استشراف ما بعد الانتخابات


خليل كلفت
الحوار المتمدن - العدد: 4494 - 2014 / 6 / 26 - 21:07
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     


تتشابك عوامل متوقعة على أساس الحاضر والماضى مع عوامل مجهولة فى رحم الغيب لتضفى غموضا شديدا على المستقبل الذى نتصوره جنة حينا وجحيما أحيانا. فهل هناك مجال لتناول مشروط على أساس استمرار عوامل متوقعة مع الاحتياط بعوامل مجهولة يمكن أن تقلب المشهد رأسا على عقب؟
وهناك عاملان: الوضع التاريخى قبل ثورة يناير وموجاتها، والوضع القائم بعدها بعوامل متناقضة متشابكة. وقبل الثورة وبعدها برزت أهداف وشعارات التغيير، ولكنْ ما يزال المجهول هو الإطار العام لتحقيق الأهداف النبيلة التى أعلنتها الثورة: عيش، حرية، عدالة اجتماعية، كرامة إنسانية.
فهل يرجع هذا إلى حقيقة أننا إزاء ثورة شعبية عفوية ومفاجئة؟ ولكن كل الثورات الشعبية كانت عفوية ومفاجئة لقوى الثورة وقوى الثورة المضادة على السواء. والسياق التاريخى المتمثل فى ما إذا كانت هذه ثورات شعبية خالصة أم ثورات شعبية فى سياق ثورة اجتماعية-سياسية، هو ما يحدد طبيعة ومسارات الثورة الشعبية.
والثورة الاجتماعية-السياسية ذاتها، وهى الأهم، عفوية، بحكم التطور العفوى للسوق، وهى ثورة من أسفل ولكنْ بقيادة الرأسمالية الناشئة الصاعدة، تماما كالثورة الشعبية التى يثور فيها الشعب من أسفل احتجاجا على أوضاعه الاقتصادية الاجتماعية فى ظل الرأسمالية الانتقالية أو المستقرة.
والثورة الاجتماعية-السياسية عملية تاريخية من التطور الاقتصادى الاجتماعى السياسى البطيء، وفى سياقها تنشأ علاقات إنتاج جديدة وطبقات اجتماعية جديدة تكون استغلالية أو واقعة تحت الاستغلال، كالطبقة الرأسمالية والطبقة العاملة، وسرعان ما يحتدم الصراع ويتطور بين هذه الطبقات الجديدة حتى قبل زوال النظام الاجتماعى السابق.
ولا تستولى قوى الثورة الشعبية على سلطة الدولة بل تستولى عليها الطبقة الرأسمالية الصاعدة، أو قيادة جديدة تحل محل القيادة السابقة لها، أو تبقى فى أيدى هذه الطبقة بنفس قيادتها السابقة.
وتمثلتْ مشكلة ثورة يناير، مثل غيرها من الثورات الشعبية الخالصة، أو حتى المرتبطة بتطور اقتصادى اجتماعى جذرى، فى أن القوى الشعبية تنجذب لثورة توقعات أوسع من كل ما تسمح به مثل هذه الثورات. وعلى سبيل المثال، تصور الشعب الفرنسى أثناء ثورة 1789 أنه سيتمتع بالحرية والإخاء والمساواة، غير أن الحلم الشعبى تحول إلى كابوس الاستغلال والفساد والاستبداد والحروب والاستعمار. وكان من المنطقى أن يقود تحطُّم ثورة التوقعات إلى الغضب والإحباط واليأس وفقدان الاتجاه تماما.
وتُعيدنا المسارات الفعلية لتطورات ثورة يناير بمختلف موجاتها إلى إدراك الواقع الفعلى لحالتنا، أىْ إلى إدراك أن الإطار الحقيقى لشعارات وأهداف ثورة يناير لا يزيد عن إطار تحقيق مستويات من الديمقراطية من أسفل: أىْ مستويات معيشة مختلفة يمكن أن نسميها بالعيش بمعنى الخبز، والعدالة الاجتماعية، والكرامة الإنسانية، ومستويات من الحقوق والحريات النسبية.
ويمكن تحقيق مثل هذه المستويات من طريقين: الأول، هو بناء أدوات ووسائل ومؤسسات الديمقراطية من أسفل وهذا ما لم يحدث نتيجة لانحراف قوى الثورة بتركيزها على ما يجرى فى مراكز السلطة بدلا من التركيز على ما يمكن تحقيقه من أسفل وعلى أوهام أن هدف الثورة يتمثل فى وصول قواها الشعبية إلى السلطة.
والطريق الثانى هو إدراك القيادة الطبقية الجديدة لضرورة تفادى أن يؤدى استمرار نفس الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية إلى ثورات شعبية جديدة، وإلى ما يسمَّى بثورة الجياع.
ومن المتوقع أن يتكامل الطريقان فلا مناص من أن يتواصل النضال الشعبى فى سبيل تحقيق أهداف الثورة، ولا مناص من أن تضع القيادة الجديدة فى برنامجها ضرورات تفادى الثورات عن طريق تدابير وإصلاحات مهمة فى مستويات المعيشة، وتفادى الحرب الأهلية بعد إطفاء نار بدياتها، واستئصال الإرهاب الإخوانى السلفى من الجذور. ويقتضى هذا شروطا منها مستويات معيشة أفضل، ومنها الحرية التى تسمح بالتعددية السياسية الحقيقية، وتسمح بالصراع الفكرى ضد الفكر الماضوى الرجعى، ومنها الحد من معدل الاستغلال الاقتصادى ومن معدلات الاستبداد والفساد.
على أن تأمين مستقبلنا لا يقتصر على مواجهة إرهاب الإسلام السياسى، بل يرتبط بالتصنيع الجذرى والتحديث الجذرى بكل أثرهما على الزراعة والأمن الغذائى، والتجارة، والسياحة، والبطالة المزمنة، والاستقلال الحقيقى لمصر بدلا من التبعية الاقتصادية التى هى جذر كل التبعيات الأخرى.
ويريد البعض إقناعنا بأن ضمانات الخروج من الأزمة تتمثل فى الدستور الجديد ومجلس النواب العتيد. ولكننا نعلم أن الدستور مهما كان معقولا لا يضمن فى حد ذاته شيئا، وأن دور البرلمان فى تاريخ مصر الحديثة لا يعدو أن يكون دور ملحق تشريعى للسلطة التنفيذية، سيدة كل السلطات الأخرى.
وتتمثل مشكلة كبرى فى غياب الثقة بين قطاع واسع من قوى الثورة والقيادة الجديدة لسلطة الدولة بمبالغات متبادلة تقوم على نظرية المؤامرة: إذن ثقوا أيها الشباب فى تأثير ثورة يناير، على كل حكم حالىّ أو لاحق، على الأقل فى المدى القصير. وهذه الثقة شرط من شروط النضال اللاحق فى سبيل تحقيق أهداف الثورة. أما الإحباط واليأس فلا يمكن إلا أن يدمِّرا شبابنا وبالتالى مستقبلنا.