ساد ستوكهولم القسم الحادي والعشرون والأخير الجائزة نسخة مزيدة ومنقحة


أفنان القاسم
الحوار المتمدن - العدد: 4424 - 2014 / 4 / 14 - 10:27
المحور: الادب والفن     



في الصباح، كانت كاتارينا فريدن تنام، وهي ترتفع بوسطها على ذراع الكنبة مادة رجليها حتى ذراع الكنبة الأخرى، ورأسها منقلب إلى الوراء، وكان بيتر أكرفيلدت ينام جالسًا على طرف الكنبة، وهو يضع خده على ثديها المريض، بينما ينام رالف لندغرن خلف الطاولة المستديرة، وهو يدفن وجهه في الكتاب المفتوح على دفتيه لألبير رامو. في السرير الضخم، كان هوراس ألفريدسون ينام بالثياب السادية، وقد جعل من مسدسه مخدته، وبشكل معاكس، كانت كريستينا سفينسون تستلقي في ثياب المنحرفين على السرير نفسه، وقد جعلت من تويجات الزهر مخدتها، بينما بقيت عيناها مفتوحتين. رن منبه هاتف أحدهم دون أن يتحرك أحد، وبعد قليل الثاني، فتحرك واحد أو اثنان، وبعد قليل القليل الثالث، فتحرك الكل، وبعد قليل قليل القليل الرابع والخامس في وقت واحد، ففتح الأربعة عيونهم في الوقت الذي أغلقت فيه كريستينا سفينسون عينيها. بعد صالة الحمام التي ذهبوا إليها كلهم معًا، طلب هوراس ألفريدسون الفطور للجميع، وما هي سوى بضع دقائق حتى جاء الخادم بعربة الأكل. أعطاه هوراس ألفريدسون بعض الكورونات قبل أن يصرفه، وبدأوا بتناول فطورهم دون أن ينبسوا ببنت شفة.
لم يأكلوا بوفرة كما هي عادتهم، قام رالف لندغرن إلى خزانة زجاجية، وأخرج منها علبة سيجارات، وعلبة كبريت، وورق لعب. أخذ مكانًا من وراء الطاولة المستديرة، وبعد أن أشعل سيجارًا، أخذ يخلط أوراق اللعب دون أن ينظر إلى أحد. لحقت به كاتارينا فريدن، ثم كريستينا سفينسون، وأشعلت كل منهما لنفسها سيجارًا. أخرج بيتر أكرفيلدت من الخزانة المزججة قبعة كاوبوي وضعها على رأسه، وأخذ مكانًا من حول الطاولة المستديرة. أشعل هو الآخر سيجارًا، ووضع كل ما في جيبه من نقود، وكذلك فعل الآخرون، وبدأ رالف لندغرن بتوزيع أوراق اللعب.
في غضون ذلك، ذهب هوراس ألفريدسون إلى الثلاجة الصغيرة، وأحضر لكل واحد قنينة بيرة، جرع بيرته من فوهة القنينة، وأخذ مكانًا بينهم، وبعد أن أشعل لنفسه سيجارًا، وضع كل ما في جيبه من نقود أمامه، والمسدس وضعه في الوسط، فوهته باتجاه رالف لندغرن التي أزاحها باتجاه كاتارينا فريدن، وبدورها أزاحتها باتجاه كريستينا سفينسون، وبدورها هي الأخرى أزاحتها باتجاه بيتر أكرفيلدت، وبدوره هو الآخر أزاحها باتجاه هوراس ألفريدسون، فأعاد هذا الأخير المسدس إلى جيبه. بدأوا يلعبون البوكر، فخسرت الأستاذتان الأكاديميتان والصحفي، بينما استمرت اللعبة بين العالم اللاهوتي والفيلسوف. وعندما ربح العالم اللاهوتي، أخرج الفيلسوف مسدسه، وراح به تهديدًا. أطلق الثلاثة الخاسرون صرخة، وتخبأوا تحت الطاولة المستديرة.

* * *

- ماذا تريدان أن أفعل من أجلكما، يا سيدتيّ، سأل بيتر أكرفيلدت كاتارينا فريدن وكريستينا سفينسون، وهو يعيد قبعته إلى الخزانة المزججة، ويخرج منها سماعة الطبيب.
- أنا لي ثدي معطوب، دكتور، همهمت كاتارينا فريدن، وهي...
- أنا مصابة بالبرودة الجنسية، دكتور، همهمت كريستينا سفينسون.
جعل بيتر أكرفيلدت كاتارينا فريدن تتمدد على الكنبة، وكشف عن ثديها المريض، وبسماعته أخذ يسمع دقاته. جعلها تجلس، وبيده راح يمسس ثديها بطريقة أقرب إلى المداعبة، وهو يبالغ في ذلك، مما أهاج كاتارينا فريدن تحت النظرة الباردة لكريستينا سفينسون. أخيرًا قال بيتر أكرفيلدت:
- هذا لا شيء، يجب قطعه.
استدار إلى كريستينا سفينسون، وقال:
- الآن دورك، يا سيدتي.
دفع كاتارينا فريدن، فكادت تسقط على الأرض، وجعل كريستينا سفينسون تتمدد على الكنبة. كشف عن فخذيها، وبسماعته أخذ يسمع دقات فرجها. وما لبث أن أدخل يده في سروالها القصير، وبأصابعه راح يمسسها، راح يمسسها، راح يمسسها، دون أن يبدر عنها أي رد فعل.
- هذا لا شيء، يجب قطعه.
كانت كاتارينا فريدن قد ذهبت إلى حيث رالف لندغرن وهوراس ألفريدسون يتمددان بنصفهما السفلي في السرير الضخم، وفي حضنهما الحاسوب، الأول يضع قناعًا على عينيه، والثاني يرتدي دومًا الثياب الجلدية.
- تذكرة واحدة إلى لابوني، يا سيدتي؟ سأل رالف لندغرن.
- تذكرتان، قالت كاتارينا فريدن، وهي تشير بيدها إلى كريستينا سفينسون القادمة من ورائها.
- تريد تذكرتين، همس رالف لندغرن في أذن هوراس ألفريدسون، وهما يضحكان لبعضهما.
- درجة أولى، يا سيدتي؟ عاد رالف لندغرن يسأل، وهو يضرب على الملامس.
- درجة أولى، أكدت كاتارينا فريدن.
- تريد درجة أولى، همس رالف لندغرن في أذن هوراس ألفريدسون، وهما يضحكان لبعضهما.
بعد قليل من البحث:
- في قطار اليوم لا مكان في الدرجة الأولى، يا سيدتي، قال رالف لندغرن، وهو يضرب على الملامس، فخلصه هوراس ألفريدسون إياها، وراح يضرب عليها بعصبية.
- بل هناك مكانان في الدرجة الأولى، هتف هوراس ألفريدسون، وهو يمد لسانه ساخرًا برالف لندغرن، المكانان الأخيران في قطار اليوم.
- حسنًا، قالت كاتارينا فريدن، وفي اللحظة التي وصلت فيها كريستينا سفينسون قالت لها: هناك مكانان في الدرجة الأولى في قطار اليوم، فلم يبد على وجه كريستينا سفينسون أي رد فعل.
- المكانان الأخيران، أكد هوراس ألفريدسون.
- يا له من حظ! هتف رالف لندغرن، وهو يجذب الحاسوب من بين يدي هوراس ألفريدسون، اليوم في الدرجة الأولى سيتم عرض فيلم "ذهب مع الريح"، بوف! بوف! وانفجر هو وزميله يضحكان، بوف! بوف! ويميلان على بعضهما، ويتعانقان بساقيهما، بوف! بوف! ويطبعان على شفتيهما قبلة خفيفة.
صعد بيتر أكرفيلدت على كرسي، وأخذ يضرب بالسلسلة، ويخطب:
- أكثر العواصف شدة قادمة، وأنا رجلها، لن يقف في وجهها أحد غيري، في كل السويد لا أحد أشد مني عزمًا على مواجهتها، لأني أحب السويد، ولأني أكثر السويديين قدرة واستطاعة. انظروا إلى بحر البلطيق تقعون على صورتي، لأني كسمك البلطيق أكثر السمك حيويةً وبياضًا، وانظروا إلى مرايا الجليد تقعون على صورتي، لأني كآلهة الفيكنغ، أكثر الآلهة حنانًا وتحننًا، وانظروا إلى جدائل الذهب تقعون على صورتي، لأني كشعر سِيف، أكثر المعادن قيمةً وغلاءً...
كان رالف لندغرن وكاتارينا فريدن وكريستينا سفينسون قد جاءوا يحيطون ببيتر أكرفيلدت الذي أخذ يصرخ بنبرة هتلرية وغرته تتساقط على جبينه:
- أنا أكثر العواصف القادمة شدة، لن يصمد في وجهي أحد، في كل السويد لا أحد أشد مني عزمًا، لأني أحب السويد، ولأني أكثر السويديين قدرة واستطاعة. انظروا إلى بحر البلطيق تقعون على صورتي، وانظروا إلى مرايا الجليد تقعون على صورتي، وانظروا إلى جدائل الذهب تقعون على صورتي. جدائل الحب، جدائل الموت. المرأة السويدية. المرأة الذهبية. المرأة الجليدية. البيضاء. الشقراء. المحولة. المجننة بفتنتها. المدمرة بوهميتها. المجبرة على الشيزوفرينية. بجمالها. بخرائها. بألوهيتها. البيضاء. الشقراء. الجوستينية. جوستين من عندنا، بكل سعاداتها، بكل سعاداتنا. خراؤها الأشقر كل سعاداتنا. جوستين من عندنا. جوستين التي من عندنا أنا هي. بخرائها الأشقر. بكل عظمة خرائها الأشقر. بكل أرخبيلات الخراء الأشقر، وكل جبال جليد الخراء الأشقر، وكل أمم الخراء الأشقر، الأحمر، الأخضر، الأزرق، الأصفر، الأحمق، البرتقالي. بكل عظمة خرائها الأشقر...
رآهم هوراس ألفريدسون، وهم يقتربون برؤوسهم في ضباب الفاشية، بيتر أكرفيلدت وكاتارينا فريدن من ناحية، رالف لندغرن وكريستينا سفينسون من ناحية. كانوا في الضباب، ولم يكونوا واضحين، ثم تبدت له صورهم الظلية شيئًا فشيئًا. كانوا في ثياب من الفرو الثقيل، وأقدامهم في أحذية من الجلد السميك، وهم يستعدون للذهاب إلى أقصى أقاصي السويد على زلاجتين تجر خمسةُ كلاب هوسكي كلاً منهما، وتتبع خمسةٌ أخرى كلاً منهما للتناوب.
- سنذهب حتى الدائرة القطبية، قال بيتر أكرفيلدت لكاتارينا فريدن.
- لا أعتقد أنها فكرة جيدة، يا أكرفيلدت، قالت كاتارينا فريدن.
- وكذلك أنا، لا أعتقد أنها فكرة جيدة، قالت كريستينا سفينسون لرالف لندغرن.
- إنها الطريقة الوحيدة لشفائكما، قال رالف لندغرن متوجهًا بكلامه إلى بيتر أكرفيلدت.
- الطريقة الوحيدة لشفائنا، هذا ما نود الاعتقاد به، قالت كاتارينا فريدن.
- برودتي تعالج بالبرد؟ تساءلت كريستينا سفينسون.
- بوخز إبر الجليد، قال رالف لندغرن.
- إنها طريقة قديمة جدًا كان أجدادنا الأوائل يقومون بها يوم كان العالم كله كتلة واحدة بيضاء، وإبر الجليد ليست أيها، إنها من قلب الصفاء، أوضح بيتر أكرفيلدت.
- تأبير ثديي بالجليد النقي علاجًا لسرطانه، همهمت كاتارينا فريدن.
- وأنا... ولم تكمل كريستينا سفينسون جملتها.
- ستشفى كلتاكما، أكد رالف لندغرن.
ربطوا أمتعتهم ومؤونتهم على الزلاجتين، وشغّلوا الجي بي إس، نظام التوضيع العالمي، ووجهتهم كانت الدائرة القطبية. دخلت كل من المرأتين في مقصورة من الجلد مربوطة بإحدى الزلاجتين، ورشق كل من الرجلين الكلاب بسوطه الأسود، وانطلق الموكب إلى قلب المجهول.
ارتحلوا خمسة أيام وخمس ليال، كانوا يتوقفون لتبديل الكلاب وأكل السجق وشرب البيرة، وبعد ذلك يواصلون الانزلاق، إلى أن بدأت تلفهم بأذرعها أولى الغابات العذراء المثقلة أغصانها بالثلج، وكأنها تحمل ثياب الجبابرة من سكان العوالم الماضية. كانت ثيابهم مرصعة باللآلئ، وكانت تبدو في قلب الغابات أطياف الأميرات بجدائلهن الذهبية. كن يضحكن لهم، ومع عبورهم يختفين. وكانت النار تدق هنا وهناك على حين غرة، ثم تنطفئ. وتحت أقدامهم كانت مخلوقات صغيرة تفتح عيونها، كانت تنهض، وتضحك، ثم تركض ليبتلعها الفضاء. كانت كاتارينا فريدن سعيدة سعادة الطوباويين، كانت في قلب حلم لم يكن حلمًا، تتجول في رأسها، فتترك من ورائها آثار قدميها أقمارًا وشموسًا. وكانت كريستينا سفينسون تكركر دون أن تستطيع الإمساك بنفسها، كانت كمن تدغدغها أصابع ليست مرئية، فتميل، وتهمس مثلجة الصدر. وكان بيتر أكرفيلدت مفتونًا بما يجري، لم يكن نفسه، ترك ذلك الشخص الآخر الصموت الذي فيه في ستوكهولم، وبدا أكثرهم تألقًا، بدا أجملهم، وأكثرهم شبابًا. وكان رالف لندغرن ينظر من حوله بين مصدق ومكذب، كان لديه شعور بأنه شخص رباني، ابنًا لأودن، كان يحس بأنه إله ابن إله، ولم يندهشوا عندما سمعوه يقرض الشعر:

الذهب شعرك الطويل
العالم جسدك الأبيض
العشاق آثار أقدامك

نسيت كاتارينا فريدن لماذا هي هناك، كانت جزءًا من عالم الغابات العذراء. لم تعد تعرف ما التركيز من عدمه، ما العدم من عدمه، وما التعاسة من عدمها. كانت كريستينا سفينسون جزءًا من عالم الفرح الأبيض، عالم الدفء الأبيض. لم تعد تعرف غيرها من البشر، غيرها من الحقائق، وغيرها من الأحلام. كان بيتر أكرفيلدت جزءًا من عالم الطبيعة أمه، لم يعد يعرف شيئًا اسمه الاغتصاب، شيئًا اسمه الجحيم، وشيئًا اسمه العذاب الأبدي. وكان رالف لندغرن جزءًا من عالم الحقوق للجميع، لم يعد يعرف الضحية وما تعنيه، السفالة وما تعنيه، والديانة وما تعنيه. أوقفوا مركبي الجليد، وذابوا بأجسادهم في التلقائية. لم تعد كاتارينا فريدن تفكر فيما مضى من أيامها، كانت قد ولدت الآن. لم تكن تعرف أنها ولدت كبيرة، لكنها كانت تعرف أنها ولدت الآن. لم تعد كريستينا سفينسون تحس بثقلها، كانت خفيفة بخفة النديفة. لم تكن تحلق، لكنها كانت تحس بنفسها ترتفع في السماء. لم يعد بيتر أكرفيلدت يرى في كل امرأة أخته، كانت المرأة العاهرة كالمرأة الأخت امرأة كما يراها. كانت المرأة امرأة أولاً وقبل كل شيء، لكنه كان يريد أن يحبها، فقط أن يحبها. ولم يعد رالف لندغرن يبحث في الوهمي عما هو شائن، كان الوهم جميلاً، كان الوهم حقيقيًا. لم يكن ممن شان خُلْقًا، لكنه كان يتشيع لمن لا خلق له، والكل لا خلق له في عالم لا يعرف الرذيلة. كانوا يقفون على أعتاب العالم الجديد، لم يكن العالم الذي يعرفونه، ولم يكونوا هم أنفسهم. لم يكونوا حقيقة كل يوم، كانوا الحقيقة. الحقيقة البيضاء، المرصعة باللآلئ. كانت الحقيقة كما هي في الوهم، فلم يعد الوهم وهمًا، ولم تعد الحقيقة حقيقة، كانت الحقيقة كما هي في الوهم، كما هي في الحلم، كما هي في الكلمات، كما هي في ريشة غوغان، كما هي في إزميل رودان، كما هي في وتر موزارت. كانت الحقيقة الوهم، غير الموجودة، وفي الوقت نفسه كلها هناك، بين أصابعهم، وكل القصص الألفية كانت هناك بكل الأبطال، كل القصص، كل الأبطال، كل الكوزمولوجيا الشمالية.
نصبوا خيمة واحدة لهم جميعًا، وناموا عرايا في أحضان بعضهم. لم يكونوا العقل ولا الروح، كانوا الشهوة، لم يكونوا الشهوة المعذَّبة ولا الشهوة المعذِّبة، كانوا الشهوة، كانوا. فرشوا الشهوة، أو بالأحرى افترشوا أنفسهم، ودخلوا في لا عدم الانسجام. انسجموا مع أفكارهم في أفكارهم ومع عواطفهم في عواطفهم ومع علاقاتهم في علاقاتهم بالعالم. لا فضائل أخرى غير فضيلة الشهوة. اخترقوا عالم الكمال، ولم تعد النفس فضاء للصراع. وعندما أغمضوا أعينهم، وناموا، حلموا نفس الحلم. لم يحلموا الحلم نفسه دفعة واحدة. حُلْمُ كلِّ واحدٍ كان جزءًا منه، وكانت الأجزاء في مجموعها الحلم الذي حلموه. كانوا يحلمون بعقولهم، وكان حلمهم في مصراعه الأول عن شقِّ طريقٍ طويلٍ يصل ألف جزيرة من جزر السويد ببعضها. كان الفصل شتاء، وكان الجليد يجمّد الماء ما بينها، ولم يكن من الممكن شق الطريق الطويل بين الألف جزيرة. في المصراع الثاني من حلمهم، كان الفصل ربيعًا، وكان الجليد يذوب، ويترك كتلاً كبيرة منه ما بين الألف جزيرة، ولم يكن من الممكن شق الطريق الطويل. في المصراع الثالث من حلمهم كان الفصل صيفًا، وكان الجليد قد ذاب تمامًا، والماء كثيرًا بين الألف جزيرة، ولم يكن من الممكن شق الطريق الطويل. في المصراع الرابع من حلمهم كان الفصل خريفًا، وكان الجليد قد عاد إلى التشكل من جديد، وإلى التكتل كتلاً كبيرة ما بين الألف جزيرة... وظلوا يحلمون الحلم ذاته.
في الصباح، نهضوا على قرص الشمس الأسود، قرص كبير في فضاء دموي لامتناهٍ، يغطي كل الدائرة القطبية. وجدوا الكلاب كلها مقطعة، ملتهمة أو نصف ملتهمة، والغابات العذراء كلها مغتصبة، محترقة أو نصف محترقة. لم تكن نهاية العالم، كان العالم دون فضيلة، العالم على حقيقته، فلم يكن العالم غير هذا، والصورة الأخرى للعالم لم تكن سوى وهم. راحوا ينتقلون في الدم والنار، وهم عرايا، بحثًا عن شيء يغطون به عيوبهم، فأجسادهم كانت كلها عيوبًا. عادت إليهم عذاباتهم، فتذكروا أنهم كانوا هناك بحثًا عن إبر جليدية تزيل السرطان والبرودة الجنسية. تنافرت طباعهم، وبالتالي لم يكن بحثهم مجديًا، وظلوا هكذا دون أي رابط يربطهم بما هو حولهم. وصلهم وقع حوافر لخيول تعدو دون أن يروها، وهي تكاد تسحقهم، ولم تكن هناك خيول. سمعوا صهيل الخيول، وهي تبتعد في الأفق القصيّ. أحسوا بأجنحة لطيور تصفق فوق رؤوسهم، وهي تكاد تضربهم، ولم تكن هناك طيور. نعقت الطيور، وابتلعتها السماء دون أن تبين. تخيلوا ظلالاً لدببة قطبية تختلط بظلالهم، وهي تكاد تخنقهم، ولم تكن هناك دببة قطبية. أطلقت الدببة القطبية صراخ الهالكين، وذابت في النار ذوبان الفضة... وظلوا يعيشون الواقع ذاته.

* * *

في علبة الليل ساد ستوكهولم، وعلى التحديد في جناح الملاعين والمجانين من الطابق الثالث التحت الأرضي، كانت اللوحة المُرَوِّعة: كاتارينا فريدن ملقاة على الكنبة بصدر مبتور الثدي، الثدي بيد بيتر أكرفيلدت اليسرى، والسكين بيده اليمنى، والدم يرشقه من قمة الرأس حتى أخمص القدم. كريستينا سفينسون ملقاة على الأرض وكأس متشظية الحواف مغروسة بين فخذيها، بينما يجمد رالف لندغرن غير بعيد منها، والدم يرشقه من قمة الرأس حتى أخمص القدم. هوراس ألفريدسون، مسدسه بيده قرب رأسه المتفجر على الطاولة المستديرة، وكتاب ألبير مالرو "جوستين أو التعاسة المنسية" يغرق في الدم.

وكان يغرق في الدم العالم، فثدي جوستين المقطوع كان العالم، عجزه من عجزه، ولؤلؤه الأسود من لؤلؤه. كان السوط يلتف عليه عندما يلسع، ليتذوق طعم القومية، ويُطعم أبناءه تفوق الجنس الآري، وسفالة العَظَمَة. وكان السوط يعلو به إلى سماء الانحطاط، وعلى الأرض يلقيه في قمامة القيم. كانت كل القيم عجز ثدي جوستين المقطوع، واجتياح مدن اللوتس، اجتياح مدن النفوس، وإشعال الحرائق فيها. لم تعد للقيم قيمة على صدر الوجود المقطوع ثديه، لم تعد للوجود قيمة بعد أن فقد الوجود هوية الوجود، بعد أن عزفت الطيور عن الغناء في بولونيا، بعد أن انتقمت الأثداء من الأثداء بقطعها. إلى اليوم تُقطع الأثداء لتُرمى للكلاب الجائعة كما رُمي ثدي جوستين للكلاب الجائعة، فقط لأنه ثدي جوستين، المنتصب، المتحدي، الناقر بحلمته، والذي تفيض الأنهار عن حوافه كما تفيض الدموع. كان زمن البكاء قد جاء، وكان الشقاء لفاجعة النحل بالعسل. لم يكن السوط يضحك لأن الثدي يبكي، كان يبكي هو أيضًا على الطيور التي يذبحها. الطيور، الجراح، حنان الأفاعي. كان ثدي جوستين المقطوع يذرف الدموع عنا جميعًا، نحن القوادون الذين بعناه في سوق المضاجعة العالمي.

* * *

كان النهار رماديًا في ستوكهولم، وللعابرين سحنة المنحرف المِزاج. كانت الكآبة ثوبًا للمدينة، والصمت عنوانًا لأهلها. كان رالف لندغرن يتقدم بخطوات واسعة، وبيتر أكرفيلدت يتبع لاهثًا من ورائه.
- لا تسرع، صاح بيتر أكرفيلدت برالف لندغرن، تكاد أنفاسي تنقطع.
أخذ بيتر أكرفيلدت يحل ربطة عنقه، ويعتمد بيده على الجدران، وهو يظلع، للصعوبة التي تواجهه في اللحاق بزميله.
- لا تسرع، صاح بيتر أكرفيلدت برالف لندغرن من جديد.
صعد سلم القنطرة، وقدمه تزلق.
- لا تسرع، يا رالف لندغرن، صاح بيتر أكرفيلدت، وهو يجر خطواته الثقيلة على القنطرة.
نزل بيتر أكرفيلدت سلم القنطرة من الناحية الأخرى، وهو يكاد يقع، وعاد إلى السير بصعوبة في أحد الأزقة، اصطدم بالناس، وبالجدران، وانحنى على نفسه لاهثًا. لم يعد يستطيع النطق، وهو على وشك الاختناق. خلع ربطة عنقه، ورماها أرضًا، وبعد عدة خطوات بثقل الحديد، خلع سترته، ورماها أرضًا. ثم خلع حذاءه، فجواربه، فقميصه، فبنطاله، ورماها أرضًا. أخذ يهمهم دون صوت "لا تسرع"، وهناك رالف لندغرن لا يبالي به، يداوم على السير بسرعة. وقبل الصعود إلى قنطرة أخرى كانت الموسيقى، وكانت الأعلام، وكانت الأشرطة، وكان الناس يتفرجون تحت على سباق السفن الصغيرة المحركة عن بُعد، وكأن هذه الناحية من ستوكهولم لم تكن ستوكهولم. كانت رشاشات البخار الساخن قد أذابت الجليد لمسافة كبيرة تحت القنطرة، وكان العيد هناك، والموت هناك، وجدائل سِيف هناك التي صنعها الأقزام من الذهب ولها القوة على النمو كالشعر. وهو يغذ الخطى في منتصف القنطرة، سمع رالف لندغرن شيئًا يسقط في الماء، شيئًا يخبط بالماء، وبعض الصرخات، فالتفت، ولم ير بيتر أكرفيلدت. خُيل له أنه يسمع قهقهته، فخف يطل من فوق القنطرة، وهو ينقل على يده ملابس الصحفي الكبير الداخلية، ورأى دوامات لا تنتهي. بقى جامدًا في مكانه حتى تلاشت الدوامات، غاب عن نفسه والعالم، وبعد قليل، أعادته إلى نفسه والعالم ألحان فاغنر في غروب الآلهة.

* * *

وجد رالف لندغرن نفسه في غيتو وارسو، بين الناس القادمين من عدم الوجود الذاهبين إلى عدم الوجود، المعطوبين، المشوهين، المغتصبين، أنصاف الأحياء، أنصاف الأموات، المقامرين على أرواحهم، العابثين بأرواحهم، المعذبين، الهالكين، التعسين، الذين تركوا كل شيء من ورائهم، كل شيء، الذين تركوا كل شيء، الذين تركوا كل شيء من ورائهم، الذين حضورهم هناك لم يكن بالصدفة، ثم غدا كل حضورهم صدفة للزمن الضائع، نوعًا من العزف على الناي من أجل بكاء لا يجيء، وحزن لا يجيء، وتعاسة لا تجيء، فكل هذا جاء. ورالف لندغرن لم يكن حضوره هناك بالصدفة، كان رالف لندغرن هناك منذ كان غيتو وارسو، وكان لا يبحث عن شيء، ككل الذين كانوا في غيتو وارسو. انتهى لديه كل انتظار، البريد كل صباح، فواتير الكهرباء، إشعارات الضمان الاجتماعي. انتهى لديه انتظار الانتظار، الأرق في الليل، الدواء مدى الحياة، إلحاد ابنته حورية. تذكر أنه لم يبك بصدق مرة واحدة في حياته، فسالت على خده دمعة مسحها بعنف، دمعة الجلاد قال. لقد انتهى زمن البكاء، ولقد انتهى زمن الضحك. مات بيتر أكرفلدت ومات معه الضحك، ليس لأنه مات، ولكن لأن الضحك لم يكن هذا، كان الضحك شيئًا آخر، ولقد انتهى زمن الضحك. كان ذلك مؤذنًا بانتهاء كل الأزمان، زمن المضاجعة أولها، لهذا ماتت كاتارينا فريدن، وهي تضاجع، وكريستينا سفينسون، وهي تحلم بثدي مقطوع حار تدفنه بين فخذيها، وهوراس ألفريدسون، وهو يرضخ لنيتشه في الأخير. وبينا رالف لندغرن يحث الخطى في الجحيم، رأى جوستين بصدرها العاري، كانت تحمل ثديها المقطوع كطفل، وتروح وتجيء. كانت تقول كلماتٍ ليست مفهومة، وهي تهدهد بين ذراعيها ثديها المقطوع كطفل، وتروح وتجيء. لم يعرف رالف لندغرن أنها جوستين، لكنه وقف ينظر إليها، ولم يفارقها بعينيه. كانت جوستين تحمل ثديها المقطوع كطفل، وتهدهده، وتروح وتجيء، تهدهده، وتروح وتجيء، تهدهده، وتروح وتجيء، تهدهده، وتروح وتجيء، ثم ما لبثت أن رفعته إلى أعلى، إلى أعلى ما يكون، كمن تريد أن يراه الله، وقذفته بكل قوتها. في تلك اللحظة، وصل التراموي، وهو يطلق النفير، لكنه لم يستطع تفادي رالف لندغرن، فسحقه تحت عجلاته.

* * *

أوسكار كاستنفيلت، العضو في هيئة تحكيم جائزة نوبل للآداب، أخذ يشق طريقه في الممر الداخلي للتراموي بصعوبة، وهو يحمل كتابًا، بين ركاب تجمعوا كلهم خلف النوافذ من الناحية التي كان فيها جسد رالف لندغرن المنسحق، وغادر المركبة الكهربائية. مد رأسه بين الرؤوس الدائرة حول الجثة، وبعد ذلك، أوقف تاكسي.
- إلى الأكاديمية، من فضلك، قال أوسكار كاستنفيلت للسائق.
لم يبدر من السائق أي رد فعل، سار بزبونه من شارع إلى آخر، وفي المدينة يسود الصمت. اتفاقًا، ألقى السائق نظرة، عَبْرَ المرآة الارتدادية، على الكتاب الذي يقرأه أوسكار كاستنفيلت، "ساد ستوكهولم"، والتفت إليه.
- لقد قرأته، قال السائق.
فلم يعره أوسكار كاستنفيلت اهتمامًا.
- لقد قرأته، أعاد السائق، وهو ينظر إلى أوسكار كاستنفيلت عبر المرآة الارتدادية.
أغلق العضو في هيئة تحكيم جائزة نوبل للآداب الكتاب، وانتظر ما يريد السائق قوله.
- لقد قرأته، أعاد السائق للمرة الثالثة.
تلاقت عيناهما عبر المرآة الارتدادية، ففهم السائق ما لم يقله أوسكار كاستنفيلت: "طيب، لقد قرأته، وبعدين؟"
- إنه الأفضل من بين كل ما قرأت، رمى السائق، وهو يرسم ابتسامة خفيفة على شفتيه.
بقي أوسكار كاستنفيلت بعض الوقت، وهو لا يبدي اهتمامًا، وشيئاً فشيئاً بدأت الابتسامة تتسع على شفتيه، بينما راح السائق، من الحماس، يغذ السير على الطريق الطويل لأكاديمية المحظوظين.



الكتابة الرايعة
يوم الأحد الموافق 2014.04.13
باريس