دعاوى المصالحة جريمة نظرية


خليل كلفت
الحوار المتمدن - العدد: 4466 - 2014 / 5 / 28 - 00:03
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان     

منذ انفجار الثورة الشعبية ودخول الإخوان المسلمين وحلفائهم على الخط ترتفع دعاوى المصالحة والتوافق والتوافقية معهم! ومهما بدت تلك الدعاوى شاملة لكل القوى السياسية فقد كان جوهرها وغايتها الترويج للمصالحة مع الإخوان وحلفائهم؛ انطلاقا من حقيقة أن المصالحة معهم كانت تمثل مشكلة سياسية أساسية.
فهل كانت تلك الدعاوى تنطلق من تأييد واقع التحالف الذى قام فى ذلك الحين بينهم وبين المؤسسة العسكرية أم كانت ترويجا حسن النية أو مدفوع الثمن لأفكار إخوانية؟ ومهما يكن من شيء فقد تعددت المراحل واستمرت الدعاوى حتى بعد احتدام صراع مرير بينهم وبين المؤسسة العسكرية، وحتى بعد أن انتهى الأمر إلى خلع الرئيس الإخوانى، وحتى بعد بداية مرحلة دموية من الإرهاب الإخوانى، وإلى يومنا هذا.
وربما كانت بعض هذه الدعاوى تأييدا لسياسة المؤسسة العسكرية المتمثلة فى تحالفٍ أو تعاون استمر طويلا مع الإسلام السياسى بكل فصائله. غير أن استمرارها فى مراحل لاحقة وإلى يومنا هذا يشير بوضوح إلى أنها بجانبها الأكبر كانت وما تزال دعما للإخوان وحلفائهم ودولتهم الدينية ومع الحرب الأهلية الإخوانية التى شهدنا بداياتها المتواصلة إلى الآن فى سيناء والقاهرة والمحافظات فى تحالف مع الأعداء التاريخيِّين لمصر بقيادة أمريكا وأوروبا وإسرائيل ومشاريع الدولة الدينية فى المنطقة مثل تركيا وإيران وحماس والقاعدة.
ورغم إدراكى الواضح المعلن منذ البداية لحقيقة أن سياسة المؤسسة العسكرية ظلت تقوم على تفادى حرب أهلية مدمرة للدولة ومؤسساتها وللشعب المصرى كله إلا أننى كنت ناقدا عنيفا لفترة غير قصيرة للتحالف بينها وبين الإسلام السياسى بقيادته الإخوانية، مفسرا ذلك التحالف على أنه يمثل حاجة المؤسسة العسكرية إلى غطاء سياسى شعبى فى مواجهة الثورة الشعبية.
وفى الوقت نفسه كنت أعتقد أن مشاركة الإخوان وحلفائهم فى الثورة كانت مخططا هدفه الانقضاض على الدولة والثورة بعد مرحلة تمهيدية من الأخونة والتمكين، ولهذا انتقدتُ مزاعم وقوف الإخوان مع الشعب فى الثورة لأنهم كانوا يقفون بجواره ولكنْ ضده، ولهذا تحدثتُ عما يسمى بروح الثمانية عشر يوما المجيدة على أنها أسطورة، وهى أسطورة ظلت تخفى حقيقة أن الوقفة المتجاورة بين الإخوان والثورة كانت وقفة جمعت بين "عدوَّيْن لدودين"؛ وظلت تلك الأسطورة الحجة الأساسية لدعاوى المصالحة والتوافقية.
على أننى وبعد معاناة فكرية طاحنة تبلور عندى منذ فترة غير قصيرة إدراكٌ مختلف لم أتردد فى إعلانه مهما أغضب موقفى جانبا من اليسار الذى أنتمى إليه بمجموعه المتنوع على كل حال. ولم يكن موقفى جديدا تماما بل كان يمثل إعادة مَفْصَلة، أىْ إعادة ربط أجزاء، لعناصر أساسية تضمنتها تحليلاتى الأساسية لمسارات الثورة منذ البداية.
ومن المنطقى أن تجاهل التناقضات العميقة بين قطاعات من الطبقة الرأسمالية الحاكمة يوقع جانبا كبيرا من الثوار والشباب واليسار فى فهم سطحى بائس للثورة ذاتها ولقضاياها وتطوراتها وتعرجاتها. وعلى سبيل المثال، يقتضى إدراك هذه التناقضات وأخذها فى الاعتبار ألَّا نرى فى كل تحالف على السطح زواجا كاثوليكيا. ولم يكن التحالف القصير للإخوان مع الثورة زواجا كاثوليكيا معها، كما لم يكن تحالف المؤسسة العسكرية مع الإخوان زواجا كاثوليكيا معهم. بل كانا بلا جدال تحالفيْن مخططيْن بعناية بالغة!
وكانت الإستراتيجية التى وضعتها المؤسسة العسكرية إزاء مختلف القوى المشاركة فى الثورة بالغة التعقيد ولا سبيل إلى تناولها هنا، ولهذا أكتفى بإبراز عنصر واحد هو ذلك الذى يتمثل فى تفادى الحرب الأهلية؛ ومن هذه الإستراتيجية الحاسمة نبعت وانطلقت مواقف الانقلاب على الرئيس الأسبق مبارك، والتحالف مع الإخوان ودفع الثمن الباهظ لذلك التحالف، والإطاحة بالرئيس المنتخب المزعوم محمد مرسى.
وكان وقوف المؤسسة العسكرية إلى جانب مبارك يعنى الحرب الأهلية، وكان عدم تحالفها مع الإخوان المسلمين فى ظل دولة شبه منهارة يعنى الحرب الأهلية، كما كان عدم تنصيبها مرسى رئيسا بعد تهديد الإخوان بحرق مصر فى حالة إعلان فوز شفيق يعنى الحرب الأهلية، وكان عدم إطاحتها بالرئيس مرسى يعنى الحرب الأهلية، كما كان يعنى إقامة دولة دينية تسوم البلاد والعباد سوء العذاب والبلاء العظيم؛ فعندما تسيطر الماضوية على الحاضر فإنه لا أمل فى مستقبل!
وهنا يتضح تماما وبلا جدال أن التحالف مع الإخوان كان ضرورة مطلقة. وبعيدا عن أىّ حديث عن المبدئية المثالية المجردة التى لا تقف عندها المؤسسات العسكرية فى العالم كله طويلا، ينبغى إدراك أن المبدأ الأعلى فوق كل مبدأ هو بقاء الشعب ومن ضروراته فوق كل ضرورة تفادى حرب أهلية تهدد وجوده ذاته. ومعنى هذا أن الدولة بقيادة المؤسسة العسكرية كانت محقة تماما فى التحالف المخطط مع الإخوان بكل نتائجه وفى التخلُّص منهم وفقا لخطة موضوعة.
وتتعدد وتتداخل حقائق بدايات دعاوى المصالحة مع الإخوان؛ فمنها ما جاء انسجاما مع واقع قائم فى فترة أولى، ومنها، وهو الأهم والأخطر، ما جاء انسجاما مع طموحات الإخوان المسلمين. وتتمثل طموحات الإخوان المسلمين فى إقامة دولة دينية ويتمثل مسارهم الإجبارى لتحقيقها فى الحرب الأهلية. وعلى هذا فإن الدولة الدينية الإخوانية والحرب الأهلية المدمرة وجهان لعملة واحدة!
فكيف أمكن أن يتهادن دعاة المصالحة مع هذا المشروع الإخوانى الأمريكى، مع هذا المشروع الاستعمارى الصهيونى الرجعى؟! إننا هنا إزاء جريمة نظرية تبرر كل الجرائم العملية المترتبة عليها!