محطات إسبانية في حياة إميل حبيبي


خالد سالم
الحوار المتمدن - العدد: 4454 - 2014 / 5 / 15 - 14:06
المحور: الادب والفن     

"ولكنها تدور"

تحل هذه الأيام ذكرى رحيل صاحب المتشائل، ولا أزال أتذكر أول لقاء به، إذ كان في كورة تابعة لغرناطة، المونيكر أو المنكب العربية، حيث شاهدته يومها مزمجرًا في ردهة الفندق التي كان يتذرعها في انتظار مخابرة هاتفية من الزعيم. لكنه لم ينتظر طويلاً حتى يحادثه ياسر عرفات، فطلب من استقبال الفندق أن يتصلوا بالعاصمة التونسية حيث كان القائد. كان صوته يرعد ويملأ القاعة. كنت قد وصلت توًا من مدريد، بعد رحلة شاقة عبر إشبيلية حيث المعرض الدولي للذكرى الخمسمائة لاكتشاف أميركا. تابعت مشدوهًا ما كان يحدث. تعثر التفاهم عبر الهاتف، إذ كان الجو مشحونًا على كافة المستويات لقبول صاحب المتشائل بالسم الإسرائيلي في عسل " جائزة إسرائيل في الأدب"، أرفع جائزة لديهم في الآداب.
القيادة الفلسطينية كانت ترى في تلك الجائزة اعترافًا بالكيان الصهيوني وفي مصافحة رئيس حكومتها سنتئذ، إسحاق شامير، جريمة في حق دماء الفلسطينيين الذين قتلهم هذا السفاح بيده قبل وبعد النكبة، إذ كان على إميل حبيبي أن يتسلم الجائزة منه. وكان للكاتب والمفكر رأي ثابت في هذا الصدد " لا معنى لقصة التنديد بالمصافحة فنحن نفاوض إسرائيل وعنادنا مكننا من البقاء في أرضنا والمحافظة على الهوية". وهو ما كان له إذ تشبث بأرض وعاش ومات في حيفا وكتب على شاهد قبره "باقٍ في حيفا". لم يسعفه الهاتف فسافر لاحقًا إلى تونس لشرح أسباب قبوله تلك الجائزة وحل النزاع مع القيادة الفلسطينية.
كانت أجواء حرب الخليج الثانية لا تزال تخيم على المناخ رغم مرورو عام عليها، وكانت إسبانيا تبحث عن موطئ قدم لها في مسرح حل قضية الشرق الأوسط بعد أن استضافت مؤتمر مدريد في نوفمبر 1991 وعينها على الأندلس للقيام بدور الجسر بين العرب واليهود في حل قضية القضايا العربية في القرن العشرين، الصراع العربي الإسرائيلي على أرض فلسطين. ومن هذا المنطلق لعبت دورًا طيبًا، كانت الثقافة إحدى روافده من خلال مؤتمرات وندوات ودعوة لشخصيات ثقافية لزيارة حواضرها.
وفي هذا الإطار أقيمت عدة دورات لمهرجان مسرح حوض البحر المتوسط، وسنتها عقدت الدورة الرابعة في مدينة موتريل، غرناطة، في نهاية شهر مارس 1992، وشارك فيها إميل حبيبي إلى جانب مسرحيين وكتاب فلسطينيين، من بينهم المسرحي أنطوان شلحت والشاعرة سهام داوود وفرقة فلسطينية جاءت من حيفا.
التقينا جميعًا على موائد المهرجان المستديرة والطعام في حضور كوكبة من نجوم المسرح والنقد في مصر والمغرب العربي، كان على رأسهم الراحلان سعد أردش وفاروق عبد القادر ونور الشريف ومرسي خليل وحسن عطية ونهاد صلحية، إلى جانب آخرين من الوطن العربي. القفشات السياسية والثقافية لم تتوقف طوال أيام المهرجان، خاصة في ما يتعلق بالجائزة النحس. جاءوا ومعهم فرقة أكاديمية الفنون المسرحية حيث قدمت عرضًا ناجحًا لنسختها من "كاليغولا".
جاء إميل حبيبي حاملاً أحد أجزاء كتاب عبد الله عنان عن الأندلس، وما أن جلسنا وجهًا لوجه على مائدة الغداء في ذلك اليوم القاسية وقائعه، يوم الجدل حول الجائزة الإسرائيلية، حتى أخذ يطرح أسئلته عن إسبانيا المعاصرة والأندلس والأسباب الدقيقة لسقوطها رغم امتداد الحضور العربي فيها أكثر من ثمانية قرون. في تلك الأيام القليلة التي أمضاها معنا بين موتريل والمونيكر وجدته مشاكسًا في طروحاته وأسئلته كأنه في عنفوان الشباب.
كان الناقد الفذ فاروق عبد القادر لا يكف عن مشاكستنا نحن الاثنين، واستغل اهداء إميل حبيبي لكتابه "خرافية سرايا بنت الغول" إذ جاء حرفيًا "إلى خالد سالم الذي أحببناه من أول نظرة". بالطبع لم يتوقف فاروق عبد القادر عن المزاح مستخدمًا هذا الإهداء الطريف، وظل يضاحكنا طوال المهرجان كلما انتهى من تناول كأسه العامرة.
أخذ الجدل حول ذلك السم الإسرائيلي المدسوس في العسل لإميل حبيبي جزءًا كبيرًا من مسامراتنا ونقاشاتنا في المهرجان الذي اكتشفت فيه ممثلين كثيرين لم أكن أعرفهم بعد سنوات غربة طويلة.
أذكر أنه كان هناك من هنأ إميل حبيبي على الجائزة مثل حيدر عبد الشافي رئيس الوفد الفلسطينى في مؤتمر مدريد ومفاوضات السلام، وفيصل الحسينى رئيس اللجنة الاستشارية للوفد، وحنان عشراوى الناطقة باسم الوفد، ومنهم من أدانه، من بينهم محمود درويش وعبدالله الحوراني.
في تلك الأجواء المترعة برغبة إسبانيا في لعب دور يتسق مع دورها التاريخي في الجمع بين العرب واليهود في الأندلس تردد إميل حبيبي على إسبانيا للمشاركة في فعاليات ثقافية. كان يهاتفني في كل مرة زار فيها مدريد التي كان يستغلها الناشر اليهودي الأرجنتيني ماريو موشنيك وزوجه الفرنسية نيكول ليقيما على شرفه لقاءات في منزلهما في مدريد يحضرها بعض مثقفي إسبانيا. كان إميل حبيبي يصر على أن أكون بين المدعويين بينما صاحبا الدعوة لا يبديان ترحيبًا برؤيتي إذ لم أكن أسير على هديهما تجاه إسرائيل والحضور اليهودي في الأندلس فحدث تنافر بيننا منذ أن التقينا أول مرة. هكذا كان انطباعي، إلا أن إميل حبيبي كان يسر إلي بأنه في حاجة إليّ لمقارعة الحضور المؤيدين لإسرائيل.
تعددت اللقاءات بيننا في كل مرة كان يزور فيها إسبانيا وبخصوص تلك الجائزة وأمور أخرى دارت بيننا نقاشات ثرة. ففي ما يتعلق بالجائزة الإسرائيلية المذكورة قال حبيبي إن هذه الجائزة لها احترام كبير داخل اسرائيل، وهو ما يعنى انسحاب هذا الاحترام على مختلف انحاء العالم لما لإسرائيل من نفوذ فيه، "أمل أن تعززهذه الجائزة وضعى الثقافي والسياسى في الدفاع عن ثقافة وحقوق شعبى، وهو ما أقوم به منذ سنوات من خلال لجنة المبدعين الفلسطينيين والاسرائيليين لمناهضة الاحتلال والدفاع عن حرية التعبير، حيث اسهمت من خلال هذه اللجنة في الدفاع عن كُتاب وصحافيين اعتقلوا في المناطق المحتلة وصودرت كتبهم. ورغم هذه الجهود قامت السلطات الاسرائيلية مؤخرا بتقديم شاعر عربى، من عرب 1948، يدعى شفيق حبيب الى المحاكم بتهمة تهديد أمن الدولة في احدى قصائده. لهذا أتمنى ان تساعدنى هذه الجائزة في تبرئة هذا الشاعر وأى مواطن أخر، فهى تمنحني حصانة نسبية أمام الرأى العام. ومما لا شك فيه أنها ستساعدني على مواصلة مسيرتي في التصدي لمختلف الاعتداءات على شعبي الذي بقي في اسرائيل، في معركة من أجل السلام العادل. ورغم نسبية الأمور في هذا الاطار فإننا في حاجة إليها، فهي تمنحنا إلى حد ما هيبة أمام سلطات القمع. إنني أعرف كيف استفيد من هذه الجائزة، فبقدر ما لها من أهمية نوعية وأدبية ليست ذات أهمية مالية".
وعما إذا كانت لها أهمية سياسية قال: انها أدبية بحتة، ولا يقبلون منحى إياها سياسيًا بأى حال من الاحوال. فقد رشحت لها من قبل لجنة محكمين من أعلى المستويات، من المتخصصين في الادب والعلوم المختلفة، وليس سرًا أن عددًا منهم أعضاء في اللجنة الاسرائيلية – الفلسطينية المشتركة. إنها المرة الأولى التى تمنح فيها الجائزة لأديب عربي في اسرائيل.
لقد حاول القائمون على هذه النشاطات التهرب من وجودى الادبى، حتى وصل بهم الامر إلى أنهم عجزوا عن التهرب، وهو ما أكد عليه المعلقون الاسرائيليون انفسهم. ولم يقتصر هذا التهرب على، بل حاولوا التهرب من وجود عرب في البلاد، وتجاهلوا وجودهم على جميع المستويات، الا أنهم لم يستطيعوا الاستمرار في هذا الموقف. ورغم هذا استطعنا الحفاظ على كرامتنا وعلى مواقفنا الصحيحة وغير المتهورة، وهى مواقف وطنية مسؤولة طوال أكثر من اربعين سنة. وأضاف: كان من الضرورى ان يعطى الصمود ثماره، وهو ما حدث. فكفاحنا وتضحياتنا لم تذهب هباء، وما كان ان تذهب دون جدوى. وأننى لأشعربالآسى تجاه بعض الأخوة في الخارج،ازاء أولئك الذين لا يريدون فهم هذه الحقيقة البسيطة. على أى حال الكفاح بشتى أشكاله لا يذهب هباء، أما نتائجه فيمكن أن تكون قليلة وتدريجية لكنها تأتى. وهذه ليست منة من السلطة الحاكمة في اسرائيل إنما هى بفضل النضال، فقد صمدنا لمحاولات طردنا من بلادنا ومصادرة اراضينا، وهذا كلفنا خسائر وتضحيات، وأصبحت فكرة الحل القائم على طردنا من بلادنا فكرة غير معقولة.
وردًا على المعارضين لقبوله الجائزة قال حبيبى بأنه يحاول فهمهم ويفترض النزاهة والصدق في مواقفهم، اضافة إلى انه لا يتعامل إلا مع المواقف التى يعتبرها صادقة في معارضتها، أما المعارضون من موقع الحسد والخلاف السياسى والشخصى فهو لا يعيرهم اهتمامًا. إن بعضهم يرى أننى دفعت ثمنا سياسيا وإلا لما منحتنى هذه المؤسسة جائزة رفيعة المستوى كهذه، وهذا توهم فحيثيات لجنة التحكيم تنص على اننى حصلت عليها عن اعمالى الادبية التى صدرت منذ اوائل الستينيات، ويقال ان مستواها الادبى عالٍ والكل يعرف رسالتها الوطنية. فالجائزة لم تمنح لى لمواقف مستقبلية، بل على مواقف معلنة ومنشورة.
كما شدد على أن الجائزة أعطيت له اعترافا بالمستوى الادبي الرفيع لأعماله، وان المحكمين أكدوا أن هذا هو ما يعنيهم ولا شئ أخر، لهذا لم تكن هناك ضرورة للخوض في هذه الاتهامات والتشكيك في المواقف الوطنية والماضي السياسى والنضالي.
وقال ان هذه الحجة التى يروجونها تستهين بجدوى الكفاح، وكأنما العدو لا يمكن ان يتراجع. اننا لسنا أول من طال أمد كفاحه وتراكمت تضحياته لشعبه، وأول من الزم العدو بالتراجع وإن كانت تراجعات جزئية. اننى اشبه هذا المنطق بمنطق أولئك الذين لو ظهر أمثالهم اثناء حرب فيتنام وانسحاب القوات الامريكية من هذا البلد لقالوا ان الامريكيين لم ينسحبوا الا بعد ان قبضوا ثمنًا سياسيًا من شعب فيتنام، مع الفارق في التضحية. إن منطق الكفاح هو أن تستطيع في لحظة من اللحظات ان تحقق شيئًا من المطالب، ومن لا يرى الأمور هكذا، فإن هذه المواقف اهانة لمنجزاتى الأدبية وإهانة عامة لشعبي الذي استطاع البقاء في وطنه.
ويعود حبيبى بذاكرته إلى الماضي ويربط بين الاحداث وأوجه الشبه بينهما ويقول: إنني أذكر الأيام الأولى بعد نكبة عام 1948 عندما حاول بعض اخواننا في الخارج تفسير قدرتنا على البقاء في اسرائيل على أننا تهودنا أو تصهينا وإلا لما كانت تسمح لنا إسرائيل بالبقاء فيها، كما لو كان بقاء المواطن في وطنه منة من أي حاكم أو مؤسسة، ومنذ ذلك الوقت حاولت أن افهم اصحاب هذه الحجة من الأخوة الفلسطينيين في الخارج، أنهم من موقع التوهم والخطأ في تفسير التاريخ توهموا انهم في حاجة إلى تعليل نزوحهم عن بلادهم. صحيح ان اسرائيل حاولت وستحاول أن لا تبقى عربيًا في اراضيها، لكن لا يحتاج اخوتى النازحون إلى أية تعليلات، فنزوحهم لم يكن بارادتهم، بل طُردوا، هم ضحايا لا أكثر ولا أقل.
واستطرد يقول إن من بقي قدم برهانًا على أن شعبنا لن يزول من داخل وطنه مهما تكررت مذابح دير ياسين وكفر قاسم، ولن يحدث لشعبنا ما حدث للعرب في الأندلس لأن الأندلس لم تكن وطنًا لهم، أما فلسطين فهي وطننا.
وعن احتمال استفادة اسرائيل اعلاميًا وسياسيًا من منحه هذه الجائزة قال حبيبي انها حجة واهية جابهناها في الماضى، في كل خطوة خطوناها في بلادنا. منذ ان انتزعنا في اسرائيل حق المواطنة بعد 1948، حاولت المؤسسة الحاكمة حجب الجنسية الاسرائيلية عنا، إلا أننا خضنا معارك وذهبنا إلى السجون وقتل بعضنا من أجل أن نحوز على الجنسية الاسرائيلية، لأن" الفارس العربى الأسمر" لم يأت من وراء الحدود على " فرسه الأبيض " ويخلصنا، وحسنًا أننا لم ننتظر مجئ هذا الفارس، ونعلم أنه حين كان يجئ كان لنجدة المؤسسة الحاكمة في اسرائيل ولإخراجها من ورطتها. اننا نتعلم انه ليس لنا إلا الإعتماد على النفس.
وتساءل حبيبى عما إذا كانت اسرائيل تستفيد من اعطائهم حريات، وقال: فلتستفد، فنحن بحاجة إلى هذه الحريات. اننا بحاجة إلى حق التصويت، فهو سلاح في ايدينا حين جُردنا من كل سلاح. ان قوة ورقة الاقتراع أقوى من الحجر في أيدى أخواننا بالمناطق المحتلة. اننا لا نفرط في ورقة الاقتراع لدخول الكنيست ولا هم يفرطون في الحجر، فهل تستفيد اسرائيل؟ هذا لا يشغل بالنا، ان ما يشغلنا هو تعزيز جذورنا في وطننا، وتعزيز مساهماتنا في الكفاح من أجل تقرير المصير في اقامة دولة مستقلة. وعن موقفه ممن يدينونه لمصافحته يد جلاد شعبه أشار إميل حبيبى إلى أنهم يقصدون بالطبع رئيس الحكومة الاسرائيلية اسحق شامير، وقال ان عرض القضية بهذا الشكل عرض ساذج وسطحي وديناصوري لأننا الآن شعبًا وقيادة تجاوزنا هذا الطرح،وقد أكد ياسر عرفات في أكثر من مناسبة انه مستعد للتفاوض مع اسحق شامير ومصافحته بقدر ما يكون هذا الأمر مفيدًا على صعيد الاعتراف الاسرائيلى بمنظمة التحرير الفلسطينية وبحق تقرير المصير للشعب العربى الفلسطينى، واستعداد اسرائيل للانسحاب من المناطق المحتلة.
وردًا على سؤال حول ما إذا كانت الرواية العربية تمثل هموم المواطن العربى اليوم وتعبر عن التغيرات التى حدثت في عصرنا قال حبيبى: في الواقع كانت الرواية العربية تعبر في الماضى عن هموم المواطن العربى بقدر نجاحها وصدقها، ولا يزال هذا مستمرًا. اننى شخصيًا أعمل بكل جهدى كى أسبر غور التغيرات الهائلة التى حصلت خلال السنوات الخمس الأخيرة، وأن أعبر عن انعكاساتها على حياتنا اليومية، على حياة الانسان الفرد.
وبالنسبة للأجيال الأدبية الجديدة وما إذا كانت قد حققت شيئًا جديدًا أكد انها بالطبع حققت ذلك، وأشار إلى أنه بقدر ما يشعر أنه عقبة أصبح يتمنى الزوال من منطلق انه لا يمكن للحياة إلا أن تسير إلى الأمام: اننى لا أقول اننى احسدهم، بل اتشرف بأن اجيالنا الأدبية ومثقفينا الشباب أكثر معرفة وحساسية منا، اكثر انفتاحًا وشجاعة في التجربة.
اما عن دور الابداع القصصى الفلسطينى مع تشابك الوضع الراهن للقضية الفلسطينية فقال حبيبى: أنا في زمن سيطرة ما نسميه "بالجدانوفية" على مفاهيمنا الادبية رأيت في الشكل الأدبى الفنى الامر الاساسى والمميز بين العمل الفنى والعمل الصحافي العادى، وباستمرار تجربتى ازددت اقتناعًا ان نظرتنا السابقة كانت خاطئة، وان المهم في العمل الادبى مثلا هو المضمون ولا يهم الشكل، وهذا كلام مبتسر.
وشدد على ان النتاج الادبى الفلسطينى لا يساير القضية الفلسطينية فقط بل يسايرها أكثر من اللزوم: اننى لا أقول انه آن الآوان لنتعايش مع نكبتنا، لكن علينا ايضًا ألا نهمل الانسان الفرد في ظل نكبتنا، وفي ظل الحياة النكبوية، وحين نفعل ذلك فاننا نكون قد وصلنا إلى التعامل عقلانيًا. ان المواقف المتشنجة وضيق الأفق تتعارض مع الحياةاليومية، ومواقف الروائى الفلسطينى التى تنتهى بالانتصار دائمًا وانها ثورة حتى النصر تتنافي مع الواقع اليومى للفرد.
وردًا على القول بأن إميل حبيبى يعيد النظر في ماضيه الشخصى عندما اختار العمل السياسى فأولاه اهتمامًا كبيرًا وأهمل العمل الابداعى، وهو ما يتضح في روايته الاخيرة "سرايا بنت الغول" قال: هذا صحيح، أننى أعيد تقييم التجربة التى مرت على منذ نعومة أظفارى والحركة التى ارتبطت بها وذلك منذ وقع الانهيار في الاتحاد السوفيتى والمعسكر الشيوعى. لقد قمت بواجبى الاول باعادة النظر في مسيرتى الشخصية كلها بشقيها السياسى والاجتماعى. وأضاف: أننى عندما أكتب الرواية لا أكتب رموزًا، وانما احاول أن أطلق الذاكرة من عقالها، وقد قلت اننى اخطأت وأهملت مما حملنى على التساؤل، فكتبت الرواية وأنا مسترسل في مراجعة مسيرتى ، وأسميت هذه المراجعة العودة على درب الآلام، وأنا استعدت درب الآلام الذي سرت فيه منذ طفولتى ومعالمها. إننى محظوظ من حيث اننى استطيع زيارة هذه المعالم مباشرة، فأردت بذلك ان استرجع الاسباب التى دفعتنى إلى التضحية حتى بالنفس من أجل الامانى السامية.
وتساءل عن هذه الامانى السامية، وأجاب بأنها العدالة الاجتماعية، والاستقرار الاجتماعى والنفسى، والحرية الوطنية، وانقاذ الفقير من الفقر. ومشيت في هذا الدرب، فوجدت أن هناك شيئًا إنسانيًا جعلنى انسى هذه الامانى التى ليس امانى ولا أمانى عصرى وحده، انما هى امانٍ متوارثة، إلا أننى نسيتها وأهملتها. هل مشاغل الحياة وحدها هى التى جعلتنى انساها وأهملها؟ بالطبع كان لمشاغل الحياةدور أيضًا، كان هناك غول يعلم بذلك، فتكشف كل هذا من خلال العمل الادبى وفي تداعياته الداخلية.
وقال ان هذا الغول يكمن في قبولى، على اقتناع، بأن اخضع الحق أو العدالة الآنية والخاصة في قضيتى الصغيرة المعينة إلى مختلف القضايا إلى ما اعتبرته المصلحة الكبرى، مصلحة الثورة، مصلحة الحزب. اننى اكتشفت اننا اصبحنا على الرغم من كل مبادئنا السامية، مكيافيلليين إلى حد ما، أى اصبحنا نقبل في العديد من تصرفاتنا المقولة بأن الغاية تبرر الوسيلة انها خلاصة مراجعتى التاريخية.
وأضاف: اننى لا اتخلى عن سراياي، سرايا طفولتي، الحبيب الأول، وجسدتها في شابة وصورتها بمختلف الاشكال الخيالية والمثالية، واخترت لها هذا الاسم من الاسطورة الفلسطينية، وقد سمعت ان نفس الاسطورة موجودة في الفلكلور المصرى.
وعما إذا كان هناك تناضح بين العمل السياسى والابداع، قال حبيبى: اننى اترك هذا للمتخصصين، فقد قدمت أكثر حياتى للعمل السياسى، وما أريده هو أن تتركوني لأداء العمل الأدبي.
إلا أنه استطرد يقول ان مجال الادب يختلف عن مجال العمل السياسى، فمهمة الفنان ترتكز على الضمير الانسانى، وهو ضمير شعبى، لكننا لا نستطيع نفي دور السياسى فهو الذي يتخذ القرار، وذلك بقدر ما نحتاج إلى دور الشعب وعدم اهماله.
قبل الرحيل أطرح سؤالاً: هل كان إميل حبيبي على حق في ما ذهب إليه من رأي وقبول تلك الجائزة؟ لقد رحل ويظل شاهد قبره يحمل وصيته "باق في حيفا".