ثلاث ملاحظات على مقاربات سيمورهيرش وروبرت فيسك


ياسين الحاج صالح
الحوار المتمدن - العدد: 4426 - 2014 / 4 / 16 - 14:36
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي     

على مستوى المقاربة وأدوات التفكير، لا جديد في ما كتبه سيمور هيرش مؤخرا عن أن "متمردين" سوريين، بتخطيط تركي، هم من استخدموا السلاح الكيماوي في غوطة دمشق الشرقية في آب 2013: http://www.lrb.co.uk/v36/n08/seymour-m-hersh/the-red-line-and-the-rat-line
وفي مساندة روبرت فيسك له بعد حين:
http://www.independent.co.uk/voices/comment/has-recep-tayyip-erdogan-gone-from-model-middle-east-strongman-to-tinpot-dictator-9252366.html
ربما يشغل الرجلان مواقع انشقاقية في منابر الإعلام الناطقة بالانكليزية، لكنهما حيال سورية "أبيضان"، متمركزان جدا حول الغرب وسردياته وخطاباته، وإن من مواقع مشككة فيها، ما يجعل سورية غير مرئية، وما يجري فيها غير مهم. مقاربتهما للشأن السوري أما منشغلة بطوائف أبدية منخرطة في تنازع أبدي، أو مشدودة إلى تحليلات جيوسياسة لا تاريخية، وهو ما يسدل ستارا إضافيا من الظلام على السوريين. هذا يناسب بشار الأسد تماما، وهو قاتل عام وملياردير جشع، و"أبيض" في عين كثيرين في الغرب.
هنا ثلاث ملاحظات على مقاربة الصحفيين الشهيرين.
لن يعرف قارئ يعتمد في معلوماته عن سورية على سيمور هيرش وروبرت فيسك شيئا عن أن النظام الأسدي استخدم السلاح الكيماي مرات قبل المجزرة الكيماوية في الغوطة في 21 آب 2013. كنت شاهدت شخصيا ضحايا استخدام الغازات السامة مرتين في الغوطة الشرقية نفسها: في جوبر في نيسان:
http://therepublicgs.net/2013/04/30/injuries-by-chemical-weapons-in-eastern-ghuta/، و
http://www.vdc-sy.info/index.php/en/reports/chemicaljobar#.U0qk7FWSwlg
وفي حرستا في أيار 2013. في التداول فقط كلام على هجمة غامضة جرت في خان العسل من ضواحي حلب في آذار 2013، تنسبها جهات موالية للنظام وحليفة له إلى مقاتلين معارضين دون دليل، بينما يسدل ستار من الصمت المطبق على عشرات الهجمات لأخرى في مناطق جوبر وحرستا والغوطة الشرقية والغربية وغيرها.
يجري تصوير الأمور كما لو أن المذبحة الكيماوية في آب هي أول حدث من نوعه. هذا غير صحيح، ولا يعقل أن فيسك وهيرش وأضرابهما لا يعرفان شيئا عن ذلك. خط أوباما الأحمر جاء بعد رصد الأميريكيين تحركات للسلاح الكمياوي الأسدي وليس قبله، وبعد العديد من الهجمات الموضعية بهذا السلاح. تجاهل سوابق مذبحة آب 2013 هو الملاحظة الأولى على عمل هيرش وفيسك.
الملاحظة الثانية أن عالم الصحفيين الشهيرين هو حصرا "الهاي بوليتكس": البيت الأبيض والمخابرات الأميركية والحكومة البريطانية ورجب طيب أردوغان وأمير قطر ونظام إيران، وطبعا بشار الأسد. والجهاديين. لا شيء إطلاقا من عالم الناس العاديين في مقالات فيسك الكثيرة (أو في عمل المرحوم باتريك سيل عن سورية). فيسك الذي كان يُقرِّع صحفيين أميركيين كانوا يرافقون قوات احتلال العراق في 2003 استطاع مرافقة دبابات النظام الأسدي في آب 2012 وهي تقتحم درايا، وتقتل أكثر من 500 من سكانها، ليشهد، خلاف ما يقوله سكان البلدة نفسها، بأن مقاتلي الجيش الحر، وهم محليون من داريا نفسها، هم من قتلوا السكانhttp://www.independent.co.uk/voices/commentators/fisk/robert-fisk-inside-daraya--how-a-failed-prisoner-swap-turned-into-a-massacre-8084727.html. شهر آب من عام 2012 هو الشهر الذي وثقت فيه هيومان رايتس ووتش عشر هجمات بالطيران على طوابير الخبز في مناطق حلب http://www.hrw.org/ar/news/2012/08/30، هل يستطيع القارئ المهتم معرفة شيء عن ذلك من مقالات فيسك؟ ولا كلمة واحدة. الرجل يزور في الفترة نفسها أحد المقرت الأمنية في دمشق، ليرحب به ضابط مخابرات هناك (من؟ جميل حسن؟ أم علي مملوك؟ أم ربما حافظ مخلوف؟)، ويتركه يلتقي منفردا مع أربعة معتقلين جهاديين، بينهم أجنبيان، يبلغه أحدهم أنه تلقى زيارات من ذويه:
http://www.independent.co.uk/voices/commentators/fisk/robert-fisk-syrias-road-from-jihad-to-prison-8100749.html
كسوري قضى وقتا لا بأس به في سجون النظام، أجد مقالة فيسك هذه كاذبة إلى أقصى حد، تجمل بلا خجل أقبح أداوت القتل في نظام قبيح.
لن نجد عند فيسك أي محاولة للاتصال بعموم الناس في غوطة دمشق الشرقية، وسؤالهم عما يحتمل أنه حصل لهم بعد عام من مذبحة درايا. وإذا كان في مقدوره أن يدخل حتى إلى معاقل الموت المخابراتية، فقد كان ميسورا له أن يقنع أصدقاءه في النظام الأسدي، بثينة شعبان مثلا، أن يسهلوا دخوله إلى الغوطة ليقابل الناس هناك، ويصغي إليهم، ربما يسمع همسات بأن أحدا ما غير النظام هو من استخدم السلاح الكيمياي، فقتل 1466 شخصا، فوق 400 منهم أطفال.
بل هو ليس حتى مضطرا لهذه المجازفة، كان يمكنه أن يحاول الاتصال ببعض الناشطين في المنطقة وسؤالهم عن أوضاعهم فيها، وعما يقوله الناس ويقدرونه.
الواقع أن التجاهل التام لمصادر المعلومات والتفكير المحلية يقول أشياء كثيرة عن يساريين وليبراليين غربيين، مكتفون بعلمهم الخاص، ومتمركزون جدا حول سردياتهم وخطاباتهم الغربية، من وراء قناع "المهنية". هذا الضرب من الظلامية الراضية عن نفسها لا يسجل أي فرق عن ظلامية الجهايين، واكتفائهم بعلمهم القديم المستقر.
الملاحظة الثالثة أننا لن نعلم من الرجلين شيئا مهما عن تكوين النظام وتاريخه، أو حتى عن سياسته أثناء "التمرد". لن نعرف مثلا أن النظام منهمك في قتل محكوميه منذ 3 سنوات، وأنه استخدم الطيران الحربي والبراميل المتفجرة وصواريخ سكود في هذ المهمة، وأنه دعا أجانب من لبنان وإيران والعراق وتركيا لمشاركته وليمة قتل محكوميه المتمردين، وأن هناك صناعة قتل مزدهرة في مقرارته الأمنية التي كان فيسك زائرا مرحبا به لبعضها. قبل شهور قليلة ذكر الرجل شيئا عن الضحايا الـ11 الف صناعة الموت الأسدية بطريقة تعطي فكرة عن نوع الضمير الذي يملكه. تكلم على أن مصير سورية سيكون كئيبا لو وقعت بيد المتمردين، وعلى توقيت كشف صور الضحايا قبل وقت قصير من مؤتمر جنيف 2، وعلى قطر التي تكره أسرتها الحاكمة بشار الأسد من أعماق قلبها. وعلى هذا النحو أغرق واقعة قتل 11 ألفا في تفاصيل كثيرة، ليقول أيضا إنه لن يكون لقتلهم تأثير على مصير نظام أفلت من العقاب بعد أن قتل 20 ألفا في حماه في جيل سابق: http://www.independent.co.uk/voices/comment/syria-report-one-is-reminded-of-nazi-germany-9075743.html
وهو في هذا يعطي الانطباع بأن هؤلاء الـ11 ألف هم كل ضحايا النظام هذه المرة، أو أن العشرين ألفا هم كل ضحاياه في جيل سبق. في واقع الأمر يفوق عددا الضحايا هذه المرة الـ11 ألفا بأكثر من 11 ضعفا، وفي الجيل السابق ربما يكون سقط ضعف عدد العشرين ألفا، واعتقل وعذب عشرات الألوف، وأُذل الجميع.
هل يتعفف نظام هذا حاله عن قصف محكوميه بالسلاح الكمياوي؟ هل أن قاتلا جماعيا ورث حكم "الجمهورية" عن أبيه القاتل الجماعي أقل نجاحا في تدمبر بلده حتى يتآمر عليه أي كان لتحقيق هذا الغرض بالذات؟ هل أن من كان يلعب مع القاعدة في العراق، ومع فتح الإسلام في لبنان، وفي سورية ذاتها، هو فجأة ضحية للقاعدة اليوم؟
إغفال السوابق والتاريخ، تجاهل عموم السوريين ومعلوماتهم وتفكيرهم، والصمت على تكوين النظام وممارساته، ليست أشياء وليدة جهل عند صحفيين شهرين، إنها الوجه الآخر لتعال عنصري على عامة السوريين، وانشغال حصري بـ"البيض"، الغربيين منهم والمحليين.