ضجة حول مقال للدكتور نصار عبد الله عن ظاهرة أطفال الشوارع


خليل كلفت
الحوار المتمدن - العدد: 4492 - 2014 / 6 / 24 - 19:25
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان     

ضجة حول مقال للدكتور نصار عبد الله
عن ظاهرة أطفال الشوارع
بقلم: خليل كلفت
منذ عدة أيام قامت القيامة فى القاهرة وباقى مصر ولم تقعد؛ والسبب مقال نشرته جريدة "المصرى اليوم"، بتاريخ 20 يونيو 2014، للشاعر والناقد والأكاديمى المعروف الدكتور نصار عبد الله، أستاذ الفلسفة الأخلاقية والسياسية بجامعة سوهاج، حول الحل الناجع لمشكلة أطفال الشوارع؛ بزعم أنه يُحرِّض على تطبيق "الحل البرازيلى" فى مصر، ويتمثل هذا الحل فى إبادة مزعومة لهؤلاء الأطفال لتنظيف العاصمة والمدن الأخرى منهم. وتتراوح أهداف الحملة ضد الدكتور نصار بين منعه من الكتابة ومحاكمته وحتى قتله، وقد تم بالفعل إعدامه معنويا بهجوم كاسح ضده باعتباره عدوًّا للبشر وقاتل أطفال وملعونا ومنبوذا إلى يوم الدين.
وقد دافع قليلون جدا عن الدكتور بزعم أن مقاله خالٍ من أىّ مبرر لمثل هذا الاتهام الرهيب أو بزعم أنه لا يقصد ما فهمه منتقدوه. وجدير بنا أن نبدأ بقراءة المقال بعناية تامة، وضمير يقظ لنرى ما إذا كان الدكتور قد "كثرت سكاكينه" لأنه وقع فى ارتكاب خطايا وكبائر، أم لأنه "كثرت سكاكينه" بسبب الحالة العقلية الهمجية السائدة الآن فى مصر، دون أن يقع فى ارتكاب أىّ خطأ، أم ببساطة لأن مقاله أوحى لمنتقديه بشيء رهيب مفزع بسبب كتابته المضطربة رغم أنه أستاذ الفلسفة، وبالذات الفلسفة الأخلاقية والسياسية؟ ولكنْ لنقرأ المقال أولًا بعناية تامة وبضمير يقظ دون الاستسلام لحالة الهستيريا الرهيبة الحالية ليس عن حق بل دون شك عن غير حق.
وها هو نص المقال كاملًا كما جاء فى "المصرى اليوم" قبل حذفه (نقلا عن الموجز 20 يونيو 2014):
على مدى عقود متوالية كان أطفال الشوارع مصدرا للإزعاج لسكان مدينة برازيليا ولغيرها من المدن البرازيلية الكبرى، وفى التسعينيات من القرن الماضى تحول مصدر الإزعاج إلى مصدر للرعب، فقد تزايد عدد أطفال الشوارع تزايدا كبيرا، وتزايدت بالتالى معدلات الجرائم التى يرتكبونها وفى مقدمتها جرائم السرقة والدعارة والاغتصاب التى يترتب عليها فى معظم الحالات إصابة الضحية بالإيدز الذى أصبح متفشيا بينهم بنسبة تتجاوز ال- 90%، وباختصار فإن وضع برازيليا فى تسعينيات القرن الماضى كان شبيها بوضع القاهرة الآن، بل إن التشابه فى حقيقة الأمر كان أكثر بكثير من ذلك حيث كان الوضع الاقتصادى البرازيلى فى مجمله شبيها بالوضع المصرى الراهن، فالديون الخارجية للبرازيل كانت قد وصلت إلى أرقام قياسية، ومعدلات البطالة تتصاعد عاما بعد عام، والفساد متغلغل فى كل أنحاء الجهاز الحكومى، والأصوات المنادية بتأهيل أطفال الشوارع وإعادة إدماجهم فى المجتمع يعلم أصحابها جيدا أن مثل هذه العملية عالية التكلفة إذا ما قورنت بتكلفة إتاحة فرص العمل للعاطلين من غير أبناء الشوارع، فضلا عن أنها غير مضمونة النتائج!، ومن ثم فإن الذى ينبغى أن تركز عليه الدولة فى ظل الظروف الاقتصادية الصعبة هو إتاحة فرص العمل للعاطلين حتى لا ينضم أطفالهم إلى جيش أطفال الشوارع!!. ونتيجة لهذه الاعتبارات فقد لجأت أجهزة الأمن البرازيلية فى ذلك الوقت إلى حل بالغ القسوة والفظاعة لمواجهة ظاهرة أطفال الشوارع يتمثل فى شن حملات موسعة للاصطياد والتطهير تم من خلالها إعدام الآلاف منهم بنفس الطريقة التى يجرى بها إعدام الكلاب الضالة توقيا للأخطار والأضرار المتوقعة منها!!... كانت سائر قوى المجتمع البرازيلى تدرك أن ما قامت به الشرطة هو جريمة مكتملة الأركان، وأن هؤلاء الأطفال هم فى حقيقة الأمر ضحايا لا جناة، وأن من البشاعة بمكان أن يعدموا بناء على جرائم لم يرتكبوها،.. كان الجميع يدركون ذلك، لكنهم - جميعهم تقريبا- غضوا أنظارهم عما قامت به الشرطة لأنهم جميعهم لهم مصلحة فيما قامت به!!،.. القيادة السياسية لم تعلن رسميا أنها تؤيد ما قامت به الشرطة، لكنها لم تحاول أن تقدم مسؤولا أمنيا واحدا إلى المحاكمة، لأنها تعلم أن البديل لإعدام أطفال الشوارع هو إعادة تأهيلهم وهو ما يستلزم ميزانية ضخمة سوف تكون بالضرورة على حساب توفير فرص العمل للمواطنين الذين فقدوا وظائفهم وهو ما يهدد خطتها للإصلاح الاقتصادى بالكامل للفشل!، والمواطنون العاديون - حتى أولئك الذين يستنكرون ظاهريا حملات الإعدام - يشعرون فى قرارة نفوسهم بمدى جدية برنامج الحكومة للإصلاح، ويشعرون بالارتياح لاختفاء أطفال الشوارع من طرقات المدن الرئيسية التى أصبح بوسعهم الآن أن يخرجوا إليها هم وأولادهم وبناتهم بدون خوف!!، ووسائل الإعلام التى راح بعضها يندد بالحملات لا تفتأ تذكر المواطنين فى الوقت ذاته بالروح العدوانية لأطفال الشوارع وبالجرائم التى ارتكبوها والتى سيرتكبون المزيد منها بغير شك لو أنهم تركوا وشأنهم!!، أما جمعيات حقوق الإنسان التى دافعت دفاعا مستميتا عن حق أطفال الشوارع فى الحياة فقد اتهمها الكثيرون بأنها تكيل بمكيالين وأنها لا تراعى حقوق المواطنين العاديين فى الحياة الآمنة!!..
وهكذا أفلح الحل البرازيلى فى تخليص الشوارع الرئيسية للمدن الكبرى من أطفال الشوارع ودفع من تبقى منهم إلى الانسحاب للمناطق العشوائية، غير أن هذا النجاح لا يعزى إلى القسوة التى انطوى عليها الخيار البرازيلى، ولكنه يعزى أولا وقبل كل شىء إلى توافر إرادة الإصلاح لدى القيادة السياسية البرازيلية التى حاربت الفساد بكل قوة والتى وفرت الملايين من فرص العمل للبرازيليين، واستطاعت من ثم أن تتحول من اقتصاد موشك على الإفلاس إلى واحد من أهم قوى نظم الاقتصاد العالمى، وهذا هو الدرس الذى ينبغى أن يعيه كل من يحاول أن يتعلم شيئا ما من التجربة البرازيلية.
انتهى مقال الدكتور نصار عبد الله، فلنبدأ، بعد قراءته المتأنية، قراءة أخرى بمعنى فهم آخر محتمل، لنعرف أين - على وجه التحديد - كان مكمن الخطأ المحتمل الذى وقعت فيه كتابةُ الكاتب التى أوقعت معها فيه قراءةَ القارئ.
ويشتمل المقال على وصف للظاهرة فى البرازيل، وعلى تشبيه ما يحدث فى مصر بها.
وفى مجال وصف هذه الظاهرة يقول الكاتب إن وضع برازيليا فى تسعينيات القرن الماضى كان شبيها بوضع القاهرة الآن، ليس فقط من حيث ظاهرة أطفال الشوارع، بل لأن الوضع الاقتصادى البرازيلى كان شبيها بالوضع المصرى الراهن: بلغت الديون الخارجية للبرازيل أرقاما قياسية، وتصاعدت معدلات البطالة عاما بعد عام، وتغلغل الفساد فى كل الجهاز الحكومى. ويؤكد أنه فى تسعينيات القرن العشرين تحولت ظاهرة أطفال الشوارع من مصدر إزعاج لسكان مدينة برازيليا وغيرها من المدن البرازيلية الكبرى، إلى "مصدر رعب"، لأنه مع التزايد الهائل لأعدادهم تزايدت معدلات الجرائم التى ارتكبوها وفى مقدمتها جرائم السرقة والدعارة والاغتصاب التى يترتب عليها فى معظم الحالات إصابة الضحية بالإيدز الذى أصبح متفشيا بينهم. ويكتفى بتشبيه هذه الظاهرة فى مصر بنظيرتها فى البرازيل، دون أىّ وقفة عند هذه الظاهرة فى مصر ولا عن برنامج مقترح لحلِّها.
ونفهم من هذا المقال، الذى جاء دون شك كاستجابة لمقترحات تُلحّ على حلّ هذه الظاهرة فى مصر، أن هدفه الأساسى يتمثل فى الدعوة إلى أن نستفيد هنا بدرس "الخيار البرازيلى" الذى نجح، فى رأيه، هناك.
ومن اللافت للنظر منذ البداية أن الكاتب يتحدث عن حلَّيْن لمشكلة أطفال الشوارع ويقدم كل حل منهما تحت نفس الاسم "الحل البرازيلى" فهناك الحل البرازيلى "الأمنى" المتمثل فى قتل هؤلاء الأطفال وإبادتهم، وهناك الحل البرازيلى "الاجتماعى" المتمثل فى التنمية البشرية فى سياق التنمية المستدامة.
فى المقال إذن فى الحقيقة صوتان: صوت "الحل البرازيلى الاجتماعى" الذى ينادى بتأهيل أطفال الشوارع وإعادة دمجهم فى المجتمع وهذه العملية عالية التكلفة وغير مضمونة النتائج، فى رأى الدكتور نصار، حيث يتمثل البديل، وفقا له، فى توظيف العاطلين عن العمل، وصوت "الحل البرازيلى الأمنى" الذى يستنكره الدكتور نصار ويحكم عليه بأنه "جريمة مكتملة الأركان".
ماذا نفهم من حديث الدكتور نصار، وفقا للصوت الاجتماعى؟ إنه يؤكد أنه كان على "دولة البرازيل"، رغم الظروف الاقتصادية الصعبة، أن تركز على توظيف العاطلين حتى لا ينضم أطفالهم إلى جيش أطفال الشوارع؛ وذلك بدلا من العملية العالية التكلفة المتمثلة فى تأهيلهم ودمجهم فى المجتمع. وهو يوحى بأن "دولة البرازيل" ركزت بالفعل على مدخل التوظيف فنجحت فى إلغاء البطالة أو فى الحد منها، ونجحت كذلك بالتالى فى القضاء على ظاهرة أطفال الشوارع أو فى الحد منها.
ورغم أن مدخل التوظيف يُسهم دون شك، وفى وقت واحد معًا، فى مواجهة مشكلة أطفال الشوارع، ومشكلة البطالة، ومشكلة الفقر، ومشكلات اجتماعية واقتصادية عديدة أخرى إلا أنه لم يكن من الملائم تقديم هذا المدخل على أنه "البديل" الوحيد لمعالجات أخرى عديدة يعرفها حتى أطفال الشوارع أنفسهم بحكم تجربتهم فى البرازيل وغير البرازيل. وهو يشيد ب "الخيار البرازيلى" المتمثل فى إرادة الإصلاح لدى القيادة السياسية البرازيلية، ومحاربتها بكل قوة للفساد، وتوفيرها الملايين من فرص العمل للبرازيليِّين، و "من ثم" تحوُّلها من اقتصاد موشك على الإفلاس إلى أحد أهم اقتصادات العالم اليوم، ويضيف الدكتور نصار هنا بالذات تأكيده، مختتما مقاله، "وهذا هو الدرس الذى ينبغى أن يعيه كل من يحاول أن يتعلم شيئا ما من التجربة البرازيلية"؛ فالدرس الذى يريد نصار أن نخرج به من التجربة البرازيلية يرتبط هنا بقوة بالإصلاح الاقتصادى، ومحاربة الفساد، والمواجهة الجذرية للبطالة عن طريق توظيف واسع النطاق.
ومن الواضح أننا هنا إزاء صياغات مضطربة ومعلومات غير دقيقة، فالباحث الذى يريد الحديث عن تحوُّل اقتصاد من حالة الفشل والإفلاس إلى حالة قوة اقتصادية عالمية يحصر سبب النجاح فى التوظيف. كما أن حديثه عن النجاح الاقتصادى يوحى بأن هذا الحل نجح بالفعل فى علاج مشكلة البطالة فحلّ محلها التوظيف، وبأن هذا التوظيف عالج مشكلة أطفال الشوارع وكأنه قضى عليها بشكل جذرى، رغم مليونين أو ثلاثة ملايين من أطفال الشوارع هناك فى الوقت الحالى. وإذا كان هذا يعنى أيضا أن التوظيف الكامل هو ما ينبغى التركيز عليه لحلّ مشكلة أطفال الشوارع، فلن يكون حل هذه المشكلة سوى مجرد أثر من آثاره الجانبية، وكأن التوظيف الذى لا مناص من أن يستغرق زمنا طويلا يعنى ترك مشكلة أطفال الشوارع للزمن كبديل عن المحاولة من جميع المداخل ومن مختلف الجهات وبمختلف المحاولات والمعالجات على أمل وحلم الحد منها.
أما الصوت الآخر فى المقال فهو صوت "الحل البرازيلى الأمنى" الذى كان، فى رأى الدكتور نصار عبد الله، يحبِّذ وينفِّذ حلًّا يتمثل فى لجوء أجهزة الأمن البرازيلية إلى شن حملات موسعة للاصطياد والتطهير تم خلالها إعدام الآلاف منهم، ويرى الكاتب أن هذا الحل كان "بالغ القسوة والفظاعة"، ويشبِّهه ب "طريقة إعدام الكلاب الضالة"، وأنه كان يمثل "جريمة مكتملة الأركان"، لأن هؤلاء الأطفال كانوا "ضحايا لا جناة"، ويرى نصار أنه كان "من البشاعة الإجرامية إعدامهم بناء على جرائم لم يرتكبوها".
ثم يؤكد أن البرازيليِّين أدركوا جميعًا بشاعة ما قامت به الشرطة ويتهمهم بالسكوت على "جريمة مكتملة الأركان" ارتكبتها الشرطة. ويفسِّر الدكتور نصار هذا السكوت ب "مصلحتهم" فيما قامت به الشرطة. ولتوضيح طبيعة هذه "المصلحة" لعموم البرازيليِّين يوجِّه اتهامًا رهيبًا مُنْكَرًا إليهم، كشعب، فهو يرى أن المواطنين البرازيليِّين العاديِّين استنكروا حملات الإعدام "ظاهريا"، وهكذا يحكم على شعب كامل بأن استنكاره لحملات الإعدام كان "ظاهريا" لا غير، مُعلِّلًا هذا الزعم بزعم آخر وهو أنهم كانوا يشعرون بأنهم ضربوا عصفورين بحجر واحد، فقد أسعدهم برنامج الحكومة للإصلاح، كما أسعدهم، فى الوقت نفسه، واقع أنهم ارتاحوا من أطفال الشوارع باختفائهم حيث صار بوسعهم أن يخرجوا إلى الشوارع هم وأولادهم وبناتهم دون خوف. ومعنى هذا أن الشعب البرازيلى "الانتهازى العدوانى" أسعده "الحل البرازيلى الاجتماعى" الإصلاحى، كما أسعده "الحل البرازيل الأمنى" أىْ أيضا أسعدته حملات الإعدام. وهذه نتيجة منطقية لاضطراب واختلال تعبيراته وصياغاته ولجهله بالموضوع الذى تصدَّى دون استعداد فكرى لتناوله.
ويتهم الدكتور نصار بعض وسائل الإعلام بأنها رغم تنديدها بالحملات، واصلت التنديد بعدوانية أطفال الشوارع وبالجرائم التى ارتكبوها والتى كان يمكن أن يرتكبوا المزيد منها لو تركوا وشأنهم. ويشير، بسخرية واستياء، إلى اتهام كثيرين لجمعيات حقوق الإنسان بأنها دافعت دفاعا مستميتا عن حق أطفال الشوارع فى الحياة متجاهلةً حقوق المواطنين العاديِّين فى الحياة الآمنة التى يعكِّر صفوها هؤلاء الأطفال.
وفى سياق الاضطراب المتواصل لصياغاته يؤكد أن القيادة السياسية لم تعلن رسميا أنها تؤيد ما قامت به الشرطة، ولم تحاول أن تقدم مسؤولا أمنيا واحدا إلى المحاكمة، ناسيًا أن الشرطة أو أجهزة الأمن البرازيلية تابعة لهذه القيادة السياسية فهى مسئولة بالتالى مثل كل دول العالم التى مارست حملات الإعدام أو لزمت السكوت أمام ممارستها، كما تجاهلت ضرورة العمل المتواصل فى سبيل معالجة هذه ظاهرة أطفال الشوارع. فلماذا اتخذت القيادة السياسية هذا الموقف الإجرامى؟ يزعم الدكتور نصار أن هذا يرجع إلى أن البديل لإعدام أطفال الشوارع هو إعادة تأهيلهم تفاديا للميزانية الضخمة لإعادة التأهيل والتى ستكون بالضرورة على حساب توفير فرص العمل للمواطنين الذين فقدوا وظائفهم (وكأن العاطلين عن العمل كانوا موظفين قبل بطالتهم، أو كأن التوظيف الواسع النطاق بدون تكلفة!) الأمر الذى يهدد خطة الإصلاح الاقتصادى للفشل! صياغات غريبة تعنى أن الدولة لجأت إلى إعدام أطفال الشوارع لارتفاع تكلفة إعادة تأهيلهم ودمجهم فى المجتمع، لأن تكلفة الإعدام أرخص، ولأن النهوض الاقتصادى سوف يمنع ظهور أطفال الشوارع من جديد.
فماذا يمكن أن نستنتج من حديث الدكتور نصار عبد الله عن "الحل البرازيلى الأمنى"، وفقا لما كتب وبعيدا عن التفتيش فى مكنون صدره عن نوايا شريرة لم يفصح عنها على كل حال؟ لقد رأينا أنه يرفض بأقوى العبارات استيراد "الحل البرازيلى الأمنى" بوصفه جريمة. ومن الواضح أن صياغاته المضطربة أدخلته فى متاهة فأدخل منتقديه فيها فسارعوا بدم بارد إلى تكفيره وتجريسه واغتياله معنويا، مع أنهم لم يُظهروا فى يوم من الأيام مثل هذا الحماس الشديد إزاء ظاهرة أطفال الشوارع ذاتها، لأنهم كما قال عنهم الروائى والناقد والأكاديمى الدكتور سيد الوكيل مثقفو "تيك أواى" لا وقت لديهم لإنعام النظر فيما يقرأون، تماما مثل الدكتور نصار عبد الله الذى لم ينعم النظر فيما يقرأ عن البرازيليِّين ولا فيما يكتب للمصريِّين.
ولكى يزيد الطين بلة، ويرش الملح على الجرح، يختتم الدكتور نصار مقاله بقوله: "وهكذا أفلح الحل البرازيلى فى تخليص الشوارع الرئيسية للمدن الكبرى من أطفال الشوارع ودفع من تبقى منهم إلى الانسحاب للمناطق العشوائية". فما هو الحل البرازيلى المقصود هنا: الأمنى أم الاجتماعى؟ لقد تحدث بالفعل عن حلَّيْن ومن حقنا أن نسأل: أيهما تعنى فقد أربكتنا رغم كل ما قلتَه ضد الحل الأمنى؟ وسرعان ما يردّ الدكتور: "هذا النجاح لا يعزى إلى القسوة التى انطوى عليها الخيار البرازيلى"؛ وهكذا يتشوش مقاله أكثر فهناك إذن حل أو خيار برازيلى واحد ينطوى على جانبين: جانب القسوة التى لا يُعْزَى إليها "النجاح البرازيلى" وجانب الإصلاح الاجتماعى الاقتصادى الذى يُعْزَى إليه هذا النجاح. فكيف يمكن أن يُعْزَى "النجاح البرازيلى" إلى جانب الإصلاح وحده ما دام أنه كان للقسوة دور لأنها جاءت بنتائج سريعة كما يُوحِى الكاتب لاختلال تعبيراته. وعندما يُطْلِق الدكتور صيحته الأخيرة، الختامية: "وهذا هو الدرس الذى ينبغى أن يعيه كل من يحاول أن يتعلم شيئا ما من التجربة البرازيلية"، فإننا نجد أنفسنا إزاء كاتب ارتبك فأربكنا معه وجعلنا نظن أنه فاشىّ كاره للبشر وقاتل أطفال، متسببًا ومُسْهمًا إلى حد كبير فى الحملة الجماعية الهمجية الهستيرية التى اغتالته معنويا. على أن مسئوليته الجزئية عن هذه الحملة المسعورة ضده بسبب تظاهره المتعالم بالمعرفة الدقيقة بأحوال البرازيل بدلا من الحديث المستفيض، إن شاء، عن أطفال الشوارع فى مصر إنْ كان مهتمًّا حقا بقضيتهم، لا تنفى مسئولية نخبة كبيرة من المثقفين عن هذه الحملة التكفيرية ضده، عن قتل عصفور مغرد حاول التحليق بلا أجنحة دون أن يستحيل فجأة إلى قاتل أطفال منبوذ ومُطارد بقضايا وأحكام لأنه سبح فى بحار تُغرق من لا يعرفها. والله ما كان ينبغى لمثقف له ضمير أن يتورط فى الاغتيال المعنوى لشخص لأنه لا يعرف ماذا يكتب وكيف يكتب ولماذا يكتب، وهذه مأساة لأننا نتحدث هنا عن أديب وأستاذ فلسفة، وهو شخص يعرفه المثقفون جميعا فى مصر والعالم العربى، ويعرفون جيدا أنه لا يتأبَّط شَرًّا. ولا تفسير لعدوانية المثقفين سوى حاجتنا الحالية إلى "جنازة نشبع فيها لطما"، ولثقافة التيك أواى والاستهواء دون أن يقرأوا أو يفهموا جيدا.
وبالطبع فإنه لا أحد يُنكر وجود ظاهرة أطفال الشوارع فى كل المدن، وبالأخص المدن الكبرى، فى كل أنحاء العالم، وهناك تقديرات بأن أعدادهم تصل إلى ما بين مائة مليون ومائة وخمسين مليون طفل متشرد فى شوارع العالم بل تُضاعف تقديرات أخرى هذه الأرقام، ولا أحد ينكر وجود العنف والقتل ضدهم فى مناطق وبلدان عديدة، كما أنه لا يمكن إنكار أن البرازيل شهدت بدورها ظاهرة أطفال الشوارع وحملات القتل ضدهم دون أن تحتكر هذه الجريمة. ولا عجب فى هذا حيث يمثل التفاوت بين الأغنياء والفقراء فى البرازيل، بسكانها الذين يبلغون 190 مليون، أحد أعلى المعدلات فى العالم، حيث يستحوذ 20 فى المائة من السكان على حوالى 60 فى المائة من الدخل، رغم أن البرازيل صارت خامس أكبر اقتصاد فى العالم. ولا عجب فلا يمكن أن ينجو بلد رأسمالى من أمريكا غربا إلى الياپان شرقا مرورا بأورپا الغربية والشرقية وروسيا من هذه الظاهرة، فهى ظاهرة رأسمالية بامتياز حيث استفحلت فى ظل الرأسمالية مع أنها كانت ملحوظة حتى فى الإمپراطورية الرومانية.
وأطفال الشوارع، وفقا لليونيسيف، أولاد وبنات تحت سن 18 يعيشون فى الشوارع أو فى البيوت المهجورة أو فى الأراضى البور، وهناك أيضا شباب الشوارع وهم الذين تزيد أعمارهم عن سن 18. ويعيش أطفال الشوارع الذين تتعدد وتتنوع أسباب تشردهم فى أوضاع رهيبة إلى حد أن متوسط العمر المتوقع عند ولادة طفل من هؤلاء الأطفال يقلّ عن 18 سنة. ويمكن القول إن تشرُّد أطفال الشوارع يرجع إلى تداعيات مختلف أشكال الفقر المادى والروحى فى مختلف نواحى الحياة. وربما بلغت أعدادهم ملايين فى مصر. أما العلاج فبالغ الصعوبة لأن القضاء على الفقر بالغ الصعوبة أصلا حيث يزداد الأغنياء غنًى والفقراء فقرا فى المجتمع الرأسمالى المتقدم والتابع.
ولعل الاستشهاد التالى من كتاب "عالم جديد" تأليف فيديريكو مايور و چيروم بانديه، وترجمة: خليل كلفت و على كلفت، دار النهار بيروت 2003 بالتعاون مع اليونيسكو، أن يكون مفيدا هنا لأنه، رغم أن الأرقام الواردة فيه قد تقادمت بسرعة مفزعة، يلقى الضوء على سياق ظاهرة أطفال الشوارع فى العالم، من حيث الأسباب والنتائج وسُبُل المعالجة:
منذ وقت مبكر مثل 1986، قدر اليونيسيف أن أكثر من ثلاثين مليون طفل يعيشون فى الشوارع. ويرتفع عددهم كل يوم، بسبب الهجرة من الريف، والنمو الوحشى للمدن، وتفكك الهياكل الأسرية التقليدية وتفشى الأشكال المطلقة للفقر. وتؤكد أحدث تقديرات اليونيسيف ومنظمة الصحة العالمية وجود 100 مليون من أطفال الشوارع، منهم 40 مليونا فى أمريكا اللاتينية، ومن 25 إلى 30 مليونا فى آسيا، و10 ملايين فى أفريقيا. وعلى العكس من فكرة سائدة فإن أطفال الشوارع ليسوا بالضرورة أيتاما أو هاربين من منازل أسرهم. فبعضهم لهم آباء و/أو أمهات ومسكن، غير أنه لا مناص فى كثير من الأحيان من أن تقيم أسر المهاجرين فى مدن الصفيح حيث مساحة المسكن محدودة بصورة خاصة. ويجد الأطفال أنفسهم فى الشارع، مطارَدين بالبؤس، أو المعاملات السيئة، أو سوء المعاملة الجنسية، أو يلقيهم آباؤهم و/أو أمهاتهم على الأرصفة للتسول.
وتمثل معاناة أطفال الشوارع أحد التجليات الأكثر فظاعة وظلما للفقر والحرمان. فأطفال الشوارع هم الضحايا المجهولو الأسماء للَّامبالاة المعممة، وهم مرغمون على أن يعيشوا محرومين من كل أمن، وفى كثير من الأحيان فى أشد أحوال العوز، وبدون إمكانية للالتحاق بالمدرسة أو بعالم العمل. وفى كثير جدا من الأحيان، يتجهون إلى المخدرات، وبصورة خاصة إلى استنشاق المذيبات المسببة للهلوسة مثل الغراء، بآثاره المرضية الخطيرة جدا على آليات المخ. ويسهم إدمان المخدرات فى المزيد من تهميشهم ويمثل خطرا بالغا على صحتهم خاصة وأنه ليس لديهم أى قدرة على الحصول على الخدمات الصحية. ويكون عليهم أن يواجهوا مخاطر جسيمة: سوق البغاء، عصابات المخدرات، وتجعلهم المنظمات الإجرامية ضحاياها المفضلين أو تستخدمهم كأدوات. ويمكن أن ينتهى بهم الأمر إلى الإعدام على أيدى قتلة مأجورين أو على أيدى "فرق الموت"، الذين تدفع لهم عادة جمعيات غير رسمية لتجار أو رجال أعمال، يسعون إلى "التنظيف اجتماعيا" لوسط المدينة وأحياء الأعمال أو التسويق. وتفرض نفسها إجراءات لحل مشكلة أطفال الشوارع، لأنه بدون ذلك - كما تشدد سوزانا أنيللىSusanna Agnelli فى التقرير الموجه إلى اللجنة المستقلة بشأن المسائل الإنسانية الدولية، فإن "عددهم سوف يرتفع بالتناسب مع نمو المدن الكبرى، وإحباطهم وما يولده من عنف بالتناسب مع عوزهم الشديد".
وعلى الحكومات، لكى توسع نطاق عملها إلى الحد الأقصى، أن تبذل قصارى جهدها من أجل التطبيق الملموس لأحكام الاتفاقية الخاصة بشئون الطفل، التى تم التوقيع عليها فى تشرين الثاني/نوڤ-;-مبر 1989 وتم التصديق عليها فى أيلول/سپتمبر 1990، ومن أجل علاقات بناءة بصورة أكبر لهذا الغرض مع القطاع الخاص ومع القطاع الذى لا يهدف إلى الربح، خاصة المنظمات غير الحكومية. ويجب أن تحقق المدارس الابتدائية المزيد من الاندماج فى المجتمع المحلى، وينبغى تقديم المزيد من التشجيع للاتصالات بين أولياء الأمور والمدرسين، وأن يتم، بصورة أفضل، إدراك دورها فى نمو الطفل وحفز أولياء الأمور. وينبغى العمل ليس بدافع الإحسان أو بالدافع الوحيد المتمثل فى المساعدة الإنسانية، إذ أنه لا يمكن أن يشكلا سوى معيارين عابرين، بل عن طريق قرارات سياسية ومعايير ملموسة فى الموازنات (0.05% من الناتج المحلى الإجمالى خلال ست سنوات على سبيل المثال)، بدعم من الپرلمانات والنقابات والجمعيات. وعلينا أن نعمل جميعا معا من أجل التغلب على هذا العار الجماعى.
والحقيقة أن التدريب المهنى لكل الأشخاص - العاملين الاجتماعيين، الأطباء، الممرضات، الموظفين، رجال الشرطة، إلخ - الذين من المحتمل أن يدخلوا فى صلة مع أطفال الشوارع، يجب أن يتضمن إلماما بهذه المشكلة. كما أن أطفال الشوارع يجب أن تتكفل بهم جمعيات وروابط الأحياء، والمنظمات غير الحكومية، والمؤسسات المختصة، مع الدعم المالى للحكومات والجهات المانحة الدولية. ويجب أن تتضاعف الأطر التى تتيح لهؤلاء الأطفال الخلاص من بؤسهم. كما يجب أيضا أن تكون هذه الأطر مصممة بذكاء: ينبغى أن نتفادى بقدر الإمكان الأطر المغلقة من نوع المدرسة الداخلية أو "الإصلاحية" التى من خلال تحويلها أطفال الشوارع إلى "منبوذين" - تجعل من الصعب جدا إعادة دمجهم بعد أن يكبروا. وكما أوضح فرانكلين روزفلت Franklin Roosevelt، فى خطابه فى فيلادلفيا فى 20 أيلول/سپتمبر 1940، "ليس بوسعنا دائما أن نُعِدّ المستقبل لأطفالنا، غير أن بوسعنا دائما أن نُعِدّ أطفالنا لمستقبلهم".
ولو أن الدكتور نصار عبد الله، أو غيره، جرؤ على ترويج حل إبادة أطفال الشوارع للتخلص من ظاهرتهم المتفاقمة فى مصر لكان علينا جميعا أن نقف ضده بكل قوة. وهو مسئول بالطبع عن الالتباس الذى خلقته صياغاته المضطربة والمتناقضة غير أن من غير الإنصاف أن نسارع إلى تكفيره إنسانيا ووصمه بأنه قاتل أطفال بالغ الشراسة، مع أنه شخص "غلبان" مثلنا جميعا ولا يضمر صدره أىّ شرّ مستطير. والحقيقة أن كل ما نجحنا فيه هو أننا شغلنا المصريِّين عن قضاياهم الحقيقية بقضية مفتعلة، قضية أن بيننا قاتل أطفال؛ وليتنا نُبْدِى معشار هذا الحماس لمعاناة الملايين من أطفال الشوارع فى القاهرة والإسكندرية وفى كل مصر.
24 يونيو 2014