رحيل الكاتب الكولمبي غارثيا ماركيث أحد مبدعي الواقعية السحرية


خالد سالم
الحوار المتمدن - العدد: 4428 - 2014 / 4 / 18 - 17:33
المحور: الادب والفن     

ولكنها تدور، (يا أرض الكنانة).
Galileo Galilei: Eppur si muove, (Egitto)



رحيل الكاتب الكولمبي غارثيا ماركيث أحد مبدعي الواقعية السحرية

د. خالد سالم
خلق عالمًا خاصًا به، ميزه عن مجايليه، انطلاقًا من ماكوندو، هذا العالم الذي يتعايش فيه الخيال والواقع، إلى جانب الأسطورة والحلم، فأصبح أحد أعمدة الطفرة،Boom، التي أخرجت أدب أميركا اللاتينية من محليته إلى عالمية واسعة في سبعينات القرن العشرين، ليحفر له مكانًا بين آداب العالم. وكانت بداية هذه الطفرة من خلال عمله الأبرز والأكثر شهرة وانتشارًا بعد الكتاب المقدس ودون كيخوتي، ملحمته الشهيرة "مائة عام من العزلة، إذ سجل رقمًا قياسيًا ببيع 30 مليون نسخة، جراء نجاح جارف منذ أن نشرها لأول مرة في عام 1967.
هكذا أسهم الكاتب والصحفي الكولمبي غابرييل غارثيا ماركيث في إثراء أحد روافد الأدب العالمي وحمله إلى عالمية لم يكن يحلم بها أفضل المتفائلين في مرحلة ما بعد الحداثة. استلهم عالمه منذ أن بدأ الكتابة الإبداعية في الخمسينات والستينات لكنه سجل نجاحًا مع أولى رواياته العظيمة سالفة الذكر. وظل معطاءً منذ أن ولج عالم الكتابة الصحفية متنقلاً بين أمكنة عدة في بلاده وبقاع شتى من الكرة الأرضية.
كان غابو، كما كان يلقبه أصدقاؤه، قد ولد في قرية أراكاتاكا، التي ألهمته مناخ أبرز أعماله، في 6 مارس 1927، وهناك بدأ حياته صحفيًا لامعًا، إلى أن توفي أمس في العاصمة المكسيكية، ليعلن نبأ وفاته الرئيس المكسيكي نفسه، وينعيه معه العالم الناطق بالإسبانية الذي خصته وسائل إعلامه اليوم بمساحات واسعة بأقلام رموز ثقافة هذا العالم. وهناك أحرقت جثته، نزولاً على رغبته.
اكتسب خصوصيته من الواقعية السحرية التي برز فيها واقتفى خطاه كتاب كثيرون من القارة الناطقة بالإسبانية، وحولها دارت أساطير كثيرة تناولها النقاد من شتى أنحاء العالم. وكان قد لخص هذه الواقعية بأنها أسلوب أدبي يرتكز على الأسطورة والسحر وغيرهما من الظواهر الخارقة للعادة التي يعج بها العالم الموَلّد، المزيج، في الكاريبي وأميركا اللاتينية حيث تختلط الأعراق والثقافات، ومعهما العادات والتقاليد للسكان الأصليين والمستعمرين الأوروبيين والمهاجرين من القارات كافة إلى جانب العبيد الذين جلبهم المستعمر الأوروبي. هذا دون أن يبخل على أدبه من رافدة الحضور العربي في تلك القارة وهو ما نجده جليًا في أسماء ورموز عربية تحوم في بعض أعماله.
ظل طوال حياته على طريقه لم يحد عنه، سار على معتقداته وقناعاته الفكرية و لم يحد عنه طوال حياته، المعتقدات التي تميل إلى جانب الإنسان، دون أن يتراقص حول الغرب الرأسمالي الليبرالي، فحاز نوبل الآداب مبكرًا، في عام 1982. لم يحرق البخور لأحد ولا لأكبر جائزة أدبية في العالم، النوبل، بل كانت هي الساعية إليه عرفانًا بما أسداه للأدب المحلي والعالمي. ظل وفيًا لأفكاره فلم يبتذلها بمغازلة الغرب الرأسمالي الليبرالي على عكس بعض مجايليه من كتاب أميركا اللاتينية، من بينهم آخر نوبل يكتب بالإسبانية، البيروفي ماريو بارغاس يوسا، الذي نالها في 2010.
بل ظل وفيًا للثورة الكوبية التي آمن بها منذ انطلاقها على يد صديقه الأبدي فيدل كاسترو ورفاقه الآخرين، وعلى رأسهم الأسطور والرمز تشي غيفارا، إحدى أيقونات التحرر في القرن العشرين في العالم. حافظ على التزامه رغم التحولات التي شهدهه العالم والكثير من المثقفين منذ العقد الأخير من القرن العشرين، انهيار حائط برلين.
شغل طغاة ومستبدو أميركا اللاتينية فضاءً كبيرًا في أعماله السردية، وكان هذا طبيعيًا منه ومن كتاب هذا القارة التي ذاقت الأمرين من الإنقلابات العسكرية والحكام الطغاة بمساندة جلية من واشنطن، فأصبحت إحدى روافد الأدب الأميركي اللاتيني في النصف الثاني من القرن العشرين.
اقترب غابرييل غارثيا ماركيث من العالم العربي في إنتاجه، السردي والصحفي، وكان قد كتب مقالاً، في مطلع عام 1983 –إن لم تخني الذاكرة نشره في جريدة إلبائيس الإسبانية، وكان موضع تعليق لي وزملائي في جامعة مدريد- شديد اللهجة ضد إسرائيل جراء دورها في مذبحة صابرا وشاتيلا، متخذًا من منح جائزة نوبل للسلام إلى أحد جزاري الشعب الفلسطيني مناحم بينغن، واصفًا إياها بجائزة "نوبل للموت".
واستعرض في ذلك المقال تصفية منظمة التحرير الفلسطينية في بيروت على يد السفاح شارون وطرد قادتها إلى تونس. وطالب بإقامة دولة فلسطينية بموجب قرارات مجلس الأمن الدولي . وكان هذا المقال قد أثار غضب قادة إسرائيل ومساندي الصهيونية كعادتهم. كما كانت له مواقف واضحة ضد ذبح الشعب العراقي بحجة الحصار الإقتصادي ثم غزو العراق.
رحل "غابو" مخلفًا إرثًا وسعًا للبشرية من الأدب والفكر القريب من الإنسان، أدب يولج في قضايا منطقة من منطلق كوني يأسر من يقترب منه، وليظل يفخر به سكان بلده، كولمبيا، الذي أنهكته المشكلات السياسية والإجتماعية، وعلى رأسها الفساد والمخدرات، إلا أنه بدأ العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين بخطى واثقة في مستقبل أفضل بين دول أميركا اللاتينية التي تخلصت من ثقل ماضٍ بائس، أثقل خطاها عقودًا.
ربما كان غارثيا ماركيث الأوفر حظًا بين كتاب أميركا اللاتينية الذي تناولته أقلام المشتغلين بآداب اللغة الإسبانية في الوطن العربي ترجمةً ودراسةً، وهو ما يتجلى في بحوث وكتب عدة. إلا أن ترجمات أعماله كانت الأكثر حظًا في أرض الكنانة من خلال مشروع المركز القومي للترجمة ودور النشر الخاصة.