مراحل تطور الرأسمالية الى الامبريالية وصولاً إلى مرحلة العولمة المتوحشة الراهنة


غازي الصوراني
الحوار المتمدن - العدد: 4432 - 2014 / 4 / 23 - 21:53
المحور: ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية     

مراحل تطور الرأسمالية الى الامبريالية وصولاً إلى مرحلة العولمة المتوحشة الراهنة
(بمناسبة اليوم العالمي لمناهضة الامبريالية )
تمهيد
منذ اجتياز النظام الرأسمالي العالمي – في العقد التاسع من القرن العشرين- لمرحلة تمركز الانتاج والاستقطاب والصراع من أجل التوسع في اطار الثنائية القطبية، وانتقاله الى مرحلة سيادة العولمه وتعمقها لتصبح السمة المركزية للمنظومة الرأسمالية العالمية التي قادتها وحددت مسارها  الولايات المتحدة الامريكية، عبر هيمنتها الاحاديه على نظام العولمة الرأسمالي طوال العقود الأربعة الماضية حيث برز النظام الانتاجي المعولم ساعياً الى مزيد من الهيمنة لكي يفرض نفسه بديلاً للنظم الانتاجية، الوطنية، القومية في دول العالم الثالث التي بدأت - ولأسباب داخلية وخارجية- تفقد القدرة على توفير احتياجات شعوبها، اضافة الى عجزها في مواجهة متطلبات او شروط الاقتصاد الراسمالي المعولم، وقد  ترافق مع هذا التحول الاقتصادي، تغيرات نوعية، سياسية واجتماعية وايديولوجية في بلدان الأطراف او العالم الثالث بوجه خاص، عززت انقسامها -كما يقول د. سمير أمين- الى بلدان توفرت لديها امكانات التصنيع  في حدود معينه، بما يسمح بادخالها الى السوق العالمي وفق شروطه الجديدة مع بقاءها ضمن دائرة العالم الثالث مثل بعض دول امريكا اللاتينية وآسيا، وبلدان عجزت عن توفير هذه الامكانيات ، خرجت من اطار العالم الثالث وأصبحت تندرج فيما يسمى ببلدان العالم الرابع (أو أكثر)، تتوزع على قارتي افريقيا وآسيا عموماً، ومعظم بلدان الوطن العربي خصوصاً.
كما شهدت العقود الأربعة الماضية، إنتشاراً  واسعاً لافكار الليبرالية الجديدة ، وقد كشفت الأزمة المالية الراهنة ، أن هناك وجه آخر للحقائق أو الوقائع الأمريكية التي تنمو وتتراكم بصورة سلبية، ستجعل وجه الولايات المتحدة الأمريكية في نظر شعوب العالم في بلدان الأطراف خصوصاً، أكثر بشاعة من وجه النازية في أحط درجاتها وممارستها، وذلك عبر سياسة "عولمة السلاح" وإرادة القوة الباغية التي تمارسها الولايات المتحدة ضد شعوب العالم في أمريكا اللاتينية وأفريقيا واسيا وفي بلداننا العربية، عبر وكيلها الامبريالي الصغير دولة العدو الصهيوني التي تقوم في هذه المرحلة بممارسة أبشع أدوارها الوظيفية في خدمة المصالح والسياسات الامبريالية الأمريكية في بلادنا.
فإذا كانت السياسة هي تكثيف للاقتصاد ، فإن الاضطراب العام الذي يعرفه النظام الرأسمالي هو تأكيد على صحة مقولة ماركس حول فوضى الإنتاج باعتبارها قانونا ملازما للرأسمالية من ناحية وهو أيضا تعبير عما يجري في أسواق المال العالمية من ناحية ثانية ، إذ أن هذا الاضطراب (الأزمة) سيوفر بالضرورة مناخاً جديداً لمتغيرات اقتصادية واجتماعية وسياسية هامة على الصعيد العالمي ،كما هو حال التطور التاريخي للبشرية ، فالمتغيرات التي رافقت النمط الإقطاعي في أوروبا في القرنين السادس عشر والسابع عشر حتى نهاية القرن الثامن عشر أدت إلى نمو البورجوازية ومن ثم ولادة النمط الرأسمالي بالانسجام مع أفكار وأسس ليبرالية السوق كما صاغها  " آدم سميث " (1723-1790) وفق شعار "دعه يعمل دعه يمر" أو سياسة حرية السوق دون أية قيود، وقد استمر تطبيق هذه السياسة حتى عام 1929 عندما انفجرت الأزمة الاقتصادية العالمية ، وأدت إلى متغيرات جديدة دفعت إلى الاستعانة بآراء "جون ماينارد كينز" (1883-1946) التي دعت إلى ضرورة تدخل الدولة في إدارة الاقتصاد وتحمل مسئولية التخلص من حالات الركود الاقتصادي خلافاً للنظرية الليبرالية/الكلاسيكية التي تقوم على مبدأ حرية السوق وعدم التدخل،وإلغاء كافة الرسوم ومفهوم اليد الخفية.
من هنا فإن الدعوة إلى مقاومة عولمة الاستسلام ، تمثل أحد أبرز عناوين الصراع العربي الراهن من أجل التحرر والديمقراطية والعدالة الاجتماعية بآفاقها الاشتراكية - ، مدركين أن أحد أهم شروط هذا التحدي العربي لهذه الظاهرة هو امتلاك تقنيات العصر ومعلوماته وفق مفاهيم العقل والعلم والحداثة ، في إطار أيدلوجي تقدمي ينتمي إلى الواقع العربي ويتفاعل معه ويعبر عنه في الممارسة العملية من جهة ، وإلى الاشتراكية والفكر الماركسي كضرورة تاريخية للخلاص والتحرر الوطني والقومي و الاجتماعي من جهة أخرى ، إنها مهمة لا تقبل التأجيل ، يتحمل تبعاتها – بشكل مباشر – المثقف التقدمي الملتزم في كل أقطار الوطن العربي ، إذ أنه في ظل استفحال التخلف وعدم تبلور الحامل الاجتماعي الطبقي النقيض للعولمة وتأثيرها المدمر ، لا خيار أمام المثقف العربي سوى أن يتحمل مسئوليته – في المراحل الأولى – منفرداً ، وهذا يستلزم – كخطوة أولى – من كافة الأحزاب والقوى والأطر اليسارية الثورية ، أن تتخطى شروط أزمتها الذاتية ، وأن تخرج من حالة الفوضى والتشتت الفكري والسياسي والتنظيمي الذي يكاد يصل إلى درجة الغربة عن الواقع عبر التوجهات الليبرالية الهابطة أو العدمية التائهة .
لقد آن الأوان لاستخدام النظرية والمنهج العلمي استخداماً جدلياً مع الواقع العربي بكل تفاصيله وخصوصياته ، وذلك على قاعدة الالتزام الأيدلوجي من جهة والالتزام بالديمقراطية كوسيلة لا بد من نشرها وتعميقها ومأسستها على الصعيد المجتمعي ، وتطويرها من شكلها السياسي أو التعددي الفوقي إلى جوهرها الشعبي الاجتماعي الاقتصادي الذي يمثل نقيضاً لأوهام الليبرالية الغربية وشروطها المعولمة من جهة أخرى .
إن الدعوة للالتزام بهذه الرؤية وآلياتها ، تستهدف في أحد أهم جوانبها ، وقف حالة الإحباط واليأس التي تستشري الآن في أوساط الطبقات الاجتماعية الكادحة والفقيرة ، ومن ثم إعادة تفعيل مشروع النهضة القومي الوحدوي كفكرة مركزية توحيدية في الواقع الشعبي العربي ، ونقله من حالة السكون أو الجمود الراهنة إلى حالة الحركة والحياة والتجدد ، بما يمكن من تغيير وتجاوز الواقع الراهن .   
 
ولادة الرأسمالية من احشاء النظام الاقطاعي في مرحلة تفككه التاريخي :
 
بدأ تفسخ النظام الاقطاعي في أوروبا منذ القرن السادس عشر مع تطور الانتاج السلعي ونمو السوق الداخلي والخارجي .. الخ ، وكان من أوائل أيدلوجيي البرجوازية ميكافيلي (1469 – 1527) الذي ذهب إلى أن المجتمع لايتطور تبعاً لارادة خارجية وميتافيزيقية ، وإنما وفقاً لاسباب طبيعية ، تضرب جذورها في التاريخ وفي النفسية البشرية والوقائع الملموسة .
وفي مرحلة تشكل العلاقات الرأسمالية تأثر الفكر الاجتماعي بحركة الإصلاح المناوئة للكنيسة الإقطاعية الكاثوليكية ، ومن زعماء هذه الحركة مارثن لوثر ( 1483 – 1546 ) وتوماس مونزو (1453 – 1525 ) اللذان أكدا على فكرة الإتصال المباشر بالله دون واسطة الكنيسة .. أيضاً ظهرت في هذه المرحلة بعض الأفكار الاشتراكية الطوباوية ، ومن مفكريها توماس مور (1478 – 1535 ) الذي أكد في كتابه ( الأوتوبيا – أو الكتاب الذهبي ) إلى أن أصل ويلات الشعب هو الملكية الخاصة التي لابد من القضاء عليها في رأيه ، وجاء بعده المفكر الإيطالي ( توماسوكمبانيلا 1568-1639 ) ليؤكد ويطور نفس الأفكار الطوباوية في كتابه " مدينة الشمس " ولكن هذه الأفكار لم يقدر لها أن تنتشر بسبب الظروف الموضوعية السائدة في القرن السادس عشر .
ومع تطور انتاج البضاعة والسلع الرأسمالية شرعت البرجوازية في التصدي لسلطة الاقطاعيين ، وطالبت بإلغاء الامتيازات والتقسيمات المراتبية ، وبرز في هذا السياق عدد من المفكرين  من أبرزهم سبينوزا(1632-1677) الذي طالب بتأسيس الدولة كتنظيم يخدم مصالح كل الناس ، وجون لوك (1632-1704) الذي قال بأن الحالة الطبيعية للبشر تتأكد عند سيطرة الحرية والمساواة كمفاهيم أساسية تحكم المجتمع . 
وفي القرن 18 تطورالفكر الاجتماعي في اوروبا تحت راية التنوير في فرنسا ، وكان فولتير (1694 – 1778 ) من أبرز مفكري التنوير ، أكد على الحق الطبيعي في نقده للنظام الإقطاعي ، وعنده أن القوانين الطبيعية هي قوانين العقل ، فالإنسان يولد حراً ولايجب أن يخضع إلا لقوانين الطبيعة .         
ومن بين المفكرين أصحاب النزعة الديمقراطية الثورية كان جان جاك روسو (1712-1778)  الذي رأى أن أصل الشرور والتفاوت بين البشر يعود إلى الملكية الخاصة كسبب أولي وحيد فهو القائل " إن العداء والكراهية والأنانية بين البشر، بدأت حينما وضع أول إنسان سياجاً حول قطعة من الأرض معلناً أنها ملكيته الخاصة " .
أما الفيلسوف المادي الفرنسي هولباخ (1723- 1789 ) فنادى بتأسيس دولة أو عقد اجتماعي قائم على الحرية والملكية والأمن ، وجاء رائد الفلسفة الكلاسيكية الألمانية ( كانط 1724- 1804) الذي اعتبر التاريخ تطوراً للحرية البشرية وبلوغاً لحالة قائمة على العقل ، واعترف بمساواة المواطنين أمام القانون ،  ثم ساهم هيجل (1770 –1831) بقسط كبير في معالجة المشكلات الفلسفية لتاريخ المجتمع وافترض أن في صلب الكون تقوم " الفكرة المطلقة " الدائمة التطور ، والتي خلقت العالم كله – الطبيعة والإنسان ، والمجتمع .  
ان أهمية الفلسفة السابقة ودورها ،  يكمن في توفير المرجعية المعرفية العقلانية والليبرالية النقيضة للمرجعية المعرفية الارستقراطية ومجمل افكار المجتمع الاقطاعي ، ومن ثم شق الطريق للبورجوازية الصاعدة آنذاك وبداية تكون الملامح الأولى للطبقة البرجوازية ، كطبقة مالكه لوسائل وأدوات الانتاج ، وقد كان مستوى التطور النسبي للإنتاج البضاعي ( السلعي ) في أواخر التشكيلة الاقطاعية ، السبب الرئيسي ( عبر الانتاج والتجارة والمرابين والتراكم النقدي ) في نشوء العلاقات الرأسمالية .
ومع تطور الرأسمالية ، تتطور قوى الانتاج باستمرار ، وما ينتج عن ذلك من تعارض حاد أحياناً بينها وبين علاقات الانتاج القديمة ، وهذا لايعني أن الرأسمالية تستطيع دائماً أن تحل أزماتها الداخلية بما يضمن استمرار صعودها ، فبالرغم من كل مانلاحظه اليوم من تطور هائل وانتشار " واسع " ، إلا أن ذلك لايلغي إطلاقاً طبيعة الأزمة والتناقضات الداخلية للنظام الرأسمالي منذ وصوله إلى مرحلة الامبريالية ، في نهاية القرن التاسع عشر ، وامتداده إلى عصرنا الراهن حيث اصبحت العولمة الرأسمالية هي السمة الاساسية للإمبريالية في طورها الجديد ، إن العولمة " صيغة تهدف إلى إعادة صياغة النظم السياسية والاقتصادية السائدة في العالم ، بهدف إخضاع العالم لإرادة كونية واحدة ، إنها انفتاح عالمي بلا حدود ، وهيمنة بلا حدود ، تقوم على حرية حركة رؤوس الأموال والمنتجات والتسليم بسيادة السوق ، وفي العولمة ستصبح دول العالم الثالث ، والوطن العربي تحديداً ( في ظل انظمة الكومبرادور الديني الاسلام السياسي أو الليبرالي الرث)  ، مجرد مشروعات يتم بواسطتها تدمير السوق الوطني أو القومي ، ولكن كما أن للعولمة مخططاتها ومقوماتها، فإن لبديل العولمة أو نقيضها مقوماته ، المسألة إذن مرتبطة باللحظة التاريخية الراهنة ، وتطور تراكمات النقيض ،العامل الذاتي ، الحزب الماركسي الثوري ( في مجتمعاتنا العربية ودول العالم الثالث ) وماستحمله هذه التراكمات من متغيرات نوعية لن تقتصر على الصراع الاقتصادي فحسب ، بل ستمتد للصراع السياسي والايديولوجي "  بشكل متجدد ومستمر سيدفع بالضرورة إلى كسر اندفاعة العولمة الرأسمالية ومقوماتها ، وهذا يستدعي بالضرورة رؤية وإطاراً جديدين ، على الصعيد الوطني أولاً والقومي ثانياً والأممي ثالثاً دون أي انفصام بين هذه العناصر، لمواجهة هذه الهيمنة المتوحشة، وتجاوز رموزها وأدواتها الطبقية في كل أرجاء الوطن العربي .
 
المراحل التاريخية ( الأساسية) لتطور الرأسمالية:
من هنا تأتي أهمية الوعي بالمراحل التاريخية لتطور الرأسمالية. وسوف نميز هنا بين خمسة مراحل أساسية، جرى فيها ضغط لا هوادة فيه من جانب الرأسمالية العالمية على البلاد المتخلفة لتطويع هذه البلاد وإخضاعها لشروط نمو الرأسمالية وحركة تراكم رأس المال بالمراكز الصناعية. وهذه المراحل هي:
1-   مرحلة الكشوف الجغرافية .
2-   المرحلة المركنتيلية (الرأسمالية التجارية).
3-   مرحلة الثروة الصناعية.
4-   مرحلة الاستعمار.
5-   مرحلة الإمبريالية.
6-   مرحلة العولمة الأحادية الرأسمالية .
 
المرحلة الأولى: مرحلة الكشوف الجغرافية: وهي مرحلة التمهيد لنشأة الرأسمالية ، أي فترة الكشوف الجغرافية التي امتدت من نهاية القرن الخامس عشر حتى منتصف القرن السابع عشر، وهي الفترة التي مهدت لتكوين السوق العالمية فيما بعد. عبر اندفاع جحافل من التجار والبحارة المغامرين في أوروبا (أسبانيا، البرتغال..) إلى البحار والمحيطات الواسعة لكسر حدة السيطرة التجارية التي كانت تفرضها الإمبراطورية العثمانية على مبادلات أوروبا مع المناطق الشرقية الأفريقية.
ومن هنا، استهدفت حركة الكشوف الجغرافية التي تمت في هذه المرحلة هدفين رئيسيين:-
-         الأول، هو كسر الحصار التجاري الذي فرضته الإمبراطورية العثمانية.
-         الثاني، هو البحث عن الذهب ومصادره.
وبالفعل تمكن عدد كبير من البحارة المعروفين، (فاسكودي جاما، وكريستوفر كولومبس...) بمؤازرة تمويل ضخم من الأمراء وكبار التجار، من الوصول إلى الهند والعالم الجديد (أمريكا الجنوبية والشمالية)، حيث تمكن الأوروبيون من نهب موارد هائلة من الذهب والفضة من البلاد المكتشفة، وتكوين مستعمرات للمستوطنين البيض على المناطق الساحلية، وإقامة محطات تجارية فيها.
وهكذا استطاعوا من تحويل اتجاهات التجارة الدولية وطرقها لصالحهم. وخلال هذه المرحلة التي مثلت فجر الرأسمالية المبكر بدأت أولى محاولات تكييف الهيكل الاقتصادي لتلك البلاد والمناطق من خلال فرض نمط إنتاج كولونيالي عبودي، يقوم على إجبار السكان المحليين لإنتاج بعض المنتجات الزراعية التي كان الطلب عليها قد تزايد في أوروبا، مثل الدخان والشاي والبن والسكر والقطن والأصباغ.
ومن المهم هنا، أن نعي أن وسيلة تكييف هذه المناطق لمتطلبات القارة الأوروبية، كانت هي الغزو الحربي واستخدام القوة والقهر والابادة الجماعية للسكان وعمليات القرصنة وإراقة الدماء.
 
المرحلة الثانية : المرحلة المركنتيلية (الرأسمالية التجارية): وهي المرحلة التي تمتد من منتصف القرن السابع عشر وحتى النصف الثاني من القرن الثامن عشر، والتي سيطر فيها رأس المال التجاري الأوروبي على أسواق العالم وظهر فيها ما يسمى بالدول القومية. فقد استطاعت الرأسمالية التجارية من خلال جماعات التجار المغامرين والشركات الاحتكارية الكبرى (مثل شركة الهند الشرقية، وشركة الهند الغربية...) أن تُخضع البلاد المفتوحة لعمليات نهب لا رحمة فيها، وأن تتاجر في أحقر تجارة عرفتها البشرية، وهي تجارة العبيد الذين كانوا يقتنصون من أفريقيا، بأبشع وسائل القنص، ويرسلون إلى مزارع السكر والدخان في أمريكا الجنوبية والشمالية وأوروبا.
وقد استطاعت الرأسمالية التجارية بشركاتها العملاقة ومن خلال ما كونته من إمبراطوريات واسعة، أن تكدس أرباحا ضخمة عن طريق العمل على ترسيخ نمط الإنتاج الكولونيالي الذي أرسى دعائمه المستوطنون البيض في فترة الكشوف الجغرافية. وكان من شأن ذلك تحقيق موازين تجارية مواتية (ذات فائض) لدول القارة الأوروبية. وبذلك تمكنت الرأسمالية التجارية أن "تشفط" ذهب وفضة المناطق الشرقية والأفريقية والأمريكية.
والحقيقة ان تلك الأرباح والثروات الهائلة التي كونها التجار، وفرت أحد المصادر الهامة للتراكم البدائي لرأس المال في مرحلة الثورة الصناعية. وهكذا تمكنت الرأسمالية التجارية من تكييف وتطويع مناطق عبر البحار من خلال رأس المال التجاري، الذي كان قد نما وتطور في هذه الفترة وهو يقطر دماً وتفوح منه رائحة السرقة والنخاسة والغش والخداع.
المرحلة الثالثة : مرحلة الثورة الصناعية : بدأت هذه المرحلة مع ظهور رأس المال الصناعي، وتحققت الثورة الصناعية خلال الفترة الممتدة بين النصف الثاني من القرن الثامن عشر وحتى سبعينيات القرن التاسع عشر، مع استمرار  المراكز الرأسمالية في تطويع وتكييف المناطق المسيطر عليها.
فلم تعد حاجة الرأسمالية قاصرة على السكر والدخان والبهارات والتوابل والرق والمعادن النفيسة ، بل اتسعت لتشمل المواد الخام التي تلزم لاستمرار دوران عجلات الصناعة، والمواد الغذائية (القمح واللحوم والزبد...) التي تلزم لإطعام سكان المدن والعمال الصناعيين.
ومن ناحية أخرى، سرعان ما أدى النمو الهائل الذي حدث في المنتجات الصناعية بفضل ثورة الماكينات إلى ظهور الحاجة للبحث عن منافذ إضافية لهذه المنتجات خارج الحدود القومية للرأسمالية الصناعية المحلية.
وقد لعبت "ثورة المواصلات" –النقل البحري والسكك الحديدية- وما أتاحته من اتصال بأبعد مناطق العالم، دورا خطيرا في فتح هذه المناطق وغزوها بالمنتجات الصناعية الجديدة. وتشير بعض المصادر، إلى أن التجارة توسعت خلال الفترة 1820-1900 بمعدل أسرع بكثير من معدل نمو الإنتاج الصناعي، إذ تضاعفت واحدا وثلاثين مرة في تلك الفترة.
     وعند هذه المرحلة أُرسيت دعائم تقسيم العمل الدولي غير المتكافئ بين البلاد الرأسمالية الصناعية والمستعمرات وأشباه المستعمرات. ففي ضوء التفاوت الحاد الذي برز بين درجة التطور في قوى الإنتاج في البلاد الأوروبية التي دخلت مرحلة الثورة الصناعية، وبين البلاد الأخرى عبر البحار، في افريقيا واسيا وأمريكا الجنوبية والتي ظلت تراوح مكانها وما زالت تعيش في حالة سابقة على الرأسمالية، وفي ضوء التنافس الضاري على التصدير الخارجي وفتح الأسواق الخارجية بالقوة، وجدت مجموعة البلاد الأخيرة نفسها أمام جحافل ضخمة من المنتجات المصنعة الرخيصة نسبيا التي تنافس بشدة الإنتاج المحلي. وقد أدى ذلك إلى دمار الإنتاج الحرفي الداخلي. ومن الآن فصاعدا ، سيفرض على هذه البلاد نمط جديد للتخصص، تقوم بمقتضاه بإنتاج المواد الخام ، الزراعية والمنجمية، على أن تستورد في مقابل ذلك المنتجات المصنعة في الغرب الرأسمالي، وأن تتبع في ذلك سياسة الباب المفتوح، أو التجارة الحرة.
وبذلك أدمجت مناطق وراء البحار، والتي كانت مكتفية ذاتيا وذات بنيان إنتاجي متنوع، أدمجت في الاقتصاد الرأسمالي العالمي لكي تكون منبعا لإنتاج وتوريد المواد الخام والمواد الغذائية وسوقا واسعة لتصريف فائض الإنتاج السلعي الذي كانت تضيق عن استيعابه الأسواق المحلية للرأسماليات الصناعية الغربية.
ومنذ تلك اللحظة التاريخية، سيتحدد مركز وقوة كل بلد في النظام الرأسمالي العالمي بدرجة نموه وتفوقه على الآخرين في التجارة العالمية، وبموقعه في نظام التخصص وتقسيم العمل الدوليين.
المرحلة الرابعة: مرحلة الاستعمار : بدات هذه المرحلة مع دخول الرأسمالية مرحلة الاحتكار في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، حيث زادت درجة تركز الإنتاج ورأس المال، وأخذت المؤسسات الصناعية الكبيرة تزيح من أمامها المؤسسات الصغيرة والمتوسطة، منهية بذلك عصر رأسمالية المنافسة، وبرزت قوة رأس المال المالي، وهو رأسمال يستخدم في الصناعة بصورة أساسية، وتسيطر عليه البنوك والشركات الصناعية.
فلم تعد مهمة البنوك مجرد التوسط لجمع المدخرات وإعادة إقراضها لمن يريد بل "غدت احتكارات قوية" تجمع تحت أيديها الجزء الأكبر من رأس المال النقدي للجماعة، وتتحكم في جانب من وسائل الإنتاج ومصادر المواد الأولية.
وبذلك دخلت البنوك في عملية الإنتاج ، ونفذت إلى الصناعة، وامتزج رأسمال البنوك برأسمال الصناعة، مكونا أقلية مالية هائلة القوة الاقتصادية.
وعند هذه المرحلة تحتدم مشكلة فائض رأس المال داخل البلاد الرأسمالية الصناعية، وتنشأ الحاجة الموضوعية لتصديره. والفائض هنا نسبي وليس مطلقا، بمعنى أنه لا يعني بأي حال من الأحوال ، أن هذه البلاد أصبحت تعج بوفرة كبيرة من رؤوس الأموال، ومن ثم لا تحتاج لاستثمارها بالداخل في الصناعة والزراعة والخدمات، وإنما الفائض يعني هنا، أنه إذا استثمر في الداخل، فإنه سيؤدي إلى تدهور معدل الربح. وهنا يسعى الرأسماليون للبحث عن مجالات خارجية للاستثمار يكون فيها متوسط معدل الربح أعلى من نظيره في الداخل.( وهذه هي السمة الرئيسية لرأس المال الذي يسعى دوماً للتوسع لمزيد من الربح عبر ممارسة أبشع وسائل الاستغلال والاضطهاد لكل الفقراء والكادحين في بلدانه عموماً وفي بلدان الأطراف خصوصاً)
ولهذا فقد شهدت الفترة 1875 وحتى عشية اندلاع الحرب العالمية الأولى، سباقا محموما، ولكن غير متكافئ، بين الدول الرأسمالية الصناعية في مجال تصدير رؤوس الأموال، ولم تعد بريطانيا وحدها تستأثر بهذا التصدير وإنما سرعان ما شاركها في ذلك فرنسا وألمانيا والولايات المتحدة.
فقد أصبح البحث - في هذه المرحلة- عن مغانم جديدة في افريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية من خلال تصدير رأس المال إليها للاستثمار في مجال إنتاج المواد الخام، أصبح حقلاً للتنافس الضاري بين الدول الرأسمالية الصناعية.
ولهذا فقد تميزت الفترة الممتدة من العقد الثامن من القرن التاسع عشر حتى الحرب العالمية الأولى بصراع محموم بين المراكز الرأسمالية الاحتكارية لاقتسام مناطق العالم وضمان احتوائها للوفاء بمتطلبات استمرار عمليات تراكم رأس المال في تلك المراكز. يشهد على ذلك أنه في عام 1900 كان 90.4% من مساحة افريقيا و 75% من مساحة آسيا قد تم اقتسامها بين القوى الاستعمارية، لكن هذا التقسيم لم يكن متكافئا بين هذه القوى، وهو الأمر الذي أجج صراعا محموما فيما بينها، انتهى بإشعال الحرب العالمية الأولى.
على أن تكييف وتطويع المستعمرات والبلاد التابعة على النحو الذي يلبي حاجات تراكم رأس المال بالمراكز الرأسمالية الاستعمارية، كان يتطلب تحقيق مجموعة هامة من التغيرات الجذرية الداخلية.
وقد تمثلت أهم هذه التغيرات في إدخال نظام الملكية الخاصة للأراضي الزراعية، وإلغاء نظام المقايضة والتوسع في استخدام النقود، وإنشاء نظام نقدي ومصرفي يخضع لآليات نظام النقد الدولي آنذاك (قاعدة الذهب)، والقضاء على نظام الطوائف الحرفية، وخلق طبقة عاملة أجيرة للعمل في المناجم والمزارع والمشروعات الأجنبية بأجور زهيدة لا علاقة لها بمستوى الإنتاجية.
وفوق هذا وذاك، العمل على تكوين شرائح وفئات اجتماعية موالية، ترتبط مصالحها مع المستعمر. كما استخدمت سياسة إغراق هذه البلاد في الديون الخارجية (حالة مصر وتونس والجزائر...)، لإحكام السيطرة عليها والتدخل المباشر في شئونها الداخلية ، وفرض الاحتلال العسكري عليها فيما بعد.
ومن المؤكد ان تلك التغيرات الجذرية وما تمخض عنها من تنظيمات وقوانين وعلاقات اقتصادية واجتماعية وسياسية ، أصبحت تتكفل فيما بعد بإعادة إنتاج واستمرار تقسيم العمل الدولي اللامتكافئ بين الرأسمالية المسيطرة والبلاد المتخلفة المسيطر عليها.
كان لهذه التغيرات نتائج مدمرة على مستقبل تطور المستعمرات وأشباه المستعمرات والبلاد التابعة، فقد تم تشويه بنيانها الإنتاجي من خلال نمط التخصص الذي فرض عليها وتم "شفط" فائضها الاقتصادي وحرمانها ، ومن ثم من مصادرها الذاتية للتراكم، عبر آليات الاستثمار الأجنبي وحرية التجارة.
ثم اندلعت الحرب العالمية الثانية، وكان اندلاعها تجسيما لأزمة كبرى تمر بها منظومة النظام الرأسمالي، وانعكاسا للتناقض الشديد الذي تفجر بين القوى الاحتكارية في الدول الرأسمالية الصناعية.(على أثر بروز ألمانيا النازية وسعيها إلى مزيد من السيطرة على الأسواق العالمية بقوة السلاح)
وما يعنينا هنا أنه في خضم هذه الحرب وما بعدها، نشأت وتطورت حركات التحرر الوطني في آسيا وافريقيا وأمريكا اللاتينية ، لتؤدي في النهاية إلى الحصول على الاستقلال السياسي وخروج المستعمر، أو بعبارة اخرى الى إزاحة نظام السيطرة العسكرية والسياسية والإدارية المباشرة في المستعمرات وشبه المستعمرات.
المرحلة الخامسة: مرحلة الإمبريالية: لقد أدركت الرأسمالية العالمية التي تولت قيادتها الولايات المتحدة الأمريكية بعد الحرب العالمية الثانية، أدركت ان إعادة إنتاج علاقات السيطرة والاستغلال تجاه الدول المتخلفة سوف يتطلب أشكالا جديدة، تأخذ بعين الاعتبار التغيرات المختلفة التي طرأت على علاقات القوى النسبية الفاعلة في العالم. وكان الوصول إلى هذه الأشكال هو أهم ما عبرت عنه مرحلة الإمبريالية.
إن السند الرئيسي الذي استندت عليه الرأسمالية العالمية في سعيها الدءوب لتجديد علاقات التبعية والسيطرة على البلاد المتخلفة حديثة الاستقلال، كان يتمثل في استمرارية بقاء الهيكل الاقتصادي التابع والمشوه الذي ورثته هذه البلاد من الفترة الكولونياليه والاستعمارية ، وما يرتبط بهذا الهيكل من شرائح وقوى اجتماعية اعتمدت مصالحها وقوتها في المجتمع على دوام هذا الهيكل.
ومهما يكن من أمر، فإننا لو ألقينا إطلالة سريعة على جوانب الخبرة التاريخية التي تراكمت في العقود الأربعة التي تلت الحرب العالمية الثانية، لنستخلص منها أهم أدوات الإمبريالية الجديدة التي استخدمتها المراكز الرأسمالية الصناعية لاستمرار "تكييف" البلاد المتخلفة بعد حصولها على استقلالها السياسي، لأمكننا رصد الأدوات التالية:
1.    سعت الدول الرأسمالية الاستعمارية إلى إيجاد نوع من العلاقات الخاصة الثنائية مع مستعمراتها السابقة.
2.  استخدام سلاح ما سمي "بالمعونة الاقتصادية" : المعونات الغذائية والهبات والقروض والتسهيلات الائتمانية.
3.  خلق روابط متينة مع بعض الفئات والشرائح الاجتماعية (من الاقطاعين من كبار الملاك والتجار ما يسمى بالوجهاء من أبناء العائلات والمخاتير .. الخ) ورجال الحكم من كبار الموظفين المدنيين والعسكريين (البيروقراطية العيا) حتى يمكن المحافظة على الوضع القائم.
4.  استخدام أسلوب المعونات العسكرية التي قدمت لكثير من الأنظمة الديكتاتورية والرجعية لحماية وتأمين الأمن الداخلي لهذه النظم وقمع أي حركات ثورية بالداخل، ودمجها ضمن الاستراتيجية العسكرية للرأسمالية العالمية، من خلال إقامة القواعد العسكرية والدخول في الأحلاف واتفاقيات الأمن المتبادل.
كانت محصلة هذه الأدوات الهامة، استمرار هذه البلاد مجالا مفتوحا أمام الصادرات الصناعية من البلاد الرأسمالية، ومجالاً مربحا للاستثمارات الأجنبية، ومصدرا غنيا ورخيصا للمواد الخام ولم تتحقق فيها تنمية ذات بال في مجال قواها الإنتاجية وتنويع بنيانها الإنتاجي في سياق تكريس مظاهر وأدوات التخلف والتبعية كما هو حال بلدان النظام العربي الرسمي في هذه المرحلة من تحول الرأسمالية إلى طور العولمة، حيث تعمقت تبعية وخضوع الشرائح الطبقية الحاكمة في بلادنا العربية للهيمنة والشروط الأمريكية – الإسرائيلية، ما يؤكد على فقدان هذه الأنظمة لوعيها الوطني بعد أن فقدت وعيها القومي  ولم يعد لها من هم سوى المزيد من استغلال ونهب ثروات شعوبها التي باتت من شدة معاناتها وحرمانها تتطلع بشوق للمشاركة في تغيير وتجاوز هذا الواقع المهزوم.
 
سادساً: مرحلة العولمة الرأسمالية الاحاديه:
لم يعد ثمة خلاف على أن المتغيرات العالمية ، النوعية المتدفقة ، التي ميزت العقدين الأخيرين من القرن العشرين، في السياسة و الاقتصاد و التطور العلمي ، شكلت في مجملها واقعاً تاريخياً معاصراً و رئيسياً وضع كوكبنا الأرضي على عتبة مرحلة جديدة ، في القرن الحادي و العشرين ، لم يعهدها من قبل ، و لم يتنبأ بمعطياتها ووتائرها المتسـارعة أشد الساسة و المفكرين استشرافا أو تشاؤماً و أقربهم إلى صناع القرار ، خاصة ذلك الانهيار المريع في كل من المنظومة الاشتراكية العالمية و منظومة التحرر القومي من جهة ، و الانحسار أو التراجع المريع أيضاً ، و لكن المؤقت للبنية الأيديولوجية أو الفكرية لقوى الاشتراكية و التحرر القومي من جهة أخرى ، الأمر الذي أخل بكل توازنات القوة و المصالح وفق مفاهيم و أسس الثنائية القطبية التي سادت طوال حقبة الحرب الباردة السابقة ، ووفر معظم مقومات بروز مرحلة الأحادية القطبية أو العولمة منذ ثمانينات القرن الماضي، التي اقترنت بالإمبريالية الأمريكية التي استطاعت -حتى تفجر الأزمة العالمية المالية في سبتمبر 2008- استكمال فرض هيمنتها على مقدرات هذا الكوكب ، بحكم ادعائها أنها المنتصر الوحيد ، و بالتالي صاحبة الحق الرئيسي في رسم و تحديد طبيعة و مسار العلاقات الدولية في المرحلة الجديدة وفق آليات ومفاهيم الليبرالية الجديدة .
 
تطور مفهوم العولمة وآثاره الضارة :
في سياق هذا التحول المادي الهائل الذي انتشر تأثيره في كافة أرجاء كوكبنا الأرضي بعد أن تحررت الرأسمالية العالمية من كل قيود التوسع اللامحدود ، بتأثير هذا التطور النوعي الهائل في مجال الاتصالات وثورة المعلومات والتكنولوجيا ، وقيام التكتلات الاقتصادية العالمية العملاقة ، كان لابد من تطوير وإنتاج النظم المعرفية ، السياسية والاقتصادية التي تبرر وتعزز هذا النظام العالمي الأحادي في ظل حالة من القبول أو التكييف السلبي ، بل والمشاركة أحيانا من البلدان الأوروبية واليابان وروسيا الاتحادية ، شجعت على تطبيق شروط العولمة ، إضافة الى هذا المناخ العام المهزوم أو المنكسر في بلدان العالم الثالث أو الأطراف ، الذي أصبح جاهزاً للاستقبال والامتثال للمعطيات السياسية والاقتصادية ، الفكرية والمادية الجديدة عبر أوضاع مأزومة لأنظمة فقدت في غالبيتها الساحقة وعيها الوطني أو كادت ، وقامت بتمهيد تربة بلادها للبذور التي استنبتها النظام العالمي " الجديد " تحت عناوين تحرير التجارة العالمية ، إعادة الهيكلة ، والتكيف ، والخصخصة،  باعتبارها أحد الركائز الضرورية اللازمة لتوليد وتفعيل آليات النظام العالمي " الجديد " أو العولمة ، كظاهرة نشأت في ظروف موضوعية وذاتية –دولية وإقليمية- مواتية ، وليس كحتمية تاريخية كما يدعي أو يتذرع أصحابها أو المدافعين عنها الخاضعين لشروطها المذلة ، فالعولمة ليست في حد ذاتها شكلا طارئا من أشكال التطور البشري ، وإنما هي امتداد بالمعنى التاريخي والسياسي والمعرفي والاقتصادي لعملية التطور الرأسمالي التي لم تعرف التوقف عن الحركة والصراع والتوسع والنمو ، المتسارع والبطيء ، منذ مرحلتها الجنينية الأولى في القرن الخامس عشر ، الى مرحلة نشوئها في القرن الثامن عشر ، ومن ثم تطورها الى شكلها الإمبريالي في نهاية القرن التاسع عشر ، هذه المرحلة التي وصل فيها النظام الرأسمالي طوره الإمبريالي المعولم الذي يسعى –استنادا الى منطق إرادة القوة المتوحشة- الى العودة بشعوب العالم الى جوهر وقواعد مرحلة النشوء الأولى للرأسمالية وآلياتها التدميرية القائمة على قواعد المنافسة الأنانية التي تضمن هيمنة الأقوى للاستيلاء على فائض القيمة المحلي في بلادنا كما في بلدان الأطراف جميعا ، باسم الشعار القديم "دعه يعمل دعه يمر" كدعوة صريحة تستجيب لفكرة الهيمنة التي تشكل اليوم هدف ومحور نشاط المراكز الرأسمالية المعولمة الراهنة ، ولضمان عملية التوسع الاكراهي -بالقوة العسكرية والاحتلال المباشر أو عبر أنظمة التبعية والخضوع أو كلاهما معا- ضد مقدرات شعوب العالم الفقيرة باسم الخصخصة والانفتاح والليبرالية الجديدة ، ومشهد الإسلام السياسي في المرحلة الراهنة تحت ستار زائف من الشكل الأحـادي "الديمقراطي" الليبرالي وحقوق الإنسان ، هدفه الضغط على دول العالم عموما ، والعالم الثالث على وجه الخصوص ، للأخذ بالشروط الجديدة تحت شعار "برامج التصحيح والتكيف" التي تمثل كما يقول د.رمزي زكي "أول مشروع أممي ، تقوم به الرأسمالية العالمية في تاريخها لإعادة دمج بلدان العالم الثالث في الاقتصاد الرأسمالي من موقع ضعيف، بما يحقق مزيدا من إضعاف جهاز الدولة ، وحرمانها من الفائض الاقتصادي ، وهما الدعامتان الرئيسيتان اللتان تعتمد عليهما الليبرالية الجديدة".
هذا هو جوهر الإمبريالية في طورها المعولم في القرن الحادي والعشرين ، وبالتالي فإننا نرى أنه ليس نظاما دوليا جديدا ، وإنما هو امتداد لجوهر العملية الرأسمالية القائم على التوسع والامتداد ، وهو أيضا استمرار للصراع في ظروف دولية لم يعد لتوازن القوى فيها أي دور أو مكانة ، ولذلك كان من الطبيعي أن تقوم الولايات المتحدة الأمريكية ومعها الاتحاد الأوروبي واليابان (الثالثون المعولم حسب د.سمير أمين) ، بملء الفراغ الناجم عن انهيار التوازنات الدولية السابقة بهذه الصورة الاستبدادية المتوحشة.
 وبنشوء هذا الفراغ ، السياسي ، الاقتصادي ، الأيديولوجي ، أصبحت الطريق ممهدة أمام المخططات التوسعية للرأسمالية صوب المزيـد من السيطرة ، ففي ضـوء وضوح هذه المخططات خلال العقود الأربعة الماضية تتكشف الطبيعة المتوحشة للرأسمالية المعولمة اليوم على حقيقتها عبر ممارساتها البشعة القائمة على استغلال فائض القيمة لشعوب العالم الفقيرة ، ضد كافة القيم الإنسانية الكبرى في العدالة الاجتماعية والمساواة ، كما في الثقافة والفكر والحضارة ، وذلك بالاستناد إلى المؤسسات الدولية التي تكرست لخدمة نظام العولمة الرأسمالي الراهن ، وهي :
1. صندوق النقد الدولي الذي يشرف على إدارة النظام النقدي العالمي ويقوم بوضع سياساته وقواعده الأساسية ، وذلك بالتنسيق الكامل مع البنك الدولي ، سواء في تطبيق برامج الخصخصة والتكيف الهيكلي أو في إدارة القروض والفوائد والإشراف على فتح أسواق البلدان النامية أمام حركة بضائع ورؤوس أموال بلدان المراكز الصناعية .             
2.منظمة التجارة العالمية WTO وهي أهم وأخطر مؤسسة من مؤسسات العولمة الاقتصادية ، تقوم الآن بالإشراف على إدارة النظام التجاري العالمي الهادف الى تحرير التجارة الدولية وإزالة العوائق الجمركية، وتأمين حرية السوق وتنقل البضائع ، بالتنسيق المباشر وعبر دور مركزي للشركات المتعددة الجنسية .      
وفي ضوء هذه السياسات والشروط المحددة من قبل الصندوق والبنك الدوليان من جهة ، ومنظمة التجارة الدولية من جهة ثانية ، أصبحت السياسة التجارية للدول المستقلة ، ولأول مرة في التاريخ الاقتصادي للأمم ، شأنا دوليا ، أو معولما ، وليس عملا من أعمال السيادة الوطنية أو القومية الخالصة … فعلى النقيض من كل ما كتبه مفكرو العولمة ، المدافعين عن إجراءات الخصخصة والليبرالية وتحرير التجارة العالمية ، وآثارها الإيجابية على الدول النامية ، فإن النتائج الناجمة عن اندماج بلدان العالم الثالث في هذه الإجراءات ، تشير الى تكريس مظاهر التبعية السياسية والمالية والتجارية  والتكنولوجية، مع تزايد مظاهر الإفقار والبطالة وتراجع النمو وإعاقة عمليات التنمية في هذه البلدان وفقدانها لجوهر استقلالها السياسي والاقتصادي.
لكن تطور التناقضات الناجمة عن سياسات إقتصاد السوق والمنافسة الحرة والانفتاح بلا قيود أمام حركة رأس المال المالي والسلعي، ادى إلى نشوء وتراكم عوامل الأزمة المالية والاقتصادية التي تفجرت في سبتمبر/ أيلول 2008 ، الأمر الذي يؤذن ببداية مرحلة جديدة _ في إطار النمط الرأسمالي _ تقوم على حساب أحاديه الهيمنة الأمريكية على كوكبنا، وإزاحتها صوب نظام قطبي تعددي في الاقتصاد والسياسة العالمية عبرة ادوار جديدة ونسبية للاتحاد الأوروبي وروسيا والصين واليابان والهند والبرازيل في إطار كتل سياسية اقتصادية وقواعد جديدة للعلاقات الرأسمالية العالمية في مرحلة ما بعد الأزمة.
أخيراً، لقد أقامت الماركسية البرهان العلمي على أن الحل المادي لكافة مشكلات الحياة الاجتماعية إنما ينبع من الحل المادي لمسألة علاقة الوجود الاجتماعي ، بالوعي الاجتماعي الذي بدوره يمارس تأثيراً عكسياً على الوجود الاجتماعي ، شرط كشف بشاعة الاستغلال الرأسمالي وممارسة عملية التحريض الثوري في أوساط الجماهير الشعبية الفقيرة والكادحة من العمال والفلاحين وكافة المضطهدين والمظلومين ، وذلك عبر المسارعة إلى التقاط لحظة نضوج الظروف الموضوعية للثورة على كل مظاهر وأدوات الاستغلال الطبقي وكل أشكال الاستبداد والتبعية والتخلف ، وذلك كله مرهون بتوفير عناصر ومقومات الحزب الماركسي الثوري في كافة أقطار العالم عموماً ، وفي أقطار ومجتمعات العالم الثالث وبلدان الوطن العربي خصوصاً ، إذ أنه بدون توفر العامل الذاتي / الحزب الماركسي الثوري الممتلك للرؤية السياسية والطبقية الواضحة إلى جانب التحامه واندماجه في أوساط جماهير الكادحين ، لن يكون هناك أي امكانية لانتصار الانتفاضات الشعبية ضد أنظمة الاستغلال والاستبداد ، بل ستنجح قوى الثورة المضادة والقوى اللبرالية الرثة وقوى الإسلام السياسي في قطف ثمار الانتفاضات العفوية والوصول إلى السلطة وتغيير شكل النظام المستبد بشكل آخر لا يختلف في جوهره ومضامينه ومصالحه الطبقية عن النظام المخلوع كما جرى في مصر وتونس واليمن وليبيا في المشهد الراهن .