خصخصة الخدمات ودور الدولة


محمد حسن خليل
الحوار المتمدن - العدد: 4464 - 2014 / 5 / 26 - 18:09
المحور: العولمة وتطورات العالم المعاصر     

خصخصة الخدمات ودور الدولة
تبرر مؤسسة الدولة، أى دولة، وجودها بدور معين تلعبه فى سد احتياجات المواطنين للخدمات العامة. وبجانب مؤسسات الأمن من جيش وبوليس وأمن هناك الدور الحاسم لمؤسسات الخدمات العامة فى المرافق (طرق وكبارى، كهرباء ومياه وصرف صحى) والتعليم والصحة، بجانب مختلف الخدمات الاجتماعية والثقافية وغيرها. ونتغاضى فى هذا السياق عن البنية القانونية والقضائية وعلاقتها بضبط الأمور فى علاقات المواطنين لخروجها عن سياق هذا المقال ونقتصر هنا على وظيفة الدولة فى تقديم الخدمات العامة. وتقدم الدولة تلك الخدمات عادة فى مقابل التكلفة، حيث تعد تلك المؤسسات مملوكة للدولة باعتبارها هيئات خدمية لا تهدف للربح.
وهذا الدور فى تقديم الخدمات هو مبرر فرض الضرائب بأنواعها المختلفة، ومبرر الكثير من الدول فى سيطرتها على موارد الدولة الطبيعية مثل الثروات المنجمية ومختلف الموارد السيادية الأخرى.
حقا لقد ارتبطت نشأة مرافق المياه والصرف الصحى فى أوروبا وأمريكا فى منتصف القرن التاسع عشر بالشركات الخاصة، ولكن سرعان ما اتضح عجز القطاع الخاص عن توسيع تلك الخدمات لتشمل كل الشعب بشكل متاح للجميع، حيث اقتصرت تلك الخدمات، المكلفة عادة، على السكان الأغنياء فى المدن الكبيرة فقط. لذلك بانتهاء القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين كانت الأغلبية الساحقة من تلك الخدمات تابعة للدولة، سواء الدولة المركزية أو للمحليات، وبسعر تكلفة أو أقل منه كخدمة كاملة من الدولة بحيث يكون متاحا لجميع السكان بصرف النظر عن قدرتهم المادية. وبعد انتهاء الحرب العالمية الثانية نشأت دولة الرفاه الاجتماعى فى أوروبا الغربية ونشأ المعسكر الاشتراكى فى روسيا وأوروبا الشرقية وتم تعميم تلك الخدمات بشكل غير ربحى بالطبع، بل إن طبعة مخففة من هذا قد نشأت فى الأنظمة الشعبوية فى العالم الثالث مثل مصر الناصرية وأفريقيا وأمريكا اللاتينية، حيث ظلت تلك المرافق بالأغلبية الساحقة مؤسسات غير ربحية، وإن ظل نطاق التغطية بالمياه، وبالذات بالصرف الصحى، أقل كثيرا من الدول المتقدمة التى عرفت شمول تلك الخدمة عمليا لكل السكان.
برزت الدعوة لخصخصة المرافق منذ أواخر الثمانينات وأوائل التسعينات من قبل الحكومات اليمينية، بالذات مرجريت ثاتشر فى انجلترا ومؤسسات التمويل الدولية مثل البنك الدولى وصندوق النقد الدولى، حيث بدأ باشتراط تلك الخصخصة كشرط لقروضه المختلفة. والدافع فى تقديرى مرتبط بالأزمة الاقتصادية العالمية، أزمة الركود التضخمى التى بدأت منذ عام 1971. لقد دفع الكساد فى سلع الكماليات من سيارات وسلع كهربائية معمرة بهؤلاء إلى التفكير فى الاستثمار فى الاحتياجات الجماهيرية التى لا يمكن الاستغناء عنها. وخصخصت ثاتشر المياه والصرف الصحى بالكامل فى انجلترا وويلز عام 1989، وإن بقيت اسكتلندا بدون تلك الخصخصة لانتماء أغلبية حكومتها المحلية إلى حزب العمال. وتلقى الموضوع دفعة ضخمة بعد سقوط الاتحاد السوفيتى والمعسكر الاشتراكى أوائل التسعينات وانطلاق أكثر اتجاهات النيوليبرالية عدوانية.
وعلى المستوى العالمى كانت هناك قلة نادرة من سكان العالم تقدم لها خدمات المياه والصرف الصحى من مؤسسات ربحية خاصة قبل التسعينات. ولكن خلال عقد من العولمة، فى سنة 2000، كان هناك حوالى 400 مليون مواطن فى العالم يتلقون تلك الخدمة من مؤسسات خاصة، وبلغوا بعد حوالى عقد آخر، فى عام 2011 حوالى 909 مليون، ويتوقع أن يصل إلى 1200 مليون بحلول سنة 2015.
وفى مصر التى خضعت لتوصيات مؤسسات التمويل الدولية منذ الانفتاح عام 1974، وبالذات من خلال برنامج التثبيت والتكيف الهيكلى الموقع مع صندوق النقد الدولى والبنك الدولى عام 1991 أخذت الدولة فى خصخصة الهيكل الإنتاجى فى القطاع العام بدءا من قانون قطاع الأعمال العام رقم 203 لسنة 1991. وأدخل ذلك القانون إلى مصر صيغة قانونية جديدة هى صيغة الشركة القابضة كبديل للمؤسسات العامة (للسلع الغذائية، المعدنية، الخ) التى تمتلك شركات تابعة وتديرها وتملك الحق القانونى لخصخصتها بما فيه بيعها لمستثمر رئيسى أو طرح أسهمها فى البورصة أو بأى وسيلة تراها.
أما خصخصة المرافق فقد بدأت عام 2000 بتغير هيئة كهرباء مصر إلى الشركة القابضة لكهرباء مصر، والتى تتبعها الشركات التابعة فى مختلف المناطق والمحافظات. والانتقال هنا من الشكل القانونى لهيئة عامة إلى الشكل القانونى لشركة قابضة يحمل طابعا أخطر بكثير مما فى القطاع العام: فالهيئة العامة هيئة خدمية تهدف إلى تقديم خدمة اجتماعية بسعر التكلفة، بينما الشركة القابضة هدفها الرئيسى، مثل أى شركة وبنص القانون، هو معاظمة العائد أو ببساطة الربح. كما انعكس هذا أيضا على هياكل المرتبات والبدلات، وهناك ما تردد عن أن بدل حضور جلسات إقرار الميزانية السنوية للشركة القابضة بلغ ستون ألف جنية للجلسة لكل عضو!
ولم تتم بعد خصخصة شركات موجودة تابعة لتلك الشركة القابضة وإن كان قد سمح بإنشاء شركات خاصة لمحطات توليد القوى الكهربية تدخل إلى الشبكة العامة من خلال صيغة قانونية أخرى، هى صيغة BOT أو إنشاء وإدارة شركات الكهرباء الخاصة ثم نقل ملكيتها ثانية للحكومة عند انتهاء مدة العقد، وهى عادة تتراوح بين 20 و35 سنة!
لم يصدر قانون خاص لإنشاء شركات المرافق بنظام BOT، ولكن استندت الصيغة القانونية لإنشاء تلك الشركات إلى تعديل القوانين المنظمة لإنشاء المرافق نفسها. ومن الأمثلة على ذلك:
1- القانون رقم 100 لسنة 1996 بتعديل بعض أحكام القانون رقم 12 لسنة 1976 بإنشاء هيئة كهرباء مصر
2- القانون رقم 229 لسنة 1996 بتعديل بعض أحكام القانون رقم 84 لسنة 1986 بإنشاء الطرق العامة
3- القانون رقم 3 لسنة 1997 في شأن المرافق العامة وإنشاء وإدارة واستغلال المطارات
4- القانون رقم 22 لسنة 1998 بإضافة مادة جديدة إلى القانون رقم 1 لسنة 1996 في شأن المواني التخصيصية
وتم إنشاء عدد من المرافق الخاصة التى تنتج الخدمات وتشتريها منها الدولة لتقدمها للمواطنين كجزء من خدماتها العامة. وهذا بالطبع يحمل تكلفة تلك الخدمة بعبئ ربح الشركة الخاصة. أما بالنسبة للشركة الخاصة فهو استثمار مضمون بامتياز، حيث المشكلة الأساسية فى أى عمل هى تسويق المنتج، وفى ذلك الشكل يضمن المستثمر أن سلعته المنتجة مباعة مسبقا بسعر محدد مسبقا وأن مكسبة مضمون بهامش مخاطرة يساوى صفر فى المائة تقريبا!
ومن أمثلة تلك المرافق الخاصة المنشأة بذلك النظام:
• محطات توليد الكهرباء مثل محطة الكريمات ومحطة أبو قير ومحطات توليد الكهرباء فى مناطق التعمير الجديدة
• إنشاء الطرق السريعة الخاصة مثل طريق القاهرة العين السخنة وطريق شرق النيل المتجه إلى صعيد مصر
• مشروعات تابعة لوزارة النقل مثل محطة حاويات في ميناء السويس ومرسى اليخوت في شرم الشيخ ومطار مرسى علم
• مشروعات تابعة لوزارة الإسكان مثل محطات مياه الشرب مثلما طرح بمنطقتين من مناطق التنمية الجديدة هما منطقة شرقي بور سعيد وجنوبي السويس
وكانت الخطوة الثانية فى إنشاء الشركات القابضة فى مجال الخدمات هى تحويل مرفق المياه والصرف الصحى إلى الشركة القابضة للمياه والصرف الصحى عام 2004.
ثم تمت نقلة أخرى فى مجال خصخصة الخدمات بإصدار القانون رقم 67 لسنة 2010 الخاص بمشاركة القطاع الخاص فى قطاع الخدمات (بالطبع بما فيها خدمات التعليم والصحة بجانب المرافق) مع القطاع العام من خلال نظام المشاركة بين القطاع العام والخاص المعروف ب PPP.
ويوسع هذا القانون من مجال مشاركة القطاع الخاص حيث يشمل دخول القطاع الخاص فى عمل عمرة أو تجديد فى مرفق موجود فى مقابل نسبة مشاركة فى العائد. ويعنى هذا أولا تحويل المشروع كله من مشروع خدمى إلى مشروع استثمارى، كما يعنى ثانيا إمكانية انعدام العدالة فى تقدير نسبة مساهمة القطاع الخاص من حيث تقدير قيمة المبلغ الذى يدفعه إلى قيمة الأصل الموجود. وهناك أشكال مختلفة لاسترداد قيمة وعائد ما دفعه المستثمر، إما فى صورة تسديد القرض بأرباحه، أو فى صورة الحصول على نسبة من العائد الجارى.
المثال التطبيقى لهذا النوع من الخصخصة هو خصخصة ثلاث مستشفيات تتبع جامعة عين شمس، وجامعة قناة السويس، وجامعة الزقازيق، وهو المطروح حاليا. ولا توجد أمثلة كثيرة على الخصخصة من خلال هذا الطريق لأن اللائحة التنفيذية لهذا القانون، رقم 67 لسنة 2010 قد تم توقيعها من قبل أحمد نظيف رئيس الوزراء، يوم 23 يناير عام 2011، ثم أتت الثورة لكى توقف عمليا تنفيذ تلك المخططات.
إلا أن الفرحة لم تتم! فقد تضمنت الخطة الاستثمارية لوزارة الإخوان خصخصة المستشفيات المذكورة خلال العام المالى 2013 -2014. ولكن الإخوان سقطوا قبل تنفيذ تلك الخطة فى آخريوم من السنة المالية السابقة فى 30 يونيو 2013. أعلن الدكتور حازم الببلاوى فى أغسطس 2013 أن خطته الاقتصادية العاجلة تتضمن فيما تتضمن خصخصة المستشفتين الذين أدرجهما الإخوان للخصخصة فى ذلك العام!!
بل وأكثر من ذلك حرصت قوى النظام القديم على أن تمرر فى نص دستور عام 2013 المادة 28 التى تنص على: "الأنشطة الإنتاجية والخدمية والمعلوماتية مقومات أساسية للاقتصاد الوطنى، وتلتزم الدولة بحمايتها، وزيادة تنافسيتها، وتوفير المناخ الجاذب للاستثمار، وتعمل على زيادة الإنتاج، وتشجيع التصدير، وتنظيم الاستيراد". وحتى إذا كان من المقبول فى الدستور حماية التنافسية وجذب رؤوس الأموال فى الاستثمارات فى إطار الاقتصاد الرأسمالى السائد، فإن حماية التنافسية وجذب الاستثمارات فى مجال الخدمات يعد كارثة تؤدى، كما أدت فى البداية وكما أدت فى برامج الخصخصة المعاصرة، إلى رفع سعر الخدمات الاجتماعية فى مجتمع يقبع أكثر من نصفه تحت خط الفقر وتقليص نطاق تلك الخدمات.
وبالطبع ليس هذا موقفا من الدستور كله، ولكن علينا، رغم أننى شخصيا قد صوتت لهذا الدستور بنعم، أن ندرك عيوب الدستور وليس فقط مزاياه، وأن نسلح الشعب بالوعى بتلك المشاكل، وأن نعبئ القوى الجماهيرية التعبئة الضرورية لوقف تنفيذ مخططات خصخصة تلك الخدمات دفاعا عن حق الشعب فى خدمات رخيصة وقيام الدولة بدورها الطبيعى فى توفير الميزانية الاستثمارية الضرورية لبناء المرافق وعدم التخلص منها بإلقائها على القطاع الخاص، ملقية بالشعب فى نار أسعار تلك الخدمات. ونختتم بمثال بلدية باريس التى، بعد خصخصة مرفق المياه بين أعوام 1995 و2010، أعادت المياه إلى مرفق غير ربحى، كما برز فى العالم الذى تمت خصخصة المياه بالذات شعار للنضال يتعلق بحق الجمهور فى المياه ضد تلك الخصخصة.
محمد حسن خليل