حسابات الانتخابات الرئاسية فى مصر


خليل كلفت
الحوار المتمدن - العدد: 4447 - 2014 / 5 / 8 - 02:17
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان     

حسابات الانتخابات الرئاسية فى مصر
بقلم: خليل كلفت
1: رغم البساطة الشديدة البادية على الانتخابات الرئاسية القادمة لأنها ستُجرى بين اثنين لا ثالث لهما، من الجولة الأولى، وفى ضوء شعبية كاسحة لأحدهما تضمن فوزه بأغلبية ساحقة، حتى بدون حاجة إلى تزوير مباشر، على عكس العادة المصرية الراسخة فى مجال التزوير، تبدو حسابات ما بعد هذه الانتخابات وإعلان فوز السيسى بالرئاسة بالغة التعقيد. ذلك أن الفترة الرئاسية الأولى ستكون مصيرية يؤدى سلوك الرئاسة فيها إلى طريق السلامة أو (على العكس) طريق الندامة، أو بالأحرى "طريق اللى يروح ما يرجعش".
2: ورغم أن حسابات الانتخابات الرئاسية السابقة كانت فى الجولة الثانية بين اثنين فقط أيضا، العسكرى اللواء أحمد شفيق والإخوانى الدكتور محمد مرسى، وكانت الانتخابات مجهولة النتائج، كان الأمر الوحيد المؤكد بكل وضوح هو أن النتائج ستكون كابوسًا فى كلٍّ من الاحتمالين: كابوس فوز شفيق (بسبب نتائج وتداعيات الرفض الشعبى المتوقع) وكابوس فوز مرسى (لأن فوزه كان من شأنه أن يكون مدخلا إلى تحقيق المشروع الإخوانى لإقامة الدولة الدينية)، وكانت الانتخابات بالتالى مصيرية من حيث نتائجها المحتملة فى ذلك الحين؛ كما أثبتت التطورات اللاحقة لفوز مرسى. وكان الأمل الوحيد لدى نخبة المثقفين المهتمين بالشأن السياسى يكمن فى تصور حاسم مؤداه أن حكم الإخوان لن يكون إلا "جملة اعتراضية"، فى إطار السيطرة الفعلية للجيش، وقد أثبتت التطورات اللاحقة صحة ذلك التصور.
3: وتماما كما هو الحال اليوم كان هناك بالأمس غير البعيد استقطاب حاد للغاية بين معسكر شفيق ومعسكر مرسى. وكان من الأخطاء القاتلة من جانب المؤسسة العسكرية أنها لم تجد ممثلا لها إلا فى شخص اللواء شفيق، رغم الرفض الشعبى الحاسم المتوقع. وكان هذا المعسكر يضم إلى جانب المؤسسة العسكرية قوى ليبرالية ويسارية وشبابية متنوعة، وكان يضم بصفة أساسية رافضى مرسى وجماعة الإخوان المسلمين على رأس قوى الإسلام السياسى ومشروع الدولة الإسلامية. أما معسكر مرسى فكان يضم إلى جانب الإخوان وقوى الإسلام السياسى رافضى شفيق و"عاصرى الليمون"، لهذا السبب، من ليبراليِّين ويساريِّين كانوا على الأغلب ممن تعاونوا مع الإخوان المسلمين فى الانتخابات الپرلمانية لمجلسىْ الشعب والشورى (وفى انتخابات پرلمانية سابقة) وتشكيل اللجنتين التأسيسيتين للدستور. وكان الخيار المرعب ماثلا فى كلا الكابوسين: كابوس العودة شبه المباشرة لعصابة مبارك من خلال أحد أبرز أفرادها، أو كابوس إقامة دولة دينية فى مصر بقيادة جماعة الإخوان المسلمين الأصولية الإرهابية.
4: ولأن أحد المرشحيْن شفيق أو مرسى كان سيفوز ليس لأن الناخبين بأغلبيتهم يريدونه بل لأنهم لا يريدون المرشح الآخر، كانت تلك الانتخابات تزويرا فى تزوير، إلى جانب أىّ تزوير مباشر، وربما حسمت البلطجة الإرهابية الإخوانية الأمر عندما هددت الجماعة التى كانت تحتل الميادين والشوارع فى تلك اللحظة (مؤيَّدةً من جانب الولايات المتحدة الأمريكية)، بإحراق مصر فى حالة إعلان فوز شفيق، الذى تواترت وتتواتر روايات بأنه كان يتفوق على مرسى بثلاثمائة ألف صوت، فاضطر المجلس العسكرى إلى التزوير المباشر بإعلان فوز مرسى بالرئاسة، كرئيس "منتخب" حسب الأسطورة، التى يعتقد الإخوان أنها حجة قوية ضد ما يسمونه بالانقلاب العسكرى. ويستمر الآن نظر دعوى قضائية أمام المحاكم حول نتائج تلك الانتخابات.
5: وكان فوز مرسى بالرئاسة تدشينا لمرحلة مصيرية فى تاريخ مصر، حيث كانت الأخونة (وما أدراك ما الأخونة!) قد نضجت حتى قبل فوز الإخوان بحكم المرشد. وكان الصراع على أشده قبل تلك الانتخابات بين الحكم العسكرى والإخوان المسلمين، وبدا أنه يشهد مزيدا من الاحتدام ليصل إلى ذروة جديدة عند الإطاحة بقيادة طنطاوى و سامى عنان، وإنْ كانت الحقيقة هى أن الإطاحة بالقيادة السابقة للجيش كانت بمبادرة من داخل المؤسسة العسكرية، لتجديد القيادة؛ بالتفاهم مع مرسى، لاستغلال سلطاته مقابل إرضاء هيبته المصطنعة اصطناعًا. أما كيف اضطرت قيادة الجيش إلى تدشين حكم تعتبر إقامته مسألة حياة أو موت بالنسبة للدولة والطبقة الحاكمة فإنه أمر يرجع إلى حقيقة أن الإستراتيچيا التى حددتها المؤسسة العسكرية لنفسها تمثلت فى تفادى الحرب الأهلية مهما كان الثمن. وقد اضطرت إلى أن تدفع ثمنا غاليا للإخوان المسلمين مقابل قبولهم أُسُس وشروط التحالف معهم بهدف تحييدهم تفاديا للحرب الأهلية أيضا فى أعقاب ثورة يناير، حيث ظلت عاجزة عن المواجهة الحاسمة مع الإخوان المسلمين، بحكم انهيار أو ترنُّح أو تصدُّع كل مؤسسات الدولة تقريبا، حتى موجة يونيو 2012 الثورية بفضل استعادة الجيش للتماسك الكافى لتصفية الحساب معهم وفقا للخطة الموضوعة سلفا. وكانت الأخونة قد صارت على وشك أن تتم فصولا.
6: والحقيقة أن الإستراتيچيا التى حددتها المؤسسة العسكرية لنفسها مع الثورة وقواها تمثلت فى تفادى الحرب الأهلية بأىِّ ثمن. ومن هنا كانت إستراتيچيا التصفية التدريجية للثورة. وبهذا تفادت المؤسسة العسكرية حربا أهلية تعددت مخاطرها أولا بالتخلِّى عن مبارك والانقلاب العسكرى ضده تحت ضغط الثورة، وثانيا بالتحالف مع الإخوان المسلمين على رأس الإسلام السياسى ضد الثورة لكيلا يتحالفوا معها فى حرب أهلية ضد الجيش والدولة، وثالثا بإعلان فوز مرسى بالرئاسة على غير حقيقة الصندوق فى تلك الانتخابات، ورابعا بالإطاحة بالرئيس المنتخب المزعوم مرسى.
7: وتمثل هذا السلوك السياسى للمؤسسة العسكرية، ضد إرادتها، فى 1: الإطاحة بالرئيس الأسبق مبارك، و 2: التحالف مع الإخوان المسلمين، و 3: إعلان فوز مرسى على غير الحقيقة بعد وصوله إلى الجولة الانتخابية الثانية بفضل غباء سياسى من جانب المؤسسة العسكرية التى عمدت إلى اختيار شفيق ممثلا لمشروعها لاستعادة الدولة بعد الثورة، الأمر الذى ضاعف فُرَص مرسى فى حصد ملايين لا يستحقها من الأصوات فى تلك الانتخابات. أما الإجراء الرابع للمؤسسة العسكرية والمتمثل فى الإطاحة بالرئيس المنتخب المزعوم مرسى فقد كان أيضا لتفادى الحرب الأهلية التى كان الإخوان قد أوصلوا البلاد إلى حافتها، غير أن تلك الإطاحة لم تكن اضطرارية تحت ضغط موجة يونيو الثورية الكبرى التى استندت إليها المؤسسة العسكرية بعد أن ساعدت على تطورها واتساع نطاقها، وبالتالى كانت تلك الإطاحة متطابقة مع إرادة المؤسسة العسكرية على حين كانت التقلبات والتحالفات السابقة اضطرارية بهدف تفادى الحرب الأهلية تحت ضغط الثورة الشعبية مرة وتحت ضغط جماعة الإخوان المسلمين فى المرتين التاليتين. ولا ينبغى استسهال أو إدانة الجيش على تلك التحالفات بينه والإخوان باسم مبدإٍ ما فالمبدأ الأعلى فى مثل هذه الأوضاع هو تفادى الحرب الأهلية مهما كان السبب. فرغم كل النتائج السلبية لتلك التحالفات، كانت النتيجة الإيجابية الوحيدة، أعنى تفادى الحرب الأهلية على طريق الإطاحة بمشروع الدولة الدينية الإخوانية، تفوقها جميعا.
8: والحقيقة أن الثورة الشعبية التى تدَّعى مغالطات ديماجوچية شعبوية لقوًى متنوعة أنها كانت العامل الوحيد وراء نجاحها فى الإطاحة بالرئيس مبارك، لم يكن بوسعها وحدها إسقاط مبارك، بل كان الانقلاب العسكرى الذى بادر إليه الجيش مضطرا تحت ضغط الثورة، وليس لأنه يحنو على الشعب أو يرفق به أو يؤمن بأهداف ثورته، ضروريا بصورة مطلقة لحسم الموقف وإلا فإنه كان لا مناص من الغرق فى أتون حرب أهلية، وإنما كان الانقلاب العسكرى (بقيادة طنطاوى) تفاديا لها، لأن من شأنها تدمير الطبقة الحاكمة والشعب على السواء، وكان هدف تفادى الحرب الأهلية هو العامل الحاسم وراء خطوتين متزامنتين ومترابطتين: التخلِّى عن مبارك، والتحالف مع الإخوان. ورغم أن الإخوان المسلمين كانوا يُعِدُّون العدة للانقضاض على نظام مبارك فى سياق ثورة إسلامية فقد هاجموا الثورة الشعبية إلا أنهم نزلوا إلى الميادين والشوارع عندما استدعاهم مبارك للتفاوض معه من خلال اللواء عمر سليمان، محاولين إثبات جدارتهم بالتفاوض والتحالف مع مبارك، أو المؤسسة العسكرية فى حالة سقوطه، ذلك أنه إذا كان يمكن تحقيق مشروع الدولة الدينية الإخوانية عن طريق ثورة إسلامية مباشرة فقد كان يمكن تحقيقه أيضا عن طريق ركوب الثورة الشعبية بالتحالف ضدها مع المؤسسة العسكرية، متحيِّنين فرصة الانقضاض.
9: أما موجة 30 يونيو 2012 لثورة يناير، والتى أطاحت بالرئيس مرسى، فكانت ستظل عاجزة عن إسقاطه بدون تدخُّل الجيش. ذلك أن أىّ ثورة شعبية بدون الجيش بانقلابه العسكرى أو تدخله كانت تعنى، كما تعنى دوما، الحرب الأهلية الشعبية ضد الجيش والدولة. ويختلف تدخل الجيش وإطاحته بالرئيس السابق مرسى عن تخلِّيه عن الرئيس الأسبق مبارك وإطاحته به، فى واقع أن إطاحته ب مبارك كانت اضطرارية دون استهداف سابق، على حين كانت إطاحته ب مرسى، عن تربُّص وعَمْد وسبق إصرار. وهنا أيضا كانت الموجة الثورية ستظل عاجزة عن الإطاحة به بدون تدخل الجيش. أما الجيش الذى كان قد اضطر إلى التخلِّى عن مبارك والانقلاب العسكرى ضده على غير رغبته تحت ضغط الثورة فإنه كان سيضطر إلى التخلُّص من مرسى بملء إرادته عن طريق تدخل عسكرى دون غطاء شعبى من ثورة أو موجة ثورية لأن هذا كان الحسم الضرورى لصراع مرير بين قطاعين قومى مصرى وإسلاموى من الرأسمالية الكبيرة الحاكمة، كما يحدث فى كل حرب أهلية.
10: وكانت الإطاحة ب مبارك عن طريق انقلاب عسكرى مباشر لا شك فيه، وكان "انقلاب قصر" لأنه كان اضطراريا لإنقاذ نظام مبارك بدون مبارك، ولم يكن نتيجة أىّ صراع سابق بين المؤسسة العسكرية و مبارك، رغم مبالغات حول خلاف بينهما على مشروع التوريث، وامتدادا لنفس الموقف وتحت ضغط إدراك متأخر لخطر انفجار الغضب الشعبى فى حالة فوز المرشح العسكرى شفيق كانت التضحية به، والإطاحة برئاسته الوشيكة، تحت ضغط ضرورة تفادى الحرب الأهلية وبالأخصّ مع تهديدات الإخوان بحرق مصر.
11: أما الإطاحة بالرئيس السابق مرسى فكانت مختلفة تماما، ذلك أنها كانت حسما لصراع مرير صار لا مناص من تصعيده إلى الحدود القصوى، إلى حد مواجهة عسكرية شاملة، جرى الاستعداد لها من الطرفين المسلحين؛ الجيش من ناحية والتنظيم العسكرى للإخوان المسلمين وباقى الجماعات الأصولية المسلحة من ناحية أخرى. ولهذا فإن تدخل الجيش لم يكن انقلابا عسكريا بل كان صراعا أهليا مسلحا بين قطاعين من الطبقة الحاكمة: القطاع القومى والقطاع الإسلاموى، وكان مثل هذا الصراع المسلح بين قطاعين كبيرين داخل الرأسمالية الكبيرة فى العالم جوهر محتوى الحروب الأهلية فى العصر الحديث؛ وكانت الحرب الأهلية الأمريكية مثالا بارزا على ذلك.
12: وينبغى أن نلاحظ أن الانقلاب العسكرى ليس مرفوضا كمبدأ عام مطلق وإنما الحكم على الانقلابات العسكرية بمحتواها السياسى، وعلى سبيل المثال، هناك فارق كبير بين انقلاب الجيش ضد الملك فاروق وأسرة محمد على الكبير وبين الانقلاب التشيلى بتخطيط أمريكى ضد الرئيس "الاشتراكى" سلڤ-;-ادور أيّيندى، ولا شك فى أن انقلابا عسكريا ناجحا ضد هتلر كان من شأنه إنقاذ ما بين 50 مليونا إلى 85 مليونا من البشر كانوا قتلى تلك الحرب. وكما ذكرتُ منذ قليل فإن الصراع المسلح بين قطاعين داخل الرأسمالية الحاكمة لا يندرج تحت مفهوم الانقلاب العسكرى بل يدخل تحت مفهوم الحرب الأهلية. كذلك فإنه يوجد فارق كبير بين الحكم العسكرى، أىْ الحكم المباشر لمجلس عسكرى، مثل مجلس قيادة الثورة بقيادة عبد الناصر، ومثل مجلس المشير طنطاوى بعد ثورة يناير، وبين الدكتاتورية العسكرية أو الپوليسية التى لا مناص منها فى مجتمع طبقى فى أىّ مكان فى العالم، ولا سبيل إلى القضاء عليها إلا فى إطار اضمحلال الدولة فى مجتمع شيوعى، أىْ غير منقسم إلى طبقات، إلى رأسماليِّين وعمال، إلى أغنياء وفقراء، وإلا تحوَّل المجتمع البشرى إلى غابة بالمعنى الحرفى للكلمة. أما انتخاب رئيس دولة له خلفية عسكرية فلا علاقة عضوية له بأىٍّ من الحكم العسكرى والديكتاتورية العسكرية، على أن الديكتاتورية العسكرية هى قدر الإنسان فى مجتمع طبقى.
13: وكان من المنطقى أن يُلقى بنا الاستقطاب البالغ الحدة بين معسكرىْ شفيق و مرسى بفوز أىٍّ منهما فى هوة سحيقة بلا قرار؛ وهذا لأن الاستقطاب كان، وما يزال، فى حقيقته بين دولة ما قبل ثورة يناير لاستعادة سلطتها كاملة واستقرارها كاملا، وبين المشروع الإخوانى للدولة الدينية الذى ظل ينمو فى أحشاء اقتصاد ومجتمع ودولة ما قبل ثورة يناير على مدى عقود طويلة، إلى أن صار الاقتصاد المصرى التابع حاملا باقتصاد إخوانى وسلفى ريعى تابع، وصارت الدولة المصرية نصف الدينية نصف المدنية حاملا بدولة دينية إخوانية.
14: وعلينا أن نتذكر، عند الحديث عما يسمى بسرقة الثورة، أن المؤسسة العسكرية كانت بطلة استعادة دولة مبارك بدون مبارك، تحت شعارات الثورة ذاتها، وخدعة البناء الديمقراطى لمؤسسات الدولة، بعد أن زلزلتها ضربات تلك الثورة؛ فلم تكن سرقة للثورة إلا من حيث سرقة شعاراتها التى كانت قد صارت ملزمة وإلزامية على كل سلطة جديدة، فيما كانت الدولة الإخوانية المستهدفة سرقة لثورة يناير التى أجهض انفجارها الخطة الموضوعة لثورة إسلامية بهدف إقامة دولة دينية إخوانية، وعلينا ألَّا ننسى محاولات اغتيال متكررة فى الخمسينات ثم فى الستينات ثم فى أواخر السبعينات باغتيال السادات ومحاولات الاستيلاء على السلطة على أيدى جماعات غير بعيدة عن مشاريع وخطط ومؤامرات جماعة الإخوان المسلمين.
15: ويختلف استقطاب اليوم بين معسكرىْ س (السيسى) و ص (صباحى) عن استقطاب الأمس بين شفيق و مرسى فى أنه يقوم على اصطفاف مختلف وتحالفات جديدة وإنْ كانت قوى الاستقطاب السابق حاضرة بقوة وفاعلية مختلفتين ناشئتين عن نتائج المواجهة المسلحة الكبرى التى ما تزال مستمرة، والتى كان فيها فائزون وخاسرون، كما يختلف استقطاب اليوم عن استقطاب الأمس الذى جعل نتائج تلك الانتخابات بالمناصفة تقريبا على حين أن ثلاثة أرباع أصوات الناخبين أو أكثر ستذهب هذه المرة دون شك إلى الجيش فى شخص السيسى أو غيره إذا أصابته أقداره بمكروه.
16: غير أن الاستقطابين متشابهان تماما من حيث كونهما مدخلين محتملين إلى مرحلة مصيرية ممكنة فى تاريخنا. أما سؤال "لماذا" فسوف نحاول الإجابة عنه بعد قليل، ولكنْ يمكن أن نشير بإيجاز إلى أن السلوك السياسى لهذه الرئاسة أو تلك سوف تكون له نتائج مصيرية: لأن المهمة العاجلة المطروحة الآن هى القضاء على الإرهاب الأصولى الإخوانى السلفى، وتفادى اتساع نطاقه وتطوره إلى حرب أهلية مدمرة. ويمكن أن يكون سلوك رئاسى محدد عاملا حاسما فى تحقيق هذه المهمة فيما يكون أىّ سلوك رئاسى متهادن مدخلا سريعا إلى أخطر مخاوفنا. وسوف يتوقف نوع السلوك الرئاسى على طبيعة القوى التى يضمها كلٌّ من المعسكرين. ونبادر إلى تأكيد أنه إذا كان الحل الأمنى مدخلا سريعا إلى إنقاذ مصر فإنه لا يكفى مطلقا بل ينبغى أن تتسارع خطى الحل الشامل الذى يتألف من ثلاثة خيارات لا مهرب منها جميعا إلا إلى جحيم الحرب الأهلية: 1: خلق بيئة سياسية تتلاءم مع نمو الحريات والحقوق السياسية والنقابية لتفرض نفسها على الدولة ذاتها و2: مستويات كافية من الديمقراطية من أسفل بكل مكوِّناتها المتعلقة بمستويات المعيشة و3: التحرر من التبعية الاقتصادية عن طريق الانطلاق فى تنمية شاملة تقوم على صناعة متطورة تقود كل فروع الاقتصاد وعلى التحديث السياسى والفكرى والتعليمى السريع قبل أن يفوت الأوان!
17: ونجد أنفسنا الآن أمام الكابوس الجديد المتمثل فى احتمال عجز كلٍّ من الرئيسين المحتملين (س و ص)، رغم كل اختلاف بينهما، عن القضاء على إرهاب جماعة الإخوان المسلمين من خلال الاقتصار على الحل الأمنى، أو من خلال التهادن مع هذه الجماعة الأصولية الإرهابية، وبالتالى احتمال فتح الباب واسعا أمام عودة الإخوان إلى الحكم، أو تحوُّلهم إلى "رقم صعب" كتنظيم إرهابى قوىّ فى السياسة المصرية على مدى عقود طويلة قادمة، وفتح الباب فى كل الأحوال أمام حرب أهلية. غير أن نوعية الكابوس مختلفة ذلك أن السيسى ليس شفيق رغم أنه قادم من داخل قمة نظام مبارك، كما أن صباحى ليس مرسى رغم تعاون انتخابى سابق مع الإخوان بعد ثورة يناير ورغم لهاثه الحالى وراء الأصوات الانتخابية الإخوانية والسلفية وتأييد قسم من الإخوان له، وبالأخص الإخوانى المراوغ عبد المنعم فتوح على رأس حزب "مصر القوية"، ولا شك فى أن طبيعة القوى المشاركة فى معسكر س أو ص سيكون لها تأثير فى طبيعة السلوك السياسى لرئاسته. غير أنه إذا كان معسكر صباحى يضم إلى جانب قوى إخوانية قوى أخرى واسعة من شباب وشيوخ اليسار ومنهم من يقفون محتجين ضد استخدام القوة المفرطة ضد رابعة العدوية وغيرها من اعتصامات ومظاهرات واعتداءات على الجيش والشرطة والشعب والجامعات والمنشآت التى تشمل الكنائس والمسيحيِّين أيضا، ومنهم من يحتجون ضد الممارسات العدوانية للشرطة ضد عناصر من شباب الثورة، فإن معسكر السيسى يضم بدوره قوى أصولية سلفية إرهابية على رأسها حزب النور السلفى.
18: وتتحدد القوة النسبية للتأثير الإسلاموى، ومن يساندونه داخليا وخارجيا، فى هذا المعسكر أو ذاك، بطبيعة الحال، بالتناسب بين العناصر الأصولية والجسم الأساسى بداخل المعسكر المعنىّ. وإذا افترضنا أن قوة أنصار معسكر السيسى من الإسلاميِّين وقوة أنصار معسكر صباحى من الإسلاميِّين ومن المحيطين بهم متكافئتان، فإن المقارنة إنما تكون مع قوة الجسم الأساسى لكلٍّ من المعسكرين؛ من حيث علاقة القوة بين كل جسم منهما وأنصاره، أىْ مسألة لمن سيكون القرار داخل كل معسكر، ومن حيث علاقة القوة بين الجسمين لنرى أوضاع علاقة القوة بين المعسكرين فى حالة حكم أحدهما ومعارضة الآخر، لنعرف حظ كل منهما فى الانتخابات الرئاسية، وكذلك فى الانتخابات الپرلمانية القادمة، ولنعرف كذلك لمن سيكون التفوق فى الفترة الأولى للرئاسة على الأقل: للجسم الأساسى للمعسكر أم لحلفائه؟
19: فما هو أقوى مكوِّن من مكوِّنات الجسم الأساسى لدعم كل معسكر منهما انتخابيا وسياسيا فى فترة الرئاسة الوشيكة؟ ولا شك فى أن الجسمين بكل مكوِّنات كلٍّ منهما لا يقدِّمان علاقات سكونية بل يتفاعلان مع تطورات داخلية وخارجية، دولية وإقليمية. فلسنا إذن إزاء قوة مادية جسمانية جامدة بل تتغير قوة كل معسكر منهما، وعلاقة القوة بينهما، وفقا لطبيعة السياسات المتبعة ومدى نجاحها فى تحقيق الأهداف المرجوَّة، وكذلك وفقا لأوضاع إقليمية ودولية متغيرة، وتحالفات واصطفافات جديدة.
20: ويتمثل الجسم الأساسى لمعسكر السيسى فى الدولة بكل مكوِّناتها ومؤسساتها وبالأخص القوات المسلحة، وهى القوة العسكرية الحاسمة فى مصر كلها، وفى الطبقة الحاكمة بكاملها. وهو يستند إلى جيش مظفر إلى الآن فى المعركة مع الأصولية الإسلامية بقيادة الإخوان المسلمين مع شعبية الجيش الناشئة عن هذا الظفر ذاته بوصفه إنجازا تاريخيا مصيريا للجيش و السيسى، كما يستند إلى تراجع قوة الإخوان المسلمين وتراجع تأثيرهم على مسار التطورات السياسية المقبلة. وبالطبع فإن قوة الدولة والطبقة الرأسمالية الحاكمة متفوقة، من ناحية، على المكوِّن الإسلامى، لحزب النور والصوفية، ومن ناحية أخرى، على كل مكوِّنات الجسم الأساسى لمعسكر صباحى. ذلك أن هذا الأخير يستند إلى عناصر ليبرالية هزيلة وعناصر أو قوى يسارية فى أقصى حالات الضعف والهلهلة والتشرذم والانتهازية السياسية ولا تكاد تعرف رأسها من رجليها إلى جانب المكوِّن الرئيسى الملتف حول جماعة الإخوان المسلمين الإرهابية وباقى الجماعات الأصولية الإرهابية. ومن الملاحظ أن الليبرالية منقسمة: الغالبية العددية للأصوات الانتخابية مع السيسى والأقلية مع صباحى. كما انقسم اليسار إلى قسم مع السيسى وقسم مع صباحى وقسم آثر ترك حرية التصويت للأعضاء وهذا الموقف الديمقراطى دائما وربما كان هنا خَجَلًا من إعلان تأييد السيسى الأمر الذى يعنى أن أغلب أصوات هذا القسم من اليسار ستذهب إليه.
21: وهناك بالطبع المجهول الإخوانى الذى يضمر ويعلن العداء اللدود إزاء السيسى وستتجه الأصوات الانتخابية الإخوانية فى غياب المقاطعة الفعلية مهما كان الموقف الرسمى دون شك إلى صباحى. غير أن صعوبة توكيلات صباحى وضآلة عددها بالمقارنة مع توكيلات السيسى، وكذلك نتائج استطلاعات المركز المصرى لبحوث الرأى العام "بصيرة"، مؤشرات مهمة للغاية فيما يتعلق بحظوظ صباحى فى الانتخابات. وإلى صف السيسى يجب حساب التأثير الكبير للإعلام الحكومى والخاص رغم بعض مظاهر الموضوعية. ويدخل السيسى الانتخابات مستندا إلى إنجاز كبير فى خلق أمل التخلص من الإرهاب ويدخلها صباحى دون إنجاز من أىّ نوع على الإطلاق. و صباحى ناصرى من نوع خاص وهناك إحساس شعبى بأن السيسى "ناصر" جديد، غير أن الناصرية مضى زمانها وأفل نجمها وانقشعت أوهامها وليست صحوتها الحالية عند أقسام من الشعب سوى سحابة صيف. وعلى كل حال، سيكون دور الناصرية ضئيلا فى الانتخابات بالنظر إلى استناد السيسى إلى إنجازه هو على رأس الجيش ومعاناة صباحى من هزيمة مكوِّنات مهمة فى معسكره، وبالأخص الإخوان.
22: ومقابل المخاوف من أن تقود رئاسة صباحى بتهادنه المرجَّح مع الإخوان مضطرا بحكم ضعفه إلى الاستناد إلى قوتهم، إلى استعادتهم للحكم أو تحوُّلهم إلى تنظيم إرهابى سرى لا خلاص منه وكعامل من عوامل حرب أهلية لا مناص منها فى هذه الحالة، من المحتمل بشدة أن تقود رئاسة السيسى إلى نفس النتيجة فى حالة عدم النجاح فى تحقيق الحل الشامل والاكتفاء بالحل الأمنى. ففى هذه الحالة ستكون هناك موجات جديدة محتملة من الثورة قد تعمل لصالح الشعب غير أنها قد تنطوى على احتمال تعزيز قوة الإسلام السياسى؛ وبالطبع فإن القوتين الأساسيتين سياسيا وعسكريا فى مصر هما القوات المسلحة والإسلام السياسى وبالأخص الإخوانى.
23: وهناك بالطبع الاستمرار الذى لا مناص منه للسيطرة الفعلية للمؤسسة العسكرية فى ظل رئاسة افتراضية مستبعدة على كل حال. وهنا سيكون لا مناص من انقلاب التحالفات ليتحالف صباحى مع السيسى ضد الإسلام السياسى وليتحالف حزب النور والسلفيُّون بعد الموقف المتخذ إزاء الانتخابات بتأييد السيسى؛ من باب التقية من أجل البقاء الانتهازى وكذلك فى سبيل سيطرة مأمولة على ساحة حركة الإسلام السياسى فى مصر. ذلك أن التعاون الحالى للسلفيِّين مع السيسى لا يستبعد الصدام فى المستقبل معه مع التنامى المحتمل لقوتهم ومع استمرار المهادنة الحالية معهم بمنطق عدم الصدام فى وقت واحد مع كل قوى الإسلام السياسى، رغم التجربة المريرة مع الإخوان والسلفيِّين فى ظل رئاسات عبد الناصر و السادات و مبارك؛ ومحاولاتهم المتكررة للانقضاض على السلطة فى عهود الرئاسات الثلاث.
24: وهناك بالطبع المخاوف من ديكتاتورية عسكرية وپوليسية تقيمها رئاسة السيسى بعد التمكن خلال سنوات قليلة من السيطرة على الحرية المنتزعة أثناء الثورة. غير أن العالم كله تحكمه ديكتاتوريات عسكرية وپوليسية، وتمثل الولايات المتحدة الأمريكية كبرى هذه الديكتاتوريات. وكما سبقت الإشارة فإن الدولة الدينية، بدورها، لن تكون سوى دولة عسكرية ولكنْ مسلحة بمثالب الدولة الدينية فى ظل الديانات الكبرى طوال التاريخ.
25: وبين الدولة العسكرية التى لا مناص منها بقيادة السيسى، أو غيره حتى من المدنيِّين، والدولة العسكرية الدينية الإخوانية التى قد تكون قيادة صباحى حصان طروادة فى الطريق إليها، يقع الظل. وأمام هذا الخيار البالغ الصعوبة يمكن أن يصير اليسار المصرى، عن جهل وانتهازية معًا، إلى أداة طيعة فى تحقيق الدولة الدينية.
26: ولن أتوقف عند برنامج كل من المرشحين الرئاسيين المتطابقين من حيث الجوهر. وبالتالى فإن البرنامج ليس مؤشرا حقيقيا على السياسة المحتملة للفرقاء، فالدستور والبرامج ليست سوى أوراق لا يحترمها الحكام رغم الوعود المعسولة. ولأننى أتخذ منذثوة يناير موقف المقاطعة إزاء الاستفتاءات والدساتير والانتخابات الپرلمانية والرئاسية المتكررة فإننى لا أزكى أحدا من المرشحين؛ لكننى من الناحية التحليلية أرى أن ترشُّح صباحى لا تعدو أن تكون مسرحية هزلية لا معنًى لها ولا تؤدى إلى شيء، فليست الانتخابات الرئاسية الوشيكة سوى استفتاء مفتعل على رئيس مصر الفعلى، ليس غدا بل منذ الأمس، وربما منذ ما قبل رئاسة محمد مرسى!
27: والآن، وبلا مواربة، حانت ساعة الحقيقة. ورغم أملنا طوال الفترة التالية للثورات العربية فى أن تؤدى إلى الأفضل أدت انحرافات الثورات وقواها، كل ثورة بطريقتها الخاصة فى الحرب الأهلية، إلى الدمار الشامل للبلدان التى شهدت هذه الثورات. وبعد الآن ليس هناك بصيص أمل فى أن تقوم قائمة لهذه البلدان فى مستقبل منظور. وقد غاصت حتى مصر فى مستنقع بدايات الحرب الأهلية وبدايات الدولة العسكرية الدينية، ولم تخرج مصر إلى الآن من هذه الأزمة الطاحنة المدمرة. وما يزال ينعقد أمل باهت فى ألَّا يكون اليسار المصرى أداة من أدوات الأيدى التى تتهدد مستقبلنا!
7 مايو 2014