فراس


ياسين الحاج صالح
الحوار المتمدن - العدد: 4491 - 2014 / 6 / 23 - 20:06
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي     

كنت في الطريق من الغوطة الشرقية إلى الرقة في تموز2013 حين اتصلت بالدكتور اسماعيل الحامض، الطبيب والمناضل، للسؤال عن أخي أحمد الذي كانت داعش اعتقلته قبل أيام بين أعضاء المجلس المحلي في تل أبيض. علمت حينها أن فراس اختطف قبل يومين أو ثلاثة من قبل داعش نفسها، وأن أحمد كان لا يزال في قبضتهم.
لم أكن رأيت فراس طوال أكثر من عامين ونصف حينها. قبل اختطافه كانت الأمور تتدهور بسرعة في الرقة، وبعد أن كان يحاول إقناعي بترك دمشق إلى الرقة، صار يلحُّ على أن لا آتي إلى الرقة، أو ألا أقيم فيها إن استطعت المجيئ إليها. لم تكن داعش ما تشغل باله حينها، بل ما كان يراه من تصاغر منتشر أمام متسلطين جدد، لا يختلف في شيء عن تصاغر كان منتشرا أمام المتسلط الأسدي وأعوانه. كان يخشى عواقب هذا المزيج من تسلط وتزلّف، ولم يكن بباله أنه هو من سيكون ضحية هذا المركّب الوخيم.
فراس هو أقل إخوتي اهتماما بالسياسة والشؤون العامة قبل الثورة. كان في الثامنة وقت اعتقلت عام 1980، وخرجت من السجن وهو الرابعة والعشرين. كان أنهى خدمته العسكرية، وصار موظفا في مؤسسة الأعلاف في الرقة.
غير رفعة، أختنا الوحيدة، فراس هو أيضا الوحيد بيننا الذي بقي في الرقة، ولم يقم لغير وقت قصير في مدن أخرى أو يسافر إلى بلدان أخرى، ولم يُسجن. هذا، مع طبعه الرائق مثل النسمة، كما يوصف عندنا في البيت، جعل منه تجسيدا لاستمرار الأسرة بعد وفاة أمنا وزواج أبينا. الأصغر، فراس، صار ممثل مصلحتنا العامة، والشاغل عمليا لدور أخينا الكبير. يتابع أحوال الوالد وأسرته الجديدة، زوجة وابنان شابان الآن، ومصالح إخوتنا المغتربين، وأحمد وأسرته في القرية، وسميرة وأنا وفي دمشق. فراس حلقة الوصل بين الجميع.
سكن في طابق فوق بيت العائلة بعد زواجه المتأخر، مثلنا جميعا، مثبّتا لنفسه دور أخينا الأكبر.
فقط بعد الثورة صار فراس ينشط في معارضة النظام. شارك في مظاهرات الرقة واعتقل مرتين. أول مرة بين 4 و28 تموز 2011، إثر اعتصام شارك في تنظيمه للاحتجاج على اعتقال خليل، أخينا الأكبر منه مباشرة، وكان اعتقل مع بعض رفاقه؛ والمرة الثانية بين 8 شباط و4 آذار 2012 بسبب أنشطته الثورية. وفُصل من عمله فصلا تعسفيا بعد اعتقاله الثاني مباشرة.
لوحق فراس من جديد في مطلع خريف 2012، فتوارى في الرقة، ثم قصد تل أبيض التي كانت خرجت من سيطرة النظام، حيث مكث هناك إلى يوم خروج المدينة من سيطرة النظام أيضا في 4 آذار 2013. في اليوم نفسه عاد إلى المدينة، مشاركا في حياتها الجديدة.
الرجل الذي لم يكن ناشطا سياسيا أو حتى مهتما بالسياسة صار ثائرا. سوابق اعتقال إخوته، ثم وقائع الثورة، واعتقاله الشخصي، جعلت منه مناضلا يعمل على التخلص من نظام الإجرام الأسدي. بيئته العائلية وإحساسه الشخصي بالعدالة دفعاه إلى الانخراط في العملية التحررية الكبيرة، الثورة، منذ بداياتها. وعدا المشاركة في المظاهرات، نشط في الإغاثة وتأمين سكن وموارد لمحتاجين في المدينة، متعاونا في ذلك مع الدكتور اسماعيل الحامض وآخرين.
سيناريو اعتقال فراس الأول إثر تنظيمه اعتصاما للمطالبة بالإفراج عن خليل سيتكرر في صيف 2013: ينشط في تنظيم مظاهرات ضد داعش التي كانت اعتقلت أحمد وأعضاء المجلس المحلي في تل أبيض، فيُختطف من الشارع في 20 تموز 2013. بعده بثلاثة أيام اختطف صديقه ابراهيم الغازي من الشارع أيضا. وبعده بعشرة أيام الأب باولو دالوليو الذي ظن أنه يستطيع التوسط له. وبعد فراس بـ 100 يوم اختطف بالطريقة نفسها اسماعيل الحامض، طبيب الفقراء النبيل.
وقبل اختطاف اسماعيل، كانت سعاد نوفل، الناشطة الشجاعة وشقيقة زوجته غدير، قد اضطرت للخروج من المدينة إثر تهديد مباشر من الدواعش، خشيت أن يطال أهلها ولا يتوقف عندها.
وقت اعتقاله أول مرة من قبل النظام، كان ابراهيم، ابنه الوحيد، عمره 17 يوما. ووقت اختطافه قبل 11 شهرا كان إبراهيم يتجاوز عامين بقليل. اليوم أكمل هيما 3 سنوات. يعيش مع أمه غدير في عينتاب منذ اضطرا لمغارة الرقة في الشهر الأول من هذا العام. هذا بعد أن كان جميع إخوته وأخته الوحيدة قد غادروا مضطرين.
خلال أحد عشر شهرا ليس هناك معلومات عن فراس. "النسمة" أسير عند داعش. وكل شيء يختنق في المدينة الكئيبة، الواقعة تحت طغيان إجرامي مميت.
الوفاء لفراس ورفاقه لا يقف عند التضامن معهم وإبقاء قضيتهم حية، وإنما يتجاوزه إلى القطع مع تصاغر وتذلّل منتشرين، أظهرهما محسوبون على الثورة أمام أمام متسلطين جددا، ومع خلق التصاغر والعبودية الذي كان سمة النظام الأسدي طوال عقود، لكنه نخر الثورة أيضا وتسبب لتطلعاتها التحررية بأذى عميم.