دولة العراق الباحثة عن أمّة


عصام الخفاجي
الحوار المتمدن - العدد: 4425 - 2014 / 4 / 15 - 17:17
المحور: اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق     


تنطلق كتب التاريخ المدرسية من وقائع تجمع على صحّتها غالبية ساحقة من مواطني بلد ما لتبني حولها سردية زمنية تمتد إلى الراهن وتلعب دورا حاسما في تنشئة أجيال تشعر بأن أجدادها ساهموا معا في صنع تلك الأحداث التي غالبا ما تكون إيجابية، أو أنهم كانوا جميعا ضحايا لهذا الحدث التاريخي أو ذاك. ولأن ثمة اتفاقا على صحة الوقائع المحورية فلا بأس من أن تضم السردية عددا من المغالطات أو المبالغات التي تعمّق الحس بالإنتماء الجماعي. فمادام الأمريكان متفقين على أن أمتهم نشأت عبر حرب استقلال شعبية ضد أمريكا، فلابأس من القفز على حقيقة أن مناطق مهمة مثل نيويورك لم تكن محبّذة للإستقلال. ومادامت غالبية الفرنسيين مجمعة على أن ثورتهم ضد الملكية تشكل منعطفا تاريخيا إيجابيا، فلابأس من إغفال أن الهجوم على سجن الباستيل كرمز للطغيان، وهو الشرارة التي أطلقت الثورة، كشف عن وجود أقل من مئة سجين فيه، أو أن المنخرطين في المقاومة ضد الإحتلال النازي لم يمثّلوا إلا نسبة محدودة من الفرنسيين وأن المتواطئين معه لم يكونوا حفنة من الخونة. ومادام الإسرائيليون يستذكرون تاريخا مشتركا يقوم على تعرضهم جميعا للشتات وللإبادة والكفاح الجماعي للعودة إلى أرض الميعاد وتأسيس الدولة، فلابأس من القفز على واقعة أن نسبة كبيرة من يهود أوربا الغربية في القرن التاسع عشر ويهود العراق واليمن كانت مندمجة في مجتمعاتها. هكذا يرسّخ التنميط المركّز للتاريخ ذاكرة جمعية توحد أبناء الدول في هوية وطنية مشتركة تدفعهم إلى الإحساس بضرورة الدفاع عن بقعة تسميها وطنا. وإذا ترسّخت الهوية الجمعية وتوافر قدر من حرية البحث، لن تثير الدراسات الأكاديمية أو الأعمال الفنية التي تكشف زيف جوانب مهمة من تلك السرديات غضبا عارما في أوساط متلقّيها.
إذن، فخير معيار للتعرّف على حسّ شعب بالإنتماء المشترك لوطن واحد، على امتلاكه هوية وطنية أو باختصار على كونه يمثّل أمّة لا مجموعة بشر جمعتهم الجغرافيا هو رصد وقياس درجة التقارب أو التباين بين سرديّات التاريخ التي تختزنها الذاكرة الجمعية للفئات المختلفة والمترسّخة عبر التلقين الشفاهي من الوسط العائلي أو الإجتماعي المحيط أو من خلال المعايشة اليومية. وخير معيار للتعرّف على درجة ثقة قطاعات الشعب المختلفة بنظامها الحاكم هو مقارنة سرديات كتب التاريخ المدرسية مع رواية تلك القطاعات لتاريخها. لايهم هنا إن كانت الراسخ في الأذهان مدقّقا علميا أم لا. فالخيال الجمعي لا البحث العلمي هو ما يحرّك الأحداث ويجمع البشر أو يفرّقهم. الأمر المميّز للأمم ذات النظم الديمقراطية هو التقارب، وربما التطابق، بين الروايات المدرسية والذاكرة الشعبية لسبب بسيط، هو أن الغالبية تستطيع أن تعدّل التاريخ المدرسي إن وجدته مغايرا لنظرتها إليه. والأمر المميّز الثاني، ولعله ما ينبغي لفت الإنتباه له إذ نحاول رؤية الأمر من زاوية مشرقية هو أن ثمة توافقا على تقييم المنعطفات الكبرى في تاريخ تلك الأمم. فاليميني واليساري، القومي واللبرالي، الأبيض والأسود لايجادلون في أن أمتهم الأمريكية ولدت من حرب الإستقلال. وكذا الحال بالنسبة للفرنسي وثورته والإسرائيلي وتكوين دولته.
إختر عيّنة عشوائية من مئة عراقي وأسألهم عن دلالة أحداث مفصلية في تاريخ بلدهم الحديث. هنا أمثلة تبدأ من الأحدث لتعود وراءا في الزمن: ما الذي حدث عام 2003؟ غالبية ساحقة من الشعب الكردي ستسمّيه "تحريرا" للعراق من سلطة صدّام حسين: لقد تحرر الشعب الكردي أخيرا من الخوف من الإبادة وانتقم من المجازر التي تعرّض لها طوال عقود. لن تسمّيه نسبة كبيرة من الشيعة هكذا، لكنها ستعتبره حدثا سعيدا. ستطلق عليه تعبيرا يبدو محايدا ووصفيا: "السقوط"، وعلى ألسنة القريبين من الإسلام السياسي الشيعي "سقوط الصنم". وسيرى فيه قطاع كبير من السنة "احتلالا". قد تتداخل التعابير. لن يعترض من يصف الحدث سقوطا على عبارة الإحتلال، ولن يعترض من يعتبره احتلالا على اعتباره سقوطا للنظام. لكن تغليب عنوان على آخر ينطوي لوحده على موقف قيَمي.
يتّخذ الإختلاف بعدا فاجعا حين يكون تحديد اليوم الوطني مجرد اجتهاد شخصي بعد أكثر من تسعين عاما على تأسيس الدولة العراقية الحديثة. فثمة اتفاق على عيد الإستقلال حتى في لبنان المفتّت. تنصيب الأمير فيصل بن الحسين ملكا على العراق عام 1921 هو تكريس لسلطة الإنتداب البريطاني على الدولة لا تأسيسا لها في أعين كثيرين. وهو، للقوميين العرب ترجمة عملية لإتفاق سايكس- بيكو القاضي بتفتيت الأمة العربية وتقاسم النفوذ عليها بين القوتين الإستعماريتين بريطانيا وفرنسا. ولايختلف القوميون الأكراد عن نظرائهم العرب إلا بقلب السرد: 1921، هو تكريس المؤامرة لتفتيت الأمة الكردية وإلحاق أجزائها ببلدان مختلفة. و1921 للمؤسسة الدينية الشيعية هو إرساء لبنيان كرّس تسيّد الأقلية العربية السنّية على الغالبية الشيعية.
حتى الدولة الملكية العراقية لم تكن تحتف لا بهذا الحدث ولا بتاريخ دخول العراق كبلد مستقل إلى عصبة الأمم عام 1932. كان عيد ميلاد الملك شبحا باهتا لعيد وطني يُفترض أن تاريخه يظل راسخا برغم تبدّل الحكام. ولعل ذلك النظام كان أكثر إدراكا ممّن لحقه للإنفصام بين تاريخه وبين التاريخ الراسخ في العقول. فمع السلطة الجمهورية الأولى صار الإحتفال بذكرى الثورة على الملكية يتخّذ طابع احتفال بالعيد الوطني. وحين جاء البعث إلى السلطة قرر تمييع الإحتفال بتلك الذكرى من خلال تفخيم ذكرى "ثورته".
لا تكمن معضلة الهوية الوطنية للمنتمين للعراق، في رأيي، في كون دولتهم "مصطنعة" حسب منطق استشراقي واسع الإنتشار، ولا في تجزأة أمة عربية أو كردية متخيَلة. فقد قادني البحث إلى أن العراق الحديث، بما فيه كردستان، كان يتشكّل كفضاء آخذ بالتماسك منذ الثلث الأول للقرن التاسع عشر لأسباب لاعلاقة لها بأصابع استعمارية لم يكن بوسعها اختلاق بنى اجتماعية بل بوسعها تكريس نفوذها مستفيدة من بعض تلك البنى. لكن بين تكوّن الدولة، أي دولة، وبين تكون الأمة بون شاسع. ومنعا لأي تأويل مؤدلج، أكّدت على فكرتين بشكل قاطع. أولا: إن العمليات التاريخية الإجتماعية والإقتصادية وغيرها تحفّز أو تحبط قيام الدول ولاتحتّمها. فقد تكوّن العراق، وفق دراستي، بتحفيز من ظروف تراكمت على مدى قرنين أو أكثر، لكن هذا لايعني أن هذه البقعة الجغرافية ما كان لها إلا أن تكون على شكلها الحالي. وأكّدت ثانيا، وهنا الجانب الأهم فيما يتعلّق بالحاضر والمستقبل، على أن العمليات التاريخية التي قادت إلى نشوء تركيب ما لاتضمن بقاء هذا التركيب. وهذا ما يمر به العراق اليوم.
طوال العقود الثمانية الممتدة منذ تأسيس الدولة حتى سقوط البعث كان ثمة انفصام بين تزايد ارتباط الناس بماكنة الدولة المركزية وبين إحساسهم بالتضامن فيما بينهم دلّ تعمّقه على شيخوخة الدولة التي لم تستطع يوما، ولم تستطع سرديّة نظمها الحاكمة المتعاقبة عن المساواة والأخاء تخفيف إحساس قطاعات واسعة بالغربة عنها برغم أن وجود الدولة الموحّدة كان في عداد المسلّمات. تضاءلت إمكانية بناء أمة عراقية بعد الإنفصال الفعلي لكردستان عن حكومة بغداد عام 1991 والإستنفار الطائفي ضد الشيعة في الفترة ذاتها. حين سقط الكابوس البعثي انكشف الغطاء عن وعاء كانت وقائع نوعية جديدة قد اختمرت داخله. وكانت تلك الوقائع هي الأساس الذي مكّن معارضي الأمس وحكام اليوم من إغواء أمزجة شعبية تساوقت ذاكرتها الجمعية لتاريخ بلدها مع ذاكرتهم الجمعية.
وعلى أنقاض الخطاب المدرسي الملفّق السابق ينهض اليوم خطاب يدرك متبنّوه أنفسهم أن ملايين أوراق التين عاجزة عن إخفاء عوراته. خطاب يقوم على أخوّة بين الجميع أفسدتها الدكتاتورية وأخذت تستعيد دفؤها. لكن خطاب الأخوة التي أفسدها نظام سياسي ليس حكرا على الحكام، بل هو ملجأ نقّاده كذلك: نحن أخوة عشنا متوائمين دوما لولا الحكم الطائفي الحالي. حين نظّمتُ ندوة بعنوان "كيف نكتب تاريخ العراق الحديث" ضمن الفعالية السنوية لأتحاد الدراسات الشرق أوسطية (ميسا) عام 2007، دعوت ثلاث أساتذة جامعيين يمثّلون اتجاهات فكرية متنوعة. تحدّث الأستاذ الكردي عن الأخوة العربية الكردية وتحدّث الأستاذ القومي عن الإحتلال الأمريكي الذي دمّر وحدة العراقيين وتحدث الشيعي المستقل عن العراق مهد الحضارات. حينها شعرت بأن سؤالي كان عديم المعنى.
لقد قضى زواج المصلحة بين القادة وقواعدهم على آخر فرصة لمشروع بناء أمّة عراقية موحّدة يتعايش مواطنوها بسلام.

Twitter: @isamalkhafaji