظك أنت لا عجلة حظي.
- لأني جعلتك تبكين.
- لأنك جعلت حياتي الجحيم.
- سنعلو، يا جين، ولن يقف في وجهنا شيء، لا الجبال، لأننا سنطمر القمم، ولا البحار، لأننا سنغرق الجزر، ولا الوديان، لأننا سنحول الأنهار.
- يا دين الرب! تقلده.
- لن تبدلي رأيك بين عشية وضحاها!
- بين عشية وضحاها عرفت أشياء كثيرة عني، عرفت نفسي، عرفت نفسي حق المعرفة، روح حساسة أنا، خراء صافٍ، يهرب مني الجنون، وأنا لا أريد أن أطارده. هذا منهك لي، فأنا لست مثلك، لم يعرفني التاريخ من قبل، ولا أفهم لغة العرافين، أعترف بأخطائي، وبحق الآخرين. خراء صافٍ، أعري جسدي من ثيابي، لا لسبب، فقط لأن في عروقي يسري دم القحبات.
راحت جين بماكبث ضربًا، وهي تعتذر، وتبكي، إلى أن تمكن من تطويقها بذراعيه، وشل كل حركة من حركاتها.
- أنا سعيدة من أجلك، يا ماك، همهمت الزوجة، وكلها تعاسة، سعيدة من أجلك، وفخورة بك، فخورة بكل ما تفعل، وصفعته بشدة، تاركة إياه وحيدًا وسط الطيور.

* * *

في مكتب المحامي جوزيف ماكدويل، كان ماكبث، وكان بانكو، وكان رجل تحر خاص يعرض بعض الصور لخصوم داناوي دانكان في البنك وخصومها في الحزب، وهم يحششون، وفي أحضانهم عاهرات مانهاتن.
- ماكدوف، لينوكس، روس، مينيث، آنجوس، كيثنيس، كل هؤلاء يا دين الرب! همهم ماك.
- كل مجتمع الأقوياء، علق ماكدويل، ولكن ليس علينا. نحن لنا قضبان أقوى، تزلق بين الأرداف، وتخترق الثقوب كثعابين الكوبرا.
- صور كهذه لا تثبت شيئًا، ألقى باكو، صور كهذه تذكر بالصور التي كنا نأخذها في الثانوية للولو ولِيلّي ولوانا وهن يكشفن عن أقفيتهن في المخرآت.
- ماكدوف لا يكشف عن قفاه، قال ماك، ماكدوف يكشف عن فساد نظام كامل لسنا أبدًا ضده لا في الماضي ولا في الحاضر ولا في المستقبل، ولكننا نعمل من داخله لإسقاط هذا وإعلاء ذاك، أو إسقاط هذا لإسقاط ذاك.
- قل لماك، يا ماكدويل، إن مثل هذه الصور لا شيء في عين القانون، رجا بانكو.
- الأدلة الدامغة، يتعلق أمرها بي، قال ماكدويل.
- أنت لن تأتي بوثيقة تثبت فيها كم مليون وزع ماكدوف نقدًا، تهكم بانكو.
- وما قولك لو أتيت بوثائق تثبت حوزة ماكدوف وباقي الشلة غير الشرعية للقضبان الرخوة لأسهم عملوا على تخفيض ثمنها؟ طن ماكدويل، وهو يخرج من جرار مكتبه رزمة من الأوراق، ويلقيها بين يدي بانكو.
تصفح بانكو الوثائق وهو ينتفض دهشة واستغرابًا ويعطيها أولاً بأول لماكبث ليفحصها هو الآخر.
- كيف أتيت بها، يا دين الكلب؟ ألقى بانكو، وهو يفلت ضحكة متقطعة.
- هل يكفي هذا ذهنك المعقد؟ سأل المحامي الشيطاني بلهجة واثقة.
- لم أجد ما يدين آنجوس أو روس، همهم ماك، وهو يعيد الوثائق لماكدويل.
- آنجوس وروس سأرسل إليهما هذا، كشف المحامي الشيطاني، وهو يضغط على جرس.
انفتح الباب، ودخل عملاقان أسودان.
- هل كل شيء على ما يرام، يا إدي، يا بوبي؟ سألهما ماكدويل.
- كل شيء على ما يرام، يا سيد ماكدويل، أجاب إدي.
- إلا أن... تردد بوبي.
- إلا أن ماذا، يا بوبي؟
- إلا أن...
- ماذا، يا قحبة الخراء؟
- الرصاصة، هل نطلقها على ظاهر اليد أم في باطنها؟
- في قفاها، يا قحبة الخراء!
- فهمنا، يا سيد ماكدويل.
- ماذا؟
- في قفاها، يا سيد ماكدويل.
- هيا! إلى العمل، يا قحبة قحبة الخراء!
- نحن في خدمتك، يا سيد ماكدويل.
انسحب العملاقان الأسودان، وأغلقا الباب من ورائهما.
- خلال كل هذا الخراء، أوضح ماكبث، كنت أفكر في المتعية كنظام اقتصادي يرضي كل طبقات المجتمع. سيكون هذا فيما بعد، اليوم الشوربة الشعبية، وغدًا الكافيار.

* * *

في الجلسة المغلقة لأعضاء الحزب الديمقراطي، تعب ماك من الابتسام، لمعلمته داناوي دانكان، ليدي آنجوس وروس المضمدتين، لرؤوس كل الخصوم المؤيدة لترشيح الرئيسة المديرة العامة التربع على عرش المكتب البيضاوي، المتثاقلة بوجوهها المنتفخة المحمرة كأرداف الدجاج المشوي، تعب من الابتسام لكلاب مانهاتن. الشِّعر ما هو؟ تساءل ماكبث، كلب ينبح. ذكره النباح بأمه، تلك الساحرة. بالأحرى جعله النباح يسبها في سره، فهو لا ينساها. ارتبطت ذكراها برؤياها، صناعة المعجزات هي هذا، عَقد جائر مع الغيب. سمع آنجوس، وهو يستدر شفقة معلمته: ما أنا سوى أمريكي فقير، يا سيدتي! هذا الملياردير أمريكي فقير، يا للصفاقة! والفقراء بالفعل؟ دعهم يموتون! لكنه سيسقيهم من شوربته، فيملأ معدهم بالخراء، ويتركهم بعد ذلك يخرون على الرئيسة المديرة العامة. مع معلمتك ستعلو، تنبأت حفيدة الشيطان أمي. سأعلو على هيكلها العظمي! السلطة ما هي؟ كلب ينبح. الكلاب في مانهاتن سيدة كل شيء، سلطتها الشِّعر، والشِّعر سلطتها، لهذا كان عزرا باوند كلبًا. توقف عن الابتسام، الوقت الذي يضغط فيه صدغيه، ثم التفت إلى معلمته، وعاد يبتسم لها. هذه المرة سيأخذها بعد الاجتماع مباشرة إلى الهيلتون، وسيمتطيها بإرادته. لأول مرة كان يشتهيها. الجنس ما هو؟ كلب ينبح. نبح، فاستدارت بعض الرؤوس التي ابتسم لها. غمز بعينه، فضحكت معلمته تحت أصابعها لئلا يراها أحد. كان يشتهيها كماخور. الماخور ما هو؟ كلب ينبح. ماما! ماذا؟ كلب ينبح. دعه ينبح. لهذا لم يكن يحب الكلاب، لقسوة قلب أمه عليها. لم يكن يحب الشِّعر، لم يكن يحب السلطة، لم يكن يحب الجنس. كان يتخيل فخذي صديقة أمه في بيت الماء، ماذا كان اسمها؟ نسي اسمها ولم ينس فخذيها، وكان يبقى طويلاً في بيت الماء هربًا من سلطة زوج أمه، وكان يحاول أن يتلو قصيدة "القط" عن ظهر قلب. ماما! ماذا؟ كلب ينبح. دعه ينبح، دعه يموت. دعهم يموتون. المتعية. سيؤسس نظامًا ماليًا يجعل الكلاب على كافة أجناسها تنبح من التهلل والابتهاج. ماما! ماذا؟ أنا أنبح. لِمَ لا تنبح؟ انبح، يا كلبي الصغير! انبح، انبح، انبح...
- ماكبث! ما بك؟ نبرت داناوي دانكان.
نظر ماك من حوله، لم يكن أحد هناك.
- انفض الاجتماع، ألا تبارك لي؟
- تم ترشيحك؟
- بالإجماع.
- سنذهب إلى الهيلتون في الحال.
- إلى الهيلتون! لماذا الهيلتون؟
- لأضاجعك.
- هذا كلام جديد أسمعه لأول مرة.
- أريد أن أضاجع رئيسة الولايات المتحدة القادمة.
- لا تنبح ككلاب مانهاتن، يا ماكبث!
- داناوي، أتوسل إليك!
- أنا تعبة، ثم كل هذا يوقف شهواتي.
- داناوي!
- لا أريد أن أفقد أعز صديق لدي.
- تقولين تفقدينني وأنت تجدينني؟ لو كنت ملكًا لاعتزلت العرش من أجلك، ولو كنت رئيسًا مديرًا عامًا لاعتزلت الوظيفة من أجلك، ولو كنت كاتبًا لاعتزلت العالم من أجلك.
- لا تحدق في نهديّ هكذا كالكلب المسعور، لست مغنية للنغم الأعلى في الموسيقى، أنا لا أغني منهما.
- بعد ذلك، سنذهب إلى الأوبرا.
- كفى!
تخيلها وهي تضرب على البيانو بيدي حصان وتميل فوق أصابع العاج بوجهها الناعم. الموسيقى ما هي؟ كلب ينبح.



يتبع المِصراع الأول القسم الثاني