ما بعد «حلحلة» الأزمات


امال قرامي
الحوار المتمدن - العدد: 4492 - 2014 / 6 / 24 - 08:27
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

أحدثت الثورة مجموعة من التحولات فى المجالات السياسية، والاجتماعية والاقتصادية، والثقافية مازال المحللون، والدارسون بصدد استقصاء تجلياتها، وتفكيك منظوماتها، ودراسة أثرها على الفرد، والجماعة، ومستقبل البلاد. وما دامت العملية الانتخابية التى نحن مقبلون عليها، تستأثر هذه الفترة، باهتمام الجميع فإن الوقوف عند عينة من التغييرات الحاصلة على مستوى الأنساق الذهنية، والبنى الرمزية على وجه الخصوص، مفيد لما له من صلة بمستوى الإدراك، والسلوك وبناء التصورات، من جهة، ولما له أيضا من تأثير على طريقة تشكيل موقف من الأحزاب المتنافسة، من جهة أخرى.

لقد تسببت الثورة بإرباك منظومة التمثلات فاصلة بذلك بين مرحلتين: ما كان الناس يتصورونه قبل الثورة، وما تجمع لديهم من معلومات وأخبار، وأحداث عاينوها أثناء المرحلة الانتقالية، جعلتهم يعيدون النظر فى مواقفهم.

فبالعودة إلى الصورة التى تشكلت حول حزب النهضة، وقياديه، وأتباعه نتبين أن الاعتقاد الذى كان سائدا هو أن هذا التنظيم محكم البناء، وله قاعدة شعبية واسعة إذ استطاع أن يكسب تعاطف أغلب التونسيين. أما قياديو الحزب فقد تماهت صورهم مع صورة المناضلين، والنشطاء السياسيين، والدعاة إلى منظومة قيمية. فهم الذين آثروا النضال والمقاومة على الرضوخ والاستسلام. فلا غرابة أن تهيمن صورة «الضحية»، وأن تحاك سردية ضحايا النظام القمعى بشأن هؤلاء، وأن تلتبس صورهم بصور الأبطال، والمجاهدين حينا، وصور «الصحابة» فى أحايين أخرى. أما صورة النهضاويين فى الغرب فقد كانت تتأرجح بين منظورين: من يرى أن أتباع حزب النهضة ليسوا إلا فرعا من الإخوان المسلمين، ومن يعتبر أن هؤلاء استطاعوا أن يوفقوا بين الإسلام والديمقراطية مما يجعلهم قادرين على إثبات اعتدالهم، وقبولهم بإجراء المراجعات وفق منطق البراجماتية السياسية. وثبت فى أذهان القوم لاسيما بعد الحملات الانتخابية لسنة 2011 أن زعماء الحركة هم من «طينة» أخرى: رحيمون بالعباد، إنسانيون، متواضعون وبسطاء يحتكون بالشعب، ويُقدرون معاناة الفئات المحرومة، ويجعلون تحسين وضعها أولية الأولويات، يعرفون الله، ويسيرون وفق تعاليمه.

ولكن ما إن كسب حزب النهضة الانتخابات وصار حاكما حتى تخلخلت منظومة التمثلات فإذا بالمحللين يختلفون حول مدى قوة التنظيم، وقدرته على «التنظم»، والحفاظ على انسجامه الداخلى، وحول ازدواجية الخطاب... وإذا بالتونسيين يتابعون أخبارا تصلهم حول ممتلكات أغلب أعيان الحزب، ومشاريعهم المنضوية تحت المد النيوليبرالى فيكتشفون أن القوم «يحبون المال حبا جما» وليسوا بالورع والتقى الذى ادعوه، وقد تصرفوا فى منظومة القيم التى احتكروا تمثيلها، على حسب ما تقتضيه مصالحهم.

أما الحالمون بحزب يأتى ليقيم العدل أو ليطبق الشرع فقد استيقظوا من سباتهم ليكتشفوا أن للتطبيع أكثر من وجه، وأن لاحتضان التجمعيين أكثر من فائدة، وأن السيادة الوطنية وهم إذ تبقى أمريكا عراب الثورة، وصديقة النهضة وقبلة قياديها يحنون إليها بين الحين والآخر فيجددون العهد والولاء وينالون فى مقابل ذلك الأوسمة والشهادات. ولا غرابة فى ذلك مادامت جحافل الباحثين ولوبيات الإعلاميين الأمريكيين ينتعشون من وراء هذه العلاقة الوطيدة بالإسلاميين الوسطيين المعتدلين. يكفى أن تجالس هؤلاء وتحضر مؤتمراتهم ليسردوا عليك فضائل النهضة ومزاياها وعطاياها.

ولا يختلف الأمر بالنسبة إلى لفيف من «الديمقراطيين» و«الحداثيين» و«الليبراليين»... فهؤلاء الذين ادعوا أن لهم أقداما راسخة فى الديمقراطية التشاركية ويمتلكون قدرة على فهم السياسة، وصياغة الخطاب السياسى، وسياسة المشاريع التنموية التى ستعيد مجد تونس سرعان ما انهارت الصور التى نسجوها حول ذواتهم، وروجوا لها فى مختلف المحافل والمنابر. فحين وضعت قيم الحداثة على محك التجربة ظهر البون الشاسع بين مصالح المركز ومطالب الهامش، وبين حسابات رؤساء الأحزاب، وتطلعات القاعدة، واتسعت الفجوة بين الأجيال، والآمال والواقع.

إن أهم عقبة ستواجهها الأحزاب، فى تقديرنا، هى مدى قدرتها على استعادة ثقة التونسية، ومصالحته مع السياسة بعد أن عزف عنها لا بفعل نظام قمعى، بل بإرادته بعد أن مل السباب والعراك، وتبين له أن المتنازعين يتخاصمون من أجل مصالحهم لا من أجل رؤية إصلاحية لوضع البلد...

فأنى السبيل إلى معالجة الوضع والذاكرة حبلى بأحداث موجعة، وأداء هزيل، والتمثلات تخلخلت والقيم اربكت، واستحقاقات الثورة اختزلت... ووجوه السياسيين فقدت بريقها، وصارت باهتة تثير السخرية بل القرف، وأن الخطاب السياسى اهترأ وما عاد يقنع لافتقاره إلى المكونات الأساسية؟.